الفصل التاسع

الاعتصام بالله وإخلاص العبادة له

 

 

«فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ وَسَوَّاكَ، وَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ، وَإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ، وَمِنْهُ شَفَقَتُكَ. وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ نبيّنا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ فَارْضَ بِهِ رَائِداً، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِداً، فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً. وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ».

الاعتصام بالله سبحانه بعد رسوخ الايمان بأنّه واحد لا شريك له ولا مفزع منه إلاّ إليه ـ بطبع الحال ـ يجعل اتّجاه الإنسان في كلّ شؤونه واحداً، فلا يبغي عند أي أحد فوزاً وفلجاً، ولا يعتقد النجاح إلاّ به ولا النجاة إلاّ بالاتّصال بهيمنته وقدسه، ولا الانفلات من إصابة الفتن والأضرار إلاّ بكلاءته، فهذا من أعظم المواد الداعية إلى التوحيد.

* * *

نِعمة الخلق والرزق والاستواء:

قوله (عليه السلام): «خَلَقَكَ، وَرَزَقَكَ، وَسَوَّاكَ».

هذه المواد الثلاثة كاقامة البرهنة على ما قدّمه من الاعتصام بالله سبحانه، فهو يوعز إلى أنّ سلوك طريقة التوحيد كما شرحناه ليس تعبّداً محضاً، فإنّه معلّل بنعم وآلاء لا تُحصى، والإنسان مغمور بها في حلّه ومرتحله، وإنّ من أعظمها بل هو أعظمها خلق الإنسان وإنقاذه من حيز العدم، وإفاضة الوجود عليه مشفوعاً بالعلم والمعرفة.

ومن هاتيك النعم نعمة الرزق، شرع سواء في ذلك الرزق الذي به حياة القلب من المعارف الإلهية، والرزق الذي به حياة البدن ونحوه.

ومن تلكم النعم العالية ما أشار إليه ـ سلام الله عليه ـ : نعمة التسوية في الخلق، وهو ما نشاهده في خلق الإنسان على أحسن تقويم، وله الحواس الخمس التي لا غنية له عنها، والعناصر التي ركّب منها بدن الإنسان، وفيه المتباينات والمتقاربات حتّى عاد الإنسان المثل الأعلى من بداعة في الصنع، وإتقان في التنسيق، وإحكام في التلفيق، فسبحان الله أحسن الخالقين.

إنّ أصحاب الإمام السجاد عليّ بن الحسين أو الإمام الباقر محمّد بن علي ـ سلام الله عليهما ـ سألوه: أليس الله يقول: يا عبادي أُدعوني استجب لكم؟ قال: صدق الله العظيم، بلى هو قائل ذلك، قالوا: فما بالنا ندعوه ليل نهار فلا يستجيب لنا؟ قال: لأنّكم تدعون من لا تعرفون، قالوا: وكيف نعرفه؟

قال: اعرفوا نفوسكم تعرفوه ثمّ ادعوه يستجب لكم، قالوا: وكيف نعرف نفوسنا؟ قال: فكّروا في أعينكم كيف تبصر، وفي آذانكم كيف تسمع، ثمّ في قلوبكم كيف تفكّر، فإذا عرفتم ذلك شعرتم بعظمة الله في نفوسكم، فدعوتموه فاستجاب لكم.

 

عجائب العين:

وينقل علماء الطب: أنّ المجهر الحديث كشف للعين، أنّ تلافيف الدماغ تشتمل على أربعة ملايين سلك من العصب، ويقولون: لا يبعد أن تتضاعف هذه الأسلاك بتعزيز المجهر، لأنّ العلم لم يقف في صناعة المكبرات من مجاهر ومراصد عند حد، ففي كلّ جيل نرى هذه الآلات تتعزّز فتأتينا بجديد ممّا لم نشعر به لولا تعزيزها.

ويقول بعض آخر من علماء التشريح في الطب: إنّ العلم لم يثبت فرقاً بين أُذني السميع والأصم، ولا بين لساني الناطق والأبكم من حيث الظاهر، ذلك ممّا يدلّ على أنّ وراء ما تحسّ العين بالمجهر من عصبيهما المتّصل بجمهور الأعصاب في الدماغ المسيطر على الحواس اختلالا في عصب لم تتبيّنه مجاهر الطب الحديث.

ولوكان عصب التلافيف محدوداً بالملايين الأربعة التي نتبيّنها بالمجهر لسهل الوقوف على الخلل الذي ينشأ منه الصمم والبكم، على أنّ البعض يحقّق أنّ في ألمانيا مصحّات لمجموعة الرأس يطمئنّ الطبّ إلى التشريح فيها، ثمّ إلى تبيّن العلل القائمة في خرس الألسن وصمم الآذان.

ومعجزة العين أنّ جوهرها الواصل بين الروح وبين مرئيّات الوجود، هذا الجوهر هو عبارة عن شبكة من العروق الدقيقة تتّصل بعصب الدماغ، ثمّ يتّصل بها إنسان العين المسمّى بالجؤجؤ، وهو كرة صغيرة الحجم قائمة في حدقة لا يمسكها إلاّ محجر يفرز ماءً لزجاً تندى به تلك الكرة ما دامت تعمل على التقاط الصور المرئية التي تتكسّر عليها أشعّة الشمس.

ثمّ نرى هذه الكرة مغلّفة بغشاء شفّاف يسمّى «قرنية» ترتسم عليها تلك الصور، فهي من الجؤجؤ بمنزلة اللوحة الحساسة من عدسة الفنّان، فما هي تلك الشبكة؟ وما هو هذا الجؤجؤ؟ وما هي هذه القرنية؟ ثمّ ما هو ذلك الماء الذي تفرزه عروق المحجر فتؤهّل القرنية لالتقاط هذه الصور.

إنّ الطبّ ليدهش من عظمة المواد الكيماوية التي يتركّب منها ذلك الماء المحدق بتلك الكرة، ويدهش أكثر لقوّة هذا الماء على صقل ذلك الغلاف الشفّاف المسمّى بالقرنية، ثمّ يدهش الطبّ أكثر عندما يحار في قوّة ذلك الماء لدى استحالته إلى دموع، وقدرته على تضميد جراح القرنية، إذ يخدشها عرض من خارج أو يقرحها تأثّر من داخل.

ويكاد يكون هذا الماء أقوى علاج لصقل تلك اللوحة الحساسة، وإعطائها مناعة لا يتوفّر عليها تواطؤ الملايين من أطبّاء العالم في ملايين من عصور الإنسان، فمن أين ينبع هذا الماء، وما هي المواد التي يتركّب منها، ثمّ من هو الطبيب المشرف على ذلك التركيب الكيماوي العجيب.

 

عجائب الدماغ والقلب:

أمّا معجزة المعجزات في هذا الكائن الأعجب الذي نطلق عليه لفظ الإنسان، وهو مجهول لدينا بكلّ ما يتقوّم به، ثمّ نزعم تحليله وتعليله، أمّا هذه المعجزة فهي دماغه وقلبه، هذا القلب الذي يتولّى توزيع الدم بعد تنقيته، على كلّ خليّة يتقوّم بها كلّ عضو، وعلى كلّ ذرة تتألّف منها كلّ خلية.

ثمّ نرى إذ نحكم التشريح عجباً في الوسائل التي تنقي هذا الدم بين الكبد والقلب، وتحول دون تسرّب الفاسد منه إلى النزيه، وانكفاء النزيه إلى الفاسد.

وهذا الدماغ الجبّار الذي يقوم في تفكيره على حرارة ذلك الدم الصاعد إليه من تلك الجوارح، والذي يتقوّم بأسلاك عصبية دقيقة أكثرها لا يقع تحت مجهر العين، وقد أنهاها بعض علماء التشريح إلى أربعة ملايين سلك، كلّها يعمل على التقاط الأفكار من عالم الروح كما تلتقط أسلاك المذياع (الراديو) ألفاظ المذيع من عالم الأثير.

إنّ بين دماغ الإنسان وبين جهاز المذياع لشبهاً دقيقاً يكاد يكون عبرةً لمن لم يؤت حظّاً من سعة التفكير في خلق الإنسان، فالمذياع جهاز يتقوّم بأسلاك دقيقة من الصلب، تلتقط الصوت ممّا يتّصل بتيار الجاذبية العام المسمّى بالكهرباء، وهو التيّار المحيط بكلّ جرم كوني متحرّك.

والدماغ جهاز يتقوّم بأسلاك دقيقة من العصب المرهف تلتقط الأفكار ممّا يتّصل بتيار الروح المهيمن على الكون، فكلّما دقّت وانتظمت أسلاك المذياع كان أقوى على أداء رسالته التي هي التقاط الصوت ولفظه، وكلّما دقّت وانتظمت أعصاب الدماغ كان أقوى على أداء رسالته التي هي اقتباس الفكر ولفظه.

وكما أنّ حرارة الكهرباء شرط أوّل في أداء رسالة المذياع، كذلك نجد أنّ حرارة الدم شرط أوّل في أداء رسالة الدماغ، وهكذا نجد الشبه جلياً بين المهيمن على المذياع وهو الإنسان، وبين المهيمن على الدماغ وهو العقل.

قرأت وشيكا في الصحف أنّ مرصداً فلكياً في شمال أمريكا بدأ منذ أيام يتلقّى إشارات لاسلكية متّزنة من كوكب الزهرة في عدّة مناسبات، وقد عكف الراصدون على تبيّن هذه الحركات الصوتية، واكتناه جوهرها ثمّ قياسها على أصواتنا.

وقرأت قبل أشهر أنّ بعض علماء الموسيقى يعملون على التقاط الموسيقى الكونية الناشئة عن تموّجات الأثير، لما قرّ في أذهان الألباء من قادة الفكر الحديث والقديم، من أنّ كلّ حركة طبيعية تتّصل بعظمة الكون القائم على نظام أزلي، يصدر عنها من فنون الموسيقى ما لا عهد لأرباب الفنون بالتحسّس منه.

والموسيقى الأثيرية ليست وقفاً على السمع فقط وإنّما تتجاوزها إلى العين والفكر، فهي نظام عام يستهوي السمع بصوته، والعين بشكله، والفكر بايحائه، فإذا سال كان لحناً باعثاً في السمع حنينه إلى مصدره الأزلي، وإذا جمد كان شكلا كاشفاً للعين أن تبصر من وراء طبعها النور الذي صدرت عنه، ثمّ إذا لطف شفّ للعقل عمّا يتقوّم به الكون من أسرار تلهمه أنّ كلّ ذرة في الكون تقوم على الموسيقى فيما نسمع ونرى ونفكّر.

يقول أحد أساتذة العلوم الكونية في جامعة برلين، وقد ترجم قوله الدكتور أحمد زكي المصري في مجلة الرسالة، يقول ما مضمونه:

«إنّ عجائب ما يتقوّم به الأثير المسمّى بالفضاء أو الهواء، لا تقف عند اكتشاف الكهرباء من تجاذب الأجرام السابحة فيه، وإنّما تتجاوزه إلى أعجب من ذلك وهو أنّ التيّار الكهربائي العام يتقوّم بتيار روحي يهيمن عليه في صميم الأثير وهو مصدر التفكير والالهامات.

فإذا كان التيّار الكهربائي مصدر هذه العجائب التي هي بين سمعنا وبصرنا، فمصدر أي العجائب سيكون التيار الروحي في مستقبل عقل الإنسان يوم يتحكّم به كما يتحكّم اليوم بتيّار الكهرباء، ثمّ يختم هذا وهو يملي على تلاميذه بقوله: إذن صدّقوا يا أبنائي ما يرويه لنا تاريخ الأديان من أنّ الأنبياء والرسل كانوا يمشون على الماء، ويصعدون في الهواء».

ويقول أنشتين صاحب نظرية النسبية: «لا يدخل في روع من يفكر أنّ الفضاء لا شيء، فممّا لا ريب فيه أنّ هذا الخلاء ممتلئ صلب ولعلّه أصلب من الفولاذ».

فليتعجّب الإنسان لعظمة القوّة في نفسه التي يخترق بها هذا الفضاء الصلب عن طريق العين، والفم، والقلب بنظراته ونبراته وتفكيره، وليعجب أكثر من أنّ صلابة هذا الأثير قائمة على ما يختزنه في صميمه من قوّة الفكر، والصوت والنظر الحائرة فيه من كلى الروح المنبثّ في جزئيات هذا الكائن الإنساني الذي يعمّر الكون.

* * *

الاخلاص في العبادة:

قوله (عليه السلام): «وَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ، وَإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ، وَمِنْهُ شَفَقَتُكَ».

وبما أنّ حاجة الحيّ إلى ما ذكرناه من التسوية مسيسة، بحيث لو اختلف شيء منها بزيادة أو نقيصة اختلّ نظام حياته، فمن واجبه إذن شكر المولى سبحانه على جميع ما قلناه بوضع كلّ منها في موضعه المعدّ له، فيكون له تعبّده إذ لا يستحقّ العبادة بما اكتنفته من مظاهر الجلال والجمال والكمال سواه.

ويكون إليه رغبته لأنّه لا مطمع له لكشف الكروب والمحن غيره، ويكون منه خشيته لأنّه لا منجاة من مقبلة الأخطار في الدنيا والآخرة عداه، ولقد قيل: «رأس الحكمة مخافة الله».

بدأ ـ سلام الله عليه ـ في اصلاح النفس الإنسانية بملازمة التوحيد، ثمّ انعطف على ما هو أوصل الطرق إلى الحقيقة الراهنة من طريق السمع، فقال:

«وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ نبينا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ فَارْضَ بِهِ رَائِداً، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِداً».

* * *

إنّ المدقّق في موادّ شريعة الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله) جد عليم، بأنّه ليس فيها إلاّ كلّ ما يمدّ حياة العلم والعمل، ويكبح المعاثر عن طريق الدين والهدى والمعرفة والصلاح، وهي حافلة بمناجح البشر في سائر أحواله وأطواره، كافلة بالمعارف الإلهية جمعاء.

فليس في الكتب السماوية قبل القرآن ـ إن بقي شيء منها غير محرّف ـ ما يتعرّض لجملة منها، وفي المحرّف منها أشياء هي للخرافة أقرب منها إلى الحقائق، أليس من الحري أن تكون شريعة محمّد (صلى الله عليه وآله)متبوعة للبشر كافة، ويتّخذ الصادع بها رائداً وقائداً كما ذكر (عليه السلام)؟

* * *

قوله (عليه السلام): «فَإِنِّي لَمْ(1) آلُكَ نَصِيحَةً، وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ».

هذا تأكيد منه (عليه السلام) لما قدّمه من النصح الكافل لسعادة الإنسان فيما عنّ له من الأمر، من الاعتصام بحبل الله سبحانه والرجوع إلى قول المشرّع الأعظم (صلى الله عليه وآله)، اللاّزمين لمن يتحرّى الحياة الخالدة، وجمام النفس فيها.

على أنّ ما ذكره (عليه السلام) من النصح الأبوي الذي لا يبارح ما بين الوالد والولد من العلائق الودية، ولا سيّما إذا كان ملقي العظة إماماً معصوماً كمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّه لا يدع في النفوس منها منزعاً، ولا يترك لقائل مقالا، وهب أنّ الإمامة شرع سواء في الوالد والولد كالعصمة لكن لأمير المؤمنين (عليه السلام) فضله الظاهر على بقيّة الأئمة (عليهم السلام)، فهو ـ سلام الله عليه ـ أنظر إليهم منهم بأنفسهم، وإن جدّوا فيما نظروا ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) آلى ألواً وآلواً وألياً وإلى وائتلى قصّر وأبطأ.