الفصل العاشر

دلائل التوحيد وواجبات الموحّدين

 

 

«وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لاََتَتْكَ رُسُلُهُ، وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتَهُ، وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، وَلاَ يَزُولُ أَبَداً وَلَمْ يَزَلْ. أَوَّلٌ قَبْلَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّة، وَآخِرٌ بَعْدَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَة. عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْب أَوْ بَصَر.

فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ، وَعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ، فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلاَّ بِحَسَن، وَلَمْ يَنْهَكَ إِلاَّ عَنْ قَبِيح».

* * *

 

تعدّد الطرق الى الله:

لأهل العلم في الدلالة على توحيد الله تعالى شأنه مسالك وطرق بعضها واضح وبعضها خفي، وما خفي منها فإنّما هو لابتنائه على أُمور ومسائل قد تكون دقيقة في نفسها، وقد تكون دقيقة باعتبار أنّ الأفهام لم تمارسها ولم تألف الدنوّ إليها، والاقتراب منها، ولا الحوم حولها.

نرى الله تعالى في كتابه يقيم الدليل على توحيده بأنّه لو كان إله غيره لفسدت السماوات والأرض.

ونرى أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) يستدلّ على توحيد الله بأنّه لو كان غيره لأتتنا رسله، ولرأينا آثار ملكه وسلطانه.

ونجد أرسطاطاليس من فلاسفة اليونان يستدلّ على توحيد الله ووحدته بوحدة العالم الموجود منه.

ونجد صاحب الأسفار من فلاسفة المسلمين يستدلّ على وحدته تعالى بوجوب وجوده، وإمكان وجود غيره.

وآخر يقول: بأنّ واجب الوجود واحد، ويجب في الإله أن يكون واحداً، لاستحالة أن يكون الإله غير واجب الوجود.

والشاعر يقول:

في كلّ شيء له آية *** تدلّ على أنّه واحد

إلى غير ذلك من المسالك والمناهج التي ترى أنّ بعضها أوضح وأنور من بعض.

والله تعالى لا يريد أن يفرض القول بوحدانيّته فرضاً بلا دليل وبلا برهان، بل يريد أن يكون الايمان بوحدانيّته والتصديق بألوهيّته دون غيره بالدليل الواضح، والبرهان الجلي بصورة لا تزعزعه الشبه، ولا تزلزله التشكيكات.

وانّ مسألة التوحيد مسألة شغلت بال العالم قديماً وحديثاً، ولا تزال محلّ النقض والابرام بين الموحّدين من المسلمين وبين غيرهم، بل بين المسلمين أنفسهم، فإنّ كثيراً من الفرق الإسلامية كالمجسمة، والمشبهة، والغالية، نبوا وابتعدوا عن القول بالتوحيد، بل ربّما انغمس في دنس الشرك من يرى نفسه موحّداً من حيث لا يعلم.

ففي الحديث: «ولو أنّ أحداً قال لشيء فعله الله أو فعله رسوله (صلى الله عليه وآله) ألا فعل خلاف ذلك، أو وجد ذلك في نفسه عدّ مشركاً، ثمّ تلى قوله تعالى: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً)» [النساء : 65](1).

ولعلّ إلى هؤلاء يشير الله سبحانه بقوله: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون  ثمّ لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين  أُنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون) [الأنعام : 22-24].

فهؤلاء لا يجوز أن يكونوا ممّن دخل في الشرك صريحاً بل ممّن دخل فيه من حيث لا يعلم، وانغمس في حمأته من حيث لا يشعر، أتي من قبل غفلته وإهماله وتفريطه في أمر دينه ولذلك لم يكن معذوراً.

ومن هنا يتبيّن لك أنّ الشرك ذو شعب متعدّدة، وأطراف مترامية، وإنّ غير المتحفّظ لا يأمن من الولوج فيه، والدخول في بعض شعبه وأطرافه.

ونحن إذ نتقدّم للكتابة فيه إنّما نتقدّم لنبرئ النفوس منه ونطهّرها من رجسه، ونحيد بها عن الانغماس في حمأته، وعن الدنوّ والاقتراب من مدارجه وموالجه، والله هو المسؤول للاعانة على توضيح ذلك وإفهامه.

قد تفنّن المفسّرون في التعبير عن الدليل المشار إليه بقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا) [الأنبياء : 22].

قال البيضاوي في تفسيره: «(لو كان فيهما آلهة إلاّ الله) غير الله، وصفت ـ بإلاّ ـ لما تعذر الاستثناء لعدم شمول ما قبلها لما بعدها، ودلالته على ملازمة الفساد لكون الآلهة فيهما دونه. والمراد ملازمته لكونها مطلقاً أو معه حملا لها على غير، كما استثني بغير حملا عليها.

ولا يجوز الرفع على البدل لأنّه متفرّع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب، (لفسدتا)لبطلتا، لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع، فإنّها إن توافقت في المراد تطاردت عليه القدر، وإن تخالفت فيه تعاوقت عنه»(2).

وقال الزمخشري في كشّافه عند ذكر الآية: «وصفت آلهة بإلاّ كما توصف بغير لو قيل آلهة غير الله.

قال: فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل ـ قلت: ـ لأنّ لو بمنزلة إنْ في أنّ الكلام معه موجب، والبدل لا يسوغ إلاّ في الكلام غير الموجب، كقوله تعالى: (ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتك)[هود : 81]، وذلك لأنّ أعمّ العام يصحّ نفيه ولا يصحّ إيجابه، والمعنى: لو كان يتولاّهما ويدبّر أمرهما آلهة شتّى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا.

وفيه دلالة على أمرين، أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبّرهما إلاّ واحد، والثاني: أن لا يكون ذلك الواحد إلاّ إيّاه وحده لقوله: (إلاّ الله).

قال: (فإن قلت:) لم وجب الأمران «قلت»: لعلمنا أنّ الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف، قال: وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمر بن سعيد الأشدق: كان والله أعزّ علي من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول(3).

وقال صاحب مجمع البيان عند ذكر الآية: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)ومعناه لو كان في السماء والأرض آلهة سوى الله لفسدتا وما استقامتا، وفسد من فيهما ولم ينتظم أمرهم، وهذا هو دليل التمانع الذي بنى عليه المتكلّمون مسألة التوحيد، قال:

وتقرير ذلك أنّه لو كان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين، والقدم من أخصّ الصفات، فالاشتراك فيه يوجب التماثل، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيين، ومن حقّ كلّ قادرين أن يصحّ كون أحدهما مريداً لضدّ ما يريده الآخر من إماتة وإحياء، أو تحريك وتسكين، أو إفقار وإغناء ونحو ذلك.

فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو امّا أن يحصل مرادهما وذلك محال، وامّا أن لا يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين، وامّا أن يقع مراد أحدهما ولا يقع مراد الآخر فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادراً، فإذاً لا يجوز أن يكون الإله إلاّ واحداً.

قال: ولو قيل إنّهما لا يتمانعان لأنّ ما يريده أحدهما يكون حكمة فيريده الآخر بعينه ـ والجواب ـ إنّ كلامنا في صحّة التمانع لا في وقوع التمانع، وصحّة التمانع يكفي في الدلالة، لأنّه يدلّ على أنّه لابدّ من أن يكون أحدهما متناهي المقدور فلا يجوز أن يكون إلهاً. انتهى موضع الحاجة(4).

وأقول: إنّ الآية ظاهرة بلزوم الفساد للتعدّد، والتمانع جائز وليس بلازم، فالفساد الآني من قبل التمانع جائز فكيف يكون لازماً، والقول الصحيح ما أفاده البيضاوي، من أنّ التعدّد ملزوم أحد أمرين: أمّا الاتّفاق وأمّا الاختلاف، وبالاتّفاق تكون المطاردة، وبالاختلاف تكون المعاوقة والممانعة، وفي كلّ منهما الفساد وهو لازم على كلا الحالين فتدبّر.

وتنبّه إلى أنّ المفسّرين لا يريدون الاستدلال على التوحيد بالآية، إنّما يريدون الاستدلال بالبرهان العقلي الذي أشارت إليه الآية، وإنّ كثيراً من الآيات تنبّه إلى البراهين العقلية، وتشير إليها ليؤخذ بها ويعتمد عليها.

وكأنّ الله سبحانه يريد أن يدعم الحقّ ويثبته، ويجعله محكماً قارّاً باقامة الأدلّة والبراهين عليه من ناحيتي العقل والنقل، يريد أن يستعمل الإنسان عقله ويسترشده ـ وهو رسوله الباطني ـ كما يسترشد الأنبياء والرسل، ويجتمع به كما يجتمع بهم في مهمّات مسائله ومعاضل أحكامه.

لا يريد الله أن يفرض على الإنسان فيما يرجع إلى أُصول دينه وحقائق عقيدته الأمر فرضاً، ويجبره على العلم والاعتقاد إجباراً، علماً منه سبحانه أنّ الاعتقاد من الأفعال القلبية، والقلب لا يجبر على شيء من فعله، يريد الله بالانسان أن يمشي على بيّنة ويسير على ضوء، ولا يحكم إلاّ بدليل وبرهان، وذلك شأن الدين الحقّ وهو الهادي إليه.

إنّ محلّ الشاهد، وموضع القصد من هذا الكلام، الجملة الأُولى من كلام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنّما أتينا بهذه الفقرة لما فيها من الارتباط بهذا القصد من توجيه القلب وأخذه بالموعظة، ليحرص على الاستفادة منه، وهو كلام واضح في الدلالة على توحيد الله تعالى.

أجل لو كان لله سبحانه شريك لوجب في ذلك الشريك أن يكون عالماً حكيماً، إذ لا يجوز في الإله المستحقّ للعبودية أن يكون جاهلا سفيهاً، فإنّ الجاهل السفيه يستحقّ الطرد والإبعاد والاهانة والتحقير، إذاً لابدّ أن يكون عالماً حكيماً، والعلم والحكمة تقتضي أن يبعث للناس رسولا يدعوهم إليه ويدلّهم عليه، وإلاّ لانتفى عنه العلم، وبطلت الحكمة، ولو بعث رسلا لأتتنا ودلّتنا وأرشدتنا.

وحيث أنّه لم يأتنا عن غير الله رسول فلا رسول، وإذ لا رسول لغير الله فلا مرسل غير الله ولا إله سوى الله.

وهذا معنى قوله (عليه السلام): «لو كان لربّك شريك لأتتنا رسله»، فإنّ اتيان الرسل لازم، وانتفاء اللازم يستدعي انتفاء الملزوم.

وفي اصطلاح المنطقيين; قياس استثنائي يلزم من وضع المقدّم وضع التالي، ومن ارتفاع التالي ارتفاع المقدّم، مثل قولهم ـ لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجوداً، لكن النهار ليس بموجود فالشمس ليست بطالعة ـ وهذا مثله عيناً، لو كان لله شريك لأتتنا رسله، وهو قياس منطقي صحيح.

ومثله قوله (عليه السلام): «ولرأيت آثار ملكه وسلطانه» فإنّه لو كان لله شريك لكان عالماً حكيماً قادراً، ولو كان كذلك لكان له ملك وسلطان، ولو كان له ملك وسلطان لرأينا آثار ملكه وسلطانه، ولمّا انتفت هذه اللوازم كلّها انتفى ملزومها، وإلاّ لوجب الملزوم بلا لازمه وهو محال.

وكذلك قوله (عليه السلام): «ولعرفت أفعاله وصفاته»، فإنّه لو كان لله شريك لكان له أفعال وصفات، قضاء لحقّ العلم والحكمة والقدرة، ولو كانت لعرفناها لوجوب ظهورها، ولكن لا نعرف خالقاً غير الله ولا مدبّراً لهذا الكون سوى الله، وانتفاء المعرفة عن غير أفعال الله يدلّ على انتفاء غير الله، وذلك أن تصنع من كلّ من الدليلين الأخيرين قياساً استثنائياً منطقياً كما ذكرنا.

فتقول: لو كان لله شريك لرأينا آثار ملكه، ولكن لم نرَ له أثراً فليس له من شريك، وتقول: لو كان لله شريك لعرفنا أفعاله وصفاته، ولكن لم نعرف لغيره فعلا ـ  أي من الأفعال المختصّة بالله سبحانه مثل الخلق، والرزق والاماتة، والاحياء ـ ولا صفة ـ مثل القدم ووجوب الوجود وأمثالهما ممّا هو مختصّ بالله سبحانه ـ ، فليس له شريك.

وهذه أقيسة منطقية صحيحة، تكلّمنا بها على منهاج الفلاسفة وطريقتهم في اثبات الأشياء ونفيها، نظراً لما نرى في أهل العصر وفي مدارسهم من شيوع الفلسفة والتدرّج إليها والاقبال عليها.

* * *

قوله (عليه السلام): «وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ».

لقد استفاضت الآيات القرآنية بالنصّ على التوحيد، ويكاد أن يكون القسم الأوفر من بين الآيات، ويكفيك منها أمره تعالى نبيّ الرحمة أن يقول: (قل هو الله أحد)، (وهو الله الواحد القهار).

قوله (عليه السلام): «لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ».

إمكان المضادة في الملك فرع الكفاءة والمقدرة بين الإلهين المتصوّر تقارنهما، وإذ قامت عندنا البراهين القاطعة على نفي الشريك فليس هناك من يضادّه أو ينازعه في الملك.

* * *

قوله (عليه السلام): «وَلاَ يَزُولُ أَبَداً وَلَمْ يَزَلْ».

فهو سرمدي لما تقدّم من أنّه واجب الوجود، فلا يجوز أن يمدّ إليه العدم يداً لا قبلا ولا بعداً.

* * *

قوله (عليه السلام): «أَوَّلٌ قَبْلَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّة، وَآخِرٌ بَعْدَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَة».

لأنّه لو كان مع الأوّلية فهو مسبوق بالعدم، ولو كان ملحوقاً بالآخرية فهو متبوع بالعدم أيضاً، وهو ينافي وجوب وجوده.

* * *

قوله (عليه السلام): «عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْب أَوْ بَصَر».

لأنّ المثبت بالقلب يستدعي أن يكون محاطاً به، والادراك بالبصر يستلزم كون المرئي جسماً، ومقام الربّ سبحانه فوق كلّ هذه التصوّرات.

* * *

قوله (عليه السلام): «فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ، وَعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ، فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلاَّ بِحَسَن، وَلَمْ يَنْهَكَ إِلاَّ عَنْ قَبِيح».

أخذ (عليه السلام) يعدّد وجوه حاجة ولده المحبوب إلى المولى سبحانه، وما يجب أن يكون مثله على مثله من الحال، من الطاعة والتحلّي بالصفات الفاضلة ومكارم الأخلاق، ومن أهمّها معرفة أداء الواجب نحو خالقه ونحو المخلوق، فإنّ أداء الواجب بالغ الخطورة، عظيم الشأن، يتطلّب من العزيمة أن تكون على أتمّها، إذ في أداء الواجب مجاهدة للنفس الأمّارة بالسوء أيّ مجاهدة، ومغالبة لها أيّ مغالبة، فمن لم يرزق جلد العزيمة ومضاؤها فلن يستطيع مع أداء الواجب صبراً.

وأداء الواجب على وجه الدقّة كلمة تحمل بين جنبيها جمعاً من الفضائل فهي على الحقيقة أم الفضيلة الولود، أليس من الواجب أن تعرف حقوقك فتطلبها من وجوهها، وتعرف حقوق غيرك عليك فتؤدّيها على وجوهها، وماذا بعد ذلك من الفضائل لا يتّصل بنسب إلى حقّ لك أو حقّ عليك.

وإنّ الأُمم لترقى شؤونها الاجتماعية، ومدنيّتها الخلقية بمقدار رقي هذه الفضيلة ـ فضيلة أداء الواجب ـ في نفوس أُناسها، فإنّه إن طويت الضلوع على هذه الفضيلة فقد ضعف الخلاف بين الفرد والفرد، ومتى تمّ ذلك فقد قويت الأواصر بين الطبقة وأُختها، ومتى التقت طبقات الأُمة لا عادي ولا معدوّ عليه، فهي واصلة إلى غايتها التي لا غاية وراءها في مدنيّة الخلق والاجتماع، وما حاجة الأُمة حينئذ إلى التقاضي والتشاكي، وما يذهب في هذين السبيلين من جهود الأفراد، بل ما حاجة الأُمة حينئذ إلى ما يأكل جمهور الجماعات والحكومات من معالجة العلل الاجتماعية والنفسية، لقد منع من كلّ ذلك أن أدّى كلّ فرد واجبه، فرجع لا يظلم أحداً، ولا يشكو من أحد، وذلك هو المثل الأعلى الذي يتوخّاه علي (عليه السلام) لحياة الأُمم.

 

أهم الواجبات:

من أجل ذلك وجب أن نبيّن للناس ما هو واجب لهم، وما هو واجب عليهم، رضواأم غضبوا، كرهواأم أحبّوا: «ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة».

1 ـ المعرفة بالله:

إنّ أوّل ما ينبغي أن يبتدئ به المرء، هو أن يعلم أنّ لهذا العالم صانعاً، وطريقة ذلك أن يتأمّل الموجودات كلّها ليتبيّن أنّ لكلّ واحد منها سبباً بطريق الاستقراء، ثمّ ينظر إلى تلك الأسباب المباشرة، ألها أسباب أيضاً أم ليست لها أسباب، حتّى إذا وجد لها أسباباً تأمّل ونظر الأسباب ذاهبة إلى ما لا نهاية له، أم هي واقفة عند نهاية، أم بعض الموجودات أسباب لبعض على سبيل الدور، فإنّه يجد القول بأنّها ذاهبة إلى غير نهاية محالا; لأنّه يقتضي التسلسل وهو محال.

ويجدالقول بأنّ بعضها سبب لبعض على التعاقب محالا أيضاً، لأنّه يلزم من ذلك أن يكون الشيء سبباً لنفسه، فبقي أن تكون الأسباب متناهية، وأقلّ ما يتناهى إليه الكثير هو الواحد، فسبب الأسباب موجدها وهو واحد، ولا يجوز أن يكون ذات السبب وذات المسبّب واحداً، فسبب أسباب العالم منفرد بذاته عمّا دونه.

ولما لم يقدر الإنسان على معرفة شيء سوى ما شاهده بحواسه، وفهمه بعقله ممّا شاهده، لم يجداً بدّاً من وصف البارئ الذي هو سبب الأسباب، والتعبير عنه بما وجد السبيل إليه من الألفاظ والأوصاف، فلمّا أراد التعبير عنه والوصف له، وعلم انّه جلّ وعلا لا يحدّه شيء من جميع الأوصاف التي شاهدها وعلمها، لتفرّده بذاته ولأنّه منزّه عن كلّ ما أحسّه وعرفه، لم يجد طريقاً أحسن من أن ينظر في الموجودات التي لديه، فإذا تأمّلها وجدها صنفين فاضلا وخسيساً، ووجد الأليق والأجدر بسبب الأسباب الواحد الحقّ أنْ يُطلق عليه أفضل الصنفين.

فمثلا إذا رأى الموجود والمعدوم، وعلم انّ الموجود أفضل من المعدوم أطلق عليه الوجود، وإذا رأى الحيّ وغير الحي، وعلم انّ الحيّ أفضل من غير الحيّ أطلق عليه الأفضل وقال: إنّه حي، وإذا رأى العليم وغير العليم أضاف إليه العلم.

وكذلك جميع الأوصاف على أنّ الواجب على كلّ من يصف الباري بصفة مّا أن يخطر بباله مع تلك الصفة أنّه بذاته منزّه عن أن يشبه تلك الصفة، وأنّه لا يتهيّأ لأحد إحاطة العلم به كما هو مستحقّ له، على أنّ كلّ واحد يشعر بفطرته أنّ هناك في الوجود قوّة عظيمة، هي مصدر عجائبه وابداعه ونظامه الدقيق، وهذا الشعور النفسي قد أخذ يعظم في النفس باتّساع نطاق التفكير والاختبار، والتوسّع في المبادئ العلمية والعملية.

وإنّ من الفِكَر البَدَهية المقرّرة، فكرة وجود ذات عليّة قدسية كاملة مبدعة لحياتنا، ملهمة للخير والشر على أحكم نظام وأدقه، ولقد يشعر الإنسان في أعماق نفسه بشوق عظيم نحو ذلك المصدر الكريم والينبوع الصافي.

والعلوم البشرية تقوي هذه الفكرة، فكرة وجود الإله الأعظم والمعبود بحقّ سبحانه تقدّس في علاه، وليس هناك ما ينفي مبدأها لأنّها تكشف لنا الغطاء عن الأسباب التي تدهشنا في هذا الكون العجيب، فقانون الجاذبية العام الذي كشفه «إسحاق نيوتن» أبان لنا سرّ التوازن في النظام الشمسي، ذلك التوازن المحكم بتقدير العزيز العليم.

وإذا كان الإنسان مرتبطاً بهذا العالم كأعظم مخلوق وجد على ظهر البسيطة، وأشرف كائن فيها، فليس غريباً أن تكون على واجبات للذات العلية القدسية التي أوجدته من العدم، وشرّفته بالعقل والسلطان القوي.

2 ـ الاعتراف بجميل صنعه:

ومن التقديس لله تعالى الاعتراف بعظمته، وإحكام السنن التي يجري عليها هذا الكون العجيب، وهذا يأتي بتهذيب العقل وترويض الوجدان على البرّ والخير، وتجنّب الرذائل والشرور التي هي من عمل الشيطان، وكلّ من يدرك أنّ الله سبحانه هو مصدر كلّ القوى الطبيعية ونظّمها وسنّنها، يشعر بالعجز عن الاعتراف بجميله سبحانه اعترافاً وافياً.

3 ـ الطاعة:

والطاعة لأمر الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه الكرام هي من الواجبات المقدّسة التي تنفع المرء في معاشه ومعاده.

4 ـ التأمل في الكون:

ويدخل في باب الواجبات الدينية من حيث تقديس الذات العلية، تأمّل هذا الكون العظيم، وتدبّر آيات الله البيّنات، والتبصّر في بدائع العقول البشرية التي أحكمها الله، فأبرزت عجائب الآراء والمخترعات.

ونذكر هنا موجزاً من قول «جول ستيج» في كتابه «الرجل الشريف»: «إنّ في رقبة الإنسان واجبات لكلّ كائن، أفلا تكون عليه واجبات لله تعالى لتلك القوّة السائدة على الكون لذلك الخير المحض الذي لا حدّ لفضله ووجوده.

فهذا الاحساس الذي يلازم القلب البشري هو الاحساس الديني الذي تفيض عنه كلّ الواجبات التي تسمو بالحياة.

فمن تلك الواجبات الدينية إكبار شأن الخليقة والاعجاب بها، وتمجيد خالقها عند مشاهدة بدائع القبة الزرقاء المزيّنة بزينة الكواكب، وعجائب الأرض والسماء، والذي يمرّ بهذه الآيات البيّنات غير مكترث بها لا يمكن أن يكون إنساناً.

ثمّ إنّ من الواجبات الدينية محبّة الناس اخواننا في الإنسانية، ومحبّة كلّ ما هو خير وحق، وأن نفسح للضمير والوجدان باب الخير والحكمة، مع حبّ الفضيلة والاخلاص والترفّع عن الأثرة والكبرياء». انتهى

وحرية الدين قد كفلها الإسلام، تأمّل قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)[البقرة : 256] وقوله تعالى: (وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)[الكهف : 29].

وممّا يجمل ذكره قول بعض الحكماء: الدين الحقّ ما أحيا نفسك وأيقظها، وأوجد في نفسك ذلك الشعور بقيمة الوجود، وفي فؤادك تلك الثقة وذلك الأمل العظيم، مغرياً لك بالظهور دائماً بمظهر الرجولة، مرشداً إيّاك إلى التسامح وحبّ الواجب.

إنّ الاخلاص في العبادة وتفهّم كنهها هما أساس العبادة والتديّن، فليس معنى الدين مجرّد القيام ببعض العبادات والمراسم دون أن يكون هناك أثر في صميم النفس.

وخليق بالانسان ـ بعد أن يعلم أنّ الله متفرّد بذاته لا شبيه له في صفاته ـ أن يتأمّل أجزاء العالم كلّها فإنّه يجد أفضلها ما هو ذو نفس، ويجد أفضل ذوي النفس الذي له الاختيار والارادة والحركة التي عن رؤية، وأفضل ذوي الارادة والحركة عن الرؤية الذي له التميز والفكر والنظر البليغ في العواقب، وهو الإنسان الكامل.

والبارئ تعالى الذي وهب الاختيار والفكر والرؤية لم يكن يهمل أمرها، وكان من مقتضيات عدله وصنعه المتقن أن ينهج لها منهجاً تسلكه، ولهذا اقتضت حكمته ألاّ يرسل إلى ذلك الإنسان من ليس من طبعه، لأنّه لم يكن يقدر على الاستفادة ممّن هو من غير طبعه: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا)[الأنعام : 9].

وظاهر أنّ في الناس وفي عقولهم وقوى نفوسهم تفاضلا بيّناً، حتّى إنّ الواحد منهم قد يفوق بالفنّ الواحد جميع ذوي جنسه ويعجز الباقون عنه، فممكن إذن أن يكون من الناس من يقوى على أن يوحى إلى قلبه بما يعجز ذوو جنسه عن مثله حتّى يقوم ذلك الواحد بتبليغ ما يلقى إليه، ويقدر بتلك القوّة بتبليغ الأحكام، ونهج السبل الداعية إلى صالح الخلق، ومتى صحّ الدليل على أنّ ذلك الواحد مرسل من عند الله وجب على كلّ ذي تمييز اتّباعه والعمل بشريعته.

 

حقّ الله على عباده:

ممّا تقدّم يتّضح أنّ الله هو الكمال والخير، وأنّا مدينون له بحياتنا وكلّ ما نتمتّع به من النعم، فإذا لم نشعر قلوبنا شكره على ما أسبغ علينا من آلائه كنّا قد أتينا أشنع أنواع الجحود.

فأوّل واجباتنا إذن أن نمجّده، وأن نهمل أُولئك الضالّين الذين يعتقدون إمكان وجود الناقص من غير أن يكون الكامل موجوداً، أو أنّ الله تعالى ترك الخلق بعد أن أوجده: (سبحانه وتعالى عمّا يقولون علوّاً كبيراً)[الأسراء : 43].

 

كيف نمجّد الله:

إنّ أوّل طريقة لتمجيده هي الخضوع لقانون الأخلاق، وعدم معارضة الخير لأنّه من صنع الله، فمعارضته محاربة الله وعصيان لارادته، ويجب أن نطهّر قلوبنا، فكلّ عبادة صادرة من غير إخلاص لا ترضي الله، إنّ الذي يخلط أعمال العبادة بما يفعل في حياته من فساد يكون مزدري حتّى من غير المؤمنين، ولن يعتقد أحد الاخلاص في شعور ديني لا يلهم صاحبه سيرة شريفة; إذ كيف يمكن أن نحبّ الله ثمّ لا نجلّ في أنفسنا أكمل ما صنعت يداه، كيف يمكن أن نحبّ الله ولا نحبّ العدل؟ وإليك العبادة التي يرضاها الله:

أن تكون مستقيماً عدلا خيراً، برّاً بوعدك، باذلا منفعتك في سبيل واجبك، غير متردّد ولا كاره، وألاّ تغضّ من نفسك باقتراف المخازي والدنايا، فتضع من شرف الإنسانية، وأن تجتنب ما استطعت كلّ اعتداء على حقّ غيرك، وأن تضحّي براحتك لسعادة أمثالك، وأن يكون في قلبك عطف على مخلوقات الله، وأن تترك من بعدك مثلا للفضيلة وذكرى طيّبة.

وهناك واجب هام وهو أن نشكر الله بأعمالنا كشكره بألسنتنا، إنّنا لنتألّم ممّن لا يسدي الشكر لمن أحسن إليه، كذلك لا يمكن أن نكون أحبّاء الله من غير أن نردّد اسمه على ألسنتنا.

وشكر الله وإن كان لا ينفعه مفيد لنا، إذ كلّ شعور يتّفق مع النظام يطهّرنا، وتقوى الله تحبّب إلينا الخير وتجعل القيام به علينا يسيراً، وكلّ ما للنفس النقية من توجّه إلى الله إنّما هو توجّه إلى الفضيلة.

ما يجب على الإنسان لخالقه في نظر أرسطو:

لم ينصّ أرسطو على العبادة التي يجب أن نلتزمها لخالقنا عزّ وجلّ غير أنّه قال ما معناه: قد اختلف الناس فيما ينبغي أن يقوم به المخلوقون لخالقهم:

فبعضهم رأى أنّه صلوات وصيام وخدمة هياكل وقرابين.

وبعضهم رأى أن يقتصر على الاقرار بربوبيّته، والاعتراف باحسانه، وتمجيده على حسب استطاعته.

وبعضهم رأى أن يتقرّب إليه بأن يحسن إلى نفسه بتزكيتها وحسن سياستها، ثمّ إلى المستحقّين من أهل نوعه بالمواساة والموعظة.

وبعضهم رأى اللهج بالفكر في الإلهيات، والعمل على معرفة ربّه عزّ وجلّ حتّى تتكامل معرفته به وبحقيقة وحدانيّته.

وبعضهم رأى أنّ الواجب لله جلّ ذكره على الناس ليس سبيلا واحداً، ولا هو شيء بعينه يلتزمه الجميع التزاماً واحداً، وعلى مثال واحد، لكنّه يختلف على حسب اختلاف طبقات الناس ومراتبهم من العلم.

 

عبادة الله في نظر الفلاسفة:

وذهب الفلاسفة من بعده إلى أنّ عبادة الله عزّ وجلّ على ثلاثة أنواع:

أحدها: فيما يجب له على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي إلى المواطن الشريفة لمناجاة الله عزّ وجلّ.

والثاني: فيما يجب له على النفوس كالاعتقاد الصحيح، والعلم بتوحيد الله عزّ اسمه، وما يستحقّه من الثناء والتمجيد، وكالفكر فيما أفاضه على العالم من وجوده وحكمته، ثمّ الاتّساع في هذه المعارف.

والثالث: فيما يجب له عند معاملة الناس ومعاونتهم، وعند جهاد الأعداء والذبّ عن الحريم وحماية الحوزة.

ثمّ قرّر هؤلاء الفلاسفة أنّ للإنسان مقامات ومنازل عند الله عزّ وجلّ:

فالمقام الأوّل: للموقنين وهو رتبة الحكماء وأجلّة العلماء.

والمقام الثاني: مقام المحسنين، وهو رتبة الذين يعملون بما يعلمون.

والمقام الثالث: مقام الأبرار، وهو رتبة المصلحين، وهؤلاء هم خلفاء الله بالحقيقة في إصلاح العباد للبلاد.

والمقام الرابع: مقام الفائزين، وهو رتبة المخلصين في المحبّة، وليس بعدها منزلة ولا مقام لمخلوق.

ويسعد الإنسان بهذه المنازل إذا حصلت له أربع خلال:

أوّلها: الحرص والنشاط.

والثاني: العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية.

والثالث: الحياء من الجهل ونقصان القريحة اللذين يحدثان بالاهمال.

والرابع: لزوم الفضائل والترقي فيها دائماً على حسب الاستطاعة، وهذه كلّها أسباب الاتّصال بالله تعالى.

أمّا أسباب الانقطاع عن الله عزّ وجلّ وهي التي تعرف بالمساقط:

فأوّلها: السقوط الذي يستحقّ به الاعراض وتتبعه الاستهانة.

والثاني: السقوط الذي يستحقّ به الحجاب ويتبعه الاستخفاف.

والثالث: السقوط الذي يستحقّ به الطرد ويتبعه المقت.

والرابع: السقوط الذي يستحقّ به الخسأة ويتبعه البغض.

وإنّما يشقى المرء إذا حصل على أربع خلال:

أوّلها: الكسل والبطالة، ويتبعها ضياع الزمن وفناء العمر بغير فائدة إنسانية.

والثاني: الجهل المتولّد عن ترك النظر ورياضة النفس بالتعليم الصحيح.

والثالث: الوقاحة التي ينتجها إهمال النفس إذا اتّبعت الشهوات، وترك زمامها لركوب الخطايا والسيّئات.

والرابع: الانهماك الذي يحدث من الاستمرار في القبائح وترك الانابة. وهذه الأنواع الأربعة لها بلسان الشرع أربعة أسماء: فالأوّل الزيغ، والثاني الرين، والثالث الغشاوة،والرابع الختم،ولكلّواحدة من هذه الشقاوات علاج خاصّ يذكرفي موضعه.

وصفوة القول أنّ حقّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته الخضوع له فيما أمر ونهى، فنؤمن برسوله، ونصدّق بكتبه، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونهذّب نفوسنا، ونصح أجسامنا بصونها، ونحسن عشرة الناس، ونصدّق في معاملتهم، ونخالقهم بخلق حسن، ونقف عندما شرع الله، لا نتعدّى حدوده، ولا نتجاوز رسومه، ونجانب كلّ ما نهى الله عنه من الخبائث ممّا هو اعتداء على النفس أو المال أو العرض وإضرار بالخلق.

وأمّا توحيده فمعناه اعتقاد أنّه وحده صاحب الخلق والأمر، وأنّ غيره لا يملك ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ما شاء الله، وجعل الأعمال خالصة لوجهه لا يشوبها خداع ولا رياء ولا تدليس ولا نفاق.

وأمّا حقّ العباد على الله إذا هم عبدوه حقّ عبادته، وأخلصوا له الدين وأسلموا، وعمّروا القلوب بتوحيده وطهّروها من دنس الاشراك، فهو ألاّ يعذّبهم، وكيف يعذّب من توفي على طاعته، وكان عبده السميع، تقرع آذانه آي الوحي، فإذا به قد مثلها في عمله وأظهرها في خلقه، ويسمع هدى الرسول فإذا به قد اتّخذه إماماً وقدوة وهادياً وأُسوة.

اقتضى عدل الله ورحمته أن يسبغ نعمته على عباده المخلصين، فهو البرّ الرحيم، اقرأ قوله تعالى: (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى  فإنّ الجنّة هي المأوى) [النازعات : 40و41].

 

واجبات العباد:

نعم الواجب على العبد:

1 ـ معرفة الله تعالى معرفة يصحّ بها الاعتقاد.

فيكون على بصيرة من ربّه، ويعرف معنى كلمة التوحيد التي جاء الأنبياء من لدن آدم إلى خاتمهم محمّد (صلى الله عليه وآله)بالتبشير بها، وايقاظ العقل البشري للايمان بقوّتها وآثارها في الكون، وأنّ كلّ ما عداها زيغ وبهتان مبين.

2 ـ أوامر الدين ونواهيه.

إنّ لكلّ دين من الأديان تكاليف وواجبات تكفل حفظ مظهره، وتبسط سلطانه في الناس، وإنّ أوامر الدين الإسلامي من صلاة وصيام وحجّ وزكاة وما إلى ذلك ما هي إلاّ أعلام خفاقة تهوي إليها النفوس، وتنتظم القلوب فتلبسها ثوب الدين، وتعصمها من الشرور، فتكون جنود الله في الأرض تعبده وتأخذ نفسها بمرضاته.

وإذا كان كلّ من ينتسب إلى عظيم أو زعيم يحمل شارته، ويفاخر الناس بنبالته، فما أجدر المسلم أن يكون سمات الإسلام أظهر شيء لديه، ثمّ هي طهارة للنفوس وتهيئة لها للكمال، فالصلاة تغسل أدران الشيطان من نفس الإنسان، وتعوّده الخير والتواضع، وتحول بينه وبين المحظورات، «إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي».

وكذلك بقية التكاليف تذكّر الإنسان بعظمة ربّه، وترسم أمام ناظريه الحلال والحرام، فيعرف ما يأخذ وما يدع، وليس هناك دين من غير عمل، فالمسلمون القائمون باسم الإسلام دون العمل بأوامره منعوا أنفسهم موارد السعادة، ومكنوا لغريزة النفس الجامحة أن تتغلّب على عقولهم، إذ لا تجد من جنود الدين الروحية حاجزاً، وحرمت قائداً حكيماً يهديها سواء السبيل.

3 ـ مجاهدة النفس، ويا لله من مجاهدة النفوس، ولن يقدر على ذلك إلاّ أُولو العزم وذوي النفوس المسلمة حقّاً، ومن أجل ذلك عدّها النبي (صلى الله عليه وآله) أكبر عند الله من خدمة الإسلام بحدّ السيف البتّار، فقال بعد أن عاد من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»(5). ومغالبة النفس إنّما تصدر عن قوّة الارادة والاخلاص لله.

4 ـ من الحتم على المسلم أن يحوط دينه بعنايته، ويرد هجمات العدو عنه، وهذه جيوش المبشرين من أُوربيين وأمريكان تغزو دين الإسلام باسم الإنسانية والعلم ومعالجة المرض، فيتّخذون سذاجة الطفل سبيلا إلى محو دينه، وادخال العقائد المسيحية عليه بصنوف الحيل وألوان الاغراء.

ويستضعفون المرضى المساكين الذين استسلموا بسبب قسوة المرض، فلا يعالجونهم إلاّ أن يسقوهم مع الدواء التثليث، ولا يعملون المبضع في جسم المريض إلاّ بعد أن يأخذوا منه صكّاً بردّته عن الإسلام، ويكونوا له من الظالمين. والمسلم الكامل يغلي مرجل دمه بالدفاع عن حوزة الإسلام، ويحلّه محلّ النفس والعرض، فإذا أصاب الإسلام مكروه استوفز كما يستوفز الليث الهصور، حتّى يدفع عن نفسه ما يوصم به من أخلاق الثعالب، ولو كان في ذلك إزهاق روحه. ولله درّ القائل:

ولست أُبالي حين أُقتل مسلماً *** على أيّ جنب كان في الله مصرعي

5 ـ الأُخوّة الإسلامية، وحمية الدين لمناصرة المسلمين، وإن بعدت ديارهم وتباينت أوطانهم: (إنّما المؤمنون إخوة) [الحجرات : 10].

والرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) كأنّه كان ينظر بنور الله إلى تاريخ المسلمين في مستقبلهم إلى أن تقوم الساعة، فخاف عليهم أن يكون بأسهم بينهم شديداً، وأن تكون قلوبهم شتّى، وكان يوجس خيفةً كلّما جرّ الحديث مع أصحابه إلى الرابطة الإسلامية، فيوصيهم بالاتّحاد وتآلف القلوب، ويخشى أن يهدم الناس بعضهم بعضاً، فيسقطوا في الهوة جميعاً، وذلك بأن يحرص الناس أن يكونوا عبيداً لمنافعهم، وأُسراء لشهواتهم، فمتى توافر لهم ذلك لا يعنيهم هلاك الناس جميعاً.

فقال (صلى الله عليه وآله): «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»(6) فهذا هو دستور المسلم في العلاقة بأبناء ملّته.

ولا يضير من ينصر الإسلام تخاذل المسلمين اليوم، فليضع حجراً في سبيل تدعيم القلوب، وهنالك يقتدي المخلصون به، وتصلح النفوس فيعود للإسلام عزّه، وللمؤمنين كرامتهم، وتُصان هيبة الإسلام.

6 ـ أنّ الإسلام دين الإنسانية كلّها فهذا من مفاخره، فبينما يعني أبناء كلّ دين بمراعاة حقوق أهل ملّتهم ويتعصّبون لهم، ويهدرون حقوق الآخرين، إذا بالاسلام يرعى حقوق الناس كافة، ولا يكتفي بذلك، بل يأمر بالاحسان والمواساة لخلق الله عامة حتّى الحيوان.

قال النبي (صلى الله عليه وآله): «في كلّ ذات كبد رطبة أجر»(7)، ليعلّم المسلمين العطف على كلّ ما خلق الله، وإذا كان الحيوان مكفول الرعاية من كلّ مسلم فما بالانسان الذي يسكن الدنيا ويعمرها.

لذلك شعر الناس في أزمان التاريخ بمروءة الإسلام، فدخلوا في دين الله أفواجاً، حتّى العدو الذي في قتله صلاح العالم، والحيوان عند ذبحه ـ الذي جعل الله لحمه متاعاً للانسان ـ ينبغي الاحسان في القضاء عليهما.

قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله كتب الاحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة»(8).

أروني ماذا بقي من مفاخر الدنيا لم يتضمّنها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً ونصف قرن، وماذا يبتغي العالم بعد هذه الشريعة السمحة الرحيمة التي أسعدت المهتدين.

هذه هي الأُصول التي لا يجمل بالمسلم أن يغفل عنها، فهي تراث أجداده ومعقل عزّه، والتي نصر الله بها الإسلام على الدين كلّه، وهاك نصّها مدرجة في «رسالة الحقوق» للامام زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام)، وقد رسمها دستوراً عاماً يساير الأجيال. دستوراً يتضمّن كلّ ما تحتاجه البشرية من حقوق، فلم يترك حقاً من حقوق الله على عباده، أو حقوق العباد بعضهم على بعض إلاّ ذكره ونبّه عليه.

وقد قدّم الأهم فالأهم من هذه الحقوق ببيان رائع، ومنطق لا يقبل الرد، ولا أعرف أُسلوباً أروع من هذا الأُسلوب، وفكراً صالحة للمجتمع أصلح من هذه الفكرة، وهي مواضيع عامة منبعثة عن حاجات المجتمع الإنساني رسمناها في هذا الفصل ليطلع العالم المتمدّن على العقلية القانونية الإسلامية التي لا نعرف لها نظيراً في العصر الحاضر.

وحسبها أن تكون صادرة عن الإمام الذي هو من أُولئك المصطفين الذين يوضح الله بهم طريق الإنسانية، ليظلّ أثر الدعوة قويّاً، وحبل الدين جديداً، وخلافة الله قائمة في أرضه.

فقد كشف ـ سلام الله عليه ـ بهذه الرسالة ما غيّبته السياسة في عصره من نور الكتاب، وسرّ الإسلام، وقوّة الايمان، وحقوق الراعي والرعية، وهي نبرة من نبرات كثيرة من ذلك الصوت الذي ظلّ يدوي إلى اليوم وإلى يوم يبعثون.

رسالة الحقوق، للإمام زين العابدين (عليه السلام):

جاء في كتاب تحف العقول(9) عن الامام زين العابدين(10):

اعلم إنّ لله عزّ وجلّ عليك حقوقاً محيطة بك في كلّ حركة تحرّكتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرّفت بها، بعضها أكبر من بعض.

وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسك تبارك وتعالى من حقّه الذي هو أصل الحقوق ومنه تتفرّع، ثمّ ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقّاً، ولسمعك عليك حقاً، وللسانك عليك حقاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقاً، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال.

ثمّ جعل لأفعالك عليك حقوقاً: لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقاً، ولصدقتك عليك حقاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقاً.

ثمّ تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك وأوجبها عليك، حقّ أئمّتك، ثمّ حقوق رعيّتك، ثمّ حقوق رحمك، فهذه حقوق يتشعّب منها حقوق:

فحقوق أئمّتك ثلاثة أوجبها عليك، حقّ سائسك بالسلطان، ثمّ سائسك بالعلم، ثمّ حقّ سائسك بالملك، وكلّ سائس امام.

وحقوق رعيّتك ثلاثة أوجبها عليك، حقّ رعيتك بالسلطان، ثمّ حقّ رعيّتك بالعلم فإنّ الجاهل رعية العالم، وحقّ رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت الايمان.

وحقوق رحمك كثيرة متّصلة بقدر اتّصال الرحم في القرابة فأوجبها عليك، حقّ أُمك، ثمّ حقّ أبيك، ثمّ حقّ ولدك، ثمّ حقّ أخيك، ثمّ الأقرب فالأقرب، والأولى فالأولى. ثمّ حقّ مولاك المنعم عليك، ثمّ حقّ مولاك الجارية نعمته عليك، ثمّ حقّ ذوي المعروف لديك، ثمّ حقّ مؤذنك بالصلاة، ثمّ حقّ امامك في صلاتك، ثمّ حقّ جليسك، ثمّ حقّ جارك، ثمّ حقّ صاحبك، ثمّ حقّ شريكك، ثمّ حقّ مالك، ثمّ حقّ غريمك الذي تطالبه(11) ثمّ حقّ خليطك.

ثمّ حقّ خصمك المدّعي عليك، ثمّ حقّ خصمك الذي تدّعي عليه، ثمّ حقّ مستشيرك، ثمّ حقّ المشير عليك، ثمّ حقّ مستنصحك، ثمّ حقّ الناصح لك، ثمّ حقّ من هو أكبر منك، ثمّ حقّ من هو أصغر منك، ثمّ حقّ سائلك، ثمّ حقّ من سألته، ثمّ حقّ من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل، أو مسرّة بقول أو فعل عن تعمّد منه أو غير تعمّد، ثمّ حقّ أهل ملّتك عامة، ثمّ حقّ أهل الذمة، ثمّ الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال، وتعرّف الأسباب، فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه ووفّقه وسدّده.

1 ـ حقّ الله:

فأمّا حقّ الله الأكبر عليك، فأن تعبده لا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك باخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحبّ منهما.

2 ـ حقّ النفس:

وأمّا حقّ نفسك عليك، فأن تستوفيها في طاعة الله، فتؤدّي إلى لسانك حقّه، وإلى سمعك حقّه، وإلى بصرك حقّه، وإلى يدك حقّها، وإلى رجلك حقّها، وإلى بطنك حقّه، وإلى فرجك حقّه، وتستعين بالله على ذلك.

أ ـ أمّا حقّ اللسان: فإكرامه عن الخنا، وتعويده على الخير، وحمله على الأدب، وإجمامه إلاّ لموضوع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا، واعفاؤه من الفضول الشنيعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلّة عائدتها، وبعد شاهد العقل والدليل عليه، وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه، ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

ب ـ وأمّا حقّ السمع: فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلاّ لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً أو تكسبك خلقاً كريماً، فإنّه باب الكلام إلى القلب، يؤدّي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر، ولا قوّة إلاّ بالله.

ج ـ وأمّا حقّ بصرك: فغضّه عمّا لا يحلّ لك، وترك ابتذاله إلاّ لموضع عبرة تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً، فإنّ البصر باب الاعتبار.

د ـ وأمّا حقّ يدك: فأن لا تبسطها عمّا لا يحلّ لك، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل، ومن الناس أللاّئِمَةِ(12) في العاجل، ولا تقبضها عمّا افترض الله عليها، ولكن توقّرها بقبضها عن كثير ممّا لا يحلّ لها، وبسطها إلى كثير مما ليس عليها، فإذاً هي قد عقلت وشرفت في العاجل، ووجب لها حسن الثواب من الله في الآجل.

هـ ـ وأمّا حقّ رجليك: فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحلّ لك، ولا تجعلهما مطيّتك في الطريق المستخفّ بأهلها فيها، فإنّها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين والسبق لك، ولا قوّة إلاّ بالله.

و ـ وأمّا حقّ بطنك: فأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير، وأن تقتصد له في الحلال، ولا تخرجه من حدّ التقوية إلى حدّ التهوين وذهاب المروءة، فإنّ الشبع المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروءة.

ز ـ وأمّا حقّ فرجك: فحفظه ممّا لا يحلّ لك، والاستعانة عليه بغضّ البصر، فإنّه من أعون الأعوان، وضبطه إذا همّ بالجوع والظمأ، وكثرة ذكر الموت، والتهدّد لنفسك بالله، والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد، ولا حول ولا قوّة إلاّ به.

3 ـ حقوق الأفعال:

أ ـ فأمّا حقّ الصلاة: فأن تعلم أنّها وفادة إلى الله، وانّك قائم بين يدي الله، فإذا علمت ذلك كنت خليقاً أن تقوم فيها مقام الذليل الراغب الراهب، والخائف الراجي، والمسكين المتضرّع، والمعظّم من قام بين يديه بالسكون والاطراق، وخشوع الأطراف، ولين الجناح، وحسن المناجات له في نفسه، والرغبة إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتك واستهلكتها ذنوبك، ولا قوّة إلاّ بالله.

ب ـ وأمّا حقّ الحجّ: أن تعلم أنّه وفادة إلى ربّك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك.

ج ـ وأمّا حقّ الصوم: فأن تعلم أنّه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار، وهكذا جاء في الحديث: «الصوم جنّة من النار» فإن سكنت أطرافك في حجبتها رجوت أن تكون محجوباً، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها، بالنظرة الداعية للشهوة، والقوّة الخارجة عن حدّ التقية لله، لم تأمن أن تخرق الحجاب وتخرج منه، ولا قوّة إلاّ بالله.

د ـ وأمّا حقّ الصدقة: فأن تعلم أنّها ذخرك عند ربّك، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الاشهاد، فإذا علمت ذلك كنت بما استودعته سرّاً أوثق منك بما استودعته علانية، وكنت جديراً أن لا تكون أسررت إليه أمراً أعلنته، وكان الأمر بينك وبينه فيها سرّاً على كلّ حال، ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها باشهاد الأسماع والأبصار عليه بها، كأنّها أوثق في نفسك، وكأنّك لا تثق به في تأدية وديعتك إليك، ثمّ لم تمتنّ بها على أحد لأنّها لك، فإذا امتننت بها لم تأمن أن يكون بها مثل تهجين حالك منها إلى من مننت بها عليه، لأنّ في ذلك دليلا على أنّك لم ترد نفسك بها، ولو أردت نفسك بها لم تمتنّ بها على أحد، ولا قوّة إلاّ بالله.

هـ ـ وأمّا حقّ الهدي: فأن تخلص به الارادة إلى ربّك، والتعرّض لرحمته وقبوله، ولا تريد عيون الناظرين دونه، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلّفاً ولا متصنّعاً، وكنت إنّما تقصد إلى الله، واعلم أنّ الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير، كما أراد بخلقه التيسير ولم يرد بهم التعسير، وكذلك التذلّل أولى بك من التدهقن، لأنّ الكلفة في المتدهقنين، فأمّا التذلّل والتمسكن فلا كلفة فيهما ولا مؤنة عليهما، لأنّهما الخلقة وهما موجودان في الطبيعة، ولا قوّة إلاّ بالله.

4 ـ حقوق الأئمة:

أ ـ فأمّا حقّ سائسك بالسلطان: فأن تعلم أنّك جعلت له فتنة، وأنّه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان، وأن تخلص له في النصيحة، وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه، وتذلّل وتلطّف لاعطائه من الرضا ما يكفه عنك ولا يضرّ بدينك، وتستعين عليه في ذلك بالله، ولا تعازه ولا تعانده فإنّك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك، فعرضتها لمكروهه وعرضته للهلكة فيك، وكنت خليقاً أن تكون معيناً له على نفسك وشريكاً له فيما أتى إليك، ولا قوّة إلاّ بالله.

ب ـ فأمّا حقّ سائسك بالتعلّم: فالتعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والاقبال عليه، والمعونة له على نفسك فيما لا غنىً بك عنه من العلم، بأن تفرّغ له عقلك، وتحضره فهمك، وتذكي له قلبك، وتجلي له بصرك بترك اللذات ونقص الشهوات، وأن تعلم أنّك فيما ألقى رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه إذا تقلّدتها، ولا قوّة إلاّ بالله.

ج ـ فأمّا حقّ المالك: فنحو من سائسك بالسلطان، إلاّ أنّ هذا يملك ما لا يملكه ذاك، تلزمك طاعته فيما دقّ وجلّ منك، إلاّ أن يخرجك من وجوب حقّ الله، ويحول بينك وبين حقّه وحقوق الخلق، فإذا قضيته رجعت إلى حقّه فتشاغلت به، ولا قوّة إلاّ بالله.

5 ـ حقوق الرعية:

أ ـ فأمّا حقوق رعيّتك بالسلطان: فأن تعلم أنّك إنّما استرعيتهم بفضل قوّتك عليهم، فإنّه إنّما أحلّهم محلّ الرعية لك ضعفهم وذلّهم، فما أولى من كفاكه ضعفه وذلّه حتّى صيّره لك رعية، وصيّر حكمك عليه نافذاً، لا يمتنع منك بعزّة ولا قوّة، ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلاّ بالرحمة والحياطة والأناة، وما أولاك إذا ما عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقوّة التي قهرت بها أن تكون لله شاكراً، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه، ولا قوّة إلاّ بالله.

ب ـ وأمّا حقّ رعيّتك بالعلم: فأن تعلم أنّ الله قد جعلك لهم خازناً فيما آتاك من العلم وولاّك من خزانة الحكمة، فإن أحسنت فيما ولاّك الله من ذلك، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبيده الصابر المحتسب، الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه كنت راشداً، وكنت لذلك آملا معتقداً، وإلاّ كنت له خائناً، ولخلقه ظالماً، ولسلبه متعرّضاً.

ج ـ وأمّا حقّ رعيّتك بملك النكاح: فأن تعلم أنّ الله جعلها سكناً ومستراحاً وأنساً وواقية، وكذلك كلّ واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه، ويعلم أنّ ذلك نعمة منه عليه، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها، وإن كان حقّك عليها أغلظ، وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت ما لم تكن معصية، فإنّ لها حقّ الرحمة والمؤانسة، ولا قوّة إلاّ بالله.

د ـ وأمّا حقّ رعيّتك بملك اليمين: فأن تعلم أنّه خلق ربّك ولحمك ودمك، وانّك تملكه لا أنت صنعته دون الله، ولا خلقت له سمعاً ولا بصراً، ولا أجريت له رزقاً، ولكنّ الله كفاك ذاك ثمّ سخّره لك، وائتمنك عليه، واستودعك إيّاه لتحفظه فيه وتسير فيه بسيرته، فتطعمه ممّا تأكل، وتلبسه ممّا تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق، فإن كرهته خرجت إلى الله منه، واستبدلت به ولم تعذّب خلق الله، ولا قوّة إلاّ بالله.      

6 ـ حقّ الرحم:

1 ـ وأمّا حقّ الرحم: فحقّ أُمّك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً، وانّها وَقَتْكَ بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها، مستبشرة فرحة محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمّها، حتّى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوع، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمى، وتظلّك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاء، وحجرها لك حواء، وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء، تباشر حرّ الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه.

2 ـ وأمّا حقّ أبيك: فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّك فرعه، وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلاّ بالله.

3 ـ وأمّا حقّ ولدك: فأن تعلم أنّه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وانّك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب والدلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه، ولا قوّة إلاّ بالله.

4 ـ وأمّا حقّ أخيك: فأن تعلم أنّه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجئ إليه، وعزّك الذي تعتمد عليه، وقوّتك التي تصول بها، فلا تتّخذه سلاحاً على معصية الله، ولا عدّةً للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على نفسه، ومعونته على عدوّه، والحول بينه وبين شياطينه، وتأدية النصيحة إليه، والاقبال عليه في الله، فإن انقاد لربّه وأحسن الاجابة له، وإلاّ فليكن الله آثر عندك وأكرم عليك منه.

7 ـ حقّ المنعم بالولاء:

وأما حق المنعم عليك بالولاء: فأن تعلم أنّه أنفق فيك ماله، وأخرجك من ذلّ الرقّ ووحشته إلى عزّ الحرّية وأُنسها، وأطلقك من أسر الملكة، وفكّ عنك حلق العبودية، وأوجدك رائحة العزّ، وأخرجك من سجن القهر، ودفع عنك العسر، وبسط لك لسان الانصاف، وأباحك الدنيا كلّها، فملكك نفسك وحلّ أسرك، وفرغك لعبادة ربّك، واحتمل بذلك التقصير في ماله، فتعلم أنّه أولى الخلق بك بعد أُولي رحمك في حياتك وموتك، وأحقّ الخلق بنصرك ومعونتك ومكاتفتك في ذات الله، فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك.

8 ـ حقّ المولى:

وأمّا حقّ مولاك الجارية عليك نعمته: فأن تعلم أنّ الله جعلك حامية عليه، وواقية وناصراً ومعقلا، وجعله لك وسيلة وسبباً بينك وبينه، فبالحري أن يحجبك عن النار فيكون في ذلك ثواب منه في الآجل، ويحكم لك بميراثه في العاجل، إذا لم يكن له رحم مكافاة لما أنفقته من مالك عليه، وقمت به من حقّه بعد انفاق مالك، فإن لم تقم بحقّه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه، ولا قوّة إلاّ بالله.

9 ـ حقّ ذوي المعروف:

وأمّا حقّ ذوي المعروف عليك: فأن تشكره وتذكر معروفه، وتنشر له المقالة الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه، فإنّك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّاً وعلانية، ثمّ إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته، وإلاّ كنت مرصداً له، وموطناً نفسك عليها.

10 ـ حقّ المؤذّن:

وأما حقّ المؤذن: فأن تعلم أنّه مذكّرك بربّك، وداعيك إلى حظّك، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك، فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك، وإن كنت في بيتك نبهك، وعلمت أنّه نعمة من الله عليك لا شكّ فيها، فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كلّ حال، ولا قوّة إلاّ بالله.

11 ـ حقّ إمام الجماعة:

وأمّا حقّ إمامك في صلواتك: فأن تعلم أنّه قد تقلّد السفارة فيما بينك وبين الله، والوفادة إلى ربّك، وتكلّم عنك ولم تتكلّم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وطلب فيك ولم تطلب فيه، وكفاك همّ المقال بين يدي الله والمسألة له فيك ولم تكفه ذلك، فإن كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك، وإن كان إثماً لم تكن شريكه فيه، ولم يكن لك عليه فضل، فوقى نفسك بنفسه، ووقى صلاتك بصلاته، فتشكر له على ذلك، ولا قوّة إلاّ بالله.

12 ـ حقّ الجليس:

وأمّا حقّ الجليس: فأن تلين له كنفك، وتطيب له جانبك، وتنصفه في مجاراة اللفظ، ولا تفرّق في نزع اللحظ إذا لحظت، وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا لفظت، وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار [وإن كان الجالس إليك كان بالخيار](13)، ولا تقوم إلاّ بإذنه، ولا قوّة إلاّ بالله.

13 ـ حقّ الجار:

وأمّا حقّ الجار: فحفظه غائباً، وكرامته شاهداً، ونصرته ومعونته في الحالين جميعاً، لا تتّبع له عورة، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها، فإن عرفتها منه عن غير إرادةً منك ولا تكلّف كنت لما علمت حصناً حصيناً، وستراً ستيراً لو بحثت الأسنة عنه ضميراً لم تتّصل إليه لانطوائه عليه، لا تستمع عليه من حيث لا يعلم، ولا تسلمه عند شديدة، ولا تحسده عند نعمة، تقيل عثرته، وتغفر زلّته، ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك، ولا تخرج أن تكون سلماً له، تردّ عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

14 ـ حقّ الصاحب:

وأمّا حقّ الصاحب: فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا، وإلاّ فلا أقل من الانصاف، وأن تكرمه كما يكرمك، وتحفظه كما يحفظك، ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة، فإن سبقك كافأته، ولا تقصّر به عمّا يستحقّ من المودّة، تلزم نفسك نصيحته وحياطته ومعاضدته على طاعة ربّه، ومعونته على نفسه فيما يهمّ به من معصية ربّه، ثمّ تكون عليه رحمة ولا تكن عليه عذاباً، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

15 ـ حقّ الشريك:

وأمّا حقّ الشريك: فإن غاب كفيته، وإن حضر ساويته، ولا تعزم على حكمك دون حكمه، ولا تعمل برأيك دون مناظرته، وتحفظ عليه ماله، وتتّقي خيانته فيما عزّ أو هان، فإنّه بلغنا أنّ يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا، ولا قوّة إلاّ بالله.

16 ـ حقّ المال:

وأمّا حقّ المال: فأن لا تأخذه إلاّ من حلّه، ولا تنفقه إلاّ في حلّه، ولا تحرّفه عن مواضعه، ولا تصرفه عن حقائقه، ولا تجعله إذا كان من الله إلاّ إليه وسبباً إلى الله، ولا تؤثر به على نفسك من لعلّه لا يحمدك، وبالحريّ أن لا يحسن خلافته في تركتك، ولا يعمل فيه بطاعة ربّك فتكون معيناً له على ذلك، أو بما أحدث في مالك أحسن نظراً لنفسه فيعمل بطاعة ربّه فيذهب بالغنيمة، وتبوء بالاثم والحسرة والندامة مع التبعة، ولا قوّة إلاّ بالله.

17 ـ حقّ الغريم:

وأمّا حقّ الغريم المطالب لك: فإن كنت مؤسراً أوفيته وكفيته وأغنيته، لم تردّه وتمطله، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)قال: «مطل الغني ظلم» وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول، وطلبت إليه طلباً جميلا، ورددته عن نفسك ردّاً لطيفاً، ولم تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته فإنّ ذلك لؤم، ولا قوّة إلاّ بالله.

18 ـ حقّ الخليط:

وأمّا حقّ الخليط: فأن لا تغرّه ولا تغشّه ولا تكذبه ولا تغفله ولا تخدعه ولا تعمل في انتقاصه عمل العدوّ الذي لا يبقي على صاحبه، وإنِ اطمأنّ إليك استقصيت له على نفسك وعلمت أنّ غبن المسترسل رباً، ولا قوّة إلاّ بالله.

19 ـ حق الدعوى:

1 ـ وأمّا حقّ الخصم المدّعي عليك: فإن كان ما يدّعي عليك حقّاً لم تنفسخ في صحبته، ولم تعمل في إبطال دعوته، وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها، والشاهد له بحقّه دون شهادة الشهود، فإنّ ذلك حقّ الله عليك، وإن كان ما يدّعيه باطلا رفقت به وردعته وناشدته بدينه، وكسرت حدّته عنك بذكر الله، وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يردّ عنك عادية عدوّك، بل تبوء باثمه، وبه يشحذ عليك سيف عداوته، لأنّ لفظة السوء تبعث الشر، والخير مقمعة للشر، ولا قوّة إلاّ بالله.

2 ـ وأمّا حقّ الخصم المدّعى عليه، فإن كان ما تدّعيه حقّاً أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى، فإنّ للدعوى غلظة في سمع الداعي عليه، وقصدت قصد حجّتك بالرفق، وأمهل المهلة، وأبين البيان، وألطف اللطف، ولم تتشاغل عن حجّتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجّتك، ولا يكون لك في ذلك درك، ولا قوّة إلاّ بالله.

20 ـ حقّ المشاورة والنصيحة:

1 ـ وأمّا حقّ المستشير: فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة، وأشرت عليه بما تعلم انّك لو كنت مكانه عملت به، وليكن ذلك منك في رحمة ولين، فإنّ اللين يؤنس الوحشة، وانّ الغلظة توحش موضع الأُنس، وإن لم يحضرك له رأي وعرفت له من تثق برأيه وترضى به لنفسك دللته عليه وأرشدته إليه، فكنت لم تأله خيراً ولم تدّخره نصحاً، ولا قوّة إلاّ بالله.

2 ـ وأمّا حقّ المشير عليك: فلا تتّهمه فيما لا يوافقك من رأيه إذا أشار عليك، فإنّما هي الآراء وتصرّف الناس فيها واختلافهم، وكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتّهمت رأيه، فامّا تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك من يستحقّ المشاورة، ولا تدع شكره على ما بدا لك من إشخاص رأيه، وحسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت الله وقبلت ذلك من أخيك بالشكر والارصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، ولا قوّة إلاّ بالله.

3 ـ وأمّا حقّ المستنصح: فأن تؤدّي إليه النصيحة، وتكلّمه من الكلام بما يطيقه عقله، فإنّ لكلّ عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه، وليكن مذهبك الرحمة، ولا قوّة إلاّ بالله.

4 ـ وأمّا حقّ الناصح: فأن تلين له جناحك، ثمّ تشرأب له قلبك، وتفتح له سمعك حتّى يفهم عنك نصيحته، ثمّ تنظر فيها فإن كان وفّق فيها للصواب حمدت الله على ذلك وقبلت منه وعرفت له نصيحته، وإن لم يكن وفّق لها رحمته ولم تتّهمه، وعلمت أنّه لم يألك نصحاً إلاّ انّه أخطأ، إلاّ أن يكون عندك مستحقّاً للتهمة، فلا تعبأ بشيء من أمره على كلّ حال، ولا قوّة إلاّ بالله.

21 ـ حقّ السن:

1 ـ وأمّا حقّ الكبير: فإنّ حقّه توقير سنّه، وإجلال إسلامه إذا كان من أهل الفضل في الإسلام بتقديمه فيه، وترك مقابلته عند الخصام، ولا تسبقه إلى طريق، ولا تؤمّه في طريق، ولا تستجهله، وإن جهل عليك تحمّلت وأكرمته بحقّ اسلامه مع سنّه، فإنّما حقّ السنّ بقدر الإسلام، ولا قوّة إلاّ بالله.

2 ـ وأمّا حقّ الصغير: فرحمته، وتثقيفه، وتعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له، والستر على جرائر حداثته، فإنّه سبب للتوبة والمداراة له، وترك مما حكته، فإنّ ذلك أدنى لرشده.

22 ـ حقّ السائل والمسؤول:

1 ـ وأمّا حقّ السائل: فإعطاؤه إذا تهبّأت صدقه، وقدرت على سدّ حاجته، والدعاء له فيما نزل به، والمعاونة له على طلبته، وإن شككت في صدقه وسبقت إليه التهمة ولم تعزم على ذلك، لم تأمن أن يكون من كيد الشيطان أراد أن يصدّك عن حظّك، ويحول بينك وبين التقرّب إلى ربّك، تركته بستره ورددته ردّاً جميلا، وإن غلبت نفسك في أمره، وأعطيته على ماعرض في نفسك منه فإنّ ذلك من عزم الأُمور.

2 ـ وأمّا حقّ المسؤول: فإن أعطى قبل منه ما أعطى بالشكر له والمعرفة لفضله، وطلب وجه العذر في منعه، وأحسن به الظنّ، واعلم أنّه إن منع فما له منع، وأن ليس التثريب في ماله وإن كان ظالماً فإنّ الإنسان لظلومٌ كفّار.

23 ـ حقّ من سترك:

وأمّا حقّ من سترك الله به وعلى يديه، فإن كان تعمّدها لك حمدت الله أوّلا ثمّ شكرته على ذلك بقدره في موضع الجزاء، وكافأته على فضل الابتداء، وأرصدت له المكافأة، وإن لم يكن تعمّدها حمدت الله أوّلا ثمّ شكرته وعلمت انّه منه توحّدك بها، وأحببت هذا إذ كان سبباً من أسباب نعم الله عليك، وترجو له بعد ذلك خيراً، فإنّ أسباب النعم بركة حيث ما كانت، وإن كان لم يتعمّد، ولا قوّة إلاّ بالله.

24 ـ حقّ القضاء:

وأمّا حقّ من ساءك القضاء على يديه بقول أو فعل، فإن كان تعمّدها كان العفو أولى بك لما فيه له من القمع وحسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق، فإنّ الله يقول: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأُولئك ما عليهم من سبيل ـ إلى قوله ـ لمن عزم الأُمور)[الشورى : 41 ـ 43].

وقال عزّ وجلّ: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين)[ النحل : 126]. هذا في العمد فإن لم يكن عمداً لم تظلمه بتعمّد الانتصار منه فتكون قد كافأته في تعمّد على خطأ، ورفقت به ورددته بألطف ما تقدر عليه، ولا قوّة إلاّ بالله.

25 ـ حقّ بقيّة الناس:

1 ـ وأمّا حقّ أهل ملّتك عامة: فاضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألّفهم واستصلاحهم، وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك، فإنّ احسانه إلى نفسه إذا كفّ عنك أذاه وكفاك مؤنته، وحبس عنك نفسه، فعمّهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وأنزلهم جميعاً منك منازلهم كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصِل أخاك بما يجب للأخ على أخيه.

2 ـ وأمّا حقّ أهل الذمة: فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله، وكفى بما جعل الله لهم من ذمّته وعهده، وتكلهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمّة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله حائل، فإنّه بلغنا انّه قال: «من ظلم معاهداً كنت خصمه» فاتّق الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

26 ـ الخاتمة:

فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال، يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها والاستعانة بالله جلّ ثناؤه على ذلك، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله والحمد لله ربّ العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) راجع تفسير العياشي 1 : 255 ح182، وتفسير الميزان 4 : 413.

(2) تفسير البيضاوي 2 : 67 سورة الأنبياء.

(3) الكشّاف 3 : 109و110 تفسير سورة الأنبياء.

(4) مجمع البيان، تفسير سورة الأنبياء، الآية 22.

(5) راجع الكافي 5 : 12 ح3.

(6) صحيح ابن حبان 2 : 291 ح533.

(7) صحيح ابن حبان 13 : 197 ضمن حديث 5882.

(8) البحار 65 : 316 ح7.

(9) تحف العقول : 183; عنه البحار 74 : 10 ح2.

(10) جدير ذكره ان المؤلف العلامة القبانچي قد تفرّد بتأليف كتاب نادر في (شرح رسالة الحقوق) في مجلّدين وقد طبع بثلاث طبعات في العراق وايران ولبنان، ونال اهتماماً بالغاً من قبل أهل العلم وعموم القراء.

(11) [ثمّ حقّ غريمك الذي يطالبك، خ.ل].

(12) بمعنى اللوم.

(13) أثبتناه من البحار.