الفصل الحادي عشر

قيمة الدنيا وشأنها

 

 

«يا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا، وَزَوَالِهَا وَانْتِقَالِهَا، وَأَنْبَأْتُكَ عَنِ الاْخِرَةِ وَمَا أُعِدَّ لاَِهْلِهَا، وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الاَْمْثَالَ، لِتَعْتَبِرَ بِهَا، وَتَحْذُوَ عَلَيْهَا. إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْم سَفْر نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فَأَمُّوا مَنْزِلا خَصِيباً وَجَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَ الْمَطْعَمِ، لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْء مِنْ ذلِكَ أَلَماً، وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً. وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ وَأَدْنَاهُمْ ألى مَحَلَّتِهِمْ.

وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْم كَانُوا بِمَنْزِل خَصِيب، فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِل جَدِيب، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ، إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ».

* * *

نحن الآن تجاه مثل رائع عن الدنيا وحالها، وتعبير ملمّ بما للدنيا من صفات وخواص، يبيّنها لنا عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فيجيد في البيان، ويوضحها فيبلغ في الايضاح، ويصوّرها لنا على علاتها بأحسن تصوير، فكأنّه (عليه السلام) يمثّل لنا شيئاً محسوساً يقطن زاوية من زوايا حياتنا، فعلينا أن نتباعد عنه ونتحاشاه كي لا يمسّنا منه أذى.

ولم يكفه ذلك، بل تعدّاه إلى التعبير عن حال ساكنيها والخائضين غمارها، فهم على نوعين إثنين:

 

أنواع أهل الدنيا:

1 ـ النوع الأوّل منهم هم القوم الذين لم يرتاحوا إلى المنزل الجديد الذي لا ينالون من ورائه معيشة يسدّدون بها جوعهم، ولا هم بمقرب من ا لماء ليرووا بها غلتهم، فهم كالجالس على روق الظبي لا يكاد يستقرّ حتّى يأخذ بالتمايل يمنة ويسرة ليقع على الأرض، لتشج جبهته أو ليقضي آخر نفس من أنفاس حياته في عذاب شديد من الأوجاع المحيطة به.

أو كمن كان وسط بحر هائج قد ثار به الغضب، فتحوّل وجهه من ابتسامة منبسطة إلى تقطيب ممضّ، ومن هدوء وسكينة إلى هياج واحتدام، فذلك الرجل لا يدري هل سيوصله الماء إلى الساحل لينعم باللذة وطيب العيش، أم سوف يلفه الماء بعين طياته ليجعله طعمة لأسماكه التي لعلّ بعضها من لا عهد له بالشبع مند أمد بعيد.

لا يتحمّل الإنسان وعثاء الطريق، وجشوبة المطعم، وفراق الأصدقاء والرفاق، ولا يمكن أن ينوء بعبء المصاعب التي يواجهها في قطع طريقه البعيد المدى، إلاّ لأنّه قد بنى من الآمال الوطيدة بيتاً مشيّداً في الجانب الآخر الذي سيحلّ فيه عمّا قريب، وقد لا يبعد عنه إلاّ أن يغذو عيره في السير، وما هي بضع خطوات حتّى تترائى له معالم المدينة الجديدة التي يقبل عليها.

ويقيني قوي بأنّ الإنسان لا تدعوه إلى السفر إلاّ دواعي الأمل الوطيد، أمّا إذا لم يكن من ذلك شيء فأحرى به إذا فعل ذلك أن يسمّى مجنوناً أو قد خالطه شيء من الجنون، لأنّ فعله لغير غاية، وكلّ فعل لم ينط بغاية لم يكن ممّا تأتي به العقلية الإنسانية، فهل ترى أنّ أُولئك القوم الذين قصدوا إلى منزل خصيب من منزل جديب، هل ترى أنّهم يحسّون بشيء من المتاعب، فيه شيء ممّا يمضّ النفس ويضجرها، كلاّ أنّهم ليس يرون شيئاً أحبّ إليهم من ذلك.

تحمّل متاعب، وقطع مسافة بعيدة، واغبرار وجه، واحتمال عطش أو جوع، ثمّ بعد ذلك الراحة والاطمئنان والري والشبع، إنّ ذلك حقّاً من السعادة العظمى التي طالما حلم بها كلّ ابن أُنثى.

فما أجمل العيش لو نال كلّ إنسان بغيته بعد طوال الطريق ووعثه، وما أطيبه لو عبر تلك البحار المزبدة الغضوبة فوصل إلى الشاطئ ليجد حبيبته واقفة على الساحل بانتظار قدومه، وقد تركت مخدعها فيجتمعان وتلتصق روحاهما حتّى لتكاد أن تجعل روحه مع روحها روحاً واحدة ونفساً واحدة تنبض بالعاطفة والحنان، فيمشيان معاً جنباً إلى جنب، والحبّ والمعاطفة تمشي أمامهما تبن لهم السبيل.

ما أحلى العيش لو بحث الإنسان عن بغيته وطلبته في كلّ مكان، وتحمّل من أجلها المتاعب والمشاق فوجدها.

ما أحلى الحياة لو كانت تدوم ولم يؤل أمرها إلى الزوال ولكن ذلك لم يكن، كلّ هذه التمنّيات وهذه الآمال العذاب الضاربة في الأرض إلى الأعماق والشاخصة إلى الآفاق تسايرها أينما سارت.

كلّ هذه يكون مصدرها كلام سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

2 ـ وأمّا النوع الثاني من أهل الدنيا: فهم على العكس من النوع الأوّل، كما يصوّرهم لنا الإمام (عليه السلام) أيضاً ويصفهم بالمغرورين، فهم يرحلون من منزل خصيب إلى آخر جديب، فليس شيء أكره إليهم ولا أفضع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه.

ولو أنّهم جعلوا نفوسهم سخيّة، وأكفّهم نديّة، وفي ثروتهم متّسعاً لاسعاف المنكوبين، وردّ لهفة المعوزين لوجدوا منزلهم خصيباً، وماءهم عذباً.

 

البخل هو السبب في حبّ الدنيا:

ولكن الشحّ وغريزة البخل هي التي أجدبت دارهم، وهبطت بهم دون منازل الأبرار، وحرمتهم الكرامة التي فضّل الله بها الأسخياء المنفقين: (الذين ينفقون أموالهم بالّيل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة : 274].

ومن هنا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يستعيذ من البخل فيقول: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من البخل»(1)، ويقول (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله يبغض البخيل في حياته، السخي عند موته»(2)، ويقول: «البخيل بعيد من الله، بعيد من النار، بعيد من الجنّة، قريب من النار»(3)، ويقول عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام): «البخيل جامع لمساوىء العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كلّ سوء»(4).

وقد نصّ القانون الإسلامي على ذمّ أهله وتوبيخهم بما لا مزيد عليه.

البخل لغةً: هو الشحّ في الشيء من واجده، شرعاً هو منع الواجب من الحقوق، وفي عرف العرب هو منع المسؤول السائل ممّا يفضل عنده.

البخل داء مركّب من أُمور يتوقّف وجوده عليها، وكلّها قبيحة وما يتركّب من القبيح يكون قبيحاً.

يتوقّف وجود البخل في صاحبه على خساسة نفسه، وحقارتها في واقع أمرها وحقيقة وجودها، ولا يغرّك منه إظهار علوّ نفسه وكبرها، يتوقّف وجود البخل في صاحبه على لؤمه ورداءة ذاته، وتغلب هاتين الصفتين على نفيس جوهره ومدارك عقله.

يتوقّف وجود البخل في صاحبه على طول الأمل، وخوف الفقر، وحبّ المال لأنّه مال.

 

البخل في نوعين:

1 ـ البخل في الواجبات: وهو أقبح أنواع البخل وأشدّها إثماً وله مراتب:

أوّلها: بخل الشخص بما وجب عليه في ماله عن ماله، وهو الزكاة الواجبة في النقدين: الذهب والفضّة، وفي الغلاّت الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وفي الأنعام السائمة: الغنم، والماعز، والبقر، والجاموس، والابل، على حسب ما ذكر لها من الشروط في محلّها، وقد أوجبها الله سبحانه على الأغنياء سدّاً لحاجة الفقراء، وحفظاً لانتظام الإنسان في معاشه، والبخل بالواجب من الزكاة يكشف عن عدم الايمان وعدم الخوف من عذاب الله سبحانه.

ثانيها: بخل الشخص بما وجب عليه في المال الزائد عن مصرفه بحسب حاله، وهذا هو الخمس كما فرضه الله سبحانه لأهله بعد أن كانوا كرسول الله (صلى الله عليه وآله) في حرمة أكل الزكاة، فكما كرّم الله تعالى رسوله وأهل بيته بتحريم الصدقة عليهم ونزّههم عنها، أوجب لهم الخمس فرضاً منهم لهم وإشفاقاً عليهم.

والمانع بخلا لما وجب عليه من الخمس معدود عند الله في زمرة الظالمين لحقّ محمّد وآله (عليهم السلام)، وقد روي عن آل بيت محمّد (عليهم السلام) قولهم: «إنّ من أكل علينا درهماً واحداً فهو ظالم غاصب لنا».

ثالثها: بخل الشخص بما وجب عليه عن نفسه وعياله، وهو الزكاة الواجبة يوم العيد بعد صوم شهر رمضان، وتسمّى بالفطرة والصدقة عن النفس وهي بسيطة جدّاً، ومقدارها وشروط وجوبها مذكور في محلّه، والبخل بها يكشف عن عدم المبالاة في الدين أكثر ممّا يكشف عن الشحّ المطاع، نظراً لعدم أهميتها.

رابعها: بخل الشخص بما أوجبه على نفسه بنذر أو عهد أو يمين، فإنّه إذا نذر أو عاهد أو حلف بأن يعطي الفقراء أو رجلا معيّناً شيئاً من ماله وجب عليه الوفاء بما أوجبه على نفسه، فإذا بخل به ولم يدفعه كان مخالفاً لما عاهد الله عليه مستخفّاً بدينه.

ولا ريب أنّ المانع لهذه الواجبات المذكورة بخلا وشحّاً مذموم، مطالب بها في الدنيا ومحاسب عليها في الآخرة: (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون) [الشعراء : 88]، (اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت) [غافر : 17]. والمانع للزكاة والخمس والفطرة والواجب بنذر ونحوه عن عدم اعتقاده بوجوبها خارج عن دائرة الايمان بالله وكتبه ورسله، وحسابه على الله سبحانه.

2 ـ البخل في غير الواجبات، له مراتب ولأهله صفات:

منها بخل الشخص على السائلين من الفقراء والضعفاء، الطالبين بعض الخبز أو الادام أو القطع النقدية ونحوها، والبخلاء في هذه المرتبة قلائل إذ قلّ من يبخل بمثل ذلك، ومن بخل فهو خارج عن دائرة الإنسانية.

ومنها بخل الشخص بما يندب إليه من العطايا والهبات بحسب حاله وحال الطالبين منه كثرة وقلّة، فإذا كان ممّن يفعل الخير لوجه الله سبحانه فعليه أن يبذل من ماله ما لا يضرّ بحاله ابتغاء مرضاة الله، وإن كان ممّن يفعل الاحسان رغبةً بالثناء عليه وحبّاً بنسبته إليه، فعليه أن يبني مجده على دعائم كرمه قبل بناء مسكنه على التلال والجبال.

ليس بالمغبون عقلا *** من شرى عزّاً بمال

والبخل من أهل هذا القسم حرصاً منهم على المال وحبّاً به يدلّ على نقص في عقولهم، لأنّ العاقل إنّما يحبّ المال ويدّخره ليكون به سعيداً، والبخل يحول بين أهله وبين السعادة في الدارين، ويمنع نسبة الفضائل والكمال إليهم، ونصرة القريب والبعيد لهم.

ومنها بخل الشخص بماله على نفسه وعياله حتّى تجد ذلك الشخص كأنّه حرّم على نفسه اللذات، أو رغب في مساواة من لا يملك ما يكفيه لقضاء الحاجات، فهذا يحاسب في الدنيا والآخرة محاسبة الأغنياء، ويعيش معيشة الفقراء.

ومنها بخل الشخص بمال غيره، فيما إذا كانت له ولاية صرف مال الغير على الفقراء والضعفاء، فبخل به ولم يصرفه كما فوّضه به مالكه، أو فيما إذا أنكر فعل الخير والاحسان على فاعليه، وحملهم على البخل والشحّ، وهذا منتهى اللؤم والخساسة وخبث النفس، لأنّ أبخل البخلاء من بخل بمال غيره.

هذه الأقسام التي صوّرناها للبخل، وكيف كان البخل فإنّه يسبّب الأضرار الكثيرة على البخلاء في أموالهم وأنفسهم واعتبارهم، يسبّب العداوة بينهم وبين الناس، يسبّب غضب الله سبحانه عليهم إذا بخلوا بما أمر الله به.

 

نصوص في ذم البخل:

جاء النصّ في القانون الإسلامي على ذمّ البخلاء وتوبيخهم، وتهديدهم، وإعلامهم عاقبة أمرهم بما لا مزيد عليه، فقال سبحانه:

(ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير) [آل عمران : 180].

دلّت هذه الآية الشريفة بكلّ صراحة ووضوح على أنّ البخل شرّ على البخلاء، وأنّهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، فيجعله الله سبحانه طوقاً في أعناقهم، تشهيراً لهم وتنكيلا بهم، لأنّهم بخلوا ببعض ما تفضّل الله به عليهم وأمرهم ببذله لمن خصّه به، فلا خير لهم في بخلهم بل هو شرّ لهم، والله عالم بما يكونون عليه من البخل وعدم امتثال أمره، وبيده سبحانه إزالة النعمة عنهم ودوامها لهم.

وقال سبحانه: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) [النساء : 37].

قد تضمّنت هذه الآية الشريفة بيان أُمور: البخل البسيط، والأمر بالبخل شحّاً حتّى بمال غيره وهذا منتهى البخل، وكتمان النعمة التي وصلت إليه خوفاً من الطلب، والحكم على من اتّصف بهذه الصفات بأنّه كافر، وإنّ الله أعدّ له عذاباً مهيناً.

ولا ريب في قبح البخل وإن كان بسيطاً، وتولّد الضرر الكثير منه، فكيف بالبخل المركّب، من بخل الشخص بماله وإلزامه الغير بالبخل، وما ظنّك بهذا هل يمنحه أحد الكرامة أو يمنيه السلامة هيهات هيهات.

وأمّا من كتم النعمة وأظهر الفقر والفاقة خوفاً من البذل والسخاء، فقد ارتدى بخساستي البخل والكذب، واستغشى رداء الكفر، لأنّه ستر النعمة، وساتر نعمة المنعم كافر بها، ولأنّ من لم يمتثل أمر مولاه فهو كافر، وقد أمر الله ببذل ما وجب بذله من نعمه، وقد أعدّ الله للكافرين عذاباً مهيناً (يوم لا ينفع مال ولا بنون)[الشعراء : 88].

وقال سبحانه: (ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه والله الغنيّ وأنتم الفقراء وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم) [محمّد : 38].

دلّت هذه الآية الشريفة على أنّ ضرر البخل وقبحه، إنّما يتوجّه إلى البخيل نفسه ولا يصيب سواه، ويكون بخله وشحّه متّصفاً بعدم النجاح والفلاح.

ودلّت بالملازمة العقلية على أنّ من دافع داء الشحّ وصرفه عن نفسه حتّى طابت نفسه عن بذل ما وجب بذله، فقد اتّصف بالفلاح والصلاح عند الله سبحانه، وأمّا عند الناس فقل في السخي ما شئت، تسمع من الناس ما يزينه، ولا تسمع منهم إذا عمّ سخاؤه ما يشينه وإن كثرت مساويه، فالكرم يستركل عيب كان فيه.

وقال صاحب الدعوة الإسلامية الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله):

«إيّاكم والشحّ فإنّه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم، وقطعوا أرحامهم»(5).

وقال (صلى الله عليه وآله): «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه»(6).

وقال (صلى الله عليه وآله): «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق»(7).

وقال (صلى الله عليه وآله): «لا يدخل الجنّة بخيل ولا خائن ولا منّان»(8).

وقال (صلى الله عليه وآله): «شرّ ما في الرجل شحّ هالع، وجبن خالع»(9).

وقال (صلى الله عليه وآله): «لا ينبغي لمؤمن أن يكون بخيلا وجباناً»(10).

وقال (صلى الله عليه وآله): «السخي الجهول أحبّ إلى الله من العابد البخيل»(11).

وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يجتمع شحّ وإيمان في قلب مؤمن أبداً»(12).

وقال (عليه السلام): «اللّهمّ اجعل لمنفق خلفاً، ولممسك تلفاً»(13).

وقال (عليه السلام): «عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إيّاه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء»(14).

وقال (عليه السلام): «إنّ الله سبحانه ينزل المعونة على قدر المؤونة»(15).

وقال (عليه السلام): «من وسّع وسّع الله عليه»(16).

وقال عبد الله بن عباس: «لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن قال لها: تزيّني فتزيّنت، ثمّ قال لها: أظهري أنهارك، فأظهرت عين السلسبيل، وعين الكافور، وعين التسنيم، فتفجّرت منها الأنهار، ثمّ قال لها: أظهري سررك وجمالك وكراسيّك وحللك وحور عينك فأظهرت، فنظر إليها وقال لها: تكلّمي، فقالت: طوبى لمن دخلني، فقال الله تعالى: وعزّتي لا أسكننّك بخيلا»(17).

وقال أبو حنيفة: «لا أرى أن أعدل بخيلا، لأنّ البخل يحمله على الاستقصاء، فيأخذ فوق حقّه خيفة أن يغبن، فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة»(18).

وقالت أُمّ البنين أُخت عمر بن عبد العزيز: «أُفّ للبخيل لو كان البخل قميصاً ما لبسته، ولو كان طريقاً ما سلكته»(19).

وروي أنّه ورد على كسرى أنوشروان حكيم من الهند وفيلسوف من الروم، فقال كسرى لحكيم الهند: تكلّم، فقام وقال: خير الناس من كان سخياً، وعند الغضب وقوراً، وفي القول متأنّياً، وفي الرفعة متواضعاً، وعلى كلّ ذي رحم مشفقاً.

وقال لفيلسوف الروم: تكلّم، فقام وقال: من كان بخيلا ورث عدوّه ماله، ومن قلّ شكره لم ينل النجح، وأهل الكذب مذمومون، وأهل النميمة يموتون فقراء، ومن لم يرحم سلّط الله عليه من لا يرحمه(20).

ولا يخفى ما في هذه الأقوال من تقبيح البخل وذمّه، وبعد أهله عمّا تألفه طباع البشر، وعمّا يكسب الذكر الجميل والثواب الجليل، وعمّا يقرب من الله والجنّة والناس، لأنّ البخيل بعيد عن رحمة الله، بعيد عن رضا الناس لتوقّف البخل على اللؤم، وخباثة الذات، ومخالفة الله سبحانه، وإليك ما روي في رجل أفرط في بخله عن لؤم وخبث سريرة.

روي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يطوف في البيت، فإذا برجل متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول: بحرمة هذا البيت إلاّ غفرت لي ذنبي، فقال (صلى الله عليه وآله): وما ذنبك صفه لي، فقال: هو أعظم من أن أصفه لك، فقال (صلى الله عليه وآله): ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟ فقال: ذنبي أعظم يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): فذنبك أعظم أم الجبال؟ قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله.

قال (صلى الله عليه وآله): فذنبك أعظم أم البحار؟ فقال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): فذنبك أعظم أم السماوات؟ قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): فذنبك أعظم أم العرش؟ قال: بل ذنبي أعظم يارسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): فذنبك أعظم أم الله؟ قال: بل الله أعظم وأعلى، قال (صلى الله عليه وآله): ويحك فصف لي ذنبك.

قال: يا رسول الله إنّي رجل ذو ثروة من المال، وانّ السائل ليأتيني يسألني فكأنّما يستقبلني بشعلة من نار، فقال (صلى الله عليه وآله): إليك عنّي لا تحرقني بنارك فوالذي بعثني بالهداية والكرامة، لو قمت بين الركن والمقام، ثمّ صلّيت ألف ألف عام، وبكيت حتّى تجري دموعك كالأنهار، ثمّ متّ وأنت لئيم هكذا لأكبك الله في النار، أما علمت أنّ البخل كفر، وأنّ الكفر في النار.

ويحك أما علمت أنّ الله تعالى يقول: (ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه)[محمّد : 38] (ومن يوق شحّ نفسه فأُولئك هم المفلحون) [التغابن : 16](21).

لا ريب في تناهي هذا الرجل في بخله الذاتي، لأنّه يصرّح بأنّ كلام السائل عنده كشعلة نار يستقبله بها، ولو كان يعتقد أنّ السائل ينال من ماله شيئاً لمات من شدّة خوفه، فكأنّه مصداق وصف بعض الشعراء لبعض البخلاء بالبيتين المعروفين.

رأى الصيفَ مكتوباً على باب داره *** فصحَّفه ضيفاً فقام إلى السيف

فقلنا له خيراً تريد فظنّنا *** نقول له خبزاً فمات من الخوف

أحوال البخلاء:

للبخلاء أحوال غريبة لولا نقلها في صفحات التاريخ لأنكرناها، منها أنّ بخيلا منعّماً أفرط في البخل حتّى على نفسه، ولم يعرف الطيّب من الطعام، فدعاه بعض جيرانه إلى طعام جيّد فأكل منه فوق عادته، فاضطرّ للاكثار من شرب الماء حتّى انتفخت بطنه ونزل به الكرب، فقال له بعض العارفين: لا بأس عليك إذا تقيّأت ما أكلته، فقال: كيف أتقيّأه وهو طيّب لذيذ، الموت أهون من ذلك(22).

ومنها انّه قيل لرجل أديب له قرابة مع بخيل غني: من يحضر على مائدة قرابتك؟ قال: الكرام الكاتبون، قيل له: إذاً فلا يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب، قيل له: فما بال ثيابك خلقة مخرّقة وأنت قرابته، قال: لو ملك هذا بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً ثمّ جاء جبرائيل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي، يطلبون منه إعارة إبرة ليخيط بها يعقوب قميص ولده يوسف الذي قدّ من دبر ما أعارهم تلك الابرة(23).

ومنها انّه كان لبعض العلماء جار يتعرّض له بالدخول إلى بيته ويقول له: لو دخلت وأكلت كسرة خبز وملحاً كان لنا بذلك الشرف وحلّت علينا البركة، ولما طال الالتماس دخل ذلك العالم إلى بيت جاره، فقدّم له كسرة خبز وملحاً بلا زيادة، فأخذ يأكل منها وهو يقول: الحمد لله متعجّباً بما صدر من جاره.

فطرق الباب سائل، فقال له صاحب المنزل: اذهب، فألحّ، فقال له: اذهب وإلاّ ضربتك بالعصا، فعاود السائل الطلب، فأعاد عليه التهديد، فصاح به العالم: اذهب فإنّ الرجل صادق القول ومن جرّب عرف(24).

البخل بعد استمرار صاحبه عليه يوجب زيادة تفنّنه فيه حتّى ينتهي إلى مرتبة يشكل زوالها منه، فيكون سجية ثابتة في ذلك الشخص، وربّما أدّى إلى بخله بمال غيره على نفسه بعد تمرّنه على الخساسة، وسماع كلّ ما يقال فيه، حتّى يكون حبّه للمال حبّاً ذاتياً أي لأنّه مال كمحبّة الولد لأنّه ولد، والعقلاء كلّهم يرون محبّة المال لتوقّف قضاء حوائجهم عليه، ولا يحبّه لذاته إلاّ من تناهى في خساسته وبخله.

 

الايثار والكرم:

البخل ضدّ الكرم، والقانون الإسلامي كما نهى عن البخل وذمّ البخلاء، أمر بالكرم ومدح الكرماء وأهل الجود والسخاء.

وكما أنّ للبخل مراتب تشكيكية تختلف شدّة وضعفاً، كذلك للكرم مراتب يتفاوت فيها أهل الكرم، وهي مظاهر حسن الذات وطيب مغارسها.

لابدّ من كون المراتب المحدودة من باب الكرم، منوطة بحال الباذل والمبذول له، إذ ربّما كان الدينار من زيد منتهى الكرم، ومن عمرو ليس شيئاً مذكوراً، لأنّ زيد لا يملك سواه وعمرو يملك الأُلوف من الدنانير.

المؤثر على نفسه هو الباذل لغيره ما هو مضطرّ إليه، والمؤثر بنفسه هو الذي يبذل نفسه فداء لغيره في حبّه وإطاعته له.

الايثار بالمال هو منتهى الكرم، فمن جاد بما يملكه مع حاجته إليه على محتاج له، أو غير محتاج مع طلبه منه كان مؤثراً غيره على نفسه، وليس بعد هذه المرتبة من السخاء مرتبة توازيها.

وقد نصّ القانون الإسلامي على مدح أهلها، فقال سبحانه: (ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأُولئك هم المفلحون)[الحشر : 9].

أي يقدّمون غيرهم على أنفسهم في حال اضطرارهم وحاجتهم إلى ما في يدهم فيعطونه لسائلهم ويقدّمونه لضيفهم.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أيّما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر الله له»(25).

فالسخاء خلق من أخلاق الله سبحانه، والايثار أعلى درجاته، وكان الايثار على النفس دأب رسول الله (صلى الله عليه وآله)وأهل بيته (عليهم السلام)، والعرفاء من صحابته.

وروي أنّ موسى بن عمران (عليه السلام) قال طالباً من الله سبحانه:

يا ربّي أرني بعض درجات محمّد وخاصّته، فقال سبحانه: يا موسى إنّك لن تطيق ذلك، ولكن أُريك منزلة من منازله فضّلته بها عليك وعلى جميع خلقي، وكشف الله له عن ملكوت السماوات، فنظر موسى إلى منزلة كادت نفسه تتلف من أنوارها وقربها من الله سبحانه.

فقال موسى: يا ربّ بما بلغت به إلى هذه الكرامة؟ قال الله: بخُلق اختصصته وهو الايثار على النفس، يا موسى لا يأتيني أحد قد عمل به وقتاً من عمره إلاّ استحييت من محاسبته، وبوّأته من جنّتي(26).

وذكر أهل السير: أنّ عبد الله بن جعفر خرج إلى ضيعة له، فنزل بنخيل قوم وفيه عبد لهم يعمل في ذلك البستان، فنظر إليه عبد الله بن جعفر حين جلس لغذائه، وإذا بكلب أقبل من كبد البرّ حتّى وقف قرب العبد، فرمى له القرص الذي بيده فأكله الكلب، فرمى له الثاني فأكله، فرمى له الثالث فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر إليه، فقال: يا غلام كم قوتك كلّ يوم؟ قال: هو ما رأيت.

قال: فَلِمَ آثرت بقوتك هذا الكلب على نفسك؟ قال: لأنّه جاءني قاصداً من مكان بعيد، وكرهت أن آكل وهو جائع، قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: أَأُلام على السخاء وهذا الغلام أكرم منّي، ثمّ إنّ عبد الله بن جعفر اشترى البستان وما فيه من الآلات والعبد، ثمّ أعتقه وملكه البستان وما فيه(27).

فكان جزاء ايثار ذلك العبد بأقراصه الثلاثة نعمة العتق، وتملّك البستان، وجزاءه من الله الثواب الجزيل، لأنّه على كلّ ذي كبد حرّاء أجر.

هذا هو الايثار بالمال، وقد عرفت أنّه منتهى الكرم بالمال.

 

علي (عليه السلام) والايثار بالنفس:

وأمّا الايثار بالنفس، فذلك مرتبة اختصّ بها من سمت نفسه إلى أوج السعادة والكمال، اختصّ بها أشرف خلق الله وأكرمهم وأعلمهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

 

الإمام الغزالي وكلامه في الايثار:

خصّ الإمام الغزالي في إحياء العلوم الايثار بالنفس بأمير المؤمنين (عليه السلام)، قال في إحياء العلوم في باب الايثار:

وبات عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام): إنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختارا كلاهما الحياة وأحبّاها.

فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما: أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين نبيّي محمّد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عن رجليه، وجبرائيل يقول: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب، والله تعالى يباهي بك الملائكة، فأنزل الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوفٌ بالعباد)[البقرة : 207](28).

هذه عبارة الإمام الغزالي بألفاظها، وقد روى غيره من أعلام المسلمين ما رواه الإمام الغزالي، فراجع ما ذكره العلماء في تصانيفهم.

لا نرتاب بأنّ الايثار بالنفس في سبيل الله سبحانه وطاعته هو منتهى كمالها وبلوغها غاية الاخلاص في الدين، والمكاشفة عن حقائق غاية الموجودات في عالم التكوين، حتّى أن صاحب تلك النفس الكبيرة والمرتبة الروحانية العظيمة، لا يتزلزل بالنوازل ولا يبالي بغير الله سبحانه، وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) متّصفاً بهذه الصفة الأخلاقية، والميزة الروحانية.

إنّ مبيت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليفديه بنفسه ويؤثره بحياته قد رواه أعلام علماء المسلمين، وأكثر من استعرضه العلامة الشيخ سالم سميسم في كتابه «علي في القرآن».

 

إجمال قصّة المبيت:

لمّا قضت المشيئة الربانية بهجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى يثرب، بعد إسلام الأوس والخزرج في يثرب، ووفاة أبي طالب الناصر لرسول الله والمدافع عنه في مكة، اجتمع رأي قريش على الفتك برسول الله ليلا، وأن تشترك القبائل بقتله حتّى لا يطالب أحد بدمه.

فأمر الله سبحانه جبرائيل أن يبلغ رسول الله ما اجتمعت عليه قريش، وأن يأمره بالخروج من مكة متستّراً، ويجعل علياً (عليه السلام)مكانه في فراشه حتّى تشتغل به قريش، ولا تجدّ في الطلب وراء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاستدعى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين علياً وأخبره بما أمره الله سبحانه به، فقال له علي (عليه السلام): أفتسلم أنت بمبيتي على فراشك يا رسول الله؟ فتبسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وجه علي.

وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) متستّراً في ظلام الليل، ممتثلا أمر ربّه بالخروج منفرداً بنفسه، وسار حتّى انتهى إلى آخر شعاب مكة، فلحقه أبو بكر فاعترضه قائلا: أين تريد يا رسول الله في هذا الليل؟ فلم يجبه، وربّما كانت فراسة أبي بكر في وجوه قريش تدلّه على ما يكون من أمرهم مع رسول الله والمؤمنين به، وحين شاهد خروجه ليلا على تلك الحالة وعدم جوابه له، حصل لأبي بكر الجزم من مجموع هذه المقدّمات بعزم قريش على قتل رسول الله وقتل من آمن معه.

فرأى أبو بكر لزوم خروجه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنّ فيه دفع الضرر المذكور، ونيل الشرف بصحبة الرسول، ولذلك خرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الغار إلى يثرب.

وأمّا ما كان من قريش في تلك الليلة، فإنّها هاجمت بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)بشجعانها أهل الفتك من القبائل والبطون، حرصاً منهم على عدم الطلب بدم رسول الله حتّى يضيع بين القبائل من قريش، فكان من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطّلب، وأبو لهب هو أوّل مكذّب لرسول الله، فهو أوّل مهاجم لبيته وقاصد لقتله.

وحين شاهد أبو لهب تزاحم زعماء القبائل وأبطالها على الدخول لبيت ابن أخيه، وفيه النساء والأطفال ومن لا حاجة لهم به وكلّهم أرحام أبي لهب، أدركت أبا لهب الغيرة والحميّة الرحميّة، فحال بين القوم وبين الهجوم ليلا على ذلك البيت حتّى لا تهتك أستاره، ولا تذهل أطفاله، ولا يقتل الجار بالجار.

ولم تجد قريش بدّاً من إجابة أبي لهب إلى تأخير الوقيعة حتّى يطلع الفجر وتعرف الوجوه، وهم جازمون بوجود رسول الله في الدار، لأنّهم يرون نائماً ملتفّاً بالبرد الحضرمي، ولا يشكّون أنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والملتفّ في ذلك البرد الحضرمي هو عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقلبه كزبر الحديد وهو ينظر إليهم نظرة الأسد في غابه لمن يهاجمها، وهم لا يرتابون بأنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولمّا غارت نجوم الليل وانشقّ عمود الصباح، انتضوا السيوف وأشرعوا الرماح، وحرّكوه قبل الوقيعة به بضرب الحجارة حتّى يثبتوا شخصه، فرشقوه بالأحجار وبعض السهام، فخرج من تحت الرداء الحضرمي أمير المؤمنين علي (عليه السلام)واستقبلهم بقلب لا يخاف سوى الله سبحانه، فدارت حوله عتاتهم وطغاتهم بعد أن طارت عقولهم من هذه المكيدة، وهم لم يطلعوا أحداً على سرّهم.

فسألوه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يجبهم عن جهة توجّهه، وهمّوا بقتله بعد الضرب ولمع بريق السيوف في وجهه ووخزات رماحهم في جسده، وهو يقول: لا أعلم أين ذهب، ثمّ شغلوا عنه بطلب رسول الله في كلّ جهة يمكنهم التوجّه فيها، فكانت سلامة أمير المؤمنين من الألطاف الربّانية والحكم الإلهية، إتماماً لانتظام الدولة الإسلامية وإعلاءً لشأنها، لأنّ عليّاً سيف الرسالة ووزير النبوّة، ومن ثبتت له من الله المؤاخات مع الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله)، وفيه نزل قوله سبحانه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) [البقرة : 207].

ومن رأفته سبحانه بعبده أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أمره لجبرائيل وميكائيل بحفظه في تلك الليلة من عدوّه كما نقلناه عن الامام الغزالي، ورواه الزمخشري والثعالبي والرازي في تفاسيرهم، وجلّ المفسّرين لقوله سبحانه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)[الأنفال : 30].

قالوا: إنّ هذه الآية نزلت ليلة هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى يثرب، وإنّ مكر قريش برسول الله (صلى الله عليه وآله) هو اختيارهم من كلّ بطن من قريش شجاعاً فاتكاً ليقتلوه ويذهب دمه، وإنّ مكر الله بهم هو مبيت عليّ أمير المؤمنين على فراش النبي ليمكنه الخروج ولا يلحقه الطلب، كما عرفت من كيفية خروجه (صلى الله عليه وآله) ومبيت أمير المؤمنين على فراشه(29).

وبعد اتّفاق علماء المسلمين على تفسير الآيتين ونزولهما، آية: (وإذا يمكر بك)و آية: (ومن الناس من يشري نفسه)، ثمّ اتّفاق جلّهم على قضيّة مباهاته سبحانه وتعالى الملائكة بعليّ (عليه السلام)، حيث بذل نفسه فداءً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)وآثره بالحياة، ولم يقدّم على ذلك جبرئيل وميكائيل كما مرّ مفصّلا، هل ترى يحسن من أحد عدم الجزم بأنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) أولى الناس بالناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وكيف لا يكون كذلك، وهو السابق إلى معرفة الله ورسوله، الثابت القدم في المواقف كلّها، الباذل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وبهذا أقدم على الايثار بنفسه وحياته.

وبذل النفس والايثار بها في مرضاة الله سبحانه هو منتهى مراتب الطاعة والايمان، والفضل والكمال، وبهذا تتفاضل الأنبياء والأولياء والصلحاء.

نعم يكون تفاضل أبناءالنوع البشري في الاتّصاف بمراتب مكارم الأخلاق، فعلى مقدار جواهرها الاستعدادية والتربية الحقيقية يكون اكتساب الفضائل، وبمقدارها يكون الامتياز، فلأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) تفوّق في جوهره الاستعدادي، قد استلفت ظهوره فيه منذ ولد في الكعبة ـ بيت الله الحرام ـ أنظار ذوي المعارف والفراسة، وفاق سواه في التربية، حيث ربّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغذّاه روح المعارف والفضائل.

فلذلك ثبت عند أهل البصائر امتياز أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في جميع الكمالات النفسية، في فصاحته، وبلاغته، وحزمه، وشجاعته، وزهده، وعبادته، وعلمه بعامة العلوم سماوية وأرضية، وعدله في سلطانه، وقضائه بين البرية، وسخائه بنفيس ماله ونفسه في مرضاة الله سبحانه.

فعلى أهل المعارف والعلوم، والدين والانصاف، والفهم والادراك، أن يعرفوا فضله، ويقتفوا أثره، وبذلك تجري جيادهم في مضمار مكارم الأخلاق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) احياء العلوم 3 : 239 / في ذم البخل.

(2) البحار 77 : 175 ضمن حديث 8.

(3) البحار 71 : 355 ضمن حديث 17.

(4) البحار 73 : 307 ح36.

(5) البحار 73 : 303 ح16; والمحجة البيضاء 6 : 71.

(6) البحار 70 : 6 ح2; والمحجة البيضاء 6 : 71.

(7) البحار 73 : 297 ح5; والمحجة البيضاء 6 : 74.

(8) الترغيب والترهيب 3 : 380 ح9، نحوه; المحجة البيضاء 6 : 71.

(9) احياء العلوم 3 : 24، كنز العمال 3 : 447 ح7381; والمحجة البيضاء 6 : 72.

(10) احياء العلوم 3 : 241 / في ذم البخل; المحجة البيضاء 6 : 74.

(11) احياء العلوم 3 : 241 / في ذم البخل; المحجة البيضاء 6 : 74.

(12) مستدرك الوسائل 7 : 26 ح7552; المحجة البيضاء 6 : 74.

(13) مستدرك الوسائل 7 : 31 ح7568.

(14) البحار 72 : 199 ح28.

(15) الوسائل 6 : 257 ح11.

(16) شرح النهج لابن أبي الحديد 19 : 318.

(17) احياء العلوم 3 : 241 / في ذم البخل; المحجة البيضاء 6 : 75.

(18) احياء العلوم 3 : 242 / في ذم البخل.

(19) احياء العلوم 3 : 241 / في ذم البخل.

(20) احياء العلوم 3 : 241 / في ذم البخل; المحجة البيضاء 6 : 76.

(21) المحجة البيضاء 6 : 75.

(22) راجع المحجة البيضاء 6 : 77.

(23) راجع المحجة البيضاء 6 : 78.

(24) راجع المحجة البيضاء 6 : 78.

(25) احياء العلوم 3 : 243 / في الايثار وفضله.

(26) احياء العلوم 3 : 243 / في الايثار وفضله.

(27) احياء العلوم 3 : 243 / في الايثار وفضله، وانظر أيضاً المستطرف 1 : 348.

(28) احياء العلوم 3 : 244 / في الايثار وفضله.

(29) علّق محمّد كرد علي في كتاب «المستجاد من فعلات الأجواد» للتنوخي، على حديث المبيت الذي رواه الاثبات والحفّاظ كحجّة الإسلام الغزالي في احيائه ونظرائه، ودوّنوه في مؤلّفاتهم، بل قال أبو جعفر الاسكافي في «شرح النهج لابن أبي الحديد» في 3 : 270 : حديث الفراش قد ثبت بالتواتر ولا يجحده إلاّ مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة. ومع هذا قال محمّد كرد علي في تعليقه: من الغريب أن يروي القاضي التنوخي وهو المعتزلي الجلد هذه القصة الخرافية، والوضع ظاهر عليها.

أقول: هل يبقى بعد ما رواه الاثبات بتواتر حديث الفراش وقع لكلام المعلّق، مع أنّ دعواه الوضع دعوى بلا بيّنة ولا برهان، إذ لم يأتي في كلامه إلاّ أنّ هذه القصة خرافية والوضع ظاهر عليها، كنّا نتخيّل أنّ الرجل على نصيب من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسط وافر، فتعليقه هذا كشف لنا عن قصر باعه، لو لم يكن هذا تعامياً منه في هذا المقام.

ليت شعري هل في الحديث ما يأباه العقل أو يصادمه النقل، فلو كانت صحّة الأحاديث وضعفها ووضعها منوطة بالدعاوي الخالية فليقبل قول من يقول: انّ الصحاح موضوعة، وآثار الوضع عليها واضحة، نعوذ بالله من العمى. (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور). وصدق الاسكافي بقوله: حديث الفراش قد ثبت بالتواتر ولا يجحده إلاّ مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة.