الفصل الثاني عشر

اجعل نفسَكَ ميزاناً

 

 

«يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الاِْعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الاَْلْبَابِ، فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ».

* * *

في رسائل الإمام علي (عليه السلام)، وفي عهوده ووصاياه، وفي خطبه وسائر أقواله روائع خالدة، تناولها من الإنسان جواهراً وغاية، ومن الكون معنىً وشكلا، ومن أحوال زمانه وأحداث عصره، ودفعها عقله الحكيم إلى خياله وقلبه حقائق علميّة خالصة، فإذا بها لا تمرّ على خياله الخصب وعاطفته الحارّة، إلاّ لتتحرّك وتنمو وتنبعث وفيها امتدادات ونبض وخفوق، فما هي إلاّ حياة من الحياة.

وإنّها لتراث عظيم للإنسانية، بوصفها دستوراً جليلا في الأخلاق الخاصة والعامة، لا تسمو عليه دساتير الأنبياء والمفكّرين والحكماء في مختلف العصور والأمكنة.

ونلفت نظر القرّاء بصورة خاصة إلى فصول هذه الوصية، إلى ما يبدو فيها من الآثار العلوية، من دعوة إلى السلم والمؤاخاة، والتصافي في سبيل الانطلاق إلى الميادين الإنسانية الرحبة، وفي سبيل إكرام الحياة واحترام الأحياء، وأنّه ليجدر بمثيري الحروب اليوم، ومسبّبي ويلات الشعوب والأفراد، أن يسمعوا كلمات جبّار الفكر العربي، عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ويعوها، ويطأطؤا رؤوسهم لصاحبها العظيم، واليك بعض روائعه في هذا الفصل:

* * *

المساواة في الحب:

قوله (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا».

يريد صلوات الله عليه أن يكون ولده المحبوب، على أقسط حال مع من يألف معه ويكتنف به، فإنّ أوسط ما يلمّ به الإنسان في حلّه ومرتحله هو نفسه، فإذا جعل نفسه ميزاناً بينه وبين غيره، فبطبع الحال أنّه لا يروقه إلاّ الخير والصالح العام لمن أشير إليهم.

وهنالك مغاز شريفة أخلاقية ألمع إليها (عليه السلام) من انتهاء ذلك إلى الغاية القصوى من مكارم الأخلاق، لأنّ الإنسان إذا علم منه الملأ أنّه يحبّ لأُمّته ما يحبّه لنفسه، فإنّ هناك مجلبة الحبّ الصميم، ومدعاة الاخاء المتواصل.

هل يستطيع إنسان أن يعمل بهذا الحديث الشريف: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه»(1)؟ ومن الذي ينظر إلى نفسه بالعين التي ينظر بها إلى غيره، ويساوي بين أعزّ الناس عليه، وبين من لا يمتّ إليه بصلة؟

إنّ الحبّ لا يصنع باليد، ولا يهبط على القلب من السماء، بل له بواعث وأسباب خاصة لا تتّصل بالارادة والاختيار، إنّ كثيراً من الأغنياء ينفقون من أموالهم على الخير ولا يحبون أن يموت أحد من الجوع، ولكن لم تبلغ بهم الرحمة والإنسانية أن يحبوا لغيرهم ما يحبّونه لأنفسهم، بل هم يبذلون الأُلوف لا لشيء إلاّ ليقال عنهم أغنياء، يقدرون على ما يعجز عنه الناس.

إذن مهما كان قصد الغني شريفاً، ومهما رغب في الخير، فإنّه لا يحبّ لأحد ما يحبّ لنفسه، والذي يعمل بهذه النصيحة من حيث يشعر أو لا يشعر، هو الفقير الذي لا تصلح حاله إلاّ بصلاح المجتمع، ولا يستطيع أن يتعلّم ويتطبّب ويعمل إلاّ إذا كان كلّ من العلم والطب والعمل مضموناً لكلّ فرد على السواء ودون استثناء، وعلى هذا فمعنى الحديث هو النهي عن الاستغلال والطمع، والأمر بالتعاون والتعاضد على تحقيق العدالة الاجتماعية.

إنّ الله لا يأمر بالحبّ ولا ينهى عن البغض، وإنّما يأمر الإنسان أن يكون في عون أخيه الإنسان، وبرّه ومناصرته التي تبعث على الحبّ، وينهى عن خذلانه واستعباده والاعتداء على حرّيته الذي يوجب البغض.

* * *

الاحسان للآخرين:

قوله (عليه السلام): «وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ».

هذه جمل شريفة لدات ما تقدّم به ـ سلام الله عليه ـ من مكارم الأخلاق، وموجبات الفضائل، ومقوّمات عالم الاجتماع، فهي كما أسلفناه ممّا تقمع جذور الظلم، وتكسح جذومه، وتقيم قوائم الاحسان، وترسّخ قواعده، وتسدّد الأمت والأود ممّا يستقبحه الإنسان من نفسه ومن كل أحد.

وأمر (عليه السلام) أن يتّخذ ولده البار نفسه مقياساً لما يرتضيه لأي إنسان من المحتم أن يعاشره، ويرعى الصلة بين نفسه وبينه.

* * *

لا تقل ما لا تعلم:

قوله (عليه السلام): «وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ».

هذا أيضاً تعليم راق للإنسان الكامل، فإنّه ـ سلام الله عليه ـ كان يربأ بمن سمع قيله ووعى عظته، أن يكون مهذاراً يلهج بما لا يعنيه فتفضحه فيما يقول أُكذوبته، ويقعد به عن مرتقى الكمال مينه(2).

وقد أدمج (عليه السلام) في هذا النصح الأبوي عظة أُخرى، فأشار إليه بما هو مزيج نفسيّته الكريمة من التنازل عن الخيلاء، ومساقط الكبر بالاعتراف بقلّة ما عنده من العلم، ولا سيّما إذا اتّخذ من العلم الربوبي مقياساً لما عنده من المعارف، وتتمّة هذه النصيحة هي قوله (عليه السلام): «وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ» التي هي لدة صويحباتها من نواميس عالم الاجتماع ومن متمّمات الأُلفة وموجبات الأخاء، لا سيّما إذا عرف المجتمع غير خادش للعواطف الإنسانية، أو مضيع للحقوق البشرية، فهم يصافونه في السرّ والعلانية، ويلقون إليه من أفلاذ أكبادهم ما يغالون به ولا يرخصون، فهو حبيب كلّ من يعرفه بهذه الصفة، وكذلك في كلّ من يتحلّى بما هنالك من ضرائب حميدة، وطقوس تروق الجامعة في الحلّ والمرتحل.

* * *

الاعجاب ضد الصواب:

قوله (عليه السلام): «وَاعْلَمْ أَنَّ الاِْعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الاَْلْبَابِ».

أشار ـ سلام الله عليه ـ إلى وخامة العجب المضادّة لكمال النفس.

فأمّا المعجب بما لديه يجعجع به الحال عن تحرّي مراقي السعادة والتقدّم، بحسبان أنّ ما عنده واف لما ينبغي أن يتحرّاه من مناهج الأُمور، فيبقى عاطلا لا يجد وسيلة إلى التقدّم، ويكون منتهى أمره الخسران، ومقتبل مصيره الفشل.

وهاهنا يستيقن المعجب بعقليّته المُقْعِدَةُ إيّاه عن النهضة إلى السعادة: «إنّ الاعجاب ضدّ الصواب، وآفة الألباب» لملازمته الخمود في العقل، والخمول للنظر في صالح النفس، وأي سقوط في الضرائب أحطّ من هذا، وأي تدهور هو أوضع منه، ولو أنصف المرء لتجلّى لديه أنّ من أوّل السفه تسريب العجب إلى نفسه المحتفّة بالنقائص.

ثمّ هي لا تفتأ من نطفة إلى جيفة، والمبدأ والمنتهى، وهو في الطريق ما بين هذا وذاك يحمل القذارات والجيف، وأمّا إذا اخترمته المنية ـ فأمّا إلى جنّة وأمّا إلى نار ـ ويا حبّذا لو كان منصرم أمره إلى السعادة الرابحة إن تركته تعاسة الحال، وبذاءة المنطق أن يكون مصيره إلى ما يرام، فمن واجبه أن يكون نصب عينه في كلّ حين نصح لقمان لابنه (لا تمشِ في الأرض مرحاً)[الاسراء : 37].

 

أقسام العُجب:

وهو باعتبار ما يتعلّق به على أقسام:

منها عجب الشخص بقوته وصحّته، ومنها عجبه بجماله وهيبته، ومنها عجبه بذكائه وفهمه، ومنها عجبه برأيه وفكره، ومنها عجبه بعقله.

فالعجب بهذه الخمسة يرجع إلى العجب بالنفس بلا واسطة بعيدة.

ومنها عجب الشخص بعلمه، ومنها عجبه بتعبّده لله وشكره، ومنها عجبه بولده وأُسرته، ومنها عجبه بماله ونعمته، ومنها عجبه بنفوذه وسلطته، ومنها عجبه بحسبه ونسبه.

والعجب بهذه الستة يرجع إلى العجب بالنفس إلاّ أنّه بواسطة بعيدة، ومفاسد العجب بجميع أقسامه كثيرة، وضرره عظيم.

1 ـ عجب الشخص بقوّته وصحّته:

العجب بالقوّة يسبّب ضرراً على المعجب بها، لا يختصّ بالصحّة والقوّة بل يعمّ غيرهما، لأنّ الشخص بعد إعجابه بهما تراوده نفسه على مقابلة ذوي القوّة والنشاط على الفتك بمن ناوأه، تراوده نفسه على السير منفرداً في المهامه والفلوات، تراوده نفسه على حمل ما يثقل كاهله.

فإن حمل ما يعجزه يؤثر ضرراً في قوّته وصحّته، وإن انفرد بسيره في معارض الخطر قادته جرأته إلى الهلكة بعد ذلك إن قدرت سلامته، وإلاّ أهلك نفسه من أوّل مرّة، وإن قابل أهل القوّة والنشاط وفتك بهم عرض نفسه لأُمور أقلّها عداوة من قابله إذا صادفته السلامة، وإلاّ فأمّا ضرر في المال أو الجسم أو إتلاف نفسه.

2 ـ عجب الشخص بجماله وهيبته:

العجب بالجمال يسبّب ضرراً لا يلحق بالجمال إلاّ بتوسّط الاضرار بالجسم، لأنّ الجمال من كيفيات خلقة الإنسان لا من حقيقة جسمه، فهو أشبه بالأعراض اللاّحقة للأجسام، فالضرر المسبّب عن إعجاب الشخص بجماله، يرجع إلى جسمه أو ماله أو اتلاف نفسه، لأنّه يجرّه إلى التكبّر والتيه والخيلاء، وضرر هذا معلوم لديك، أو يجرّه إلى التطاول على فتاة لا يخطر بباله النظر إليها فضلا عن الاقتران بها لولا إعجابه بجماله، وبهذا يتضرّر في ماله أو جسمه أو اعتباره، وربّما أدّى إلى هلاك نفسه.

3 ـ عجب الشخص بفهمه وذكائه:

العجب بالفهم يختصّ ضرره بالمعارف غالباً، لأنّ المعجب بفهمه يتّكل عليه، ويعرض عن اشغال نفسه باكتساب المعارف من أهلها، ورشف العذب من مناهلها. فالاعجاب بالفهم سدّ حائل بين ذلك المعجب بفهمه وبين ما يمكنه التوصّل إليه من العلوم والمعارف بحسب استعداده، فلا تثبت له قدم في دائرة المعارف والكمال، وهذا ضرر عظيم.

وربّما أنتج إعجابه بفهمه ضرراً مالياً، إذا كانت مهنته التجارة ولم يقف على مراد مراسله، أو مالياً واعتبارياً إذا كان من أهل الوظائف والنفوذ ولم يتدبّر الحقيقة فيما يلزمه فهمه، ولولا إعجابه بفهمه انكشفت له الحقيقة بنفسه أو غيره.

4 ـ عجب الشخص برأيه وفكره:

العجب بالرأي مفسد له، وليس لمعجب برأيه رأي، يتولّد من العجب بالرأي والفكر ضرر كثير يعمّ موارد الضرر، فإذا تصوّر مخاصمة من هو فوقه لا يستشير قريباً أو بعيداً مع إعجابه برأيه، فيتضرّر في ماله وجسمه واعتباره وأُسرته، وكذلك حاله لو حلّت بساحته أزمة مالية أو نكبة سماوية، فالمتدبّر وإن كان سديد الرأي يستشير من يعتقد نصحهم وحسن رأيهم فيما تحسن فيه الاستشارة، ولا يعول على رأيه وإن جرّبه في الشدائد، والمعجب برأيه يرتّب الآثار على ما يراه ولا يتصوّر عيوب ما ارتضاه، ويحول العجب بينه وبين الحقيقة ويقع في الضرر العظيم، وربّما أهلك نفسه باعجابه برأيه.

5 ـ عجب الشخص بعقله:

العجب بالعقل مرض منتشر في غالب النوع الإنساني، وقلّ من يرى امتياز غيره عليه بالعقل، وبذلك اختلفت المسالك والمذاهب مع اتّحاد الحقيقة المطلوبة عندالعقلاء بحكم العقل عليهم، فالضررالحاصل من قبل الاعجاب بالعقل في الدين والدنياتكثرت شعابه، وارتضاه أربابه بعد الغفلة عن السبب وقناعة كلّ فرد بعقله، سبحان الواهب فلو انعكست هذه الآية ورضي كلّ فرد بنعمته، وزاحم غيره في توسعة العقل المكسوب، لكان الإنسان في راحة تامّة ونعمة عامّة في دنياه وآخرته.

6 ـ عجب الشخص بعلمه:

العجب بالعلم داء العلم وقاتله، وطالما ابتلي أهل العلم بالعجب بعلمهم في كلّ قرن وزمن، والمعجب بعلمه جاهل في حقيقة الأمر وواقعه، محروم من الافادة والاستفادة العلمية، وربّما جرّه إعجابه بعلمه إلى تكبّره على من هم بمنزلة أساتذته فضلا عمّن يماثله، وذلك هو الخسران المبين.

ولا يخفى حال المعجب بعلمه على الألمعي الفطن لدى الاحتكاك، وإن تعدّدت العلوم واختلفت موضوعاتها، وكم معجب بعلمه قاده إعجابه إلى الجهالة وحيرة الضلالة، وهذا هو الضرر الذي لا يتنازع فيه اثنان.

7 ـ عجب الشخص بتعبّده لله وشكره:

العجب بالعبادة محبط لها، وضرره خاصّ بها، فالعجب بالعبادة يدعها كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف; لأنّ العبد مهما اجتهد في خدمة مولاه كان عليه عند العقلاء أن يظهر تقصيره في خدمته وعدم قيامه بوظيفته، وبذلك يكون محموداً عند العقلاء، مقرّباً عند مولاه، وإذا تظاهر بعكس ذلك ذمّه العقلاء، وكان ممقوتاً عند مولاه، على أنّ غاية نعمة ذلك المولى على عبده قيامه بنفقته واسترقاقه بثمن رقبته.

وأين هذه النعمة من نعمة ايجاده واخراجه من كتم العدم من ظلمات ثلاث، بشكله الجميل وتركيبه الجليل، من شرايين وأعصاب تداخلت أسلاكها، وتنوّع جنس افرازها في ذلك الهيكل، لانتاج مظاهر المحسوسات من السمع والبصر، والشم، والذوق، والمد، والقبض في لمس الملموسات، فضلا عن خصائص مدارك النطق والقوّة الروحية والعقلية من المجرّدات، فتبارك الله أحسن الخالقين.

أنعم سبحانه بما لا تدركه العقول من نعمه، وبما أدركته وأتمّ إنعامه بامتداد الفيوضات، أرضية وسماوية، إتماماً لانتظام الإنسان في كونه الأوّل.

فالطاعة والشكر والعبادة لله سبحانه إنّما هي من نعمه وتوفيقه لعبده، والعقل حاكم بلزوم شكر العبد لمولاه على شكره له، لأنّ توفيقه للشكر نعمة تستوجب الشكر عليها.

فيا صاحب العبادة والشكر، كيف تعجب بعبادتك وشكرك وترى نفسك أنّك أحسنت مع الله سبحانه صنعاً كأنّك تمنّ على الله بطاعتك له، أغفلت عن قوله سبحانه مخاطباً لرسوله (صلى الله عليه وآله):

(يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) [الحجرات : 17].

وهل غاب عن سمعك قول عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في حال طاعته وعبادته لله، وهو ساجد في صلاة الليل يتململ تململ السليم، خوفاً ورجاءً في سجوده بين ركعات صلاة الليل وهذا قوله:

«الهي وعزّتك وجلالك لو أنّي منذ بدعت فطرتي من أوّل الدهر، عبدتك دوام خلود ربوبيّتك بكلّ شعرة في كلّ طرفة عين سرمد الأبد بحمد الخلائق أجمعين، لكنت مقصّراً في أداء حقّ شكر خفيّ نعمة من نعمك عليّ، ولو أنّي كربت معادن حديد الدنيا بأنيابي، وحرثت أراضيها بأشفار عيني، وبكيت من خشيتك مثل بحور السماوات دماً وصديداً، لكان ذلك قليلا في كثير ما يجب من حقّك عليّ، ولو أنّك الهي بعد ذلك عذّبتني بعذاب الخلائق أجمعين، وعظمت للنار خلقي وجسمي، وملأت طبقات جهنّم منّي حتّى لا يكون في النار معذّب غيري، ولا لجهنّم حطب سواي، لكان ذلك بعدلك عليّ قليلا في كثير ما أستحقّه من عقوبتك، فعفوك عفوك يا كريم»(3).

هذا كلام عليّ بن الحسين المعروف بزين العابدين، أبوه الحسين الشهيد بكربلاء، وجدّه رسول الله شفيع الأُمّة وخاتم النبيين، وجدّه الثاني عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، وقد عبد الله سبحانه حتّى نهكته العبادة، وهو يصرخ بأنّه ما أدّى حقّ المنعم سبحانه، مع تباعده عن حطام الدنيا ونزاهته عن التلوّث بأقذارها بشهادة من والاه وعاداه، وهو المتولّد من ملوك العرب والعجم حتّى قيل فيه:

وإنّ وليداً بين كسرى وهاشم *** لأكرم من نيطت عليه التمائم

فأبوه وأجداده من قبل الأب مَن عرفت، ومن قبل الأُم الملوك الأكاسرة، ويكفيهم فخراً قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ولدت في زمن الملك العادل»(4)، يعني كسرى أنوشروان.

فهل يا صاحب العبادة والشكر تعظم نفسك وتعجب بعبادتك، بعد وقوفك على قول هذا الإمام العابد في طاعته لله سبحانه وهو ساجد، أعاذنا الله وإيّاك من داء العجب بأقسامه، ووفّقنا للقيام بشكره وإنعامه.

8 ـ عجب الشخص بماله ونعمته:

العجب بالمال لا يختصّ ضرره به، بل يعمّ غير المال، لأنّ من دخله الاعجاب بماله أسرع إلى التكبّر، وفيه ما عرفت من أنواع الضرر مالا واعتباراً وديناً ودنياً، وآخر أمر المعجب بماله خسرانه العظيم.

9 ـ عجب الشخص بولده وأُسرته:

العجب بالولد والأُسرة يسبّب الضرر غالباً على المعجب بهما إذا انقادوا إليه، وحمله اعجابه بهم على التفوّق والاستطالة والتكبّر والتنمّر حتّى خاض بهم موارد العطب، ومصادر الهلكة، ولا تسأل عمّا يلاقيه من المفاسد والضرر والندامة حيث لا ينفع الندم.

10 ـ عجب الشخص بنفوذه وسلطته:

العجب بالنفوذ والسلطة تتولّد منه العجائب، فالبطر والخيلاء والتكبّر والبغي والفساد والتجبّر، كلّ ذلك على من وسعهم تسلّطه ونفوذه، فباستعباد الموالي لعبيدهم يستخدمهم، وبيد الغزاة الأباعد يبتزهم ما لديهم من نعم الله سبحانه عليهم، حتّى يجعلهم كالأنعام ينتفع بنتائجها، فإن أعوز الأمر فبيع أو جزر وهو في خلال ذلك ينصب الاشراك لتوسيع النفوذ والسلطة في جواره، فارهاب وترغيب بعارض كلمع السراب.

فإن علقت مخالبه بضعيف انتهت أيّامه مزّقه كلّ ممزّق بغياًوظلماً، ولم يدرك بأنّ الله قد أهلك من قبله من هو أشدّ منه قوّة وأكثر جمعاً، فكان بغيه سبباً لهلاكه في مستقبل أمره لأنّ مراتع البغي وخيمة، وإن تعرّض لمن كان على يده هلاكه كان كالباحث عن حتفه بظلفه، وطالما كان حال أهل العجب والبغي كما قيل فيهم:

صاحب البغي ليس يسلم منه *** وعلى نفسه بغى كل باغ

11 ـ عجب الشخص بحسبه ونسبه:

العجب بالحسب والنسب ينتج التكبّر، وفيه ما قد عرفت من الضرر المهلك، ينتج التجرّد عمّا فيه السعادة، لأنّ المعجبين بأحسابهم يتّكلون عليها، فلا يعرفون من الفضائل والكمالات سوى أسمائها، وأجهل الناس بالحقيقة من افتخر بالعظام البالية، وتبجّح(5) بالقرون الماضية، واتّكل على الأيام الخالية، ومنتهى الضرر على الحيّ اتّكاله على ميّت، وليس من الكرام من افتخر بالعظام، فعلى أهل الحسب والنسب أن تأبى نفوسهم عن الاتّكال عليها، وأن يقولوا كما قال عبد الله بن جعفر (قدس سره):

لسنا وإن أحسابنا كرمت *** يوماً على الاحساب نتّكل

نبني كما كانت أوائلنا *** تبني ونفعل مثل ما فعلوا

نعم هذا قول ذوي الهمم العالية، والنفوس الكبيرة، وأمّا من تصاغرت نفوسهم، وتدانت شممهم، وتسافلت هممهم، وكانوا في معزل عن كسب الفضائل والكمال، وبُعْد عن الوصول إلى مستوى العلم والعمل، فإنّهم يسلون أنفسهم بما كان لسلفهم من الآثار الخالدة والمزايا الحميدة، ويزاحمون أهل الفضل والكمال بكمال سلفهم، يرون لهم الحياة بمن مات فهو حي وهم الأموات، كما قيل فيهم:

إذا ما الحيّ عاش بعظم ميّت *** فذاك العظم حي وهو ميت

هذه أقسام العجب، وهذا حال أهله، وكيف كان فهو سمّ ساري أينما حلّ قتل.

 

عجب المسلمين في غزوة حُنين:

جاء النصّ في القانون الإسلامي على ذمّ أهل العجب وتوبيخهم بما لا مزيد عليه، فقال سبحانه: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين  ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) [التوبة : 25-26].

في هذه الآية الشريفة ألطف بيان، وأعظم برهان على ذمّ أهل العجب وتوبيخهم، وبيان عاقبة عجبهم بأنفسهم، في ذلك اليوم الذي أعجبتهم فيه كثرتهم، فسرى داء العجب فيمن كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الأنصار والمهاجرين إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان وخلصت لله أعماله، فانهزم المعجبون بعدتهم وعديدهم كما قال سبحانه: (ثمّ ولّيتم مدبرين).

وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الثابتين مع رسول الله، بعد أن فرّ أهل العجب ولحقوا بالتلال ورؤوس الجبال، وهم القائلون في ذلك اليوم «لا نُغْلَبُ من قِلّة»، حيث رأوا عظمة ذلك الجيش ولواؤه بيد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) بطل المسلمين وقائد يوم الفتح، بطل العرب والحرب، رأوه وأعلام النصر خافقة عليه بفتحه مكة على حصانتها ومنعتها بشجاعة قريش وزعامتها.

رأوه بعد ذلك الفتح المبين بأيّام قليلة، وقد انضمّ إليه ألفان من أهل مكة، وكان عشرة آلاف قبل فتحها وليس في قبالته إلاّ هوازن وثقيف، ومن هي حتّى تقف في وجه ذلك الجيش، وفي ذلك كلّه تمّت لهم مقدّمات الاعجاب بأنفسهم.

ولما دارت رحى الحرب في ذلك الوادي وخرج الكمين من شعابه، حين دخله المسلمون في غلس الصبح، وما شعروا إلاّ والعدوّ خلفهم وأمامهم، فرّ من جاء من أهل مكة لحداثة عهدهم بالاسلام، وضعف ايمانهم، فتبعهم بقية المسلمون لا يلوون على شيء.

 

الحيلة في ايجاد الكمين:

وحيلة ايجاد الكمين في شعاب الوادي لقائد هوازن وثقيف في ذلك اليوم ـ وهو مالك بن عوف النصري ـ لأنّ «دريد بن الصمة» سيد بني جشم ومديرها كان مخالفاً لمالك في اخراجه النساء والأطفال إلى ساحة الحرب، فلم يكن له تدبير بعد تركهم لرأيه، فالقائد والمدير لهوازن وثقيف في ذلك اليوم هو مالك، فكان احتياله سبباً لفرار المسلمين بعد أن أعجبتهم كثرتهم.

نعم فرّوا وما ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ عشرة: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يضرب بالسيف بين يديه، ويدافع عنه هجوم أبطال هوازن وثقيف، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والفضل بن العباس، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وأيمن ابن أُمّ أيمن، كانوا وراء رسول الله وحوله، يدافعون ويناضلون. فالعباس عمّ رسول الله، والبقية أبناء أعمامه، سوى أيمن بن أُمّ أيمن، وقد استشهد في ذلك الموقف، قال عبادة الغافقي:

لم يواس النبي غير بني ها *** شم عند السيوف يوم حنين

هرب الناس غير تسعة رهط *** فهم يهتفون بالناس أين

ثمّ قاموا مع النبي على الموت *** فآبوا زيناً لنا غير شين

وثوى أيمن الأمين مع القوم *** شهيداً فاعتاض قرّة عين

ولمّا اشتدّت الحرب وزحف أبو جرول برايته السوداء أمام هوازن وثقيف يريد بذلك قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والكتائب خلف رايته تتلوا الكتائب، عاجله بطل المسلمين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بضربة كان بها هلاكه، وحمل على تلك الكتائب بما منحه الله سبحانه من القوّة الباهرة والشجاعة المعجزة، فبدّد جمعها، وأخمد نارها، فأنزل الله تعالى سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وصاح العباس بعظيم صوته: يا معشر الأنصار، فتراجعوا بعد النصرة لرسول الله بمن ثبت معه.

تراجعوا بعد قتل «أبو جرول» بسيف عليّ، وانهزام تلك الكتائب التابعة لحامل رايتها وشجاعتها «أبو جرول»، ولولا قتله لثبتت تلك الكتائب، فأعجب لشجاعة علي (عليه السلام) وبصيرته، كيف علم أنّ انهزام هوازن وثقيف بقتل عميدها وحامل رايتها، فلله أبوه ما كان أولاه برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأشدّه حمية وغيرة على الدين وأهله.

وعلم من دخله الاعجاب في ذلك اليوم اتّكالا على الكثرة والقوّة، انّ ذلك سبب الوهن والفضل والفرار من الزحف بعد بيعة الرضوان، وفيه من أليم العذاب ما فيه، فهذا ضرر الاعجاب بالنفس، ضرر الاتّكال على الكثرة والقوّة، ضرر عدم التوكّل على الله سبحانه (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) [الطلاق : 3].

وقال سبحانه: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أُولي الأبصار  ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذّبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار)[الحشر : 2-3].

أوّل الحشر هو أوّل اجتماع جيش المسلمين في تلك الوقعة، ولم يكن للمسلمين ظنّ بخروج أعدائهم من ديارهم فضلا عن تملّكهم إيّاها، فقوله سبحانه: (وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم) صريح بعجب بني النضير بأنفسهم لمناعة حصونهم، وقوّة شوكتهم بعديدهم وعدّتهم، فعلى ذلك كان اتّكالهم لا على الله سبحانه، وكيف يتّكلون على الله وهم يحاربون رسول الله، ويتظاهرون على عداوته ومناوأته، والفتك به بعد ظهور علامات الرسالة لهم، وينقضون ميثاق الله وعهده بعد اليقين.

حال بني النضير مع رسول الله (صلى الله عليه وآله):

وإليك بيان حالهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله):

لما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة بعد اسلام الأوس والخزرج، دخل المدينة فجاءه بنو النضير ـ وهم عشيرة من اليهود ـ ، فصالحوه على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل ذلك منهم، ولما كانت غزوة بدر وفتح الله على رسوله وأظهره على المشركين، قال بنو النضير: والله انّه النبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة، لا تردّ له راية، فداموا على عهدهم معه.

وبعد غزوة «أُحد» حيث لم يكن النصر فيها لرسول الله تاماً نقضوا العهد وبدّلوا الميثاق، وخرج عميدهم كعب بن الأشرف إلى مكة في أربعين راكباً منهم، وعقد لهم عهداً مع أبي سفيان بن حرب وأربعين من قريش تحت أستار الكعبة، على أن تكون كلمتهم واحدة على حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثمّ رجعوا إلى المدينة، وعلم رسول الله بأمرهم ونقضهم لعهده، فخرج إليهم بنفسه وندبهم لاعانته على أمر يهمّه، فأجابوه إلى طلبه وهو جالس عندهم إلى جانب جدار لهم، وأرسلوا رجلا منهم ليلقي عليه صخرة من فوق الجدار ليقتله بها بغياً منهم وعدواناً وغدراً ولؤماً، فاطلعه الله على أمرهم، فتركهم وخرج إلى أصحابه وأمرهم بقتالهم، لأنّهم نقضوا عهد الله مع رسوله وخفروا ذمّته، وهمّوا بما لم ينالوا من قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بينهم في منازلهم.

وحينما عزم رسول الله على حربهم أو قيامهم بما عاهدوا الله عليه، طغوا في غيّهم وأعجبتهم أنفسهم بمناعة حصونهم وقوّة شوكتهم بعديدهم وعدّتهم، فظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله ورسوله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، فطارت أفئدتهم خوفاً وشاهدوا أليم العذاب من نار سيوف المؤمنين بالله ورسوله، وقتل عميدهم كعب بن الأشرف بيد أخيه من الرضاعة «محمّد بن مسلمة» وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فصالحوا رسول الله على حقن دمائهم بخروجهم من أرضهم وديارهم فخرجوا إلى الشامات وخيبر.

ولولا أن كتب الله سبحانه عليهم في سابق علمه وقدره الجلاء من بلادهم إذا كفروا بالله وأبوا شكر نعمه عليهم، لعذّبهم بسيوف المؤمنين في الدنيا، ولكنّه أعدّ لهم في الآخرة عذاب النار.

فهذه آثار العجب بالنفس والاغترار بالقوّة والعدد والعدّة، ولولا ذلك لكانت ديارهم عامرة بهم، وهم آمنون في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله).

 

خطاب الله لداود (عليه السلام):

وقال سبحانه فيما نزل في الأسفار الربانية على الأنبياء السابقين ـ عليهم سلام الله ـ مخاطباً لنبيّه داود (عليه السلام): «يا داود بشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين، قال: كيف أبشر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟ قال سبحانه: يا داود بشّر المذنبين انّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم»(6).

ولا يخفى ما في هذا الحديث القدسي من البيان، فإنّ المذنب إذا تاب وأطاع عفا الله عنه، وكان في رحمة الله وبركاته، وإنّ المصدّق بما جاء عن الله، العامل بما أمره الله به إذا دخله العجب بعمله كان عاصياً بعد الطاعة، كافراً بالنعمة بعد شكره لها، وهذا هو الخسران العظيم.

 

ثلاث مهلكات:

وقال صاحب الدعوة الإسلامية الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله): «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، واعجاب المرء بنفسه»(7).

وفي الكافي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «بينما موسى بن عمران جالس، إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمّا دنا من موسى خلع البرنس وتقدّم إلى موسى فسلّم عليه، فقال له موسى: من أنت؟ قال: إبليس، قال: أنت هو؟ فلا قرّب الله دارك، قال: إنّي إنّما جئتك لأسلّم عليك لمكانك من الله، فقال له موسى: فما هذا البرنس؟ قال: به اختطف قلوب بني آدم، فقال له موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: إذا أعجبته نفسه، واستكبر عمله، وصغر في عينه ذنبه»(8).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لولم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العجب العجب»(9).

وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «سيّئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك»(10).

لأنّ العبد إذا صدرت منه السيئة وساءته فقد ندم عليها وتاب وأناب، وإذا صدرت منه الحسنة وأعجبته فقد منّ على الله سبحانه بإطاعته له، وهذا هو العجب، ولا ريب في كون الحالة الأُولى خير من الثانية، لأنّ الأُولى طاعة والثانية معصية.

وقال ابن مسعود (رضي الله عنه): «الهلاك في اثنتين: القنوط والعجب»(11).

ولا يخفى ما في القنوط والعجب من الهلاك لمن اتّصف بهما أو بأحدهما، لأنّ القنوط من رحمة الله وعفوه ومغفرته، يحمل صاحبه على ارتكاب كلّ معصية والتظاهر بها، والعجب في حدّ ذاته معصية ويجرّ صاحبه إلى المعاصي.

العجب من أفعال القلب ولا ربط له بالجوارح، والقلب في الإنسان هو أعظم ما وجد فيه، وعليه وبه مدار حركة الإنسان.

فالذنوب الصادرة من الجوارح في الإنسان يمكنه التخلّص منها بواسطة القلب، فإنّ التوبة المزيلة لتبعات الذنوب من الأفعال القلبية، وباب التخلّص من تبعات الذنوب مفتوح بواسطة القلب، فإذا صدر الذنب من القلب ـ وهو العضو الرئيسي في جامعة حركة الهيكل الإنساني ـ أشكل زواله، وصعب التخلّص منه.

وهذا في الأُمور الخارجية المشاهدة محسوس لكلّ عاقل، فإنّ رئيس البيت أو المدينة إذا استقام في سيره، واتّصف بالصفات الكاملة كان حال من وسعتهم رئاسته الاقتداء به في صفاته، فإن خالفه منهم أحد أمكنه ردعه ونهيه وكان قوله مؤثراً، وأمّا إذا اتّصف الرئيس بالصفات الخسيسة والأفعال القبيحة، فما ظنّك بمن تبعه وانقاد إليه، ورأى الكمال بحسن الانقياد إليه والتأسّي به، فهو لا ريب في جريه على منواله وتبعية حاله لحاله.

ولا يمكن ذلك الرئيس أن ينهاه عن قبيح يرتكبه، وكيف ينهاه عن قبيح هو يرتكبه، وهل يؤثر نهيه عن شيء هو يفعله، فحال القلب في رئاسته على بقية الجوارح كذلك، والعجب من أفعاله.

فعلى البصير العاقل أن يعلم أنّ ما يعجبه من قوّته، وجماله، وفهمه، وفكره، وعقله، وعلمه، وتعبّده، وماله، وأُسرته، وسلطته، وحسبه، وغير ذلك ممّا يعجبه، نعم عليه أن يعلم انّ كلّ ما يعجبه عرضة للزوال والفناء، فكم أباد الدهر أهل الحسب، وجعل الملوك عبيداً، وصاحب الولد والأُسرة فرداً، والغني فقيراً، وصاحب العبادة والزهد فاسقاً مارقاً، وصاحب العلم بعد العمل جاهلا ضالاًّ، والعاقل مجنوناً، والمفكّر حائراً، وصاحب الجمال ذميماً، والقوي ضعيفاً نحيفاً. أليس كلّ ذلك محسوساً ملموساً، فهل بعد هذا يا صاحب العقل تكون معجباً بشيء بقاءه وزواله ليس بيدك بل بيد الله سبحانه.

اللّهمّ خلّصنا من هذا الداء العظيم، ونجّنا من كلّ ما يحبط أعمالنا، وألهمنا السعي وراء الحقيقة، والعمل بما يرضيك، إنّك رؤوف بالعباد وإنّك أرحم الراحمين.

* * *

الجدّ في العمل:

قوله (عليه السلام): «فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ».

هذا أمر منه (عليه السلام) بما يضاد ما ذكرناه من ملازمة الاعجاب للفتور في العمل، والسير مع موجبات التقدّم، فإنّ الكدح في اللغة: السعي الشديد، وهو أمّا في القول أو في العمل.

أمّا القول فبأن يكون الإنسان لهجاً بمناجح الأُمور، آمراً لها ناهياً عمّا يضادها ويصدّ عنها، وأمّا في العمل فبأن يكون مجدّاً في السعي وراء صالح الأعمال، ويسدّد بها شأنه، ويحفظ بها كرامته عند الله وعند الناس، فإنّه أحفظ للعزّة، وأبقى للوقار وأدوم للمكانة.

فقد كان أئمة الدين (عليهم السلام)يمتهنون بالتجارة والعمل، حتّى أنّ الإمام علي (عليه السلام)مجلت يداه من العمل بالمسحاة، وكذلك الإمام الصادق (عليه السلام) انّه كان بيده مسحاة يعمل في حائط له والعرق يتصبّب، فقال له أبو عمر الشيباني: جعلت فداك اعطني أكفك، فقال له (عليه السلام): إنّي أُحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة(12)، وأمثال هذا مأثور عنهم بطرق متكثرة.

وهل لهذا التعليم الراقي ـ أي قوله (عليه السلام): «فاسع في كدحك» ـ مستقى إلاّ من معين النبوّة، الذي هو مبدأ تعاليم الإمام (عليه السلام) إذ يقول (صلى الله عليه وآله): «إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»(13).

وهذا الذي ذكرناه من معنى نبوي، هو الذي يجب أن يفهم من معنى الكلام، كما جنح إليه غير واحد من الأعلام، لا كما حسبه القاصرون من أنّه أمر بالمسامحة في أُمور الدنيا والزهد في زخارفها، نعم الزهد ممّا حثّ عليه الإسلام، ورغّب فيه، لكن ليس معناه أن لا يملك الإنسان شيئاً، وإنّما هو أن لا يملكه شيء، فيجب أن يكون الزاهد عالماً يضع كلّ شيء في موضعه، لا جاهلا كحاطب ليل يضمّ الدرّة إلى البعرة، فالزهد والحالة هذه ينتهي بصاحبه إلى العطل والبطالة، ويصدّه عن التقدّم والبطولة.

* * *

قوله (عليه السلام): «وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ».

يريد (عليه السلام) نهيه عن أن يكون حظّه من المال محض السدانة، من غير أن يصرفه في مراضي المولى سبحانه فيتنعّم به الورثة، وقد يؤجرون بصرفه فيما يحب الله ويرضى، وهو مأزور بشحّه عن الانفاق في سبيل الله، فهو يوم القيامة من أشدّ الناس حسرةً.

* * *

الخشوع لله:

قوله (عليه السلام): «وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ».

يريد (عليه السلام) أن يكون سعيه مشغوفاً بالمراقبة، وأن يكون مزيج عمله مرضاة ربّه، وذلك ملازم للخشوع الذي لا يعدو الإنسان معه أن يكون خاضعاً لعظمة الربّ، خائفاً من بطشه، طامعاً في عطفه، وهذه هي الخصال التي لا تبارح الإنسان العامل في حلّه ومرتحله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) البحار 72 : 257 ح20.

(2) المين: الكذب / لسان العرب.

(3) البحار 94 : 90 ح2.

(4) البحار 15 : 250 ح1.

(5) تبجّح به: فَخَرَ.

(6) البحار 14 : 40 ح22.

(7) البحار 72 : 321 ح37.

(8) البحار 63 : 259 ح134.

(9) البحار 72 : 329 ح12.

(10) البحار 72 : 316 ح25.

(11) احياء العلوم 3 : 346 / في ذم العجب وآفاته.

(12) البحار 47 : 57 ح101.

(13) البحار 44 : 139 ضمن حديث 6.