الفصل الثالث عشر

الاستعداد لما بَعد الموت

 

 

«وَاعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَة بَعِيدَة، وَمَشَقَّة شَدِيدَة، وَأَنَّهُ لاَ غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الاِْرْتِيَادِ، وَقَدْرِ بَلاَغِكَ مِنَ الزَّادِ، مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقْلُ ذلِكَ وَبَالا عَلَيْكَ، وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ، وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ . وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَؤُوداً، الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالا مِنَ الْمُثْقِلِ، وَالْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالا مِنَ الْمُسْرِعِ، وَأَنَّ مَهْبِطَكَ بِهَا لاَ مَحَالَةَ إِمَّا عَلَى جَنَّة أَوْ عَلَى نَار، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ، وَوَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ، وَلاَ إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ».

* * *

إنّه (عليه السلام) ينصحه محبّاً له مؤثراً إيّاه بأن يذكّره بالطريق الذي هو مقبل عليه، ويذكّره ببعد هذا الطريق واعوجاجه والتوائه على سالكه مع قلّة الماء، وقلّة الزاد، وعدم النور.

فعليك يا بني أن تروض نفسك، وتحمل عبئك على غاربك، وأن تلحب(1)لنفسك السبيل لتقطعها سهلة منبسطة، لا تقف دونك رابية، ولا تطمس رجلك في وحل.

فبادر إلى حسن الارتياد وإجادة الطلب، وتعيين الزاد الذي يكفيك مؤونة الطريق، شريطة أن يكون خفيفاً لا ترزح(2) تحت أثقاله، فيكون ذلك الزاد الذي ظننته زاداً وبالا عليك، إذ يقعد بك عن التقدّم في السير شيئاً، أوالجدّ في الحركة قليلا.

وإن أبيت إلاّ أن تكثر من الزاد فاستعن بمن تجده من ذوي الفاقة والعوز، ممّن له إليك أمسّ الحاجة، فاعطه سؤله، وانجح طلبته، فسيقدّم لك ما قدّمته إليه أضعافاً مضاعفة، في يوم قد أضلّك فيه الفقر والحاجة، وبسط عليك رواقه.

أي بني الصبر الصبر، ثمّ العمل العمل، والقناعة القناعة، فإنّ الصبر من الايمان ولا فائدة في ايمان بلا صبر، وإنّما العمل مجلبة للرزق، وانّه لمؤدٍّ إلى الثواب الجزيل المتّصل، وإنّما القناعة كنز ليس له فناء، وذخر ليس مثله ذخر.

ودونك الاغاثة والاعانة، فبادر إلى اعانة من هو في حاجة إليها، وأكثر من ذلك إن كنت في حال ترتع فيه بسوابغ العيش راغداً، ليكون ذلك ذخراً تدّخره ليوم لا ينفع فيها إلاّ ما أسديته من يد، وما عملته من صنع، وإنّك في حال قد أطبق عليها الفقر وأظلّها بأجنحة سود، أمسّ ما تكون حاجة إلى من يمد إليك يد المعونة، وإذا بذلك الذي استقرضك في حال غناك واستدانك إذ كنت على جانب من اليسار، يتقدّم إليك باليد المسبغة عليه.

أي بني وإيّاك والقبيح، وإيّاك والاساءة إلى الناس، فإنّ في عمل القبيح لشرّاً عظيماً، وإنّ في الاساءة إلى الناس لظلماً لا يطاق، ودونك سبيل المعروف فاسلكه، فاعمل إلى الناس خيراً ترى منهم خيراً، ولا تسيء إليهم فيتحيّنون لك الفرص، ويتربّصون بك طاقتهم وقدرتهم، ليردّوا عن أنفسهم الشرّ إلى حيث صدر منه.

ولتعلم أنّ أمامك عقبة كؤود، ليس من اجتيازها بد، وليس عنها من محيص، فقد تكون عندها مخفاً، وقد تكون مثقلا، وأرى أن لو كنت مخفّاً لكان ذلك خيراً لك من أن تكون مثقلا، فإن كنت عندها مثقلا فالويل كلّ الويل، والثبور كلّ الثبور، فيكون الندم على الأيّام السالفة التي مضت من غير نفع ولا تقديم زاد.

فيكون الندم الشديد ولات ساعة مندم، أو يجدي الندم شيئاً بعد أن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة، ويوقع نفسه في مهاوي الهلكة، فهناك يود لو عاد إلى الدنيا فاستدرك من أمره ما فات، وتلافى من أمره ما انقضى، وأبدل شرّه بالخير، وإساءته بالاحسان، ولكنّها كلمة لا تكون، فليس الله بمرجع إيّاه إلى دنياه لعلّه يعمل صالحاً فهي كلمة هو قائلها، وليس إليها من سبيل، وكيف السبيل إلى ذلك وقد حان الحين، وآن الأوان، وقدّم إلى ربّه ليحاسبه حساباً شديداً على كلّ ما أتى من الأمر مهما كان ضئيلا.

وهل يستطيع الهرب وليس هناك من مهرب، ولا إلى غيره من ملجأ، وكيف ذلك وإنّ هناك لحرساً شديداً، وجنوداً لا عداد لها، فها هو ذا واقف مستخذ ذليل خاضع، مهطع رأسه، شاخص بعينيه، تضيق به نفسه ويضيق بنفسه، ولكنّه معها لا يفارقها حتّى ولو أنهى حسابه، فإمّا عذاب شديد وإمّا نعيم مقيم.

وإنّ هناك لصراطاً دقيقاً غاية في الدقة، ولابدّ من اجتيازه فهو مؤد إمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار، فلكلّ ما أعطي، وعلى كلّ ما اقترف.

والويل لمن كان نصيبه النار يهوي إليها ليلبث هناك في قعرها ملوماً مدحوراً، يدعو ربّه فلا يجد من مجيب، وينشده الرحمة فلا يجد إلى سؤله من معط، وليست الساعة ساعة رحمة وإشفاق، فما يعمل معه إلاّ ما أراد لنفسه ولم يعط إلاّ ما رضي به لنفسه.

فإليك أتقدّم يا بني ناصحاً، وإليك أُقدّم عظاتي المعبّرة عن مدى اشتباك وشيجة الحبّ ما بينك وبيني، فإذا كنت مصغياً، ولكلامي واعياً، فارتدّ لنفسك قبل أن تصل مثل حراجة ذلك الموقف، ووطّئ منزلك واجعله سهلا بسيطاً قبل أن تحلّ فيه، فأنت إذا متّ وفارقتك الحياة، وزايلتك روحك، فلست إلاّ جسماً لا حركة فيه ولا نأمة، لا يجلب لنفسه منفعة ولا يدفع عن نفسه ضرّاً.

وإنّ روحك لترقى في السماء وسترى ما قدّمت لذاتها إن إحسان فإحسان، وإن إساءة فإساءة، فانصرف نحو تربيتها، وجدّ في تطهيرها، فإنّ الخطاب الإلهي موجّه إليها ومختصّ بها، ليس إلى شيء غيرها، يقول تعالى: (يا أيّتها النفس المطمئنّة  ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضية) [الفجر : 27و28]، ويقول تعالى: (قد أفلح من زكاها  وقد خاب من دسّاها) [الشمس : 9و10].

فلا تهملها ولا تغفل عنها وانشلها من كلّ ما يشين ويحطّ بكرامتها فإنّها علوية سماوية، فاكسها حلّة الكمال، واخلع عنها ثوب الخسّة، وصنها عن البذاءة والفحش، فإنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إيّاكم والفحش فإنّ الله لا يحبّ الفحش والتفحّش»(3).

وقد نصّ القانون الإسلامي على قبح الفحش قولا وفعلا، وذمّ أهله ووبّخهم بما لا مزيد عليه.

 

معنى الفحش:

الفحش قولا هو العدوان بالجواب، ورجل فاحش وفحّاش، قال الفحش ـ أي استعمل العدوان في قوله ـ وتطلق الفاحشة على الزنا وعلى الزانية، وعلى ما يشتدّ قبحه من الذنوب، وكلّ شيء نهى الله عنه ففعله فاحشة، والفحشاء البخل في خصوص أداء الزكاة، والفاحش كثير البخل. ويطلق على كلّ سوء جاوز الحد، وفحش فحشاً مثل قبح قبحاً وَزْنَاً ومعنىً.

قال في نهاية اللغة: قد تكرّر ذكر الفحش والفاحشة والفواحش في الحديث، وهي كلّما يشتدّ قبحه من الذنوب والمعاصي، وقد يكون الفحش بمعنى الزيادة والكثرة المطلقة من كلّ شيء(4).

 

الفحش بالقول وأسبابه:

الفحش بالقول قبيح عند العقلاء، وصاحبه مذموم عندهم، وسببه ضعف المدارك، وخساسة النفس، واستحكام الجهل، فإذا صدر من الشخص فحش بقوله ولم يجد رادعاً عنه، كانت له جرأة على ذلك، وإذا وجد من يزيّن له تحسين القبيح، كانت له جرأة ورغبة على العدوان بقوله، وإذا رأى غيره متّصفاً بذلك الفحش، لا سيّما من كان فوقه ثبت عنده حسن فحشه، حتّى أنّه بعد التمرّن عليه يكون صفة ثابتة في طبعه، ومزيّة يرتضيها بعقله، ولولا تلك الأسباب البسيطة التي مرّت، كان بين طبع الإنسان وبين صدور القبيح منه فضلا عن ثبوته فيه كما بين السماء والأرض.

 

ضرر الفحش بالقول وما يتولّد منه:

يتولّد من الفحش بالقول أُمور كثيرة زائدة عن المجازات الربانية، والعقوبات الأُخروية:

منها: مقابلته بالمثل، وفيها من الأذيّة والضرر ما فيها، لا سيّما إذا قابله من هو دونه في المنزلة.

ومنها: ضربه أو حبسه أو إبعاده تأديباً له على فحشه، إذا صدر منه الفحش مع من هو فوقه وهذا ضرر ظاهر.

ومنها: اتلاف ماله تأديباً له في مجازاته على فحشه.

ومنها: اتلاف نفسه جزاءً له على فحشه فيما إذا كان فحشه مع الأُمراء والملوك، لأنّ تجاوز الحدود عندهم بالأقوال أعظم من قتل النفوس وسلب الأموال، وجراحات اللسان أعظم عند العقلاء من جراحات السنان، كما قيل:

جراحات السنان لها التيام *** ولا يلتام ما جَرَحَ اللسان

هذا إذا كان تعدّيه وفحشه بقوله على من هو فوقه، وأمّا إذا كان تعدّيه وفحشه على من هو دونه كان فحشه موجباً لحقدهم عليه، وغرساً في نفوسهم يستثمرونه عند الفرصة، فكم جرت الويلات بعض الكلمات حيث قالها من لو تدبّرها لودّ قطع لسانه قبل النطق بها، لأنّ قلب الجاهل وراء لسانه، ولذلك لا يمرّ على قلبه ما يلقيه من لسانه، فهو يقول ولا يعلم ما يقول.

والعاقل لسانه وراء قلبه، فهو يزن كلامه بميزان المعرفة، وينظر إليه بنور العقل، وإنّك لتنظر إلى من لا تعرفه، بنظر الوقار والاحترام والاحتشام، حتّى إذا تكلّم، فامّا أن يرتفع بكلامه إلى أوج الكرامة أو ينزل إلى حضيض المهانة، «فالمرء مخبوء تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه».

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «تكلّموا تعرفوا، فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه»(5).  

وقال (عليه السلام): «الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به، فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فربّ كلمة سلبت نعمة»(6).

 

قصة عمرو بن هند:

إنّ من تصفّح سير الماضين، علم مصداق قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فربّ كلمة سلبت نعمة»(7). نعم فكم سلب الكلام النعم، وجرّ النقم، وذهب بالنفوس العزيزة، وإليك بعض مصاديقه، ولا تخفى عليك النظائر والأشباه.

كان عمرو بن هند ملكاً في العراق، انتظمت له البلاد، وانقادت له الناس، وكان كغيره من ذوي النعمة والسلطة، يظهر العظمة والافتخار، والتفرّد والأنانية، فجرّه ذلك إلى كلمة سلبت نعمته وذهبت بنفسه.

إنّ عمرو بن هند قال يوم لندمائه: هل تعلمون أنّ أحداً أُمّه تأنف من خدمة أُمّي، فقالوا: نعم، أُم عمرو بن كلثوم، قال: ولم؟ قالوا: لأنّ أباها مهلهل بن ربيعة، وعمّها كليب بن وائل أعزّ العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو وهو سيّد قومه.

فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أُمّه أُمّه، فأقبل عمرو بن كلثوم من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت معه أُمّه ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب، وكان قد أمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا.

فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى عند هند في قبّة من جانب الرواق، وكانت هند عمّة امرؤ القيس بن حجر الشاعر، وكانت أُمّ ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة، التي هي أُمّ امرئ القيس، فبينهما هذا النسب، وقد كان عمرو بن هند أمر أُمّه أن تنحّي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى.

فدعا عمرو بمائدته ثمّ دعا بالطرف، فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق، فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها وألحّت، فصاحت ليلى: يا ذلاّه يا لتغلب، فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه، ونظر إلى عمرو بن هند فعرف الشرّ في وجهه، فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلّق بالرواق ليس هناك سيف غيره، فضرب به رأس عمرو بن هند فبراها ونادى في بني تغلب فانتهبوا ما في الرواق، وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة.

فانظر إلى قوله: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أُمّه من خدمة أُمّي، كيف جرّت تلك الكلمة حماسه الشديد إلى دعوة عمرو بن كلثوم، ليستخدم أُمّه وهي في ضيافته، واستخدام الضيف معيب عند العقلاء، كيف جرت تلك الكلمة ذهاب نفسه، وزوال نعمته، وإدخال الرزية والبلية على أُسرته.

ولو راجعت سيرة أبناء نوعك الإنساني في كلّ زمان ومكان لعلمت الكثير من أمثال هذه القضية، ولعرفت ما للكلام الفاحش من الرداءة والخساسة، وتسبيب العداوة والعثرات التي لا تقال.

لسانك احفظه وصن نطقه *** واحذر على نفسك من عثرته

من أطلق القول بلا مهلة *** لا شكّ أن يعثر في عجلته

وغير خفي عليك ما لحسن الكلام وعذوبته ورقّته ولطفه من التودّد والمحبّة واستمالة القلوب واستخدامها.

لا نرتاب في استخدام القلوب بحسن الحديث وطيب الكلام، إذا ترجمه اللسان عن قلب طاهر غير مقلوب، لأنّ اللسان ترجمان القلب وما يخرج عن القلب يدخل في القلب، ولا تستخدم القلوب بزخرفة الألفاظ وتحسينها، وعذوبة البيان إذا كان ما في القلب سمّاً ذعافاً، وكانت تلك العذوبة من دائرة اللسان فقط وقد خالفت ما في القلب، لأنّ ما كان عن خصوص اللسان لا يتجاوز الآذان.

الفحش بالفعل وأسبابه:

الفحش بالفعل يتّصف به صاحبه إذا فعل ما يشتدّ قبحه من المعاصي التي نهى الله سبحانه عنها، وقد حرّم الله الفواحش كلّها ما ظهر منها وما بطن ـ أي ما تظاهر بها فاعلها وما تستّر بها ـ فكلّ فعل يحكم الشرع والعقل بقبحه ففعله فاحشة من فاعله.

 

أسباب ارتكاب العقلاء للفواحش أُمور:

منها: الجهل بقبح ذلك الفعل القبيح، فلا يعلم فاعله تقبيح العقلاء لذلك الفعل ولومهم وذمّهم لفاعله، ولا يعلم قبحه عند الله سبحانه الذي شرّع الشرائع وأمر بكلّ فعل حسن، ونهى عن كلّ فعل قبيح، ولا يعلم غضب الله وعذابه على من يفعل ذلك، وكان ذلك الفعل على وفق شهوته فصدر منه فعله، فهذا لا مجال للومه ولا لعقابه إذا ترك ذلك الفعل حين علمه بقبحه عند العقلاء وعند الله سبحانه، والترك قبل الاعتياد سهل، وأمّا الاعتياد فإنّه وإن علم قبحه عند الله وعند العقلاء، وعلم أنّه سيعذّب عليه العذاب الأليم، هيهات أن يتركه بعد الاعتياد إلاّ أن يكون موفقاً بعزم وحزم وارادة قوية، فإنّه يتركه بلا توقّف في تركه حين عِلْمِهِ بقبحه.            

ومنها: انقياد الشخص لمن هو فوقه، وتبعيّته لأقواله وأفعاله التي منها فعل المتبوع للفواحش واستحسانه لفعلها وتأنيبه على تركها، فما ظنّك بمن يقتدي بشخص يراه لجهله تمثال الكمال وهيكل الفضائل، هل يستحسن إلاّ اقتفاء أثره وتطبيق فعله على فعله، وإن كان فعل المتبوع منتهى الفحش، وغاية الرداءة، والموبق العظيم، وسبب العذاب الأليم، وربّما غالط التابع نفسه إذا كان عالماً بقبح فعل من الأفعال ثمّ صدر ذلك الفعل ممّن هو عنده القدوة والمرجع.

وهذا هيهات أن يمتنع عن ارتكاب ذلك الفعل القبيح بعد ارتكاب المتبوع له، بل يلتزم بتصوير الاحتمالات المنافية لما علمه من قبح ذلك الفعل، حتّى لا يظنّ بمتبوعه ارتكاب الفواحش، ولا الانغماس فيما حرّمه الله تعالى إلاّ أن يكون ذلك التابع مستضيئاً بنور العقل، متغذياً بحلاوة الفهم والعلم، فإنّه يقف حينئذ موقف المبهوت، ثمّ ينسلخ عن ذلك المتبوع، ويعلم أنّه لا خير في متبوع يقود تابعه إلى سوء وهلكة، ويعلم أنّه لا عذر له عند الله وعند العقلاء بانقياده لمن يرتكب ما بان قبحه وظهر فحشه، لكن المنتبه إلى زلّة قائده قليل، والناس في غفلة إلاّ أهل البصائر.

ومنها: غلبة الرهبة بالسلطة والأكثرية على بعض الأفراد، فيما إذا انفرد بهم الأشرار المتظاهرون بفعل الفواحش المدمنون عليها، الراغبون بدخول غيرهم في سلكهم تكثيراً لحزبهم وإرضاءً لأنفسهم، ولا مناص لمن خالطهم عن التقحّم في أودية الرذائل والتلوّث بأقذار الفواحش، وإن كان يعلم قبحها، وهذا طريق نجاته الفرار منهم لأوّل مرّة خوفاً من تسميم أفكاره، وتوطين نفسه بعد الاعتياد على ارتكاب تلك القبائح والفواحش.

 

يتولّد من فعل الفاحشة أُمور ضرورية:

منها: اتّصاف الفاعل بصفة الفحش حتّى إذا عرف بها كانت له شعاراً وسبة وعاراً، وفي ذلك ضرر عظيم عليه، وبلاء مبرم على عقبه وأُسرته.

ومنها: إهانته من ولاة أمره أو ولاة الأُمور العامة، وضربه وحبسه وإبعاده وتشهيره، وهذا ضرر لا يخفى على أحد.

ومنها: خسارة ماله أو ذهاب نفسه فيما إذا ارتكب من الفواحش ما يوجب ذلك، فعلى مقدار الجناية يكون القصاص، ألم تر كيف حال أهل الفواحش من تقلّبهم في السجون وذهاب أموالهم، وتبدّل غضارة شبابهم بحواني الهموم في ظلمات الحبوس، وفي ذلك ضرر عظيم.

وليس له ثمن ولا عوض سوى أعمال الشهوة الحيوانية، ونيل لذّة بسيطة ليست شيئاً مذكوراً في جانب الضرر الدنيوي، وهو ليس شيئاً مذكوراً في جانب الضرر الأُخروي، فاعمال الشهوات بطرق العدوان سبب الندامة والحسرة، سبب الهلاك وزوال النعمة، فكم سبب أعمال الشهوات، والتمتّع في خسيس اللذات، إعدام الاعتبار والثروة والقوّة والسلطة، والنفس والنفيس.

أليس ارتكاب الفواحش والمحرّمات كانت السبب في هلاك الأُمم السالفة بالطوفان، والمسخ، والصيحة، والخسف، وجميع أنواع العقوبات السماوية، وما زالت غضارة عيش عن قوم، إلاّ بارتكابهم الفواحش وانتهاكهم المحرّمات.

قال الله سبحانه مبيّناً لعباده: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم)[الرعد : 11]، والمعنى أنّه سبحانه لا يغيّر النعمة عن قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، فيبدّلون شكران النعمة بكفرانها، والطاعة بالمعصية.

وقال سبحانه: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً)[الاسراء : 16].

والمعنى أنّه لا يقع الهلاك والدمار بقرية إلاّ بعد انذارها، وأمره سبحانه لأهلها بالطاعة فيما فيه صلاحهم، فيتوجّه أمره ونهيه سبحانه لعموم أهل القرية، فتصيب الأوامر والنواهي الأغنياء أكثر من الفقراء، لأنّ الأمر بالزكاة والخمس والحج وإعانة الضعفاء وصلة الرحم بالمال، والوفاء بالعقود، إنّما ستوجّه إلى الأغنياء دون الفقراء، وبما أنّ أكثر الأوامر والنواهي تتوجّه إلى الأغنياء، خصّهم سبحانه في هذه الآية بالذكر فقال: (أمرنا مترفيها) أي أغنياءها، ولأنّ الأغنياء توفّرت لديهم أسباب الفسق من شرب الخمور والزنا والبغي والعجب واللهو عن أداء العبادات، فيصحّ لهذه المناسبة تخصيصهم بالذكر في الآية الشريفة.

وإذا فعل الأغنياء الفواحش فقد فسقوا في تلك القرية، وإنّما يحقّ القول على القرية كلّها بالدمار والهلاك إذا رضي الفقراء بعمل الأغنياء، لأنّهم لابدّ من علمهم بفسق الأغنياء، فإذا رضوا بعملهم فقد شاركوهم فيه، لأنّ من رضي بعمل قوم كان منهم، وبهذا البيان يرتفع الاشكال.

وإليك ذكر قضية واحدة كان سببها فعل الفواحش وأهمّها شرب الخمر، أولدت حرباً ضروساً وغارة شعواء، وما وضعت تلك الحرب أوزارها إلاّ بعد الدمار وسلب الأموال، وإراقة الدماء.

هي القضية العربية، هي حروب الفجار بين سمطة وعكّاظ.

إنّ حروب الفجار بين سمطة وعكاظ حروب معروفة عند العرب، وهي أعظم حروبهم وهي المثل المشهور، ولذلك ذكرناها لتقف عليها وتحيط بها خبراً.

 

الفحش وحروب الفجار:

تسببت حروب الفجار عن الفحش بالقول والفعل، وشدّة الظلم والعدوان والبغي، حتّى في حرم الله سبحانه، وهو عند العرب قبل الإسلام محطّ رحالها، وحظيرة أصنامها، وغاية قصدها في كسبها وفخرها.

فالعرب كلّها تقدّس ذلك الحرم الشريف، حرم البيت الحرام قبل الإسلام، وتجلّه عن ارتكاب الفواحش فيه، وهي لا تعقل في ذلك الوقت أنباءً سماوية، وأخباراً إلهيّة، إنّما تحكم بعقلها إنّ لهذا البيت حرمة وقداسة ومنعة وحصانة، وزاد اعتقادها حين شاهدت عظيم العذاب السماوي بسجيل أبابيل على أصحاب الفيل.

كانت تجتمع العرب في كلّ سنة أربعين يوماً في عكاظ ـ وهو سوق مفخرها ومتجرها ـ ، ثمّ تحجّ بعد قضاء حاجاتها، تجتمع العرب كذلك من الحجاز ونجد والعراق والشامات ومصر وأطرافها واليمن ونواحيها، وكلّها تقدّس الحرم وتخضع لمن بيده مفاتيح ذلك البيت، وربّ البيت يمدّها بفيوضاته الربانية.

ولم تزل كذلك حتّى ارتكبت الفواحش في ذلك الحرم، فخرجت من حصانته ومنعته حيث خفرت ذمام ذلك البيت وجواره، وباءت بغضب الله وسخطه، فسفكت دماءها بحروب الفجار وعكاظ، ولم يكن لقريش في أوّلها دخالة.

كانت حروب الفجار وعكاظ بين قريش وقيس عيلان في أربعة أعوام متواليات، الفجار الأوّل ولم تسم أيامه باسم مشهور، والفجار الثاني وهو أعظم، لأنّهم استحلّوا فيه الحرم وكانت أيامه مشهورة، يوم سمطة، ويوم نخلة، ويوم العلباء، ويوم عكاظ.

 

الفجار الأوّل وأسبابه وأيامه:

السبب في حروب الفجار الأوّل هو: أنّ بدر بن معشر الغفاري ـ أحد بني غفار بن مالك ـ كان رجلا منيعاً مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ، فاتّخذ مجلساً بسوق عكاظ وقعد فيه، وقد عرفت أنّ رجال العرب وأشرافها وأبطالها تقصد عكاظ أيام سوقها، فجعل بدر بن معشر الغفاري يفتخر على العرب وغيرها، ويتغنّى بافتخاره ويقول:

نحن بنو مدركة بن خندف *** من يطعنوا في عينه لا يطرف

ومن يكونوا قومه يغطرف *** كأنّهم لجّة بحر مسدف

كان ينشد ذلك وهو باسط رجليه، ويقول: أنا أعزّ العرب فمن زعم أنّه أعزّ منّي فليضرب هامتي بالسيف فهو أعزّ منّي، ولما طال نشيده وقوله وثب رجل من بني نصر بن معاوية يقال له الأحمر بن مازن بن أوس، فضربه بالسيف على عنقه فقطعها، ثمّ قال: خذها إليك أيّها المخندف وهو ماسك سيفه بيده، وقام رجل من هوازن فقال:

أنا ابن همدان ذو التظرّف *** بحر بحور زاخر لم ينزف

نحن ضربنا هامة المخندف *** إذ مدّها في أشهر المعرف

وأُنشدت في ذلك اليوم أشعار كثيرة في تلك الضربة، وقد أُريقت في ذلك اليوم الدماء وانتهكت الحرمات، وليس ثمت من سبب سوى تبجح بدر بن معشر الغفاري، وعدوان الأحمر بن مازن وبغيه وعجبه، حتّى انجرّ إلى الفحش بتلك الضربة(8).

 

الحرب الثانية من الفجار الأوّل:

اليوم الثاني من الفجار الأوّل، وسبب الحرب فيه، أنّ جهلاء قريش وبني كنانة، هزؤوا بامرأة من بني عامر بسوق عكاظ، ونالوا منها بفحشهم قولا وفعلا، فنادت: يا آل عامر، فثاروا وحملوا السلاح وحملته كنانة، واقتتلوا قتالا شديداً ذهبت فيه النفوس العزيزة والحرمات المنيعة، وسببه فحش أُولئك الشبّان وجهلهم وغرورهم، وعدم استضاءتهم بنور العقل، وتماديهم في سبات الجهل(9).

 

الحرب الثالثة من الفجار الأوّل:

اليوم الثالث من الفجار الأوّل، وسبب الحرب فيه: أنّ رجلا من بني جشم بن بكر بن هوازن له دين على رجل من بني كنانة، فماطله الكناني مع يساره ولم يعطه شيئاً من ماله، ولمّا طال الأمر على الجشمي وأعيته الحيل، جاء الجشمي إلى سوق عكاظ بقرد، ثمّ جعل ينادي: من يبيعني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني، من يعطيني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني، رافعاً صوته بذلك.

فلمّا طال نداءه وتعييره الكناني، مرّ رجل من كنانة فضرب القرد بسيفه فقتله، فهتف الجشمي بآل هوازن وهتف الكناني بآل كنانة، فتحاشدوا وتحاملوا وكان بينهم ما لا يحسن صدوره من العقلاء، وغرست الضغائن في صدورهم، وتوارثوا الأحقاد في نفوسهم، وكان لعبد الله بن جدعان الفضل في ذلك اليوم، حيث دفع من ماله ما كفّ به بأس بعضهم عن بعض، فهل تجد سبباً سوى أكل المال بالباطل، واكتساب العدوان، وهذا هو الفحش(10).

 

الفجار الثاني والحروب الطاحنة:

ارتكاب الفواحش سبب الحروب العظيمة في الفجار الثاني، كان السبب في الفجار الثاني وحروبه الطاحنة، أنّ البراض بن قيس بن رافع أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، كان سكيراً فاسقاً مولعاً بالفجور وشرب الخمور، ولذلك تبرّأ منه قومه.

فخرج من بينهم وجاء إلى مكة ونزل على حرب بن أُمية، فحالفه حرب بن أُمية وكان له رفيقاً وحليفاً، ولما تظاهر بالفجور وشرب الخمور في مكة تحدّاه أشراف قريش، فظاقت به رحابها، فخرج منها وهو في محالفة حرب بن أُمية حتّى نزل الحيرة.

جاء البراض إلى الحيرة ـ وهي عاصمة العراق في ذلك اليوم ـ والملوك فيها هم المناذرة، فنزل على النعمان بن المنذر ملك العراق، فكان عنده، وكان من عادة النعمان أن يبعث إلى عكاظ كلّ سنة بلطيمة يجيزها له سيد مضر، فتباع ويشترى له بثمنها الأدم والحرير والوكاء، وغير ذلك ممّا يجلب من اليمن ومصر وغيرها، كانت أيّام سوق عكاظ من أوّل ذي القعدة إلى انقضاء موسم الحج، وكانت بين نخلة والطائف على عشرة أميال، وهذه فيها نخل وأموال لثقيف.

جهّز النعمان على عادته لطيمة عظيمة ونادى مناديه من يجيزها، فجاء البراض وقال: أنا أيّها الأمير أجيزها على بني كنانة ـ يعني أهل الحجاز ـ فقال النعمان: إنّما أُريد من يجيزها على أهل نجد، وكان عند النعمان رجل من هوازن يقال له عروة الرّحال ـ وكان من هوازن وأشرافها ـ ، فجاء وقال: أنا أجيزها أبيت اللعن أيّها الأمير.

فقال له البراض: من بني كنانة تجيزها يا عروة؟ فقال عروة: نعم وعلى الناس جميعاً، فأخذها عروة وشخص بها نحو الحجاز غير مبال بالبراض ولا يخشاه حَلَّ أو ارتَحَلَ.

خرج البراض في أثر عروة ولم يزل ينتهز الفرصة، حتّى نزل عروة بفدك في أرض يقال لها أوارة قرب وادي تيمن، فنام هناك آمناً بركابه وتجارته، وسكر البراض كعادته، فهاجم عروة وهو نائم فقتله، وساق الركائب وهو لا يدري أيّ بلاء جلبت يداه، وسار منشداً قوله:

وداهية يهاب الناس منها *** شددت لها بني بكر ضلوعي

هتكت بها بيوت بني كلاب *** وأرضعت الموالي بالرضوعي

جمعت لها يدي بنصل سيف *** أفل فخر كالجذع الصريع

وكان قتل البراض لعروة أيام تجمّع العرب في عكاظ، وإنّما جاء عروة إلى عكاظ في موسمها بلطيمة النعمان، وكانت العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان حتّى يفرغوا مِنْ موسم عكاظ ومِنْ حجّهم يردّها عليهم، وللعرب به ثقة لأنّه ذو ثروة وسيادة.

وبلغ خبر قتل البراض لعروة مسامع حرب بن أُمية وغيره من وجوه كنانة وقريش، فجاؤوا إلى ابن جدعان وقالوا له: احتبس سلاح هوازن فقد قتل البراض عروة، ولا طاقة لنا بهوازن في هذا الموقف، فقال: لا أفعل ولكن أعطيكم مائة درع، ومائة رمح، ومائة سيف من مالي الخاص، تستعينون بها على حرب هوازن.

وأرجع ابن جدعان إلى العرب سلاحها، وأرسل هو وحرب بن أُمية إلى عظيم هوازن، انّه قد كان بعد خروجنا من مكة ما يوجب رجوعنا، فلا تنكروا خروجنا من عكاظ، ورجعوا إلى مكة.

وفي آخر النهار علم عظماء هوازن ورجالها ما كان من قتل البراض لعروة، وانّه هو السبب في رجوع قريش وكنانة، فقالوا: خدعنا حرب وابن جدعان، وركب عظيمهم وزعيمهم أبو البراء فيمن حضره من هوازن في أثر القوم فأدركوهم بنخلة ـ وهو مكان بحدود الحرم ـ ، فاصطدموا فيه وجالت خيلهم ورجالهم واشتدّ القتال، فدخلت قريش الحرم وجنّ الليل، فكان ظلامه حاجزاً بينهم بعد إراقة الدماء وهتك الحرمات حتّى في الحرم.

وليس في البين شيء سوى فحش البراض بسكره وقتله لعروة، فكان من مقدّمات نتائجه تعطيل أيّام عكاظ على قريش وهوازن خاصة، وعلى الأُمّة العربية عامة، وحرب نخلة التي هي أوّل موقف هتك فيه حرم الله سبحانه بغارة شعواء فيه، وانفصلوا في نخلة على أن يعودوا إلى الحرب في سمطة(11).

 

الحرب الثانية من الفجار الثاني:

كانت الحرب الثانية من الفجار الثاني مسبّبة عن فحش البراض، وقد تفرّقوا من يوم نخلة على أن يوقدوا نار الحرب في سمطة ـ وهي مكان من عكاظ ـ ، وفيه تجمّعت قريش وكنانة بأسرها، وبنو عبد مناة والأحابيش التابعة لقريش.

وأعطت قريش الأسلحة التامة للقبائل، وخرجت هوازن بقبائلها، وسبقت قريشاً فنزلت من سمطة في المكان الذي تريده، وأقبلت قريش فنزلت ودارت رحى الحرب بينهم، فكانت الغلبة في أوّل الأمر على هوازن، ولواء قريش مع حرب بن أُمية.

فلما شاهدت أبطال هوازن ما نالها تداعت وصبرت، فاستمرّ القتل في قريش وكانت كنانة في مسيل الوادي ثابتة مع قريش، وبثباتها ثبات قريش، فرأت كنانة من هوازن ما ضاقت به ذرعاً، فلم تجد بدّاً من صعودها رخم ـ وهو جبل هناك ـ فصعدت إلى رخم، بعد ارتفاع كنانة إلى رخم ـ وارتفاعها انهزام في واقع الأمر ـ فرّ حرب بن أُمية وتبعه قسم من قريش، فكادت سيوف هوازن أن تصبغ الأرض بالدماء بعدما رفت عليها أعلام النصر، ورماحها تنظم الأشلاء في نجوم السماء، بعدما انهزمت أمامها قريش بأحلافها، وكنانة بأتباعها ولا شيء كالنصر.

وفي ذلك يقول خداش بن زهير:

فإنّا يوم سمطة قد أقمنا *** عمود المجد أن له عمودا

جلبنا الخيل ساهمة إليهم *** عوابس يدرعن النقع قودا

فجاؤوا عارضاً برداً وجئنا *** كما أضرمت في الغاب الوقودا

فعاركنا الكماة وعاركونا *** عراك النمر عاركت الأسودا

فولّوا نضرب الهامات منهم *** بما انتهكوا المحارم والحدودا

فانظر إلى البيت الأخير تجد منه شعور هذا الشاعر يتجلّى لك بكلّ صراحة، فهو يرى كأهل البصائر انّ انتصارهم على قريش بما ارتكبته من المحارم وانتهكته من الحدود، وهذا هو ارتكاب الفواحش وفعل المنكرات، فهوازن وشاعرها وقريش وشعورها، الكلّ يرى أنّ فعل الفواحش والعدوان يسبّب الذلّة والخزي، يسبّب الفرار والانكسار.

 

الحرب الثالثة من الفجار الثاني:

كانت الحرب الثالثة من الفجار الثاني مسببة عن فحش البراض، لأنّ قرارهم يوم سمطة على الهدنة إلى موسم عكاظ، وكان موعدهم فيه العلباء ـ وهي موضع قريب من عكاظ ـ تجمّعت فيه قريش وكنانة وأحلافهما بتمام العدّة والعدد، وجاءت هوازن بقبائلها وأتباعها.

وكانت قيادة الحرب في العلباء عند قريش، وهوازن مرتّبة على نهج يوم سمطة، وأضرمت هوازن نار الحرب وواصلت الاغارة بالاغارة، وقريش تردّها على أعقابها وتثبت فيها نبلها وحرابها، حتّى انهزمت كنانة فنالت هوازن بغيتها بعزة النصر وغنائم الغلبة.

وقال خداش بن زهير شاعرها:

ألم يبلغك بالعلباء إنّا *** ضربنا خندفاً حتّى استقادوا

نبني بالمنازل عزّ قيس *** وودّوا لو تسيخ بنا البلاد

وقال خداش يصف ما لاقته قريش وكنانة يوم العلباء من هوازن:

ألم يبلغك ما لاقت قريش *** وحي بني كنانة إذ أثيروا

دهمناهم بأرعن مكفهر *** فظلّ لنا بعقوتهم زئير

نقوّم مازن الخطي فيهم *** يجيىء على أسنّتنا الخرير(12)

 

الحرب الرابعة من الفجار الثاني:

كانت الحرب الرابعة من الفجار الثاني مسبّبة عن فحش البراض وعدوانه، مرتّبة في نفس عكاظ وفقاً لموعدهم يوم العلباء، فلمّا كان وقت الموسم في عكاظ جاءت هوازن بقوّتها وأعلام النصر في الحروب السابقة تخفق فوق رؤوسها، وجاءت قريش وكنانة بما عندها من القوّة والاستعداد، وقد حمل عبدالله بن جدعان ألف رجل من كنانة على ألف بعير من ماله.

وخشيت قريش أن يصيبها في حرب عكاظ ما أصابها في الحروب السابقة، فتعاهد أشرافهاعلى الصبر والثباتوقيّدواأنفسهم،وقالوا: لانبرح أو نموت مكاننا.

وكان لتلك الكلمة من أشراف قريش أثر عظيم في حماسها وثبات كنانة وصبر بني مخزوم، ومحافظتهم على مراكزهم من وراء كنانة، وبذلك كلّه تمكّنت قريش من حفظ مجدها وإعلاء كلمتها.

اشتدّت الحرب في عكاظ وطال أمدها فقريش ترى أنّها إن خرجت من عكاظ منهزمة كانت السيادة لهوازن عليها، لأنّ موسم عكاظ جمع فأوعى فلا يستر فيه العوار ولا يقال فيه العثار، وهوازن ترى أنّها حازت النصر والافتخار يوم سمطة والعلباء وما تقدّمها من حروب الفجار.

ولذلك تفاقم الأمر في حرب عكاظ، وكانت من الحروب الطاحنة عند العرب، حتّى اشتدّ حماس قريش وثبات كنانة وصبر بني مخزوم، فكان به انهزام هوازن وفشلها بعدما رفت عليها أعلام النصر في الحروب السالفة.

قال ضرار بن الخطاب الفهري يصف شجاعة قريش في حرب عكاظ، وعظيم انتصارها على هوازن:

ألم تسأل الناس عن شأننا *** ولم يثبت الأمر كالخابر

غدات عكاظ إذا استكملت *** هوازن في كفها الحاضر

وجاءت سليم تهزّ القنا *** على كلّ سلهبة ضامر

وجئنا إليهم على المضمرات *** بأرعن ذي نجب زاخر

فلمّا التقينا أذقناهم *** طعاناً بسمر القنا العاثر

ففرّت سليم ولم يصبروا *** وطارت شعاعاً بنو عامر

وفرّت ثقيف إلى لاتها *** بمنقلب الخائب الخاسر

لا ريب في فرار هوازن، وانّه كان مسبّباً عن إعجابها بنفسها لسابقة الانتصار وعن تخاذلها، وقد اعترف بذلك شاعرها خداش بن زهير فقال:

أتتنا قريش حافلين بجمعهم *** عليهم من الرحمن واق وناصر

فلمّا دنونا للقباب وأهلها *** أتيح لنا ريب مع الليل زاخر

أُتيحت لنا بكر وحول لوائها *** كتائب يخشاها العزيز المكاثر

وما برحت خيل تثور وتدّعي *** ويلحق منهم أولون وآخر

وما زال هذا الدأب حتّى تخاذلت *** هوازن وانفضت سليم وعامر

فعادت قريش يفلق الصخر جدّها *** إذا أوهن الناس الجدود العواثر

الحرب الخامسة من الفجار الثاني:

كانت هذه في عكاظ معلومة الزمان والمكان عندهم، وهي آخر حروب الفجار العامة، وقد حشدت هوازن كلّ من يمتّ بها وجاءت بما قدرت عليه من الذخائر الحربية، وتداعت قريش وكنانة وأحلافها وأعدّوا للحرب عدّتها وقدحوا زناد نار الحرب، فاتّصل ليلها بنارها، حتّى انهزمت كنانة وتضعضعت مراكز قريش، وتحاجزوا لا إلى أمد محدود، ودامت الضغائن بينهم فتارةً يشنّون الغارات وتارةً يتواعدون الحرب، فيتساجلون حرّ نارها وخوض بحارها، حتّى تراضوا على صلح عقدوه كان فيه حقن الدماء، وحفظ الحرمات، والبقاء على حياة قريش وكنانة وهوازن وأحلافهم.

هذا مجمل حروب الفجار أوجزناه لك خوف الملل من الاطناب، وكانت أحسن شاهد على قبح ما سبّبه فعل الفواحش، حتّى قتل البراض عروة فانفجرت براكين حروب الفجار في صحراء الحجاز، وامتدّت ذلك الزمن الطويل.

ولو ارتفع حجاب الغفلة عن النوع الإنساني لعلم كلّهم أو جلّهم أنّ لارتكاب الفواحش الأثر العظيم في وقوع أنواع المفاسد في الدنيا، والضرر العظيم من العذاب الأليم في الآخرة، أعاذنا الله بلطفه من فعل القبائح وارتكاب الفواحش.

* * *

جاء النصّ في القانون الإسلامي على حرمة ارتكاب الفواحش وذمّ أهلها، فقال سبحانه: (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أسائوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى  الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم)[النجم : 31و32].

دلّت هذه الآية بالملازمة على أنّ أهل الاحسان الذين يجزون يوم القيامة بالحسنى من الله، هم الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللمم من الفواحش ـ أي إلاّ صغار الذنوب كالنظر والقبلة فإنّه ذنب صغير بالنسبة إلى الزنا ـ وهكذا كلّ ذنب صغير بالنسبة إلى الذنب الكبير، وهذا وجه من الوجوه لمعنى اللمم، وهناك معان أُخرى.

وكيف كان معنى اللمم فإنّ الآية تدلّ على اجتناب الفواحش ممّن يجتنبها سبب مجازاته من الله سبحانه بالاحسان، وتدلّ بالملازمة على أنّ ارتكاب الفواحش سبب مجازاة المرتكب بدرك النيران.

وقال سبحانه: (إنّ الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون) [النحل : 90].

لا ريب في صراحة الآية بالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، بعد أمره سبحانه بالعدل والاحسان، وصلة الرحم، وقد جمعت هذه الآية الشريفة ما جمعت ممّا هو قوام مكارم الأخلاق.

وقال سبحانه: (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين  إنّكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون)[الأعراف : 80و81].

دلّت هذه الآية الشريفة بكلّ صراحة على تخصيص الفاحشة باللواط بالنسبة إلى قوم لوط، كما دلّت على أنّ قوم لوط لم يسبقهم أحد قبلهم إلى ارتكاب فحش اللواط، فهم فتحوا باب هذه الفاحشة فعليهم وزرها إلى يوم القيامة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(13). ودلّت الآية على حرمة اللواط في الشرائع السابقة، ولا ريب في حرمته في الشريعة الإسلامية، وهو أشدّ حرمة من الزنا.

وقال سبحانه: (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين) [يوسف : 24].

هذه الآية صريحة بإطلاق الفحشاء على خصوص الزنا، لأنّه هو الذي امتنع منه يوسف (عليه السلام)، وقد صرف الله عنه السوء والفحشاء لأنّه من عباده الصالحين.

 

لمحة عن قصة يوسف:

يوسف (عليه السلام) نبيّ مرسل من الله لعباده لطفاً بهم، كما أرسل أباه يعقوب، وجدّه إبراهيم الخليل، وموسى، وعيسى، ومحمّداً، وجميع الأنبياء (عليهم السلام).

كان يعقوب مفرطاً في محبّة يوسف لعلمه أنّه هو الناهض بأعباء النبوّة، المتجلّي بأنوار الرسالة بعده، ولمّا اشتدّ ولع يعقوب بيوسف وقربه منه اشتدّ حسد اخوته له، فكادوه باخراجهم له إلى حيث يرتعون ويلعبون، وأجمعوا على وضعه في أعماق بئر هناك ليخلو لهم وجه أبيهم، وزعموا أنّه أكله الذئب وهم غافلون، وجاؤوا على قميصه بدم كذب، فكان جواب أبيهم لهم: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون) [يوسف : 18].

لبث يوسف في تلك البئر صابراً محتسباً حتّى قيّض الله له راكباً سائراً طالباً موارد المياه، فاستقى من تلك البئر فتعلّق يوسف بدلوهم فضمّوه إلى بضاعتهم وباعوه من عزيز مصر، حلّ يوسف في دار عزيز مصر، فكان شمس نهارها وبدر ليلها، تجلّت فيه أنوار النبوّة، فجلّ عن مشاكلة نوعه في جماله وكماله وقوله وأفعاله.

وكانت زوجة العزيز أجمل نساء زمانها، ويوسف عندها أعزّ عليها من نفسها، تحسن إليه وتكرم مثواه، وحبّه يتغلغل في قلبها حتّى شغفها حبّاً، وهي ترى أنّه فتاها وطوع إرادتها، فلا يمتنع عمّا ترومه منه.

وكان من أمرها معه ما قصّه الله سبحانه على نبيّه فقال تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي إنّه لا يفلح الظالمون) [يوسف : 23].

وحين راودته عن نفسه رأته ممتنعاً عليها، منكراً طلبها، موبخاً لها بقوله: معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي، مشيراً بهذا إلى زوجها، لأنّها تعتقد انّه المالك والرازق ليوسف، فعرّفها أنّ زوجها أحسن تربيته وعزّز مكانه، فخيانته بزوجته عدوان وظلم، ولذلك قال لها: انّه لا يفلح الظالمون.

ولمّا رأته كذلك لا يجيبها إلى طلبها باختياره، جرّدت صارم عزمها وقوّتها، وأعملت أسباب جبره وإكراهه على بغيتها منه، وهذا معنى قوله سبحانه: (ولقد همّت به)، وحين باشرت أسباب إكراهه وجبره على فعل الفاحشة، عزم يوسف على صرفها عنه بكلّ ما يقدر عليه من المدافعة ولو بضربها، وهذا الذي همّ به يوسف.

ثمّ ظهر له برهان ربّه بما تصوّرته مدارك فكره، وهو الفرار منها ورجّحه على الضرب ونحوه، لأنّه يسلم بالفرار من سوء عاقبة الضرب عند الملك، ومن ارتكاب الفاحشة، فأسرع إلى الباب وأسرعت إليه، فسبقها وتعلّقت بقميصه وشقّته برهاناً على نزاهته وعفّته وعصمته عند أهلها وأهله.

نعم انشقّ قميصه لما تعلّقت به حال خروجه من الباب، وبالضرورة العادية كان شقّه من جهة ظهره لأنّه حال فراره منها، ولذلك قال من أوكل إليهم الحكم في تلك القضية:

(إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين  وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين)[يوسف : 26و27].

وبهذا يمكنك الجزم بأنّ يوسف (عليه السلام) ما همّ بفعل الفاحشة، وإنّما همّ بمدافعتها، وهذا المعنى يستفاد من ظاهر الآيات الشريفة المعربة عمّا كان منها.

وبيانه: أنّ حرف الجر ـ أي الباء في به وبها ـ غير داخل على نفس الضمير، لأنّ الضمير يرجع إلى الذات، ولا يمكن أن تهمّ بذاته أو يهمّ بذاتها، لأنّ نفس الذات لا يقع عليها العزم وهو معنى الهمّ، وإنّما دخل حرف الجر على شيء محذوف، وأستغني عن ذكره لتقدّم ما دلّ عليه في حقّها وحقّه، فالآية السابقة على هذه الآية، صرّحت بأنّها راودته عن نفسه، وأنّها غلقت الأبواب وجاءت بكلّ ما تقدر عليه، لتحقّق آمالها فيه، فهذه الامارات تدلّنا على أنّها همّت بفعل الفاحشة معه، وإلزامه على فعلها، وهذا هو المحذوف الذي يلزمنا تقديره.

كما أنّ الآية السابقة صرّحت بأنّه تعوّذ بالله من طلبها، وأفهمها انّ هذا خيانة بمن أحسن إليه، وعدوان وظلم، ولا يفلح الظالمون.

فهذا يدلّنا على انّه إنّما همّ بمدافعتها وضربها ليمنعها عنه، وهذا هو المحذوف الذي يلزمنا تقديره، وبما أنّ ضربها يسيء العزيز ويثبت دعواها عليه، عدل عنه إلى الفرار منه بإلهام الله سبحانه له، وهذا هو البرهان الذي رآه من الله، وبذلك تخلّص من سوء غضب العزيز، وظنّه بالخيانة، ومن ارتكاب الفحشاء، فصرف الله عنه السوء والفحشاء.

هذا هو المراد من الآيات الشريفة بحسب ظاهرها الحاكية لقصّة يوسف (عليه السلام)مع امرأة العزيز، وهو الذي يساعد عليه العقل السليم الحاكم بنزاهة أنبياء الله تعالى ورسله، وعصمتهم عن ارتكاب الفواحش وفعل القبائح.

 

الشيطان يأمر بالفحشاء:

وقال سبحانه: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرةً منه وفضلا والله واسع عليم) [البقرة : 268].

صرّحت هذه الآية الشريفة، بأنّ السبب في بخل البخلاء بما وجب عليهم أو ندبو إليه، إنّما هو وسوسة الشيطان لهم بالتخويف من الفقر والفاقة، فهو ينهاهم عمّا أمرهم الله به ويأمرهم بالفحشاء، لأنّ الله نهاهم عنها، فالشيطان يقبّح للإنسان الحسن، ويحسّن له القبيح ليوقعه في المعصية، فالآية صريحة على طريقة الملازمة العقلية بتحريم الفحشاء.

 

الفحش في القول:

وقال صاحب الدعوة الإسلامية الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله): «إيّاكم والفحش فإنّ الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش»(14). كلامه (صلى الله عليه وآله) هذا عام للفحش بالقول والفعل، وصريح بالتحذير منه.

وقال (صلى الله عليه وآله): «ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذي»(15).

يمكن في هذا الحديث دعوى تخصيص الفاحش بمن يقول الأقوال الفاحشة، لأنّه ذكر الطعّان واللعّان والبذي، وهذا هو الفحش بالقول، فيكون الفاحش في الحديث الشريف هو الذي يقول الأقوال الفاحشة ـ أي القبيحة ـ .

وقال (صلى الله عليه وآله): «الجنّة حرام على كلّ فاحش أن يدخلها»(16). وهذا بظاهره عام للفحش قولا وفعلا.

وقال (صلى الله عليه وآله): «لو كان الفحش رجلا لكان رجل سوء»(17).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله لا يحبّ الفاحش المتفحّش»(18).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إنّ الفحش والتفاحش ليسا من الإسلام في شيء، وإنّ أحسن الناس إسلاماً أحسنهم أخلاقاً»(19).

هذا الحديث ظاهر في ذمّ الفحش القولي بمناسبة آخره كما لا يخفى، وربّما كان داء الفحش بالقول أعظم بلاءً من الفحش بالفعل، أعاذنا الله والقارئ من ارتكاب الفواحش بالقول والفعل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) اللّحب: الطريق الواضح.

(2) رزح يرزح: سقط من الاعياء هُزالا.

(3) البحار 73 : 303 ح16.

(4) النهاية 3 : 415 / فحش.

(5) البحار 71 : 291 ضمن حديث 62.

(6) البحار 71 : 286 ضمن حديث 41.

(7) البحار 71 : 287 ضمن حديث 43.

(8) العقد الفريد 6 : 101.

(9) العقد الفريد 6 : 102.

(10) العقد الفريد 6 : 102.

(11) العقد الفريد 6 : 103.

(12) العقد الفريد 6 : 106.

(13) البحار 74 : 204 ضمن حديث 41.

(14) احياء العلوم 3 : 117 / في الفحش والسب.

(15) احياء العلوم 3 : 117 / في الفحش والسب.

(16) المصدر نفسه، وكنز العمال 3 : 598 ح8085.

(17) المصدر نفسه، وكنز العمال 3 : 603 ح8125.

(18) احياء العلوم 3 : 118 / في الفحش والسب، وكنز العمال 3 : 598 ح8087.

(19) المصدر نفسه، وكنز العمال 3 : 598 ح8089.