الفصل الرابع عشر

الدعاء والاجابة

 

 

«وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، وَتَكَفَّلَ لَكَ بِالاِْجَابَةِ، وَأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ، وَلَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ تَعَرّضْتَ الْفَضِيحَةُ، وَلَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الاِْنَابَةِ، وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ، وَلَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً ، وَفَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ، وَبَابَ الاِْسْتِعْتَابِ; فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نَدَاءكَ، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ، فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ، وَأَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ، وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ، وَاسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ، وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ، وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الاَْعْمَارِ، وَصِحَّةِ الاَْبْدَانِ، وَسَعَةِ الاَْرْزَاقِ.

ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ، فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ، وَاسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ، فَلاَ يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الاِْجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظَمَ لاَِجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الاْمِلِ. وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتَاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلا أَوْ آجِلا، أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ، فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ، وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ; فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَلاَ تَبْقَى لَهُ».

* * *

أمّا الآن فإنّ الإمام (عليه السلام) ينحو مع ولده (عليه السلام) نحواً خاصّاً، يريده على أن يسأل الله، ويلحف في السؤال، وأن يستعين الله على كلّ شيء، مهما كان أمره.

وإنّه ليوحي بكلماته هذه القليلة إلى ابنه بأنّ خالقه وبارءه، والذي بيده خزائن السماوات والأرض، والذي بيده زمام كلّ شيء، وإليه يعود كلّ شيء، قد أفاض عليه نعماً جساماً، لا يستطيع لها عدّاً ولا حساباً، ولا يستطيع هو ومن سواه أن يؤدّوا حقّها من الشكر.

فالله سبحانه قد سهّل على الإنسان، فأذن له في الدعاء بعد أن وعده الاجابة إلى كلّ ما تصبوا إليه نفسه، ما لم يخالف ذلك ما ترتئيه الارادة الإلهيّة، وقد أمر الله الإنسان أن يسأله ليعطيه، فهو يقول:

(وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون)[البقرة : 186]. وأمره أن يسترحمه فيرحمه، فقد يكون سؤال الإنسان واسترحامه موجداً لكثير من المصالح التي لم تكن المشيئة الإلهيّة تسوغها له من دون سؤال واسترحام واستعطاف.

وإنّ الإمام ليوحي إلى ولده بأن اسأل ربّك، وألحف في السؤال، وتوسّل إليه وبالغ في التوسّل، فإنّ الابن إذا طلب إلى أبيه حاجة قد لا ينالها لولا أن يشدد في الطلب، ويكثر من السؤال، وإنّ الباب لا يفتح إلاّ بالقرع ثمّ التشديد في ذلك. فتقرّب إليه زلفى، وأحسن في خطواتك إليه، عسى أن تحظى منه بالمكانة السامية والمنزل الرفيع.

ولا يعظمنّ عليك أن تطرق باب ملكوته، ولا يصعب عليك أن تناله، لأنّه سبحانه لم يجعل بينك وبينه حاجزاً إلاّ نفسه، ولم يحوجك إلى من يأذن لك في البلوغ إليه، لأنّه ليس شحيحاً ولا بخيلا.

أما آن لك أن تعرف أنّه تعالى كريم أيّ كريم، وسخي أيّ سخي، يرزق من يشاء بغير حساب، ويرزق من سأله، وقد يرزق من لم يسأله، فتقرّب إليه دون أن تفتقر إلى أحد سواه.

وإنّ الإمام (عليه السلام) ليشعر ابنه، بأن لو كان له من الإثم شيء فلا ييأس ولا يبتئس، لأنّ الله قد جعل للإنسان سبيلا إلى التوبة عن طريق الانابة والندم الشديد.

وما أكثر ما أراد الإمام (عليه السلام) أن يقرب ولده من الله ويبعده عن غيره، فهو دائب على وصفه بأحسن الوصف. فها هو يقول لابنه بأنّ الله رحيم بلغ من الرحمة شأوها، فكان في غنىً عن أن يسرع في انتقامه منك، وعقوبته لك على ذنبك، وإنّما استمهلك ريثما عدت إلى نفسك، وثبت إلى رشدك، فعلمت من أمرك ما لم تكن تعلم، فظهر لك أنّك مسيء، قد أتيت من الأمر شيئاً عظيماً، هنالك تندم وتود لو أنّ أُمّك لم تلدك، وكنت بين أصابع العدم المجهول.

عند ذاك يكون الله قد صفح عنك، وعفى عمّا اقترفته من إثم، وأتيته من جرم، وارتكبته من إساءة.

ألا يا ولدي، ولتعلم أنّه لم يفضحك في وقت أنت فيه أقرب إلى الفضيحة، ولم يشدد عليك في الانابة، فقال تعالى: (وأنيبوا إلى ربّكم) [الزمر : 54]، ولم يناقشك بالجريمة التي اكتسبتها بعد أن أتى عليها الاستغفار، فمحاها من صفحة كتابك.

ولم يترك اليأس والقنوط يتسربان إلى قلبك، حيث قال: (لا تقنطوا من رحمة الله) [الزمر : 53] وإنّما أبدل سيّئتك بعد التوبة حسنة، وحسب سيّئتك واحدة، وضاعف حسنتك في الأجر إلى عشرة أضعاف، فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى إلاّ مثلها) [الأنعام : 160].

وفتح لك أبواب المتاب واسعة فسيحة، وأرهف سمعه إلى ندائك وهو قريب منك، فإذا أخطرت في نفسك أمراً علمه، وإذا ناديته استجاب لك، وإذا نفذت إليه بالمناجاة سمع إلى نجواك، وفسح لك المجال في أن تسأله حاجتك وتفضي إليه بسؤلك، وأن تبثّه ما يكنّه فؤادك، وتشكو إليه ما ترزح تحته من حزن وكمد، ومن هموم وأكدار، فأنت إذا فعلت ذلك أو شيئاً من ذلك كان لك قائداً، وهادياً ودليلا ومعيناً.

سبحانك اللّهمّ فما أنت بعاجز عن إعطاء الكثير، فهلاّ سأل الإنسان ربّه ذات يوم فلم يلبه الله لعجز أو قصور، كلاّ إن أردت أيّها الإنسان أن تبلو ربّك فافعل، سله أن يزيد في عمرك، ويوسع عليك في رزقك، ويعصمك من الشرور والآثام.

تلفه يوكلك أمر خزائنه بأن يوكّل إليك مفاتحها تأخذ من تلك الخزائن ما يكفيك وزيادة، وليس ينظر إليك بالمرصاد، ووالله ما خزائن الله إلاّ ما يسيطر عليه ممّا نعلم وممّا لا نعلم، وما مفاتحها إلاّ تلك المناجاة، وتلك التوسّلات في خشوع وخضوع، فادعه تنفتح لك نعمته، وينهمل عليك وابل رحمته، حتّى ترتوي ويذهب عنك الظمأ، كما تروى الأرض ويفارقها الظمأ.

 

شروط الدعاء:

بيد أنّ الدعاء مشروط بأن يكون على وجه الاستكانة والخضوع، مع الاعتراف بالذلة والنقص، والاضطرار والعجز قلباً ولساناً وهيئة، وإنّه لا فرج له إلاّ من لدن سيّده، ولا خير له إلاّ من عنده قولا وضميراً، فيردد لسانه بأنواع التضرّع والجوار، وتتصرّف يداه نحو السماء في ضروب من الشكل والحركات، ولا يبتهل حتّى يذري دموعه ويشخص بصره، وهل إخلاص العبادة إلاّ هذه الأحوال، فكان الدعاء بهذه الكيفية من أشرف العبادة، وبحسب العبادة يتمّ الشرف الإنساني، ويخلص الغرض الإلهي.

 

ضرورة الدعاء:

الدعاء من مستلزمات العبادة، إذ هو الصلة التي تربط بين الإنسان وخالقه، والدعاء فطري في الإنسان، فهو يشعر بحنين إلى الله يفزع إليه عند الشدائد، ويتضرّع إليه في كشف السوء عنه، فهو ضعيف أمام أحداث الحياة، لا يجد مسنداً لضعفه غير الدعاء.

ولذلك اعتنى القرآن بالدعاء وحثّ عليه، جاء في القرآن: (وقال ربّكم ادعوني استجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين)[غافر : 60] ففي هذه الآية وصف الله الدعاء بأنّه من العبادة التي يستحقّ من يستكبر عنها غضب الله.

 

الدعاء علاج نفسي:

والدعاء علاج نفسي لكثير من أمراض النفس، فالانسان بطبيعته محتاج في مشكلاته لأن يفضي بدخيلة نفسه إلى صديق حميم، يخفّف عنه بعض ما يشعر به من الهمّ والحزن، وقد أجمع الأطباء النفسيّون على أن علاج التوتّر العصبي والآلام النفسية، إنّما يتوقّف إلى حدّ كبير على الافضاء ـ بسبب التوتّر ومنشأ القلق ـ إلى صديق مخلص، فإنّ كتمانه ممّا يزيد المرض.

فإذا أفضى الإنسان المحزون إلى ربّه ما يعانيه، وطلب منه ما يبتغيه فإنّه يشعر بطمأنينة، ونفحة روحية تنشله ممّا هو فيه من الهمّ والضيق، وذلك مع الايمان والاعتقاد التام، بأنّ الله قريب منه مجيب دعوته، كما أخبر بذلك القرآن: (وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون) [البقرة : 186].

قيل في سبب نزول هذه الآية: إنّ أعرابياً جاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: أقريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه، فسكت عنه الرسول، فأنزل الله هذه الآية(1).

 

الدعاء في السرّاء والضرّاء:

والدعاء الذي يطلبه الإسلام، هو أن يكون في السراء كما يكون في الضراء، لأنّه بذلك أدعى لئن يكون على الدوام متذكّراً ربّه، مستجيباً لأوامره، محقّقاً معنى العبودية له، فإنّ الإنسان بطبيعته يلجأ إلى ربّه عند الشدّة، ولكن ما أنْ يكشف الله عنه ما به من ضرّ حتّى ينسى الله ويغتر بقوّته، فيؤدي به إلى الإعراض عن أوامر الله والافساد في الأرض.

وقد وصف الله هذه الحالات التي تنتاب كثيراً من الناس، ليحذر المؤمنين من الوقوع في الجحود والنكران له، قال سبحانه: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسّه الشرّ فذو دعاء عريض) [فصلت : 51].

وقال أيضاً: (وإذا مسّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلمّا كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسّه كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون)[يونس : 12].

وقال سبحانه ممتنّاً على بعض خلقه الذين يتعرّضون لخطر الغرق ثمّ ينجيهم من فضله: (هو الذي يسيّركم في البرّ والبحر حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيّبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كلّ مكان وظنّوا أنّهم أُحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشاكرين  فلمّا أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحقّ يا أيّها الناس إنّما بغيكم على أنفسكم)[يونس : 22و23].

فلا يجمل بالإنسان أن يعصي الله بعد أن أنقذه من الهلاك، بل ينبغي أن يجعل ذلك الخطر الذي وقع فيه حافزاً له لطاعة الله، والسير على الطريق الذي رسمه.

 

الدعاء للسموّ الروحي:

وقد شرّع الإسلام الدعاء أيضاً، للسموّ الروحي والترفّع عن شهوات الجسد الضارّة، والعروج به في معارج الكمالات، بجانب ما يطلبه الداعي من فضل الله، وتسيير أُموره وكشف الضرّ عنه، ولهذا يعلّم الله المؤمنين كيف يدعونه، بما ذكره على لسان أنبيائه والصالحين، ممّا سنذكر بعضاً منها:

 

أدعية الأنبياء:

(ربّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريّتي ربّنا وتقبّل دعاء) [إبراهيم : 40].

(ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريّتي)[الأحقاف : 15].

(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب)[آل عمران : 8].

(ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربّنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة : 286].

(ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين) [الأعراف : 23].

(ربّ فلا تجعلني في القوم الظالمين) [المؤمنون : 94].

(ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين) [يونس : 85].

(ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيّئ لنا من أمرنا رشداً) [الكهف : 10].

(ربّ ا شرح لي صدري  ويسّر لي أمري) [طه : 25 و26].

(ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) [البقرة : 201].

من هذه الأدعية يتبيّن لك مصدرها السماوي، قصّها الله علينا لندعو بها في فترات الزمن القاسية، وللترقّي الروحي.

ونضع هنا جملة من الأدعية المأثورة طلباً لبركتها، ولينتفع قارئ الكتاب بها.

دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله):

كان من دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أصبح أن يقول:

«أصبحنا وأصبح الملك، والكبرياء، والعظمة، والجلال، والخلق، والأمر، والليل، والنهار، وما يسكن فيهما لله عزّ وجلّ وحده لا شريك له، اللّهمّ اجعل أوّل يومي هذا صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً، اللّهمّ إنّي أسألك خير الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين، اللّهمّ أقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به رحمتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، اللّهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا، واجعله الوارث منّا، وانصرنا على من ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا»(2).

 

دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام):

ومن دعاء أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكان يدعو به زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام)، وهو من أدعية الصحيفة:

«يا من يرحم من لا يرحمه العباد، يا من يقبل من لا تقبله البلاد، ويا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه، يا من لا يجبه بالردّ أهل الإلحاح عليه، يا من لا يخفى عليه صغير ما يتحف به، ولا يضيع يسير ما يعمل له، يا من يشكر على القليل ويجازي بالجليل، يا من يدنو إلى من دنا منه، يا من يدعو إلى نفسه من أدبر عنه، يا من لا يغيّر النعمة ولا يبادر بالنقمة، يا من يثمر الحسنة حتّى ينميها، ويتجاوز عن السيّئة حتّى يعفيها، انصرفت دون مدى كرمك الحاجات، وامتلأت بفيض جودك أوعية الطلبات، وتفسّخت دون بلوغ نعمتك الصفات، فلك العلوّ الأعلى فوق كلّ عال، والجلال الأمجد فوق كلّ جلال، كلّ جليل عندك حقير، وكلّ شريف في جنب شرفك صغير، خاب الوافدون على غيرك، وخسر المتعرّضون إلاّ لك، وضاع الملمّون إلاّ بك، وأجدب المنتجعون إلاّ من انتجع فضلك، لأنّك ذو غاية قريبة من الراغبين، وذو مجد مباح للسائلين، لا يخيب عليك الآملون من عطائك المتعرّضون، ولا يشقى بنقمتك المستغفرون، رزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معرض لمن ناواك، وعادتك الإحسان إلى المسيئين، وسنّتك الابقاء على المعتدين، حتّى لقد غرّتهم أناتك عن النزوع، وصدّهم إمهالك عن الرجوع، وإنّما تأنّيت بهم ليفيئوا إلى أمرك، وأمهلتهم ثقة بدوام ملكك، فمن كان من أهل السعادة اجتمعت له بها، ومن كان من أهل الشقاوة خذلته عنها، كلّهم صائر إلى رحمتك، وأُمورهم آيلة إلى أمرك، لم يهن على طول مدّتهم سلطانك، ولم تدحض لترك معالجتهم حججك، حجّتك قائمة، وسلطانك ثابت، فالويل الدائم لمن جنح عنك، والخيبة الخاذلة لمن خاب منك، والشقاء الأشقى لمن اغترّ بك، ما أكثر تقلّبه في عذابك، وما أعظم تردّده في عقابك، وما أبعد غايته من الفرج، وما أثبطه من سهولة المخرج، عدلا من قضائك لا تجور فيه، وإنصافاً من حكمك لا تحيف عليه، قد ظاهرت الحجج، وأزلت الأعذار، وتقدّمت بالوعيد، وتلطّفت في الترغيب، وضربت الأمثال، وأطلت الامهال، وأخّرت وأنت تستطيع للمعاجلة، وتأنّيت وأنت مليء بالمبادرة، لم تك أناتك عجزاً، ولا حلمك وهناً، ولا إمساكك لعلّة، ولا انتظارك لمدارات، بل لتكون حجّتك الأبلغ، وكرمك الأكمل، وإحسانك الأوفى، ونعمتك الأتمّ، كلّ ذلك كان ولم يزل وهو كائن لا يزول، نعمتك أجلّ من أن توصف بكلّها، ومجدك أرفع من أن يحدّ بكنهه، وإحسانك أكبر من أن يشكر على أقلّه، فقد أقصرت ساكتاً عن تحميدك، وتهيّبت ممسكاً عن تمجيدك، لا رغبةً يا إلهي عنك بل عجزاً، ولا زهداً فيما عندك بل تقصيراً، وها أنا ذا يا إلهي أُؤمل بالوفادة، وأسألك حسن الرفادة، فاسمع ندائي، واستجب دعائي، ولا تختم عملي بخيبتي، ولا تجبهني بالردّ في مسألتي، وأكرم من عندك منصرفي، إنّك غير ضائق عمّا تريد، ولا عاجز عمّا تشاء، وأنت على كلّ شيء قدير»(3).

 

دعاء الامام زين العابدين:

ومن أدعيته (عليه السلام) وهو من أدعية الصحيفة أيضاً:

«اللّهمّ يا من برحمته يستغيث المذنبون، ويا من إلى إحسانه يفزع المضطرّون، ويا من لخيفته ينتحب الخاطئون، يا أُنس كلّ مستوحش غريب، يا فرج كلّ مكروب حريب، يا عون كلّ مخذول فريد، يا عاضد كلّ محتاج طريد، أنت الذي وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً، وأنت الذي جعلت لكلّ مخلوق في نعمتك سهماً، وأنت الذي عفوه أعلى من عقابه، وأنت الذي رحمته أمام غضبه، وأنت الذي إعطاؤه أكبر من منعه، وأنت الذي وسع الخلائق كلّهم بعفوه، وأنت الذي لا يرغب في غنىً من إعطائه، وأنت الذي لا يفرط في عقاب من عصاه، وأنا يا سيّدي عبدك الذي أمرته بالدعاء فقال لبيك وسعديك، ها أنا ذا يا ربّ مطروح بين يديك، أنا الذي أوقرت الخطايا ظهره، وأنا الذي أفنت الذنوب عمره، وأنا الذي بجهله عصاك ولم يكن أهلا منه لذلك، فهل أنت يا مولاي راحم من دعاك فاجتهد في الدعاء، أم أنت غافر لمن بكى لك فأسرع في البكاء، أم أنت متجاوز عمّن عفّر لك وجهه متذلّلا، أم أنت مغن من شكى إليك فقره متوكّلا، اللّهمّ فلا تخيّب من لا يجد معطياً غيرك، ولا تخذل من لا يستغني عنك بأحد دونك، اللّهمّ لا تعرض عنّي وقد أقبلت عليك، ولا تحرمني وقد رغبت إليك، ولا تجبهني بالردّ وقد انتصبت بين يديك، أنت الذي وصفت نفسك بالرحمة، وأنت الذي سمّيت نفسك بالعفو، فارحمني واعفُ عنّي، فقد ترى يا سيّدي فيض دموعي من خيفتك، ووجيب قلبي من خشيتك، وانتفاض جوارحي من هيبتك، كلّ ذلك حياء منك بسوء عملي، وخجلا منك لكثرة ذنوبي، قد كَلَّ لساني عن مناجاتك، وخمد صوتي عن الدعاء إليك، يا إلهي فكم من عيب سترته عليّ فلم تفضحني، وكم من ذنب غطّيت عليه فلم تشهر بي، وكم من عائبة ألممت بها فلم تهتك عنّي سترها، ولم تقلّدني مكروه شنارها، ولم تبد سوأتها لمن يلتمس معايبي من جيرتي، وحسدة نعمتك عندي، ثمّ لم ينهني ذلك حتّى صرت إلى أسوء ما عهدت منّي، فمن أجهل منّي يا سيّدي برشدك، ومن أغفل منّي عن حظّه منك، ومن أبعد منّي من استصلاح نفسه حين أنفقت ما أجريت عليّ من رزقك فيما نهيتني عنه من معصيتك، ومن أبعد غوراً في الباطل، وأشدّ إقداماً على السوء منّي حين أقف بين دعوتك ودعوة الشيطان، فأتّبع دعوته على غير عمى عن المعرفة به، ولا نسيان من حفظي له، وأنا حينئذ موقن أنّ منتهى دعوتك الجنّة، ومنتهى دعوته النار، سبحانك فما أعجب ما أشهد به على نفسي، وأعدده من مكنون أمري، وأعجب من ذلك أناتك عنّي، وإبطاؤك عن معاجلتي، وليس ذلك من كرمي عليك بل تأنّياً منك بي، وتفضّلا منك عليّ لأن أرتدع عن خطئي، ولأنّ عفوك أحبّ إليك من عقوبتي، بل أنا يا الهي أكثر ذنوباً، وأقبح آثاراً، وأشنع أفعالا، وأشدّ في الباطل تهوّراً، وأضعف عند طاعتك تيقّظاً، وأغفل لوعيدك انتباهاً من أن أحصي لك عيوبي، وأقدر على تعديد ذنوبي، وإنّما أوبّخ بهذا نفسي طمعاً في رأفتك التي بها اصلاح أمر المذنبين، ورجاء لعصمتك التي بها فكاك رقاب الخاطئين، اللّهمّ وهذه رقبتي قد أَرَقّتها الذنوب فاعتقها بعفوك، وقد أثقلتها الخطايا فخفّف عنها بمنّك، اللّهمّ إنّي لو بكيت حتّى تسقط أشفار عيني، وانتحبت حتّى ينقطع صوتي، وقمت لك حتّى تنتثر قدماي، وركعت لك حتّى ينجذع صلبي، وسجدت لك حتّى تتفقّأ حدقتاي، وأكلت التراب طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتّى يكلّ لساني، ثمّ لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياءً منك، لما استوجبت بذلك محو سيّئة واحدة من سيّئاتي، فإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك، وتعفو عنّي حين أستحقّ عفوك، فإنّ ذلك غير واجب لي بالاستحقاق، ولا أنا أهل على الاستيجاب، إذ كان جزائي منك في أوّل ما عصيتك النار، فإن تعذّبني فإنّك غير ظالم.

إلهي فإن تغمّدتني بسترك فلم تفضحني، وأمهلتني بكرمك فلم تعاجلني، وحلمت عنّي بتفضّلك فلم تغيّر نعمك عليّ، ولم تكدر معروفك عندي، فارحم طول تضرّعي، وشدّة مسكنتي، وسوء موقفي، اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وأنقذني من المعاصي، واستعملني بالطاعة، وارزقني حسن الانابة، وطهّرني بالتوبة، وأيّدني بالعصمة، واستصلحني بالعافية، وارزقني حلاوة المغفرة، واجعلني طليق عفوك، واكتب لي أماناً من سخطك، وبشّرني بذلك في العاجل والآجل بشرى أعرفها، وعرّفني له علامة أتبيّنها، إنّ ذلك لا يضيق عليك في وجدك، ولا يتكاءدك(4) في قدرتك، وأنت على كلّ شيء قدير»(5).

 

الدعاء بعد صلاة الليل:

ومن أدعيته (عليه السلام) وهو من أدعية الصحيفة:

«اللّهمّ يا ذا الملك المتأبّد بالخلود، والسلطان الممتنع بغير جنود، والعزّ الباقي على مرّ الدهور، عزّ سلطانك عزّاً لا حدّ له ولا منتهى لآخره، واستعلى ملكك علوّاً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده، ولا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك نعوت أقصى نعت الناعتين، ضلّت فيك الصفات، وتفسّخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله في أوّليّتك، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول، وكذلك أنت الله في آخريّتك، وكذلك أنت ثابت لا تحول، وأنا العبد الضعيف عملا، الجسيم أملا، خرجت من يدي الأسباب الموصلة إلى رحمتك، وتقطّعت عنّي عصم الآمال إلاّ ما أنا معتصم به من عفوك، قلّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر عندي ما أبوء به من معصيتك، ولن يضيق بك عفو عن عبدك وإن أساء فاعف عنّي.

اللّهمّ قد أشرف على كلّ خطايا الأعمال علمك، وانكشف كلّ مستور عند خبرك، فلا ينطوي عنك دقائق الأُمور، ولا يعزب عنك خفايا السرائر، وقد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة، وكبائر أعمال مردية، فلا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير يؤمنني منك، ولا حصن يحجبني عنك، ولا ملاذ ألجأ إليه غيرك، هذا مقام العائذ بك، ومحلّ المعترف لك، فلا يضيقنّ عنّي فضلك، ولا يقصرنّ دوني عفوك، ولا أكون أَخْيَبُ عبادك التائبين، ولا أقنط وفودك الآملين، واغفر لي إنّك خير الغافرين.

اللّهمّ إنّك أمرتني فغفلت، ونهيتني فركبت، وهذا مقام من استحيا لنفسه منك، وسخط عليها ورضي عنك، وتلقّاك بنفس خاشعة، وعين خاضعة، وظهره مثقل من الخطايا، واقفاً بين الرغبة إليك والرهبة منك، وأنت أولى من رجاه، وأحقّ من خشيه واتقاه، فأعطني يا ربّ ما رجوت، وأمّنّي ما حذرت، وعد عليّ بفضلك ورحمتك إنّك أكرم المسؤولين، اللّهمّ وإذ سترتني بعفوك وتغمّدتني بفضلك في دار الفناء، فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الاشهاد من الملائكة المقرّبين، والرسل المكرّمين، والشهداء الصالحين، من جار كنت أُكاتمه سيّئاتي، ومن ذي رحم كنت أحتشم منه لسريراتي، لم أثق بهم في السرّ عليّ ووثقت بك في المغفرة لي، وأنت أولى من وثق به، وأعطى من رغب إليه، وأرأف من استرحم فارحمني.

اللّهمّ إنّي أعوذ بك من نار تَغَلّظْتَ بها على من عصاك، وأوعدت بها من ضادّك وناواك، وصدف عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهيّنها صعب، وقريبها بعيد، ومن نار تأكل بعضها بعضاً، وتصول بعضها على بعض، ومن نار تذر العظام رميماً، وتسقي أهلها حميماً، ومن نار لا تبقي على من تضرّع، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر على التخفيف عمّن خشع لها واستبتل إليها، تلقى سكّانها بآخر ما لديها من أليم النكال، وشديد الوبال.

اللّهمّ بك أعوذ من عقاربها الفاغرة أفواهها، وحيّاتها الناهشة بأنيابها، وشرابها الذي يقطّع الأمعاء، ويذيب الأحشاء، وأستهديك لما باعد عنها وأنقذ منها، فأجرني بفضل رحمتك، وأقلني عثرتي بحسن إقالتك، ولا تخذلني يا خير المجبرين، اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد إذا ذكر الأبرار، وصلّ على محمّد وآل محمّد ما اختلف الليل والنهار، صلاةً لا ينقطع مددها، ولا يحصى عددها، صلاةً تشحن الهواء، وتملأ الأرض والسماء، اللّهمّ صلّ عليه وعليهم حتّى ترضى، وصلّ عليه وعليهم بعد الرضاء صلاة لا حدّ لها ولا منتهى يا أمير الراحمين»(6).

 

الدعاء في الاستعاذة من المكاره:

ومن دعائه (عليه السلام) وهو من أدعية الصحيفة:

«اللّهمّ إنّي أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلّة القناعة، وشكاسة الخلق، وإلحاح الشهوة، وملكة الحميّة، ومتابعة الهوى، ومخالفة الهدى، وسنّة الغفلة، وتعاطي الكلفة، وايثار الباطل على الحق، والاصرار على المأثم، والاستكثار من المعصية، والاقلال من الطاعة، ومباهاة المكثرين، والازراء على المقلّين، وسوء الولاية على من تحت أيدينا، وترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا، وأن نعضد ظالماً، أو نخذل ملهوفاً، أو نروم ما ليس لنا بحق، أونقول بغير علم، ونعوذ بك أن ننطوي على غشّ لأحد، وأن نعجب بأموالنا وأعمالنا، وأن نمدّ في آمالنا، ونعوذ بك من سوء السريرة، واحتقار الصغيرة، وأن يستحوذ علينا الشيطان، أو يستند لنا الزمان، أو يتهضّمنا السلطان، ونعوذ بك من حبّ الاسراف، وفقدان الكفاف، ومن شماتة الأعداء، والفقر إلى الأصدقاء، ومن عيشة في شدّة، أو موت على غير عدّة، ونعوذ اللّهمّ بك من الحسرة العظمى، والمصيبة الكبرى، ومن سوء المآب، وحرمان الثواب، وحلول العقاب، اللّهمّ أعذنا من كلّ ذلك برحمتك ومنّك وجودك، إنّك على كلّ شيء قدير»(7).

 

الدعاء في الحمد وذكر النبي (صلى الله عليه وآله):

ومن دعائه (عليه السلام) وتحميده وذكرالنبي (صلى الله عليه وآله)، وهو من أدعية الصحيفة أيضاً:

«الحمد لله بكلّ ما حمده أدنى ملائكته إليه، وأكرم خلقه عليه، وأرضى حامديه لديه، حمداً يفضل سائر الحمد كفضل ربّنا جلّ جلاله على جميع خلقه، ثمّ له الحمد مكان كلّ نعمة له علينا، وعلى جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط به علمه، ومن جميع الأشياء أضعافاً مضاعفة أبداً سرمداً إلى يوم القيامة، وإلى ما لا نهاية له من بعد القيامة، حمداً لا غاية لحدّه، ولا نهاية حساب لعدّه، ولا مبلغ لاعداده، ولا انقطاع لآماده، حمداً يكون وصلة إلى طاعته، وسبباً إلى رضوانه، وذريعة إلى مغفرته، وطريقاً إلى جنّته، وخفيراً من نقمته، وأمناً من غضبه، وظهيراً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته، وعوناً على تأدية حقّه ووظائفه، حمداً نسعد به في السعداء من أوليائه، وتنتظم به في نظام الشهداء بسيوف أعدائه.

والحمد لله الذي منّ علينا بنبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) دون الأُمم الماضية والقرون السالفة، لقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظم، ولا يفوتها شيء وإن لطف، اللّهمّ فصلّ على محمّد أمينك على وحيك، ونجيّك من خلقك، وصفيّك من عبادك، إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة، كما نصب لأمرك نفسه، وعرّض فيك للمكروه بدنه، وكاشف في الدعاء إليك حامّته، وحارب في رضاك أُسرته، وقطع في نصرة دينك رحمه، وأقصى الأدنين على عنودهم عنك، وقرّب الأقصين على استجابتهم لك، ووالى فيك الأبعدين، وعاند فيك الأقربين، وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك، وأتعبها في الدعاء إلى ملّتك، وشغلها بالنصح لأهل دعوتك، وهاجر إلى بلاد الغربة، ومحلّ النأي عن موطن رحله، وموضع رجله، ومسقط رأسه، ومأنس نفسه، إرادةً منه لاعزاز دينك، واستنصاراً على أهل الكفر بك، حتّى استتب له ما حاول في أعدائك، واستتمّ له ما دبّر في أوليائك، فنهد إلى المشركين بك مستفتحاً بعونك، ومتقوياً على ضعفه بنصرك، فغزاهم في عقر ديارهم، وهجم عليهم في بحبوحة قرارهم، حتّى ظهر أمرك، وعلت كلمتك، وقد كره المشركون.

اللّهمّ فارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة العليا من جنّتك حتّى لا يساوى في منزلة، ولا يكاد في مرتبة، ولا يوازيه لديك ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، وعرّفه في أُمّته من حسن الشفاعة أجلّ ما وعدته، يا نافذ العدّة، يا وافي القول، يا مبدّل السيّئات بأضعافها من الحسنات، إنّك ذو الفضل العظيم»(8).

 

دعاء عيسى بن مريم:

ومن الأدعية المرويّة عن عيسى بن مريم (عليه السلام):

«اللّهمّ أنت إله من في السماء، وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك، وأنت حكيم من في السماء، وحكيم من في الأرض لا حكيم فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء، وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في السماء كقدرتك في الأرض، وسلطانك في السماء كسلطانك في الأرض، أسألك باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم، أن تفعل بي كذا وكذا»(9).

 

دعاء بعض الصالحين:

ومن أدعية بعض الصالحين:

«اللّهمّ إنّي لم آتك بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته، أتيتك مقرّاً بالظلم والإساءة على نفسي، أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عدت به على الخاطئين، ثمّ لم يمنعك عكوفهم على عظيم الجرم أن جدت لهم بالمغفرة، فيا صاحب العفو العظيم اغفر الذنب العظيم، برحمتك يا أرحم الراحمين»(10).

وروي أنّ علياً (عليه السلام) اعتمر فرأى رجلا متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: «يا من لا يشغله سمع عن سمع، يا من لا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحّين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، وعذوبة عافيتك، والفوز بالجنّة، والنجاة من النار»، فقال علي (عليه السلام): والذي نفسي بيده إن قالها وعليه مثل السماوات والأرض من الذنوب قولا مخلصاً ليغفرنّ له(11).

ودعا بعضهم فقال: «اللّهمّ إنّك سترت علينا في الدنيا ذنوباً كثيرة، ونحن إلى سترها في الآخرة أحوج، فاغفر لنا»(12).

ومن دعاء بعضهم: «اللّهمّ اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت نعمره، واجعل ما بعده خيراً لنا منه، اللّهمّ إليك عجّت الأصوات بصنوف اللغات تسألك الحاجات، وحاجتي إليك أن تذكرني عند طول البلى إذا نسيني أهل الدنيا»(13).

ويروى أنّ رجلا أعمى جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشكى إليه ذهاب بصره، فقال (صلى الله عليه وآله): قل «يا سبّوح يا قدّوس، يا نور الأنوار، يا نور السماوات والأرض، يا أوّل الأوّلين، ويا آخر الآخرين، ويا أرحم الراحمين، أسألك أن تغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم، والذنوب التي تنزل النقم، والذنوب التي تهتك العصم، والذنوب التي توجب البلاء، والذنوب التي تقطع الرجاء، والذنوب التي تحبس الدعاء، والذنوب التي تكشف الغطاء، والذنوب التي تعجّل الفناء، والذنوب التي تظلّم الهواء، وأسألك باسمك العظيم، ووجهك الكريم، أن تردّ عليّ بصري» فدعا بذلك فردّ عليه بصره(14).

 

دعاء الثلاثة الصالحين:

ومن الآثار المنقولة أنّ الله تعالى غضب على أُمّة، فأنزل عليهم العذاب، وكان فيهم ثلاثة صالحون، فخرجوا وابتهلوا إلى الله سبحانه، فقام أحدهم فقال: اللّهمّ إنّك أمرتنا أن نعتق أرقّاءنا، ونحن أرقاؤك فأعتقنا ثمّ جلس، وقام الثاني فقال: اللّهمّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعف عنّا، ثمّ جلس. وقام الثالث فقال: اللّهمّ إنّا على ثقة إنّك لم تخلق خلقاً أوسع من مغفرتك، فاجعل لنا في سعتها نصيباً، فرفع عنهم العذاب(15).

قيل لسفيان بن عيينة: ما حديث رويته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل دعاء أعطيته أنا والنبيّون قبلي «أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير».

كأنّهم لم يروا ذلك دعاء فقال: ما تنكرون من هذا، ثمّ روى لهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): من تشاغل بالثناء على الله أعطاه الله فوق رغبة السائلين، ثمّ قال: هذا أُمية بن أبي الصلت يقول لابن جدعان:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني *** حياؤك أنّ شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوماً *** كفاه من تعرّضه الثناء

وقال: هذا مخلوق يقول لمخلوق، فما ظنّكم بربّ العالمين(16).

* * *

شروط الدعاء:

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «للدعاء شروط أربعة: الأوّل إحضار النيّة، الثاني إخلاص السريرة، الثالث معرفة المسؤول، الرابع الانصاف في المسألة»(17).

روي أنّ أحد الملوك كان عقيماً لم يولد له، فكان يخرج آخر الليل إلى الصحراء ويدعو الله تعالى ويتضرّع إليه بأن يرزقه ولداً، فبقي على هذه الحال مدّة إلى أن ضجر ذات ليلة، وقال: إلهي أنا لا أدري أقريب أنت فتسمع ثمّ لا تجيب، أم بعيد أنت فلا تسمع، فلمّا رجع إذا بهاتف يهتف به: يا فلان أنا أقرب إليك من حبل الوريد، أسمع صوتك ولكن أريد أن تدعوني بقلب خالص، وسريرة طاهرة.

فالله جلّ وعلا يريد من العبد أن يدعوه بقلب خاشع، وضمير نقي، وبدن خاضع، وجوارح متذلّلة، ويقين واثق بالاجابة، وأن لا يكون قلبه متشاغلا بغير الله. فقد روي أنّ موسى النبي (عليه السلام) مرّ عند مناجاته برجل ساجد يبكي ويدعو ويتضرّع، فقال موسى: يا ربّ لو كانت حاجة هذا العبد بيدي لقضيتها، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى إنّه يدعوني وقلبه مشغول بغنم له، فلو سجد حتّى ينقطع صلبه، وتتفقّأ عيناه لم أستجب له حتّى يتحوّل عمّا أبغض إلى ما أحبّ(18).

مرّ إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة، فاجتمع الناس إليه، وقالوا: يا أبا إسحاق ما لنا ندعوا فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنّ قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:

الأوّل: إنّكم عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه.

الثاني: زعمتم أنّكم تحبّون رسول الله ثمّ تركتم سنّته.

الثالث: قرأتم القرآن ولم تعملوا به.

الرابع: أكلتم نعمة الله ولم تؤدّوا شكرها.

الخامس: قلتم انّ الشيطان عدوّكم ووافقتموه.

السادس: قلتم انّ الجنّة حقّ فلم تعملوا لها.

السابع: قلتم إنّ النار حقّ ولم تهربوا منها.

الثامن: قلتم انّ الموت حقّ فلم تستعدّوا له.

التاسع: انتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم.

العاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم.

فكيف يستجاب لكم وأنتم على مثل هذه الأحوال، إنّما يستجاب لمن كان ذو نيّة صادقة، وضمير طاهر، وقلب نقي وإلاّ ما كان لله ليفتح للعبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الاجابة، وهو يقول: (أُدعوني أستجب لكم) [غافر : 60 ]وما كان الله ليفتح باب التوبة ويغلق باب المغفرة، لأنّه تعالى يقول: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات) [الشورى : 25].

وما كان الله ليفتح باب الشكر ويغلق باب الزيادة، لأنّه يقول: (لئن شكرتم لأزيدنّكم)[إبراهيم : 7]، وما كان الله ليفتح باب التوكّل ولم يجعل للمتوكّل مخرجاً، فإنّه سبحانه يقول: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً  ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) [الطلاق : 2-3](19).

وجاء عن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «الدعاء يردّ القضاء المبرم»(20).

وقال: «من سرّه أن يكشف عنه البلاء فليكثر من الدعاء»(21).

روي أنّ تاجراً كان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) يسافر من المدينة إلى الشام، ولا يصحب القوافل توكّلا على الله، فعرض له لصّ في طريقه وصاح به وتعرّض له، فقال له التاجر: خذ المال ودعني، فقال: لا غنى لي عن نفسك.

فقال: إذن دعني أتوضّأ وأُصلّي أربع ركعات، فقال: افعل ما شئت فتوضّأ وصلّى، ثمّ رفع يده إلى السماء وقال: «يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا مبدئ يا معيد، يا ذا البطش الشديد، يا فعّالا لما يريد، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على خلقك، وبرحمتك التي وسعت كلّ شيء، لا إله إلاّ أنت، يا مغيث أغثني، يا مغيث صلّ على محمّد وآل محمّد أغثني».

فإذا هو بفارس على فرس أشهب عليه ثياب خضر وبيده رمح، فشدّ على اللص فطعنه طعنة فقتله، ثمّ قال للتاجر: اعلم انّي ملك من السماء الثالثة حين دعوت سمعنا أبواب السماء قد تفتّحت، فنزل جبرئيل وأمرني بقتله.

واعلم يا عبد الله انّه ما دعا بدعائك هذا مكروب ولا محزون إلاّ وفرّج الله عنه وأغاثه، فرجع التاجر إلى المدينة سالماً فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): لقد لقّنك الله أسماءه الحسنى التي إذا دعي بها أجاب، وإذا سئل بها أعطى(22).

دعاء الامام موسى بن جعفر (عليه السلام):

قال عبد الله بن مالك الخزاعي: دعاني هارون الرشيد يوماً فقال: يا أبا عبد الله كيف أنت وموضع السرّ منك، فقلت: يا أمير المؤمنين ما أنا إلاّ عبد من عبيدك، فقال: امض إلى تلك الحجرة وخذ مَنْ فيها واحتفظ به إلى أن أسألك عنه.

قال: فدخلت فوجدت موسى بن جعفر (عليه السلام)، فسلّمت عليه وحملته على دابّتي إلى منزلي فأدخلته داري، وجعلته معي على حرمي، وقفلت عليه الدار والمفتاح معي، وكنت أتولّى خدمته، ومضت الأيّام فلم أشعر إلاّ برسول الرشيد يقول: أجب أمير المؤمنين، فنهضت ودخلت عليه، فرأيته جالساً وعن يمينه فراش وعن يساره كذلك، فسلّمت عليه فلم يرد غير أنه قال: ما فعلت بالوديعة، فكأنّي لم أفهم ما قال، فقال: ما فعل صاحبك؟ فقلت: صالح، فقال: امض إليه وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم واصرفه إلى منزله وأهله.

فقمت وهممت بالانصراف، فقال لي: أتدري ما السبب في ذلك وما هو؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: نمت على الفراش الذي عن يميني فرأيت في منامي قائلا يقول: يا هارون أطلق موسى بن جعفر، فانتبهت فقلت: لعلّها لما في نفسي منه، فقمت إلى هذا الفراش الآخر فرأيت ذلك الشخص بعينه وهو يقول: يا هارون أمرتك أن تطلق موسى بن جعفر فلم تفعل.

فانتبهت وتعوّذت من الشيطان، ثمّ قمت إلى هذا الفراش الذي أنا عليه، وإذا بذلك الشخص بعينه بيده حربة كأنّ أوّلها بالمشرق وآخرها بالمغرب، وقد أومأ إليّ وهو يقول: والله يا هارون لئن لم تطلق موسى بن جعفر لأضعنّ هذه الحربة في صدرك وأطلعها من ظهرك، فأرسلت إليك فامض فيما أمرتك به، ولا تظهره إلى أحد فأقتلك، فانظر لنفسك.

قال: فرجعت إلى منزلي وفتحت الحجرة ودخلت على موسى بن جعفر (عليه السلام)، فوجدته قد نام في سجوده، فجلست حتى استيقظ ورفع رأسه وقال: يا أبا عبد الله افعل ما أُمرت به، فقلت له: يا مولاي سألتك بالله وبحقّ جدّك رسول الله هل دعوت الله عزّ وجلّ في يومك هذا بالفرج؟ فقال: أجل، إنّي صلّيت المفروضة وسجدت وغفوت في سجودي، فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا موسى أتحبّ أن تطلق؟ فقلت: نعم يا رسول الله، فقال: أدعو بهذا الدعاء:

«يا سابغ النعم، يا دافع النقم، يا بارئ النسم، يا مجلي الهمم، يا مغشي الظلم، يا كاشف الضرّ والألم، يا ذا الجود والكرم، يا سامع كلّ صوت، ويا مدرك كلّ فوت، يا محيي العظام وهي رميم، ومنشئها بعد الموت، صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً يا ذا الجلال والاكرام»، فلقد دعوت به ورسول الله (صلى الله عليه وآله)يلقنّيه حتّى سمعتك، فقلت: قد استجاب الله منك، ثمّ قلت له ما أمرني به الرشيد وأعطيته ذلك(23).

 

الامام موسى بن جعفر وهارون الرشيد:

وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، عن أبي محمّد عبد الله بن الفضل، عن أبيه قال: كنت أحجب الرشيد فأقبل عليّ يوماً غضباناً وبيده سيف يقلّبه فقال لي: يا فضل بقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لئن لم تأتني بابن عمّي الآن لآخذنّ الذي فيه عيناك، فقلت: بمن أجيئك؟ فقال: بهذا الحجازي، قلت: وأيّ الحجازي؟ قال: موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

قال الفضل: فخفت من الله أن أجيء به إليه، ثمّ فكّرت في النقمة، فقلت له: أفعل، فقال: آتني بسواطين وهبارين وجلادين ـ هذه الثلاثة هي آلة العقوبة وأسبابها ـ قال: فأتيته بذلك، ومضيت إلى منزل أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام)، فأتيت إلى خربة فيها كوخ من جرائد النخل، فإذا أنا بغلام أسود، فقلت له: استأذن لي على مولاك يرحمك الله تعالى، فقال لي: لج ليس له حاجب ولا بوّاب.

فولجت إليه فإذا أنا بغلام أسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين أنفه من كثرة سجوده، فقلت له: السلام عليك يا ابن رسول الله أجب الرشيد، فقال: ما للرشيد وما لي أما تشغله نعمته عنّي، ثمّ وثب مسرعاً وهو يقول: لولا أنّي سمعت خبراً عن جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّ طاعة السلطان للتقيّة واجبة إذاً ما جئت، فقلت له: استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك الله، فقال (عليه السلام): أليس معي من يملك الدنيا والآخرة، ولن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء الله.

قال الفضل بن الربيع: فرأيته وقد أدار يده يلوح بها على رأسه ثلاث مرّات، فدخلت على الرشيد فإذا هو كأنّه امرأة ثكلى قائم حيران، فلمّا رآني قال لي: يا فضل، فقلت: لبّيك، فقال لي: جئتني بابن عمّي؟ فقلت: نعم، قال: لا تكون أزعجته؟ فقلت: لا، قال: لا تكون أعلمته أنّي عليه غضبان، وأنّي قد هيّجت على نفسي ما لم أرده، إئذن له بالدخول، فأذنت له.

فلمّا رآه وثب إليه قائماً وعانقه وقال: مرحباً بابن عمّي وأخي ووارث نعمتي، ثمّ أجلسه على فخذيه فقال له: ما الذي قطعك عن زيارتنا؟ فقال: سعة ملكك وحبّك للدنيا، فقال: ائتوني بحقّة الغالية ـ وهي نوع من الطيب ـ فأتي بها ففلقها بيده، ثمّ أمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير.

فقال موسى بن جعفر (عليه السلام): لولا أنّي أرى من أزوّجه بها من عزّاب بني أبي طالب لئلاّ ينقطع نسله أبداً ما قبلتها، ثمّ تولّى (عليه السلام) وهو يقول: الحمد لله ربّ العالمين، فقال الفضل: يا أمير المؤمنين أردت أن تعاقبه فخلعت عليه وأكرمته، فقال لي: يا فضل إنّك لمّا مضيت لتجيئني به رأيت أقواماً قد أحدقوا بداري، بأيديهم حراب قد غرسوها في أصل الدار وهم يقولون: إن آذى ابن رسول الله خسفنا به وبداره الأرض، وإن أحسن إليه تركناه وانصرفنا عنه.

فتبعته (عليه السلام)فقلت له: ما الذي قلت حتّى كفيت أمر الرشيد؟ فقال (عليه السلام): دعاء جدّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان إذا دعا به ما برز إلى عسكر إلاّ هزمه، ولا إلى فارس إلاّ قهره، وهو دعاء كفاية البلاء، قلت: وما هو؟ قال:

«اللّهمّ بك أساور، وبك أحاول، وبك أُحاور، وبك أصول، وبك أنتصر، وبك أموت، وبك أحيا، أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم، اللّهمّ إنّك خلقتني وسترتني عن العباد، بلطفك خوّلتني وأغنيتني، وإذا هويت رددتني، وإذا عثرت قوّمتني، وإذا مرضت شفيتني، وإذا دعوت أجبتني يا سيّدي ارض عنّي فقد أرضيتني»(24).

* * *

فلسفة تأخّر الاجابة:

قوله (عليه السلام): «فَلاَ يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الاِْجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظَمَ لاَِجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الاْمِلِ، وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتَاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلا أَوْ آجِلا، أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ، فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ، وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ; فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَلاَ تَبْقَى لَهُ».

فالإمام (عليه السلام) يعلّم ولده بأنّه قد يسأل الله سبحانه فلا يجيبه إلى سؤله، أو قد يبطئ عليه في الاجابة لا لأنّه عاجز قاصر عن أن يجيب كلاّ، وإنّما ذلك لأمر ما، فإنّ لله في شؤونه مصالح وحكماً، وإنّ لها لسرّاً غامضاً، وخبراً مكتوماً، لا يطمع في ذلك بفهم أو تأويل، لأنّ الله في شؤونه وإرادته لا يصلح لشيء من الفهم والتأويل.

وإنّه (عليه السلام) ليعلمه بأنّ من الذنب ما يكون حاجباً يحجب الدعاء عن القبول، فإذا هو يوصيه بأنّه إن أبطأ الله عليك في الاجابة، فلعلّ بين أعمالك عملا نابياً، فارجع إلى صحائف أيّامك وتصفّحها صفحة صفحة، فلعلّك تعثر فيها على ذنب اقترفته وجرم ارتكبته، فطهّر نفسك منه، واعصم نفسك عمّا يجلبه عليك، فعسى أن تصفو نيّتك، ويطهر قلبك، فيستجيب لك إليه فيما تريد.

وهكذا جاء في دعاء علي (عليه السلام) المعروف بدعاء كميل: «اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»، ومن هنا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يستعيذ بالله، ويقول: «أعوذ بك من الذنوب التي تردّ الدعاء».

وروي أنّ عيسى (عليه السلام) خرج يستسقي، فلمّا ضجروا قال لهم عيسى: من أصاب منكم ذنباً فليرجع، فرجعوا كلّهمّ ولم يبق معه في المفازة إلاّ واحد، فقال له عيسى (عليه السلام): أما لك من ذنب؟ فقال: والله ما علمت من شيء غير أنّي كنت ذات يوم أُصلّي فمرّت بي امرأة، فنظرت إليها بعيني هذه، فلمّا جاوزتني أدخلت إصبعي في عيني فانتزعتها وأتبعت المرأة بها، فقال له عيسى: فادع الله حتّى أؤمّن على دعائك، فدعا فتجلّلت السماء سحاباً، ثمّ صبّت فسقوا.

وخرج سليمان بن داود (عليه السلام) يستسقي فمرّ بنملة ملقاة على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: «اللّهمّ إنّا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب غيرنا» فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم(25).

وأصاب بني اسرائيل قحط فاستسقى موسى (عليه السلام) مرّات فما أُجيب، فأوحى الله تعالى إليه: إنّي لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمّام قد أصرّ على النميمة، فقال موسى: يا ربّ من هو حتّى نخرجه من بيننا، فقال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً، فتابوا بأجمعهم فسقوا(26).

ولا ريب فإنّ من عرف حقيقة النميمة، يعلم أنّ النمام شرّ الناس وأخبثهم، كيف وهو لا ينفك من الكذب، والغيبة، والغدر، والخيانة، والغلّ، والحسد، والنفاق، والافساد بين الناس، والخديعة، وقد قال الله سبحانه: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) [البقرة : 27].

والنمام يسعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسد في الأرض، وقال الله تعالى: (إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)[الشورى : 42] والنمام منهم.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا يدخل الجنّة قاطع»(27) ـ أي قاطع بين الناس ـ ، والنمام قاطع بينهم، وقال (صلى الله عليه وآله): «شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه»(28) والنمام منهم.

 

النميمة:

نصّ القانون الإسلامي على حرمة النميمة وذمّ أهلها.

النميمة هي السعاية، ونمّ الحديث ينمّه سعى به ليوقع فتنة أو وحشة، والرجل نمّ ـ تسمية له بالمصدر ـ ، ونمام مبالغة، والاسم النميمة والنمم، قال في القاموس: النمّ الاغراء، ورفع الحديث إشاعة له وإفساداً، وتزيين الكلام بالكذب(29).

النميمة صفة خبيثة، ومزية رديئة، تجارة اللئام لقدح نار الخصام، وبضاعة الأوغاد لإيقاد نار الفساد، وهي سعاية كاسدة لغاية فاسدة.

النميمة مسبّبة عن اللؤم والحسد والخساسة، وربّما يعسر تحقّقها على النمام بدون زيادة أو نقصان، وبهذا تلازم الكذب والبغي والعدوان.

النميمة خيانة للأمانة، ونبذ للأمان، ومخالفة للأيمان، فالنمام خبيث خائن، وفاجر غادر، وشيطان بصورة إنسان.

النميمة إفشاء السرّ، وهتك الستر عمّا يكره كشفه، ويراد ستره، فإن كان ما ينمّ به عيباً ونقصاً في المحكي عنه كان النمام جامعاً بين الغيبة والنميمة، وكما تكون النميمة بصريح الكلام تكون بالاشارة والكتابة وأنواع الكتابة.

تتولّد من النميمة مفاسد كثيرة، أقلّها ايجاد التباعد غالباً بين المنقول عنه والمنقول إليه، ويترتّب عليها تحقّق العداوة، وربّما أدّت إلى حرب شعواء، وفتنة عمياء، ومن سبر السير والتاريخ، ونظر إلى أعمال ذوي النميمة في كلّ زمان عرف آثارها.

باع رجل عبداً له فقال لمن اشتراه منه: ما فيه عيب إلاّ النميمة، قال المشتري: رضيت به، فمكث العبد عنده أيّاماً ثمّ قال يوماً لزوجة مولاه إنّ سيّدي لا يحبّك وهو يريد أن يتزوّج عليك، فخذي الموسي واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتّى أسحره عليها فيحبّك، ثمّ قال لمولاه: إنّ امرأتك اتّخذت خليلا، وتريد أن تذبحك وأنت نائم، فتناومْ لها حتّى تعرف الحقيقة.

فتناومَ لها، فجاءت المرأة بالموسي ودنت منه، فجزم بصدق مقالة العبد، فقام إليها وقتلها وجاء أهل المرأة فقتلوه، ثمّ وقع القتال بين عشيرة الرجل وعشيرة المرأة، ودخل في تلك الحرب أحلافهما حتّى أشرفوا على الفناء(30)، وليس في البين سبب إلاّ النميمة، والتصوّرات الكاذبة التي اخترعها ذلك العبد الذي كان من آثار نميمته ما كان. ومن غرائب النميمة نميمة «عدي بن مرينا» وهي بشكلها سعاية عظيمة.

كان عدي بن مرينا من رجال العرب قبل الإسلام، وكان عارفاً باللسان الفارسي، وله عند ملوك الفرس منزلة حسنة، وبها نال مقاماً سامياً عند النعمان ملك الحيرة والعراق، فسعى عدي بن مرينا بكلّ ما قدر عليه من أساليب النميمة والسعاية عند النعمان ملك الحيرة بعدي بن زيد، حتّى كان ما ستقرأه من عجائب السعاية وغرائب النميمة.

 

حكاية عدي بن زيد، وعاقبة النميمة:

هو عدي بن زيد بن حماد بن أيّوب بن مجروف بن عامر بن عصية بن امرء القيس بن زيد مناة.

كان عدي هذا من الشعراء والأُمراء، وكانوا يقولون فيه: إنّ عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها مجراها. كان أحد أجداده ـ وهو أيّوب بن مجروف ـ نازلا بالحيرة متّصلا مع ملوكها، فكانوا يعرفون حقّه وحقّ ولده زيد، فلا يملك منهم ملك إلاّ ولولد أيّوب منه جوائز ومواهب.

وتزوّج زيد بن أيّوب إمرأة من آل قدام فولدت له حماراً، واتّفق أن خرج زيد يوماً يريد الصيد فعرض له رجل من بني امرؤ القيس فقتله، وكان حماراً حين قتل أبوه زيد صغيراً، وكان مع أُمّه بين أخواله، حتّى إذا أيفع حوّلته أُمّه إلى دار أبيه زيد، وتعلّم الكتابة حتّى صار من أكتب العرب، وتولّى الكتابة للنعمان ملك الحيرة، ورزق ولداً سمّاه زيداً باسم أبيه، وكان لحمار صديق من الدهاقين العظماء يقال له فروخ ماهان، فدفع إليه ولده زيداً ليعلّمه ما ينفعه، وأوصى به إليه عند موته، وكان الدهقان من المرازبة، فأخذ إليه وكان عنده مع ولده.

كان زيد قبل وفاة أبيه قد تعلّم الكتابة، وتصرّف في اللغة العربية، وعلّمه الدهقان اللغة الفارسية فأحسن التصرّف فيها، فبرز لبيباً حاذقاً محبوباً، وكان للدهقان مع كسرى أنوشروان محادثة ومواصلة، وكسرى يأخذ برأيه، فذكر له يوماً زيد بن حمّار وأشار عليه أن يجعله على البريد في حوائجه ففعل، ولم يكن كسرى يفعل ذلك إلاّ بأولاد المرازبة.

ولمّا هلك النعمان ملك الحيرة اتّفق أهلها على زيد، فملّكوه عليهم إلى أن جعل كسرى عليها المنذر بن ماء السماء، وتزوّج زيد نعمة بنت ثعلبة العدوية، فولدت له عدياً، ولمّا أيفع جعله أبوه مع شاهان بن المرزبان، فكان يتعلّم اللغة الفارسية والعربية وفنون الأدب حتّى خرج من أفهم أهل زمانه، وأعلمهم باللغة العربية والفارسية، وفنون الأدب والشعر، ورمي النبل، ولعب الصولجان، وركوب الخيل ببسالة العرب، وحرفة الفرس، وغرائب الشجاعة.

ولمّا وفد المرزبان على كسرى ودخل عليه، قال له: أيّها الملك السعيد إنّ عندي غلاماً من العرب ربّيته أحسن تربية، فجاء من أفصح الناس وأعلمهم بالعربية والفارسية، والملك محتاج الى مثله فإن رأى أن يثبته مع ولدي في صحبته فعل، فقال له كسرى: أدعه، فأرسل المرزبان بطلب عدي بن زيد فحضر، ولما دخل على كسرى ابتهر بجماله وحسن وجهه، وكانت الفرس تتبرّك بجميل الوجه، فكلّمه كسرى فوجده من أظرف الناس حديثاً، وأحضرهم جواباً، فرغب فيه وأثبته مع ولد المرزبان، فكان عدي أوّل من كتب بالعربية في ديوان كسرى أنوشروان، وشاع ذكره في الآفاق، وارتفع على ذكر أبيه.

ولمّا حضرت المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة الوفاة، أوصى بولده إلى قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه فيمن يملكه على الحيرة.

مكث قبيصة أشهراً وبيده زمام المملكة، وكسرى يفكّر فيمن يملكه عليها حتّى أشكل الأمر عليه، وملّ من تصادم الآراء عنده، فقال: لأبعثنّ إلى الحيرة اثني عشر ألفاً من الأساورة، ولأملكنّ عليها رجلا من الفرس، ولآمرنّهم أن ينزلوا على العرب في دورهم، ويملكون عليهم أموالهم ونساءهم.

وكان عدي بن زيد واقفاً بين يديه حين قال ذلك، فتغيّر وجه عدي فنظر إليه كسرى وقال له: ويحك يا عدي من بقي من آل المنذر، وهل فيهم أحد فيه خير، فقال عدي: نعم أيّها الملك السعيد إنّ في ولد المنذر لبقية فيهم كلّهم خير، فقال كسرى: ابعث إليهم فأحضرهم، فبعث إليهم عدي فأحضرهم وأنزلهم عنده.

وتفاهم مع النعمان أحدهم أن لا يستوحش من تفضيل اخوته عليه عنده وزيادة إكرامهم، فإنّ ذلك لاثبات قوله عندهم، وأنّه لا يسعى بالملك إلاّ له لنسابته وتربيته ورضاعه في بني عدي، ثمّ أخذ يعمل في تفضيل اخوة النعمان عليه في المنزلة والاكرام والملازمة، ويريهم أنّ النعمان غير قابل لهذا الأمر، وكان يخلو بهم رجلا رجلا ويقول: إذا أدخلتكم على الملك فالبسوا أفخر ثيابكم وأجملها، وإذا دعا لكم بالطعام لتأكلوا فتباطؤوا في الأكل وصغّروا اللقم ونزروا ما تأكلون.

فإذا قال لكم: أتكفوني العرب؟ قولوا: نعم، فإذا قال لكم: فإن شذّ أحدكم عن الطاعة وأفسد أتكفونيه، فقولوا: لا، لأنّ بعضنا لا يقدر على بعض، فيهابكم ولا يطمع في تفرّقكم، ويعلم أنّ للعرب منعة وبأساً، فقبلوا ذلك من عدي وجزم كلّ واحد بنصحه، وانفرد بالنعمان فقال له: البس ثياب السفر وادخل متقلّداً بسيفك، وإذا جلست للأكل فعظّم اللقم وأسرع المضغ والبلع، وزد في الأكل وتجوع قبل ذلك، فإنّ كسرى يعجبه كثرة الأكل من العرب خاصة، ويرى أنّه لا خير في العربي إذا لم يكن أكولا، ولا سيّما إذا رأى غير طعامه، وما لا عهد له بمثله، وإذا سألك: هل تكفيني العرب، فقل: نعم، فإذا قال لك: فمن لي باخوتك؟ فقل له: إن عجزت عنهم فإنّي عن غيرهم لأعجز.

 

انتشار مرض النميمة وعواقبه الوخيمة:

واجتمع عدي بن مرينا بالأسود بن المنذر، فسأله عمّا أوصاه به عدي بن زيد فأخبره، فقال له: غشّك وما نصحك، ولئن أطعتني خالفت كلّ ما أوصاك به، فيكون الأمر لك، وإن عصيتني يكون لأخيك النعمان، ولا يغرّنّك إكرامه وتفضيله لك على النعمان، فإنّ ذلك كلّه دهاء واحتيال عليك، فقال له الأسود: إنّ عدياً ناصح لي وهو أعلم منك بكسرى، وإذا خالفته أفسد عليّ أمري، وهو جاء بنا ووصفنا عند كسرى، وإلى قوله يرجع كسرى، فلمّا أيس ابن مرينا من قبوله لقوله قال له: ستعلم أيّنا الناصح لك.

 

دخول أولاد المنذر على كسرى:

أمر كسرى بدخول أولاد المنذر عليه فأدخلهم عدي بن زيد على كسرى فأعجبه جمالهم وكمالهم، ورأى رجالا قلّما رأى مثلهم، فدعا لهم بالطعام ففعلوا ما أمرهم به عدي بن زيد، فجعل كسرى ينظر إلى النعمان من بينهم، وقال لعدي بالفارسية: إن يكن في أحد منهم خير ففي هذا، فلمّا غسلوا أيديهم طلبهم كسرى رجلا رجلا، فيقول لكلّ واحد: أتكفيني العرب؟ فيقول: نعم، أكفيكها كلّها إلاّ اخوتي حتّى انتهى إلى النعمان، فقال له: أتكفيني العرب، قال: نعم.

قال: كلّها؟ قال: نعم، قال: فكيف لي باخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم من العرب أعجز، فملكه وخلع عليه وألبسه تاجاً قيمته ستّون ألف درهماً فيه اللؤلؤ والذهب، وآب النعمان رافلا بأبراد الملك والرياسة، تخفق عليه أعلام السلطنة، وقد نال تلك السلطنة بتدبير عدي بن زيد وسياسته وإحسانه له.

 

حبائل النميمة والاغتيال التي نصبها عدي بن مرينا لعدي بن زيد:

اجتمع عدي بن مرينا بالأسود بن المنذر فلامه على مخالفته له وإطاعة عدي بن زيد، وقال له: أما إذا فاتك الأمر فلا تعجزنّ أن تطلب بثارك من هذا العدوي الذي فعل بك ما فعل، وكنت أخبرتك انّه لا يؤمن كيده ومكره وأمرتك فعصيتني، فقال له الأسود: ماذا أصنع الآن؟

قال: أريد أن لا تأتيك فائدة من مالك إلاّ عرضتها عليّ كي أستعين بها مع ما عندي من المال على هذا الرجل، فقال له الأسود: أفعل ذلك ما بقيت، فجعل يرسل له ما زاد عنه من ماله، وكان عدي بن مرينا كثير المال من ضياعه ويأتيه من غيرها، فأخذ يرسل الهدايا والتحف إلى النعمان ملك الحيرة فلا يمرّ يوم إلاّ وعلى باب النعمان هدية من ابن مرينا، حتّى أصبح من أكرم الناس عليه، ولا يقضي أمراً في ملكه إلاّ برأيه واشارته، ولا يروم مفارقته أبداً.

وكان ابن مرينا يثني على عدي بن زيد إذا ذكر عند النعمان، ثمّ يقول: إنّ في عدي بن زيد مكراً وخديعة والعدوي لا يصلح إلاّ هكذا، ولمّا رأى الناس منزلة ابن مرينا عند النعمان، وعمل النعمان برأيه أحبّوه وكانت لهم منهم الرغبة والرهبة.

فلمّا تمّت لابن مرينا هذه الأسباب، أخذ يوصي من يثق به أن يقولوا بحضرة النعمان إذا ذكر عدي بن زيد بخير، إنّه كذلك ولكنّه لا يسلم منه أحد فإنّه يقول: إن ملكنا النعمان عامله، وإنّه هو الذي ولاّه.

وكان النعمان يسمع ذلك منهم فيتغيّر وجهه، وما زال ابن مرينا يعمل أنواع الدسائس والحيل، حتّى اسودّ قلب النعمان على عدي بن زيد، ثمّ كتب ابن مرينا كتاباً على لسان عدي بن زيد إلى قهرمان له، ثمّ أحضر الكتاب إلى النعمان بعد ظهورامارات وصوله إلى القهرمان، وفيه ما يوجب انتقام النعمان من عدي بن زيد.

فلمّا قرأه النعمان اشتدّ غضبه، وأرسل إلى عدي بن زيد يقول له: عزمت عليك إلاّ زرتني فإنّي قد اشتقت إليك ولا صبر لي عن لقائك، وكان عدي يومئذ عند كسرى، فاستأذن من كسرى فأذن له وقدم إلى الحيرة، فلمّا وصل إلى النعمان لم ينظر إليه بل حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، وهو من أشنع السجون وأشدّها ظلمة وأعظمها بلية.

 

حبس الصنّين وموقف عدي بن زيد فيه:

أودع عدي بن زيد في سجن الصنّين ـ وهو سجن المجرمين ـ فجعل عدي يقول الشعر وهو في الحبس ويرسله إلى النعمان ليخرجه من ظلمات حبس الصنّين، ويذكره بتفانيه في سبيله، والنعمان لا يرقّ له ولا يعطيه أُذناً واعية ولا يجازي الاحسان بالاحسان، حتّى كان مصداق قول علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «اتّق شرّ من أحسنت إليه»، ولمّا أيقن عدي بن زيد بعدم رقّة النعمان له، كتب إلى أخيه أبيّ وهو عند كسرى في المدائن هذه الأبيات:

ألا أبلغ أبيّاً على نأيه *** وهل ينفع المرء ما قد علم

بأنّ أخاك شقيق الفؤاد *** وكنت به واثقاً ما سلم

لدى ملك موثق في الحديد *** فأمّا بحق وأما ظلم

فلا أعرفنّك كدأب الغلام *** إذا لم يجد عار ما يعترم

فأرضك أرضك أن تأتنا *** تنم ليلة ليس فيها حلم

ولمّا قرأ أبيّ كتاب أخيه عدي، قام إلى كسرى وكلّمه في أمره وعرّفه خبره، فكتب كسرى إلى النعمان يأمره باطلاقه، وبعث رجلا من قبله مع الكتاب، وكتب سفير النعمان عند كسرى إلى النعمان يعلمه بأنّه قد كتب إليك في أمر عدي بن زيد فإيّاك والمخالفة، واستوثق أبيّ من رسول كسرى بما يقدر عليه في أمر أخيه عدي، وقال للرسول: تدخل عليه في الحبس قبل دخولك على النعمان وتعمل بما يأمرك به.

فجاء الرسول إلى الحيرة ودخل على عدي قبل النعمان، فوجده موثقاً بالحديد في حبس الصنّين وأنفاسه أحرّ من جمر الغضا، فقال له: إنّي قد جئت بارسالك إلى كسرى فما عندك، قال: لك عندي الذي تحبّ، ووعده بعدة سنية وقال له: لا تخرج من عندي وأعطني الكتاب حتّى أرسله إليه، فإنّك والله إن خرجت من عندي لأقتلنّ، فقال له الرسول: لا أقدر إلاّ أن آتي الملك بالكتاب وأوصله إليه، فجعل عدي يكلّمه وهو مقيّد والرسول يجيبه وهو مطلق، وخرج من عنده ليقابل النعمان بالكتاب وينال منه جميل المواهب.

وكان أعداء عدي قد علموا بما جاء به الرسول من عند كسرى، فأقبلوا إلى النعمان وقالوا له: إنّ رسول كسرى قد دخل على عدي في الحبس، ولئن ذهب عدي إلى كسرى لم يستبق منّا أحداً أنت ولا غيرك، فأمرهم النعمان حينئذ بقتل عدي في الحبس، وإخفاء أمره، وأن يأمروا حرس الحبس بالاخبار عنه بأنّه مات قبل هذا بأيّام، فذهب أعداءه باشارة النعمان إلى الحبس وقتلوه وأخفوه وأفهموا الحرس ما أمرهم به النعمان.

دخل رسول كسرى على النعمان وأعطاه الكتاب، فقال له: نعم أفعل ذلك وكرامة، ثمّ أمر للرسول بأربعة آلاف مثقال ذهباً وجارية حسناء، وقال له: إذا أصبحت فادخل أنت بنفسك الحبس وأخرج عدياً منه.

فلمّا أصبح الرسول دخل الحبس، فأعلمه الحرس انّ عدياً قد مات من أيام ولم نجترء على اخبار الملك خوفاً منه لعلمنا بكراهته لموته، فرجع الرسول إلى النعمان وقال له: إنّي دخلت على عدي بن زيد نهار أمس وهو حي لا مرض فيه، واليوم منعني الحرس وبهتوني بقولهم انّه قد مات منذ أيّام، فقال له النعمان: أيبعث بك الملك إليّ فتدخل عليه قبلي، كذبت وأردت الرشوة، ثمّ تهدّده وزاده بعد التهديد جائزة سنية، وتوثق منه أن لا يخبر كسرى إلاّ أنّه قد مات عدي قبل وصوله بأيّام، فرجع الرسول إلى كسرى وقال له ما أمره به النعمان.

فانظر إلى آثار النميمة والسعاية كيف بدّلت الحقائق وجرت على المحسن الاساءة، كيف أوغرت صدر النعمان على عدي بن زيد حين أودعه ظلمات حبس الصنين، وأرضى بقتله أعداءه وأعداء من أنعم عليه بكلّ ما لديه. كيف أُعدّت للنعمان أسباب الهلاك والدمار جزاءً لبغيه على من أحسن إليه.

 

ندامة النعمان على قتله لعدي وإحسانه لولده زيد:

ظهر للنعمان بعد قتله لعدي أنّه خُدع في أمره، وأنّ أعداءه وأعداء عدي هم الذين أغروه بقتله، وتحقّق له ذلك حين بدت جرأتهم عليه وعدم مبالاتهم به، وانقطعت عنه مواصلاتهم فهابهم هيبة شديدة، وأدرك أنّه لا يثق به عاقل بعد بغيه وغدره بمن كان السبب في نعمته وسلطانه مع ماله من التربية والخدمة، فضاق صدره لذلك وانتبه من غفلته وندم حيث لا ينفع الندم.

أخذ النعمان يبحث عن ولد عدي، فاتّفق أنّه خرج ذات يوم للصيد فلقي زيد بن عدي ولم يكن رآه قبل ذلك، فعرفه بشبه أبيه عدي، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا زيد بن عدي بن زيد، فكلّمه فرآه كاملا ظريفاً، ففرح به فرحاً شديداً وقرّبه منه وأعطاه، ثمّ اعتذر إليه من أمر أبيه، وجهّزه وكتب إلى كسرى أنّ عدياً كان ممّن أعين به الملك في نصحه وليه، فأصابه ما لابدّ منه وانتهت مدّته وانقضى أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتي به، وأمّا الملك فلم يكن ليفقد رجلا إلاّ جعل الله له منه خلفاً لما عظّم الله من ملكه وشأنه، وقد بلغ ابن له ليس بدونه، رأيته يصلح لخدمة الملك، فسرّحته إليه فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه فليفعل، وليصرف عمّه عن ذلك إلى عمل آخر.

ولما قدم زيد بن عدي على كسرى أعجبه ما به من أنواع الأدب والكمال، فجعله مكان أبيه وصرف عمّه إلى غيره من الأعمال، فكان زيد يلي المكاتبة عن كسرى إلى ملوك العرب في أُمورها، وفي خواص أُمور كسرى، وله من ملوك العرب الهبات والجوائز، وكسرى يقرّبه ويدنيه ويسأله عمّا يريده، فإذا سأله عن النعمان يحسن ذكره والثناء عليه.

 

إطاعة النمام بغي، وعلى الباغي تدور الدوائر:

كانت لملوك الفرس عادة فيما يرجع لأمر النساء، يجرونها في البلاد التي ساد فيها سلطانهم، كانت عادتهم إرسال السعاة في البلاد ومعها صفات النساء التي تروم الدخول بها ملوكهم وأبناؤها، فإذا وجد الساعي فتاة تنطبق عليها الصفات المكتوبة حملها إلى الملك ونال ما يبتغيه من الطرفين، ولم تكن سعاتهم تجوب البلاد العربية لظنّهم أنّه لا توجد فيها فتاة تتّصف بالصفات المطلوبة، كانوا لا يعلنون بهذا الطلب، ولا يطلعون عليه إلاّ السعاة المتخصّصين لذلك.

فاتّفق لزيد بن عدي الاطلاع على تلك الصفات التي كتبها كسرى لبعض السعاة، فجاء إلى خدمة كسرى وقال له: إنّي رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له وقرأت الصفة، وقد كنت بآل النعمان عارفاً، وعند عبدك النعمان من بناته وأخواته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة.

فقال كسرى: أُكتب له فيهنّ، فقال زيد: أيّها الملك إنّ شرّ شيء في العرب وفي النعمان خاصّة، أنّهم يتكرّمون في أنفسهم ويأنفون عن العجم، وإنّي أخاف أن يغيبهنّ عمّن تبعثه إليه، أو يعرض عليه غيرهنّ، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك، فابعثني وابعث معي رجلا من ثقاتك يفهم بالعربية، حتّى أبلغ ما تحبّه، فأرسله وبعث معه رجلا يفهم بالعربية من أهل البصيرة والجلد.

فخرج به زيد وجعل يكرمه ويلاطفه حتّى بلغ الحيرة، ولما دخل على النعمان تواضع له وذكر أمر كسرى وأعظمه، وقال: إنّه قد احتاج إلى نساء لنفسه وولده وأهل بيته، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك، وذكر صفة النساء التي يريدها كسرى، فشقّ ذلك على النعمان، وقال لزيد والرسول يسمع: أما في مها السواد، وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟

فقال الرسول لزيد بالفارسية: ما المها والعين؟ فقال له زيد بالفارسية: كاوان ـ  أي البقر ـ فأمسك الرسول، وقال زيد للنعمان: إنّما أراد الملك كرامتك، ولو علم أنّ هذا يشقّ عليك، لم يكتب إليك به، فأنزلهما النعمان عنده وأكرمهما وكتب إلى كسرى: إنّ الذي يطلبه الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرني عند الملك.

ولمّا رجع زيد إلى كسرى، قال للرسول: أصدق الملك بما سمعت، فإنّي سأُحدّثه بمثل حديثك، ولا أُخالفك فيه، فلمّا دخلا على كسرى دفعا إليه كتاب النعمان فقرأه وفهم ما فيه، فقال لزيد: وأين الذي كنت خبرتني به؟ قال زيد: قد كنت خبرتك بضنّهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم ومن اختيارهم الجوع والعرى على الشبع، وايثارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتّى أنّهم يسمّونها السجن، فاسأل هذا الرسول الذي كان معي عمّا قاله النعمان، فإنّي أكرم الملك عن مشافهته بما قاله وأجاب به.

فقال كسرى للرسول: وما قال؟ فقال له الرسول: أيّها الملك إنّه قال: أما كان في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتّى يطلب ما عندنا، فعرف الغضب في وجه كسرى، ووقع في قلبه ما وقع، لكنّه لم يزد على أن قال: ربّ عبد قد أراد ما هو أشدّ من هذا، ثمّ صار أمره إلى التباب.

وشاع هذا الكلام عن كسرى حتّى بلغ النعمان، سكت كسرى عن النعمان أشهراً، وفي قلبه ما فيه على النعمان، والنعمان يتوقّع انتقام كسرى منه، فبينما هو على تلك الحالة إذ وافاه كتاب كسرى يقول فيه: أن أقبل فإنّ للملك حاجة إليك.

 

خروج النعمان عن مملكته وتجوّله في العرب:

قرأ النعمان كتاب كسرى فانكسر منه ظهره، وخرج من الحيرة قبل بزوغ فجر ليلته هارباً بأهله، وما خفّ حمله حتّى لحق بطي، وأراد منهم الامتناع في جبالهم فأبوا عليه، وقالوا له: لولا صهرك معنا لقتلناك، فإنّه لا حاجة لنا إلى معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به، فذهب يطوف في قبائل العرب ولا يقبله منهم أحد، حتّى نزل على بني رواحة ـ وهم حي من عبس ـ ، فقالوا له: إن شئت قاتلنا معك، وكانت له عليهم منّة، فقال لهم: لا أحبّ هلاككم فإنّكم غير قادرين على منعي.

واجتاز تلك القبائل والبلاد حتّى نزل بذي قار في بني شيبان، فلقي هاني بن قبيصة واستجار به، فقال له هاني: أنا أمنعك ممّا أمنع نفسي وأهلي وولدي منه، وإنّ ذلك غير نافعك لأنّه مهلكي ومهلكك، وعندي رأي لك لست أُشير به عليك لأدفعك عمّا تريده من جواري ولكنّه الصواب، فقال له النعمان: هاته، فقال هاني: كلّ أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه إلاّ أن يكون بعد الملك سوقة، والموت نازل بكلّ أحد، ولأن تموت كريماً خير أن تتجرّع الذلّ أو تبقى سوقة بعد الملك، فامض إلى كسرى واحمل له الهدايا والأموال وألق نفسك بين يديه، فأمّا أن يصفح عنك فتكون ملكاً عزيزاً، وأمّا الثانية فالموت خير من أن تتلاعب بك صعاليك العرب، وتعيش فقيراً وتقتل مقهوراً، وهو لا يليق بك، فقال النعمان: وكيف لي بحرمي، قال: هنّ في ذمّتي كبناتي.

فقال النعمان: هذا هو الرأي الصحيح ولن أُجاوزه أبداً، ووجّه النعمان من وقته بالخيل والحلل والجواهر إلى كسرى مع رسوله، وكتب إليه يعتذر ويعلمه أنّه متوجّه إليه، فقبلها كسرى وأمره بالقدوم إليه، فعاد إليه الرسول وأخبره بذلك وأعلمه انّه لم ير من كسرى عليه سوء، ولم يجد له عنده إلاّ كرامة.

وتوجّه النعمان من حينه بعد اطّلاعه على جواب كسرى وما قاله رسوله، ولم يزل يجد السير حتّى وصل إلى المدائن، ولمّا مرّ على قنطرة ساباط لقيه زيد بن عدي، فقال له زيد: انج نعيم إن استطعت النجاة، فقال له النعمان: أفعلتها يا زيد أما والله لئن عشت لأقتلنّك قتلةً لم يقتلها عربيّ قط، ولألحقنّك بأبيك.

فقال له زيد: إمض لشأنك نعيم فقد والله آخيت لك آخية لا يقطعها المهر الأرن، ولمّا بلغ كسرى أنّ النعمان بالباب بعث إليه فقيّده وبعث به إلى السجن بخانقين، ولم يزل فيه حتّى مات بمرض الطاعون، وقيل مات بحبس ساباط.

فانظر إلى نتائج النميمة والسعاية، كيف بدّلت محاسن عدي بن زيد وأياديه الجميلة عند النعمان، حتّى قضت على عدي وسبّبت زوال ملك النعمان عن الحيرة والعراق، وذهبت بحياته ومزّقته وأهله ففرّقتهم أيدي سبا.

فمهما شدّد القانون الإسلامي على تحريم النميمة والسعاية، ووبّخ أهلها، فذلك كلّه من الحكمة التامّة، والنظام الربّاني، لحفظ انتظام الإنسان في كونه الأوّل والثاني.

 

النصوص الشرعية في حرمة النميمة:

جاء النصّ في القانون الإسلامي على تحريم النميمة وذمّ أهلها، وبيان سوء عاقبتهم.

1 ـ سورة القلم:

فقال سبحانه: (ولا تطع كلّ حلاّف مهين  هماز مشّاء بنميم  منّاع للخير معتد أثيم  عتلّ بعد ذلك زنيم)[القلم : 10-13].

جمعت هذه الآية الشريفة، نفائس المواعظ والحكم، وهي بصورة الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنّه سبحانه نهاه عن إطاعة الحلاّف المهين ـ أي كثير الحلف الكاذب في حلفه ـ والمهين من الاهانة لكونه كذوباً، لأنّ المعروف بالكذب مهان عند العقلاء، والهمّاز هو الوقّاع في أعراض الناس المغتاب لهم.

والمشّاء بنميم هو الساعي بالنميمة بين الناس، ليضرب بعضهم ببعض، ومن كان متّصفاً بهذه الصفة، فهو منّاع للخير الذي يراد بالعباد، من اتّحادهم وائتلافهم، ورفع التصادم والتضارب من بينهم فهو معتد أثيم، لأنّه تجاوز حدّه وتعدّاه، وتحمّل الاثم العظيم بسعايته بين العباد بفرقتهم. والعتلّ هو الفاحش السيّئ الخلق. والزنيم هو الدعي الملصق بقومه المتولّد من زنا، وربّما فهم بعضهم من تمام الآية أهل النميمة غالباً لا ينتمون إلى من إليه ينسبون.

2 ـ سورة الهمزة:

وقال سبحانه: (بسم الله الرحمن الرحيم  ويل لكلّ همزة لمزة  الذي جمع مالا وعدّده  يحسب أنّ ماله أخلده  كلاّ لينبذنّ في الحطمة  وما أدراك ما الحطمة  نار الله الموقدة  التي تطلع على الأفئدة  إنّها عليهم مؤصدة  في عمد ممدّدة) [سورة الهمزة].

لا يخفى عليك أنّ الويل كلمة تستعمل في مقام سوء الحال والاهانة والعذاب لمن يوجّه إليه الويل، وقيل: أنّه في هذه الآية وأمثالها يراد بها وادي عظيم في جهنّم لبيان التهديد والوعيد من الله سبحانه لمن خالف أمره ونهيه، والهُمزة واللمزة بمعنى واحد، وهو المغتاب العيّاب المشّاء بالنميمة، الساعي بين العباد بما يوجب فرقتهم، والتنابذ بينهم، فهو لمخالفته لأمر الله ونهيه، أعدّ له ذلك الويل، وهو ذلك العذاب العظيم.

ولا ينفعه ما جمعه من المال وعدّده وأحصاه، وأعدّه لمهمّاته وكشف البلاء والكرب عنه، حتّى أنّه يحسب أنّ ماله أخلده، فلا يظنّ أنّ ماله أخلده في الدنيا أو يدفع عنه العذاب في الآخرة، كلاّ ليس الأمر كما ظنّ، بل الحقّ أنّه لينبذنّ في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، هي نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، لأنّها نار أعدّها سبحانه لمن غضب عليهم، فحرّها يصل إلى أفئدتهم وهي عليهم مؤصدة ـ  أي مطبقة عليهم ـ ، في عمد ممدّدة، يأمر الله سبحانه العمد ـ وهي الأعمدة ـ بالمدّ فتمتدّ، فلا يقدرون على الخروج منها بعد انطباقها عليهم.

هذا جزاء المخالفين لأمر الله ونهيه، أهل الهمز واللمز، الساعين بالنميمة بين العباد، أجارنا الله من هذه الصفات الرديئة.

3 ـ سورة تبّت:

وقال سبحانه: (بسم الله الرحمن الرحيم  تبّت يدى أبي لهب وتب  ما أغنى عنه ماله وما كسب  سيصلى ناراً ذات لهب  وامرأته حمّالة الحطب  في جيدها حبل من مسد) [سورة تبّت].

في مجمع البيان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)ذات يوم الصفا، فقال رافعاً صوته: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش فقالوا له: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدّقون؟ قالوا: بلى، قال: فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد. فقال له أبو لهب: تبّاً لك لهذا دعوتنا جميعاً، فأنزل الله سبحانه على رسوله هذه السورة(31).

ومعنى تبّت يدى أبي لهب وتب، خسرت يداه وخسر هو، وإنّما نسب الخسران إلى اليد لأنّ الأعمال تكون باليد، فقد خسر عمله وخسر نفسه لأنّه من أهل النار.

وكان اسمه عبد العزى ـ والعزى هو أعظم صنم كانوا يعبدونه ـ ، ولم يذكره سبحانه باسمه كراهية أن ينسبه إلى عبادة غيره، وكان أبو لهب أشدّ الناس تكذيباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال طارق المحاربي: بينا أنا بسوق ذي المجاز، إذ أنا بشاب يقول: أيّها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا، وإذا برجل خلفه يرميه قد آذى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيّها الناس انّه كذّاب فلا تصدّقون، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمّد (صلى الله عليه وآله)يزعم أنّه نبيّ، وهذا عمّه أبو لهب يزعم أنّه كذّاب(32).

ولم ينتفع أبو لهب برياسته واعتباره، ونسبه وحسبه، وما أغنى عنه ماله وما كسب من حطام الدنيا، ولا يدفع عنه العذاب الذي أعدّه الله تعالى له، فإنّه سيصلى ناراً ذات لهب ـ أي ذات قوّة واشتعال تلهب لهيباً عظيماً ـ وهي نار جهنّم.

ولمّا نزلت هذه السورة كان بعض التابعين لرسول الله مرتاباً بما صرّحت به من أمر أبي لهب، بأنّه من أهل النار، لأنّه كان يحتمل ايمانه بالله بعد نزول السورة، فلمّا مات أبو لهب على كفره وضلالته وعبادته للأصنام، زال منه ذلك الريب والحمد لله.

وكانت امرأة أبي لهب ـ وهي أُمّ جميل بنت حرب أُخت أبي سفيان ـ على وتيرة زوجها (أبي لهب) من تكذيب رسول الله وعداوته، بل ازدادت عداوتها فأوقدت نار الفتن بين عباد الله بالنميمة والسعاية تريد بذلك اطفاء نور الله.

فهي تارةً تحمل شوك الحطب فتضعه في طريق من آمن بالله ورسوله عداوةً لله ورسوله، وتارةً تحمل من عجائب النميمة والسعاية لاشعال نار الفساد، ما هو أعظم من حمل الحطب لاشعال النار ذات الرماد، وكانت بالحقيقة بارعة في أساليب النميمة والسعاية ونفثات الكذب.

فالكناية اللطيفة عنها، والتشبيه الحسن لها، بأنّها حمّالة الحطب حيث أنّها سعت حاملة أوزار النميمة، وهي أشدّ تأثيراً من حمل الحطب لايقاد النار.

هذا هو الذي يحسن من التفسير، لأنّ أُمّ جميل لها مكانة في قريش لا تنكر ـ  وهي زوجة أبي لهب ـ وماله وثروته ومكانته لا يجهل أحد شيئاً منها، ولا تناسب بين هذا وبين حملها الحطب، إلاّ كما عرفت من الكناية اللطيفة والتشبيه الحسن.

وبمناسبة تشبيهها بحمّالة الحطب، مع ترفعّها عن حمله، ناسب بيان جزائها بصفة تلائم حمل الحطب، فبيّن سبحانه جزاءها على لؤمها وخبثها وسوء صنيعها أنّه سيكون في جيدها حبل من مسد، فهي مع كونها ستصلى كزوجها ناراً ذات لهب، يكون في عنقها حبل يراه الناظر إليه أنّه من ليف، تحقيراً وتشهيراً لها، ويكون لذلك الحبل خشونة الليف، وحرارة النار، وثقل الحديد يجعل في عنقها زيادةً في عذابها، لأنّها نمّامة فاجرة مكذّبة غادرة، شديدة العداوة لله ولرسوله.

وكانت لها قلادة من الجوهر الفاخر، أنفقتها في عداوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحاربته، ولمّا نزلت السورة في حقّ زوجها اشتدّ غيظها وتفاقم أمرها، حتّى كادت تقتل نفسها تغيّظاً وزفيراً.

قالت أسماء بنت أبي بكر: لمّا نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أُمّ جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول: مذمماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصيناه، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً في المسجد، فلمّا رآها أبو بكر مقبلة نحو النبي جاء إليه، وقال: يا رسول الله انّها قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال له: انّها لن تراني وجعل يقرأ قوله سبحانه: (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) [الاسراء : 45].

فجاءت وقالت لأبي بكر: أخبرت أنّ محمّداً هجاني؟ فقال لها: وربّ البيت ما هجاك، فولّت وهي تقول: قريش تعلم أنّي بنت سيّدها(33).

ولم تزل بنت حرب تحمل أوزار النميمة، وتوقد نار الحرب عناداً لله ولرسوله، حتّى أراح سبحانه منها العباد، وأعدّ لها نار جهنّم يوم المعاد، (ولا يظلم ربّك أحداً) [الكهف : 49].

4 ـ سورة التحريم:

وقال سبحانه: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [التحريم : 10].

إنّما ضرب الله سبحانه هذا المثل للذين كفروا، ليعلمهم أنّه لا نجاة من عذابه إلاّ بطاعته، فلا ينتفع العاصي بقرابته من نبي أو وصي نبي.

 

خيانة امرأة نوح:

كانت امرأة نوح مع جحودها وكفرها باطناً وتظاهرها بالايمان نمّامة تسعى بالفساد بين العباد، فإذا دبّر نوح (عليه السلام)أمراً أو آمن به أحد سرّاً، أخبرت امرأته جبابرة قومه بذلك، ولم تزل تبذل العناية في تبليغ ما تراه وتسمعه من نوح (عليه السلام)لقومه، غير مبالية بإفشاء سرّ زوجها، ولا مفكّرة بأنّه خيانة منها، لأنّ افشاء السرّ من أكبر الخيانات، لا سيّما إذا كان بنحو السعاية وقصد الفساد، ولذلك وصفها سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بالخيانة.

فهذه من جهة إسرارها الكفر واظهارها الايمان، ومن جهة أنّها تفشي سرّ زوجها وصفت بالخيانة، وربّما توهم من لا علم له بالحقائق أنّها كانت تخون زوجها في نفسها، وهذا توهّم فاسد، لأنّ نساء الأنبياء منزّهات عن فعل الفاحشة.

 

خيانة امرأة لوط:

كانت امرأة لوط جاحدة به، شاكّة في أمره، كافرة بالله سبحانه، تخبر قوم لوط بما يوحى إليه، وتعلمهم حديثه مع من آمن به، وتدلّهم على أضيافه إذا نزلوا عليه، ليرتكبوا منهم فاحشة اللواط، وهي تعلم كراهية لوط لذلك كلّه، فهي نمّامة فاجرة،وغادرة خائنة، ولذلك قرنهاسبحانه بامرأة نوح في صفة الخيانة، لاسرارها الكفر وتظاهرها بالايمان، وافشائها سرّ لوط، فهذه خيانتها لا سوى ذلك.

فانظر نظر الملتفت إلى ما يحكم به العقل، وما تراه من الآيات، لتعلم علم اليقين أنّه لا نجاة لأهل النميمة والخيانة والكفر والجحود، مهما كانت لهم من الأنبياء والأوصياء والمتّقين والأولياء قرابة قريبة، ورحم ماسة.

لا أراك إلاّ تحكم باستحالة المحاباة في محكمة العدل الإلهية مهما كان للأنبياء والأوصياء فيها سفارة ونقابة، أمّا الشفاعة لمن أذن الله سبحانه له بالشفاعة، فإنّما هي في المخالفات البسيطة والاساءة عن جهالة، هذا بالنسبة للحقّ العام ـ أي بالنسبة لحقّ الله تعالى ـ ، وأمّا الحقّ الخاص ـ أي حقوق الناس ـ ، فإنّ الشفاعة لا دخالة لها به، ولا يسقط حقّ ذي حقّ إلاّ برضاه، والتصديق بسوى ذلك يوجب طرح الأوامر الربانية والقوانين السماوية، وهي ناموس انتظام الإنسان في الدنيا، وطريقه إلى الحياة الدائمة.

 

كلام صاحب الدعوة الإسلامية:

وقال صاحب الدعوة الإسلامية الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله) في النهي عن النميمة وذمّ أهلها وبيان ما أعدّه الله سبحانه لهم من العقاب: «لا يدخل الجنّة نمّام، لا يدخل الجنّة قتات»(34) ـ القتات هو النمّام ـ .

وقال (صلى الله عليه وآله): «أحبّكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً، المواطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبغضكم إلى الله المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الاخوان، الملتمسون للبراء العثرات»(35).

وقال (صلى الله عليه وآله): «ألا أُخبركم بشراركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبّة، الباغون للبراء العيب»(36).

وقال (صلى الله عليه وآله): «من أشاع على مؤمن بكلمة ليشينه بها بغير حق شانه الله بها يوم القيامة»(37).

وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل جاءه يسعى برجل ينمّ عليه: «يا هذا نحن نسأل عمّا قلت فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك» قال الرجل حين سمع هذا: أقلني يا أمير المؤمنين، فأقاله ونهاه عن ارتكاب النميمة والسعاية(38).

قال عمر بن عبد العزيز لمن حدّثه عن بعض رجاله بما يكره: يا هذا ننظر في قولك فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا)[الحجرات : 6] وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية (همّاز مشّاء بنميم)[القلم : 11].

رفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة يذكر له فيها مالا كثيراً لولد يتيم ثمّ يحرّضه على أخذه، فكتب له الصاحب بن عباد على ظهر تلك الرقعة:

«السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكاً في مستور، ولولا أنّك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوقّ يا ملعون العيب فإنّ الله أعلم بالغيب، الميّت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمرة الله، والساعي لعنه الله».

نعم بمثل هذا الجواب يسدّ باب النميمة، وتبطل عمال السعاية عند الزعماء وأهل الأمرة والرياسة.

 

الاصغاء إلى النميمة أقبح من النميمة:

لا ريب في قبح الاصغاء إلى النميمة وترتيب الأثر عليها، فإنّ كامل العقل، سليم القلب، قويّ الادراك، قرين الحكمة، تأبى له صفاته قبول السعاية والنميمة من أهلها، قال بعضهم: لو صحّ ما قاله النمّام إليك لكان هو المجتري بالشتم عليك، والمقول عنه أولى بحلمك، لأنّه لا يقابلك بشتمك(39).

قال بعض الملوك لأحد جلسائه: بلغني أنّك قلت فيّ قولا لا ينبغي صدوره منك، فقال له الرجل: ما قلت ذلك، فقال له الملك: إنّ الذي أخبرني لصادق، فقال له الرجل: لا يكون النمّام صادقاً، فأطرق الملك مليّاً ثمّ قال له: صدقت(40).

زار حكيماً بعض أصدقائه، فأخبره بخبر عن صديق له يوجب مقته عند ذلك الحكيم، فقال الحكيم لمن أخبره: قد أبطأت في زيارتنا، وأتيت بثلاث جنايات: بغضب أخي عليّ، وبشغل قلبي الفارغ، وباتّهام نفسك الأمينة(41).

وقال لقمان لابنه: يا بني أُوصيك بخلال إن تمسّكت بهنّ لم تزل سيّداً، أبسط خلقك للقريب والبعيد، وامسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ اخوانك، وصل أقاربك، وآمنهم من قبول قول ساع أو سمّاع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك(42).

وقال رجل لبعض الأُمراء العرفاء: إنّ فلاناً لم يزل يذكرك بشرّ، فقال له ذلك الأمير: يا هذا ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدّيت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، واعلم إنّ الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين(43).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) الدرّ المنثور 1 : 469 سورة البقرة.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 178 باب 77.

(3) الصحيفة السجادية، الدعاء السادس والأربعون، من أدعية يوم الفطر والجمعة; وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 178 باب 77.

(4) تكأّد الشيء: تكلّفه، وتكاءَدَني الأمر: شقّ عليّ.

(5) الصحيفة السجادية، الدعاء 16، في الاستقالة من ذنوبه (عليه السلام); وشرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 180 باب 77.

(6) الصحيفة السجادية، الدعاء الثاني والثلاثون، بعد الفراغ من صلاة الليل; وشرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 183 باب 77.

(7) الصحيفة السجادية، الدعاء الثامن في الاستعاذة من المكاره; وشرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 185 باب 77.

(8) الصحيفة السجادية، الدعاء الأوّل والثاني; وشرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 185 باب 77.

(9) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 187 باب 77.

(10) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 188 باب 77.

(11) البحار 39 : 132 ح4; وشرح النهج لابن أبي الحديد.

(12) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 189 باب 77.

(13) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 189 باب 77.

(14) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 189 باب 77.

(15) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 190 باب 77.

(16) شرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 190 باب 77.

(17) ارشاد القلوب : 149 ، الباب السابع والأربعون.

(18) ارشاد القلوب : 149 باب 47.

(19) راجع روضات الجنات 1 : 149 رقم 34.

(20) ارشاد القلوب : 149.

(21) المصدر نفسه.

(22) ارشاد القلوب : 151.

(23) مهج الدعوات : 245 ، عنه البحار 48 : 245 ح52.

(24) راجع البحار 95 : 212 ح5.

(25) البحار 64 : 260 ح9.

(26) البحار 75 : 268 ح19; المحجة البيضاء 5 : 276.

(27) مستدرك الوسائل 15 : 184 ح17947; المحجة البيضاء 5 : 279.

(28) البحار 7 : 217 ح119; المحجة البيضاء 5 : 279.

(29) القاموس المحيط : 1503 / النمّ.

(30) المحجة البيضاء 5 : 279، نحوه.

(31) مجمع البيان، سورة تبّت.

(32) مجمع البيان، سورة تبت.

(33) مجمع البيان، سورة تبت; والبحار 18 : 72 ح26.

(34) البحار 75 : 268 ح19.

(35) البحار 71 : 382 ح17; والمحجة البيضاء 5 : 275.

(36) البحار 75 : 212 ح1; والمحجة البيضاء 5 : 275.

(37) المحجة البيضاء 5 : 276.

(38) البحار 75 : 266 ح13; والمحجة البيضاء 5 : 278.

(39) المحجة البيضاء 5 : 279.

(40) المحجة البيضاء 5 : 278.

(41) المحجة البيضاء 5 : 278.

(42) المحجة البيضاء 5 : 279.

(43) نحوه في البحار 75 : 246 ح8، عن عليّ بن الحسين (عليه السلام).