الفصل الخامس عشر
الاكثار من ذكر الموت
«وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلاْخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لاَ لِلْحَيَاةِ; وَأَنَّكَ فِي منزل قُلْعَة، وَدارِ بُلْغَة، وَطَرِيق إِلَى الاْخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلاَ يَفُوتُهُ طَالِبُهُ، وَلاَبُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ، فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَى حَال سَيِّئَة، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ.
يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ، وَلاَ يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْض، وَيَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا. نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا، وَرَكِبَتْ مَجْهُولَهَا. سُرُوحُ عَاهَة بِوَاد وَعْث، لَيْسَ لَهَا رَاع يُقِيمُهَا، وَلاَ مُسِيمٌ يُسِيمُهَا. سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُوهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا.
رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلاَمُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الاَْظْعَانُ; يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ!».
* * *
خُلقنا للآخرة:
قوله (عليه السلام): «إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلاْخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا».
لأنّه لو كان مخلوقاً للدنيا، فإنّ نفعه والانتفاع به منصرم لا محالة، والإنسان إنّما كون لأن يفيد ويستفيد مع الخلود، إمّا بوجود الماثل بين الموجودات، أو بأثره الخالد بين طيّات القلوب من علم ناجع، وأخلاق حميدة، وضرائب جميلة.
وأمّا أنّه خلق للفناء لا للبقاء، فتلك سنّة الله التي جرت في عامة مخلوقاته، (فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا) [فاطر : 43] ولا يناقض هذا ما ذكر من أنّ مصير الإنسان غير منته إلى النفاد، وإنّما هو انتقال من دار إلى أُخرى، وليس النافد هاهنا منه إلاّ صورته البائدة، وجسمه البالي، على حد قول أبي العلاء المعرّي:
خلق الناس للبقاء فضلّت *** أُمّة يحسبونها للنفاد
إنّما ينقلون من دار أعمال *** إلى دار شقوة أو رشاد
وأمّا هو ذاته فلا يعروه النفاد في أثره، بل هو باق ما تسنّم المولى عرش ملكه.
وأمّا أنّه خلق للموت لا للحياة، فإنّ الموت وإن كان مكدراً لهناء الإنسان، ومنغّصاً لشهواته ما خطرت له خاطرة منه، فإنّه جمال الإنسان وجمام نفسه، وساتر عواره، بل فيه سعادته وكماله ما اتّخذ الطريق اللاّحب منهجاً له، ولا تبعد عنك الأحاديث الشريفة التي تصوّر من الموت شيئاً محبباً إلى القلوب، فقد جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «تحفة المؤمن الموت»(1)، وقال: «الموت كفّارة لكلّ مسلم»(2).
وقال: «الموت الموت ألا ولابدّ من الموت، جاء الموت بما فيه، جاء بالروح والراحة، والكرة المباركة إلى جنّة عالية لأهل دار الخلود، الذين كان لها سعيهم، وفيها رغبتهم»(3)، إلى أمثالها من الكثير الطيب، غير أنّه غير عازب عن فكرة الإنسان النابه، أنّ المراد من مفاد هذه المأثورات من سلك الطريق الجدد في دينه، أو تنكب العيث(4) والعبث في سلوكه، وإلاّ فليس من المعقول أن يرتكب الإنسان مظاهر الخلاعة والمجون، ثمّ ينتهي أمره إلى نعومة الخاطر ورغد العيش، فليس ذلك بمقربة من العدل الإلهي.
أسباب الخوف من الموت وعلاجه:
نذكر هنا أسباب الخوف من الموت مع العلاج الناجع لكلّ سبب، وأشهر هذه الأسباب خمسة:
1 ـ عدم معرفة حقيقة الموت:
ليس الموت بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها ـ وهي الأعضاء التي يسمّى مجموعها بدناً ـ ، كما يترك الصانع استعمال آلاته، والنفس جوهر ليس بجسم ولا عرض ولا قابل للفساد، وهذا الجوهر مفارق لجوهر البدن مباين له كلّ المباينة بذاته وخواصه وأفعاله وآثاره، فإذا فارق البدن بقي البقاء الذي يخصّه، وتخلص من علائق الطبيعة، ولا سبيل إلى فنائه وعدمه، فإنّ الجوهر لا يفنى من حيث هو جوهر، ولا تبطل ذاته، وإنّما تبطل الاعراض والنسب والاضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها، فأمّا الجوهر فلا ضدّ له، وكلّ شيء فإنّما فساده من ضدّه.
وإن تأمّلنا الجوهر الجسماني الذي هو أخسّ من ذلك الجوهر الكريم واستقرينا حاله، وجدناه غير فان ولا متلاش من حيث هو جوهر، وإنّما يستحيل من حالة إلى أُخرى، وتستحيل خواصّه وأعراضه التي كانت له في الحالة الأُولى إلى خواص وأعراض تناسب الحالة الأُخرى.
فأمّا الجوهر نفسه فهو باق لا سبيل إلى عدمه وبطلانه، مثال ذلك الماء، فإنّه يستحيل بخاراً وهواءً، وكذلك الهواء يستحيل ماءً وناراً، فتبطل عن الجوهر أعراضه وخواصّه، وأمّا هو فلا سبيل إلى عدمه.
هذا في الجوهر الجسماني القابل للاستحالة والتغيّر، وأمّا الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الاستحالة ولا التغيّر في ذاته، وإنّما يقبل كماله وتمام صوره، فكيف يتوهّم فيه العدم والتلاشي.
2 ـ جهل المصير أو جهل بقاء النفس:
من يخاف الموت لأنّه لا يعلم إلى أين يصير بعده، وجهل بقاء النفس، وكيفية المعاد، فليس في الحقيقة يخاف الموت، وإنّما يجهل ما ينبغي أن يعلمه، فالجهل إذن هو المخوف.
وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به، وتركوا لأجله اللذات الجسمانية وراحات البدن، وفضّلوا عليه النصب والسهر، ورأوا أنّ الراحة من طرح الجهل هي الراحة الحقيقية، وأنّ التعب الحقيقي هو تعب الجهل، لأنّه مرض مزمن للنفس، والبرء منه خلاص لها، وراحة سرمدية ولذّة أبدية.
لذلك وجب على العاقل أن يطلب العلم الحقيقي الذي يكشف له حال الإنسان بعد موته، كما قال حارثة للنبي (صلى الله عليه وآله): كأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزاً، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وإلى أهنل النار يتلاعنون فيها(5).
وهذا العلم إنّما يحصل بالبحث عن حقيقة النفس، ووجه علاقتها بالبدن، ووجه خاصيّتها التي خلقت لها، ووجه التذاذه بخاصيّته وكماله، مع معرفة الرذائل المانعة له من كماله، وقد نبّه الشرع الشريف على ذلك العلم في مواضع كثيرة وأمر بالتفكّر في النفس، كما أمر بالتفكّر في ملكوت السماوات والأرض.
ولمّا تيقّن الحكماء أنّ كمال النفس وسعادتها في العلم، ونقصها وشقاءها من الجهل، ولا برء من هذا إلاّ بذاك، لما تيقّنوا ذلك واستبصروا فيه، وهجموا على حقيقته، ووصلوا إلى الروح والراحة منه، هانت عليهم أُمور الدنيا كلّها، واحتقروا ما يعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية والمطالب التي تؤدّي إليها، إذ كانت قليلة الثبات والبقاء، سريعة الزوال والفناء، كثيرة الهموم إذا وجدت، عظيمة الغموم إذا فقدت.
وقد اقتصروا منها على المقدار الضروري في الحياة، وتسلوا عن فضول العيش الذي حوى ما ذكر من العيوب وما لم يذكر، ولأنّها مع ذلك بلا نهاية، لأنّ الإنسان إذا بلغ منها غاية تاقت نفسه إلى غاية أُخرى، من غير وقوف على حدّ، ولا انتهاء إلى أمد.
وهذا هو الموت لا ما يخاف منه، والحرص عليه هو الحرص على الزائل، والشغل به هو الشغل بالباطل، ولذلك جزم الحكماء بأنّ الموت موتان: موت إرادي وموت طبعي، وكذلك الحياة حياتان: حياة إرادية، وحياة طبعية.
وعنوا بالموت الارادي إماتة الشهوات وترك التعرّض لها، وبالموت الطبعي مفارقة النفس البدن، وعنوا بالحياة الاراديّة ما يسعى له الإنسان لحياته الدنيا من المآكل والمشارب والشهوات، وبالحياة الطبعية بقاء النفس السرمدي بما تستفيده من العلوم الحقيقية، وتبرء به من الجهل.
ولذلك وصّى افلاطون طالب الحياة بقوله له: «مت بالارادة تحيي بالطبيعة» ومثل ذلك قول الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «من أمات نفسه في الدنيا فقد أحياها في الآخرة» على أنّ من خاف الموت الطبعي للانسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه، ذلك أنّ هذا الموت هو تمام حدّ الإنسان لأنّه حيّ ناطق ميّت.
قال الراغب الاصفهاني: «وليس معناه ما توهّمه كثير من الناس، من أنّه من الحياة الحيوانية والموت الحيواني، والنطق الذي هو في الإنسان بالقوّة، وإنّما أريد بالحيّ من كانت له الحياة المذكورة في قوله تعالى: (لينذر من كان حياً)[يس: 70]، وبالنطق البيان المذكور بقوله: (علّمه البيان) [الرحمن : 4]، وبالميت من جعل قوّته الشهوانية والغضبية مقهورتين على مقتضى الشريعة».
فالموت تمام الإنسان وكماله، وبه يصير إلى أُفقه الأعلى، ومن علم أنّ كلّ شيء مركّب من حدّ، وحدّه مركّب من جنسه وفصوله، وأنّ جنس الإنسان هو الحيّ، وفصيله الناطق والميّت، علم أنّه سينحل إلى جنسه وفصوله، لأنّ كلّ مركّب لا محالة منحلّ إلى ما تركّب منه، فمن أجهل ممّن يخاف تمام ذاته، ومن أسوء حالا ممّن يظنّ أنّ فناءه بحياته، ونقصانه بتمامه، ذلك بأنّ الناقص إذا خاف أن يتمّ، فقد دلّ من نفسه على غاية الجهل.
فإذن الواجب على العاقل أن يستوحش من النقصان، ويأنس بالتمام، ويطلب كلّ ما يتممه، ويكمله، ويشرفه، ويعلي منزلته، ويخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر لا من الوجه الذي يشدّ وثاقه، ويزيده تركيباً وتعقيداً، ويثق بأنّ الجوهر الشريف الإلهي إذا تخلص من الجوهر الكثيف الجسماني، خلاص بقاء وصفو لاخلاص مزاج وكدر، فقد سعد وعاد إلى ملكوته، وقرب من بارئه، وفاز بجوار ربّ العالمين، وخالط الأرواح الطيّبة من أشكاله وأشباهه، ونجا من أضداده وأغياره.
ومن هنا يعلم أنّ من فارقت نفسه بدنه وهي مشتاقة إليه خائفة من فراقه، فهي في غاية الشقاء والبُعد من ذاتها وجوهرها، سالكة إلى أبعد جهاتها من مستقرّها، طالبة قرار ما لا قرار له.
3 ـ خوف العقاب الذي يعقب الموت:
إنّ من خاف الموت لأجل العقاب الذي يوعد به بعده، ينبغي أن نبيّن له أنّه ليس يخاف الموت بل يخاف العقاب، وهو لا محالة معترف بذنوب له، وأفعال سيّئة يستحقّ عليها العقاب، ومع ذلك هو معترف بحاكم عدل يعاقب على السيّئات لا على الحسنات، فهو إذن خائف من ذنوبه لا من الموت.
ومن خاف عقوبة على ذنب فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب ويجتنبه، ويتدارك ما فرّط منه بالتوبة النصوح، والأفعال الرديئة التي تسمّى ذنوباً إنّما تصدر عن أخلاق رديئة هي منشأ الرذائل التي أحصيناها وعرفنا أضدادها من الفضائل، فالخائف من الموت من هذه الجهة جاهل بما ينبغي أن يخاف منه، وعلاج الجهل هو العلم، فالحكمة هي التي تخلّصنا من هذه الآلام والظنون الكاذبة الناشئة عن الجهل، والله الموفّق لما فيه الخير.
4 ـ جهل ما يقدم عليه بعد الموت:
ومثل ما تقدّم من خاف الموت لأنّه لا يدري على ما يقدم بعد الموت، لأنّ هذه حال الجاهل الذي يخاف بجهله، فعلاجه أن يتعلّم ليعلم ويشتاق، وذلك أنّ من أثبت لنفسه حالا بعد الموت، ثمّ لم يعلم ما هي تلك الحال فقد أقرّ بالجهل، وعلاج الجهل العلم، ومن علم فقد وثق، ومن وثق فقد عرف سبيل السعادة فهو يسلكها لا محالة، ومن سلك طريقاً مستقيماً إلى غرض صحيح فقد أفضى إليه بلا شك ولا مرية، وهذه الثقة التي تكون بالعلم هي اليقين، وهي حال المستبصر في دينه المستمسك بحكمته.
5 ـ الحزن على ما يخلف من الأهل والولد والمال:
من يزعم أنّه ليس يخاف الموت، وإنّما يحزن على ما يخلف من أهله وولده وماله ونشبه(6)، ويأسف على ما يفوته من ملاذّ الدنيا وشهواتها، ينبغي له أن يعلم أنّ الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا يجدي الحزن عليه.
* * *
جملة القول في الخوف من الموت:
الخوف من الموت لا يعرض إلاّ لمن لا يدري حقيقة الموت، أو لا يعرف إلى أين تصير نفسه، أو لأنّه يظنّ أنّ بدنه إذا انحلّ وبطل تركيبه فقد انحلّت ذاته، وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأنّ العالم سيبقى موجوداً، وليس هو فيه، كما يظنّ ذلك من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد، أو لأنّه يظنّ أنّ للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربّما تقدّمته وأدّت إليه، وكانت سبب حلوله، أو لأنّه يعتقد عقوبة تحلّ به بعد الموت، أو لأنّه متحيّر لا يدري على أيّ شيء يقدم بعد الموت، أو لأنّه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات، وهذه كلّها ظنون باطلة لا حقيقة لها كما سبق بيانه.
والإنسان من جملة الكائنات، وكلّ كائن فاسد لا محالة، فمن أحبّ ألاّ يفسد فقد أحبّ ألاّ يكون، ومن أحبّ ألاّ يكون فقد أحبّ فساد ذاته، فكأنّه يحبّ أن يفسد ويحبّ أن لا يفسد، ويحبّ أن يكون ويحبّ ألاّ يكون، وهذا محال لا يخطر ببال عاقل.
وأيضاً لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقي من تقدّمنا، ولو بقي من تقدّمنا من الناس على ما هم عليه من التناسل ولم يموتوا ما وسعتهم الأرض.
وقد وضع الله في طبيعة أكثر النبات وأكثر الحيوان كثرة الذرية، كثرة مفرطة جدّاً، وتلك الكثرة الطبيعية لحكمة، وهي أنّها تكون ضماناً لبقاء الأنواع على الأرض، فلولا هذه الكثرة المفرطة لانقرض كثير منها، ولم يعوض بمثله في الأرض.
فلو تركت تلك الذرية المتعاقبة حيناً من الدهر، لامتلأ وجه الأرض بالحيوان، فلم تعد الأرض تصلح لحيوان جديد، فموت هذه المخلوقات وسرعة فنائها هي النعمة العظمى، لأنّها تخلي وجه الأرض لما بعدها، فالموت أشبه بالتخلية والحياة أشبه بالتحلية، ولأضرب لك مثالا لذلك فأقول:
1 ـ إذا نظرت إلى مقدار ما في النخل من لقاح، وما في الذرة ممّا ينتشر في الهواء أو يقع على الأرض، تجده لو صادف صلاحاً وأثمر كلّه لم تسعه الأرض.
2 ـ كلّنا نرى السمك وما في باطنه من المقادير الكبيرة من البيض الصغير الدقيق جدّاً، وهو عدد غزير كثير يأكله الناس ويباع في الأسواق، فلو أنّ هذا البيض كلّه صار سمكاً لأصبح البحر الملح قطعة جامدة.
3 ـ نرى أنّ في البيوت من أنواع الحشرات كالبقّ والبراغيث وأمثالها ما لو تركت ولم يهلكها الناس، ولم يسلّط عليها البرد فيهلكها، وغيرها من الحشرات كالجراد وغيره، لأصبحت الأرض كلّها مغلّفة بطبقة منها، فامتنعت الحياة عليها.
4 ـ ذكر العلاّمة «وولاس»: عشباً ينتج من البذر كلّ سنة ثلاثة أرباع مليون بذرة، وقدّر أنّه لو عاش هذا النسل ثلاث سنين فقط وأعقبت كلّ بذرة في هذه المدّة، ما بقي مكان في الأرض غير مغطّى بها، وقال: لو أنّ كلّ نبات أنتج حبّتين اثنتين في السنة، واستمرّ الانتاج لبلغ عدد الانتاج في السنة الحادية والعشرين 148576.
5 ـ إنّ بعض الحيوانات الدقيقة المسمّات «ميكروبات» إذا استمرّت على التوالد مدّة خمسة أيّام بدون انقطاع لملأ المحيط كلّه بنسله إلى عمق ميل.
6 ـ وميكروب الوباء الكوليرا الذي يتضاعف كلّ عشرين دقيقة، لو مضى عليه يوم واحد وهو يسير بهذا المعدّل بلا عائق، لبلغ وزنه 7366 طنّاً، وبلغ عدده رقم 5 وإلى يمينه 21 صفراً.
7 ـ والفيل معلوم أنّه أبطأ الحيوان ولادةً، فإنّ الفيلة لا تلد إلاّ مرّة واحدة في كلّ عشرين سنة، وقد حسب أحد العلماء انّه إذا استمرّ التناسل بدون عائق، لبلغ نسل الزوجين بعد 750 سنة 19 مليون فيل.
8 ـ الجراد كثيراً ما يهجم على القرى والمزارع وهو كالسحاب فيأكل ما أمامه، ومتى لم يجد ما يأكله أكل بعضه بعضاً.
9 ـ السمك الذي يشرب الناس زيته لتقوية الجسم، تبيض في العام الواحد الواحدة من أُناثيه مليوني بيضة، فلو أصبحت كلّ هذه البيضات المستخرجة من سمكة واحدة في سنة واحدة سمكاً لصار البحر كتلة جامدة.
10 ـ بعض المحار في البحار تبيض الواحدة ستّين مليوناً من البيض، وهذا النسل لو بقي كلّه ما بين عام وعامين لزاد على الكرة الأرضية.
11 ـ الذباب الذي ينغص عيش الإنسان إذا تكاثر أمامه، تبيض الأُنثى منه خمس أو ست مرّات، وفي كلّ مرّة تبيض من 120 بيضة إلى 150 بيضة، فلو عاشت كلّها لم يعش شيء على الأرض معها.
وهب أنّ رجلا واحداً من السلف المشهورين لعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلا، بقي موجوداً إلى الآن ثمّ ولد له أولاد ولأولاده أولاد، وبقوا كذلك يتناسلون ولا يموت منهم أحد، كم يكون مقدار من يجتمع منهم إلى وقتنا هذا، فإنّك تجدهم آلاف آلاف ألف رجل، وذلك أنّ بقيّتهم الآن ما قدّر فيهم من الموت والقتل الذريع لا يحصى عددهم في جميع الأرض، واحسب لمن كان في ذلك العصر من الناس على بسيط الأرض مثل هذا الحساب، فإنّهم إذا تضاعفوا هذا التضاعف لم تضبطهم كثرة ولم تحصهم عدداً.
ثمّ امسح بسيط الأرض فإنّه محدود معروف لتعلم أنّ الأرض حينئذ لا تسعهم قياماً، فكيف قعوداً أو منصرفين، ولا يبقى موضع عمارة يفضل عنهم، ولا مكان زراعة، ولا مسير لأحد ولا حركة، فضلا عن غيرها.
روي أنّ نبيّاً من الأنبياء طلب منه قومه أن يدعو الله تعالى ليرفع الموت عنهم، فدعاه فرفع الموت عنهم، حتّى كان الرجل منهم ينظر إلى أبيه وجدّه وجدّ أبيه وجدّ جدّه وهكذا، وكذلك من طرف الأُمّ فكان يقوم بخدمتهم ويتعاهد أحوالهم كالأطفال فيشتغل بخدمتهم عن الكسب لهم، وضاقت بهم الدور والمنازل، فانقلبوا إليه بأن يدعو الله سبحانه ويجري عليهم الموت.
وهذه مدّة يسيرة من الزمان، فكيف إذا امتدّ الزمان وتضاعف الناس على هذه النسبة.
فهذه حال من يتمنّى الحياة الأبدية للبدن، ويكره الموت، ويظنّ ذلك ممكناً أو مطموعاً فيه، وهي حال جهل وغباوة، فاذن الحكمة البالغة، والعدل المبسوط بالتدبير الإلهي هو الصواب الذي لا معدل عنه، ولا محيص منه، وهو غاية الجود الذي ليس وراءه غاية أُخرى لطالب مستزيد، أو راغب مستفيد.
ولذلك ذكره الله في النعم، وعرضه في معرض الأمتنان بقوله: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا) [الملك : 1-2] وقدّم الموت على الحياة لأنّه السبيل الوحيد إليها. فالخائف من الموت هو الخائف من عدل الباري وحكمته، بل هو الخائف من جوده وعطائه.
فقد ظهر ظهوراً حسّياً، أنّ الموت ليس برديء كما يظنّه جمهور الناس، وإنّما الرديء الخوف منه، وأنّ الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته، وقد ظهر أيضاً فيما تقدّم أنّ حقيقة الموت هي مفارقة النفس البدن، وهذه المفارقة ليست فساداً للنفس، وإنّما هي فساد المركّب.
وأمّا جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبّه وخلاصته فهو باق، وليس بجسم يلزم فيه ما لزم في الأجسام، فلا يتزاحم في المكان لاستغنائه عن المكان، ولا يحرص على البقاء الزماني لاستغنائه عن الزمان، وإنّما استفادوا الأجسام كمالا، فإذا كمل بها ثمّ خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه ومنشئه تعالى وتقدّس، وهذا الكمال الذي يستفيده في هذا العالم الحسّي هو السعادة القصوى للإنسان.
نسأل الله حسن المعونة على ما يقرّبنا منه، ويبعدنا من سخطه، إنّه جواد كريم رؤوف رحيم.
ذكر الموت:
الإنسان في تذكّر الموت حالان: حال قبله، وأُخرى عنده.
الحالة الاُولى:
ينبغي للإنسان قبل الموت أن يكون دائم الذكر له، ولذلك كان من أوّل هداية الأنبياء للناس تذكيرهم الموت وحثّهم على دوام تذكّره، ومن أكبر هَمِّ الفلاسفة تفكيرهم به، وبسط القول في أنّ الحياة باطلة والموت حقّ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أكثروا من ذكر هادم اللذات، فإنّه ما ذكره أحد في ضيق إلاّ وسّعه عليه، ولا في سعة إلاّ ضيّقها عليه»(7).
وقد أخذ أهل الصين عن فلاسفتهم سنّة أجروها بينهم مجرى العادة في وجوب تذكّر الموت كلّ حين، فإذا ولد الطفل عندهم صنعوا له نعشاً بقدره، ووضعوه بجانب المهد، يجدّدونه على مقدار النموّ في الطفل، ولا يزالون يفعلون ذلك، حتّى إذا بلغ أشدّه وضعوا النعش بجانب السرير إلى أن يحلّ يوم أجله، فيحملونه عليه، يشيرون بذلك إلى أنّ يوم الولادة ويوم الوفاة أمران متلاصقان وحبلان متّصلان، وأنّ الإنسان يمشي في هذه الدنيا وكأنّه عابر جسر، عن يمينه الموت، وعن شماله الحياة.
وأنّه كما يدبّ بنموّه في الحياة يدبّ بأنفاسه نحو الممات، وأنّه يجب على العاقل أن يحضره على الدوام ذكر الموت، كما يحضره ذكر الحياة، وأنّ اليقين كلّ اليقين في أعواد النعش، والشكّ كلّ الشكّ في أساطين القصر، وهم يلبسون السواد حداداً في يوم الولادة، والبياض فرحاً عند حلول الأجل، ولم يعتبروه شرّاً، بل هو الخير كلّه عندهم.
فمن منتهى غباوة الإنسان وجهله أن يتّخذ في كلّ منبت شعرة من جسمه حبلا من الأمل يعلّقه بالبقاء في الحياة الدنيا، ويمحو من ذاكرته كلّ سبب يربطه بصفائح القبر فما الدنيا في الآخرة، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): «إلاّ مثل ما يجعل الواحد اصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع»(8).
ما عليه الناس في هذه الحالة:
الناس في الحالة السابقة ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم لا يذكره البتة، وقسم يذكره رعباً وخشيةً، وآخر يذكره عقلا وحكمةً.
القسم الأوّل: هو ذلك الأحمق الذي لا يتذكّر الموت، ولا يجري له على خاطر، كأنّه قد رسخ في ذهنه أن لا فناء، فلا يحسّ هذه الحقيقة إلاّ عند المشاهدة، ولا يذكر الموت إلاّ ريثما تنقضي تلك المشاهدة، كأنّه يشتدّ به المرض أو يختطف الموت أحد أهله أو جيرانه.
فهو لا يتفكّر في الموت وما بعده إلاّ نظراً في حال أولاده وتركاته عند موته، ولا ينظر ويتدبّر في أحوال نفسه، وعندما يرى جنازة إلاّ بقوله بلسانه (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) ولا يرجع إلى الله بأفعاله بل بأقواله فقط، فيكون كاذباً فيها تحقيقاً.
القسم الثاني: وهو ذلك الذي يذكر الموت دائماً لخشيته من وقوعه وخوفه من نزوله، فيتولاّهم الرعب، ويستولي عليهم الفزع، وأكثر ما يذكرونه إذا خلوا من أشغالهم، وانتقلوا إلى أوقات فراغهم، فيكدرون صفاء هنائهم، ويسوّدون بياض معيشتهم.
وأشدّ ما يكون عذابهم من ذكرى الموت إذا أردف الله عليهم النعمة إثر النعمة، وزادهم من متاع الدنيا وزينة الحياة، فنراهم في همّ دائم وعناء مقيم، للتوقّي من الأخطار، والتحرّز من أسباب الهلاك، ويتغالون في ذلك التوقّي إلى حال الجنون، فيحاذرون هبوب النسيم وحرارة الضياء، ويتوهّمون في كلّ لقمة تخمة، وفي كلّ جرعة غصّة، حتّى تمرض الأجسام من تلك الوساوس والأوهام التي قد تؤدّي إلى الموت الزؤام.
القسم الثالث: وهو العاقل الكيّس الذي لا يفارقه ذكر الموت كالمسافر إلى مقصد الحجّ مثلا، فإنّه لا يفارقه ذكر المقصد، وأشغال المنازل في الحطّ والترحال لا تنسيه مقصوده، وذلك لأنّه يعلم أنّ ذكر الموت يطرد فضول الأمل، ويكفّ غرب المنى، ويهون المصائب، ويحول بين الإنسان والطغيان.
ومن ذكر الموت تتولّد القناعة بما رزق، والمبادرة إلى التوبة، وترك المحاسدة والحرص على الدنيا، والنشاط في العبادة، ولا ينبغي أن يهمل الإنسان نفسه من تذكّر الموت أكثر من يوم، بل يصبح كلّ يوم على تقدير الاستعداد للرحلة، فكلّ من ينتظر أن يدعوه ملك من الملوك كلّ ساعة ينبغي أن يكون مستعدّاً للإجابة، فإن لم يكن فربّما يأتيه الرسول وهو غافل، فيحرم السعادة، فما من وقت إلاّ والموت فيه ممكن.
الحالة الثانية:
هي حال الإنسان عند الموت، والناس عنده ثلاثة أقسام أيضاً:
الأوّل: ذو بصيرة وعلم أنّ الموت يعتقه، والحياة تسترقه، وأنّ الإنسان وإن طال في الدنيا مكثه فهو كخطفة برق لمعت في أكناف السماء، ثمّ عادت للاختفاء، فلا يثقل عليه الخروج من الدنيا إلاّ بقدر ما يفوت من خدمة ربّه عزّ وجلّ، والازدياد من تقرّبه، والاشفاق ممّا يقول أو يقال له، كما قال بعضهم لمّا قيل له: لم تجزع؟ قال: لأنّي أسلك طريقاً لم أعهده، وأقدم على ربّ لم أره، ولا أدري ما أقول وما يقال لي.
ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت، بل إذا عجز عن زيادة العبادة ربّما اشتاق إليه، وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك، وزهدت في القرب منك، فقد قال نبيّك وصفيّك (صلى الله عليه وآله): «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله فقد كره الله لقاءه».
والثاني: رجل رديء البصيرة، متلطّخ السريرة، منهمك في الدنيا، منغمس في علائقها، رضي بالحياة الدنيا، واطمأنّ بها، ويئس من الدار الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور، فإذا خرج إلى دار الخلود أضرّ ذلك به، كما تضرّ رياح الورد بالجعل، وإذا خرج من قاذورات الدنيا لم يوافقه عالم العلاء، ومصباح الملأ الأعلى، فكان كما قال الله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا) [الاسراء : 72].
فالدنيا سجن الأوّل وجنّة الثاني، (والأوّل) كعبد دعاه مولاه، فأجابه طوعاً، وقدم عليه مسروراً يتوافر على خدمته، (والثاني) كعبد آبق، ردّ إلى مولاه مأسوراً، وقيّد إلى حضرته مقهوراً، فبقى ناكس الرأس بين يدي مولاه، مختزياً من جنايته، وشتّان ما بين الحالين.
والثالث: رتبة بين الرتبتين: رجل عرف غوائل هذا العالم، وكره صحبته ولكن أنس به وألفه، فسبيله سبيل من ألف بيتاً مظلماً قذراً ولم ير غيره، فهو يكره الخروج منه، وإن كان قد كره دخوله، فإذا خرج ورأى ما أعدّ الله للصالحين لم يتأسّف على ما كره فواته، بل قال:
(الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب) [فاطر : 34-35].
ولا يبعد أن يكره الإنسان مفارقة شيء، ثمّ إذا فارقه لا يتأسّف عليه، فالصبيّ وقت الولادة يبكي لما يناله من ألم الانتقال، ثمّ إذا عقل لا يتمنّى العود إليه، والموت ولادة ثانية يستفاد بها كمال لم يكن قبل، بشرط ألاّ يكون قد تقدّم قبل ذلك الكمال من الآفات والعوارض ما أبطل قبول المحلّ للكمال، كما أنّ الولادة سبب لكمال مغبوط لم يكن عند الاجتنان بشرط ألاّ يصيبه وقتئذ من الأسباب والعلل ما منع قبول الكمال.
والموت من العقائد الراسخة، والاعتقاد به يكاد يكون عامّاً بين الأُمم والأجيال، فلا تكاد تخلو كلّ أُمّة أيّاً كانت من اعتقاد بموت، ولكن هذه الفكرة وأوصاف الموت تختلف بين هذه الأُمم اختلافاً كبيراً، والقرآن يصف الموت بأوصاف نلخّصها ممّا ورد فيه.
فهو ليس موتاً لا حياة بعده، ولا هو من البساطة بصفة يشبه النوم، وإنّما هو انتقال من دار إلى أُخرى، فهو موت بعده حياة أُخرى وراء هذه الحياة، ويومها يوم القيامة يوم الدين (ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون ثمّ إنّكم يوم القيامة تبعثون)[المؤمنون : 15-16] (كلّ نفس ذائقة الموت ثمّ إلينا ترجعون) [العنكبوت : 57 ]وليس من الموت من مهرب أو ملجأ مهما عظم شأنه (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة) [النساء : 78].
وليس الموت ينظر إلى الناس بعين التمييز بين الأفراد الواطئة، والطبقات الراقية، بل هو ينظر إليهم كموجودات طبيعية تعرض عليها عوارض الطبيعة (إنّك ميّت وإنّهم ميّتون) [الزمر : 30].
الموت في كلام الشعراء:
وإذا شئت الاطلاع على عقيدة بعض الناس من المسلمين في ما يرجع إلى الموت، فعليك ببعض مأثوراتهم من شعر وخطب ومواعظ، يظهر لك واضحاً جليّاً أنّ الموت ليس بشيء خفي، بل انّه كما قدّمنا سنّة طبيعية لازمة لكلّ الأشياء حتّى صار من بعض طبائعها، وهاك أُنموذجاً من ذلك:
1 ـ قس بن ساعدة الأيادي، خطيب العرب وحكيمها المشهور الذي مات سنة 600م، قال في خطبته في عكاظ: أيّها الناس اسمعوا وعوا، انّه من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إنّ في السماء لخبراً، وإنّ في الأرض لعبراً(9).
ثمّ يبلغ من القوّة في الوعظ أن يعدل عن الأُسلوب الاخباري إلى اتّخاذ طريقة الاستفهام الذي يفيد منه الاعتراف فيقول: ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، يا معشر أياد أين الآباء والأجداد، أين الفراعنة الشداد، ألم يكونوا أكثر منكم مالا، وأطول آجالا، طحنهم الدهر بكلكله، وقهرهم بتطاوله:
في الذاهبين الأوّلين *** من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً *** للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها *** يجري الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إليّ *** ولا من الباقين غابر
أيقنت أنّي لا محالة *** حيث صار القوم صائر
2 ـ وهذه ليلى الأخيلية ترثي توبةً:
لعمرك ما بالموت عار على الفتى *** إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وما أحد حي وإن عاش سالماً *** بأخلد ممّن غيّبته المقابر
وكلّ جديد أو شباب إلى بلى *** وكلّ امرئ يوماً إلى الموت سائر
وكلّ قريني إلفة لتفرق *** شتاتاً وإن ضناً وطال التعاشر
فهي تبيّن لنا أنّ الموت ليس عاراً يخفض الرؤوس، بل هو ممّا يزيّنها، بشرط أن يكون الفتى حسن الذكر، متّصفاً بالشيم الفاضلة، متنزّهاً عن المعاير، ثمّ تقول: إنّ كلّ جديد وكلّ امرئ سوف يتحوّل ولو بعد أمد إلى الموت والبلا، ليجد في رحابه متّسعاً يأخذ قراره منها، وإنّ الأُلفة لا تدوم مهما ظنّ الأليفان على عدم الافتراق، لأنّ الموت أطول باعاً منهما.
3 ـ وهذا أبو ذؤيب الهذلي يرثي بنيه الخمسة الذين هاجروا إلى مصر، فهلكوا جميعاً في عام واحد، نختار لك بعض الأبيات من مرثيته لهم:
أمن المنون وريبها تتوجّع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
ثمّ يقول:
سبقوا هوى وأعتقوا لهواهم *** فتحزّموا ولكلّ جنب مصرع
ولقد حرصت بأن أُدافع عنهم *** وإذا المنيّة أقبلت لا تدفع
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها *** ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
وتجلّدي للشامتين أريهم *** أنّي لريب الدهر لا أتضعضع
حتّى كأنّي للحوادث مروة *** بصفا المشرق كلّ يوم تقرع
فنراه يصبّر نفسه بهذا الخطاب، أو يوبّخها على جزعها ما دام الموت لا يلين له جانب، ولا ينكسر له قلب، وليس هو يعوض الإنسان ويعتبه، ثمّ يشير إلى نكتة هامّة، وهي أنّ الموت ينظر بعين واحدة إلى الشيخ الكبير والصبيّ الفتى، فليس عنده تميّز بينهما إذا حان وقت قطاف كلّ منهما لأنّ كلاًّ قد بلغ غايته.
وإنّ هذا الشاعر طالما خيّل إليه أنّه يستطيع الدفاع والذبّ عن أولاده ونفسه، ويردّ عادية الموت، فهو بهذا يحرص عليهم الحرص كلّه.
ولكن سرعان ما انكشف له أنّ المنيّة لا تدفع، وأن لابدّ من التسليم للموت، ثمّ هو يتحوّل إلى التمائم ليستجير بها من نزول حوادث الدهر الموجعة، ولكنّه لم يلبث أن يتحوّل ظنّه من الأصل الصادق إلى خيبة وحرمان، ويصل أمله ـ البعيد الضارب في الآفاق ـ إلى الكدية من الأرض، فقد أصبح شاعرنا يعلم من أمر التميمة ما لم يعلمه من قبل، ويعلم أنّها محدودة التأثير، ضيّقة النطاق، فهي يبطل عملها تجاه شيء لا قبل لها به، فهي لو بقيت على الجيد أو فارقته على حدّ سواء.
وهل هناك بدّ بعد فقد الأحبّة والأعزّاء، إلاّ من التصبر أو التعمّل على التصبّر، فهو يحمل نفسه على الجلد ـ مع أنّها لا تطاوعه ـ خوفاً من الشماتة ليري الناس أنّه ليست نفسه من السهولة والمرونة وسرعة التأثّر بصفة تزعزعه الدوائر، وتضعضعه حوادث الدهر، أو يبعده عن الصبر نزول جائحة أو مصيبة فيه، أو في الأولاد والأموال.
فشاعرنا يعتبر نفسه أرفع من أن يجزع من ريب المنون، أو أن يرفع شكاته إلى الناس، فهو يمثّل نفسه بحجارة الصوان، وهي في كلّ يوم تقرع.
إلى الكثير الحسن ممّا ورد في أشعار الجاهليين واختلج في شعورهم، وتجد مثل ذلك أو أكثر من غير الجاهليين من المخضرمين الذين شطروا أعمارهم لما قبل البعثة وبعدها، ويكثر مثل هذا أيضاً من الذين استضاؤوا بنور الإسلام، واتّخذوا الطريقة الإسلامية مسلكاً لهم.
إذن ليس الاعتقاد بالموت قاصراً على المسلمين فحسب، أو إن اتّسع أثره فعلى المسلمين والنصارى، والنصارى أو اليهود وغيرهم، وإنّما هو عام في جميع الأُمم، ومعتقد به لدى جميع الناس شرع سواء في ذلك خاصّتهم وسوقتهم.
صفة اُخرى للموت:
وإذا أردت أن تعرف من صفات الموت صفة أُخرى، فاعرف انّه يفاجئ الإنسان ويأتيه بغتةً، فيبهره من دون إعلام سابق.
(فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون) [الأعراف : 34].
وكذلك لا يعلم الإنسان اسم التربة التي يموت فيها: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) [لقمان : 34].
وكلّ هذه الخصائص للموت استأثر بعلم حكمتها الله، وعرف المصلحة في جعلها بهذه الصورة، ويظهر لك سبب إخفاء ذلك واضحاً جليّاً إذا قرأت قوله تعالى: (فلا يظهر على غيبه أحداً) [الجن : 26].
ولا يفوتنا أن نعلم أنّ معنى «قلعة» هو المحلّ الذي لا يصلح للاستيطان، أشبه شيء بمنزل الاستراحة لعابري سبيل لا يهنأ لهم عيش كما يهنأ لهم وهم في زوايا بيوتهم آمنين، ولا يلذّ لهم نوم وخاصّة إذا كانوا في طريق قفر ذات رمال وأعثاء، تغطس فيها الرجل ثمّ لا تخرج إلاّ لتغطس مرّة أُخرى على بعد قدم، وإذا الأخطار تحفّ بهم من كلّ جانب.
الدنيا دار بُلغة:
ويقصد الإمام (عليه السلام) من قوله: «دَارِ بُلْغَة» إلى أنّ هذه الدار ليست دار رفاهية وترف كي يأخذ الإنسان فيها جمام نفسه، بل انّها دار بلغة ـ أي للإنسان أن يتبلّغ منها بما يقيم أوده، ويصلب عوده ـ .
ويرمي الإمام (عليه السلام) من قوله: «طَرِيق إِلَى الاْخِرَةِ» إلى أنّ الدنيا دار أعمال يعمل فيها الإنسان ما وسعه العمل، ليأخذ أجره وافراً غير منقوص في تلك الدار الأُخرى، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره) [الزلزلة : 7-8].
وهذه الطريق ذات مفرقين، يؤدّي أحدهما إلى الجنّة، ويؤدّي الآخر بصاحبه إلى النار.
فالدنيا إذن مزرعة الآخرة، فإذا ما عوهدت بالحرث والسقي أثمر ذلك الغرس في الآخرة كما يراد أن يثمر الغرس، وليس هذا الطريق كما يتصوّره الإنسان بطروق هذا الاسم على ذهنه، وليس من السهولة بحيث لا يتجاوز بضع كيلومترات، وإنّما هو أطول من ذلك وأطول بكثير.
وليس يجد الإنسان في طريقه هذه أنيساً أو صديقاً مصاحباً سوى عمله، فإن كان حسناً كان دليلا إلى الجنّة، وإن كان سيّئاً فهو ينذره بنذير الشؤم بالنار مدّة ما يصاحبه حتّى يؤدّي به إلى النار.
ولا يجد الإنسان في طريقه هذه زاداً يساعده على قطع المسافة الشاسعة إلاّ زاد التقوى، فهي نعم الزاد، أمّا إذا كان من ذوي الحرمان، فهو يتصوّر جوعاً وظمأً ما مشت به رجله متنقّلة في عرصات الآخرة حتّى يصله دور حسابه، فينهيه إلى المصير المحتوم، وبئس المصير.
وهنا يجمل بنا أن نذكر كلمة سيّد البلغاء عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: «آه من قلّة الزاد، وطول السفر، ووحشة الطريق»(10).
فالإنسان إذا كان مطارداً من شيء لابدّ أن يدركه ذلك الشيء، ولابدّ أن يحصل على طلبته، فهذا الإنسان يجب أن يكون على جانب عظيم من الحذر، بأن يحسن حالته، وأن يحسن مرامه، وأن يكون قد أخذ لمقابلة ذلك الشيء أهبته كما يأخذ أهبته للسفر بشدّ الرحال، كذلك يجب أن يكون الإنسان قد تاب وتفرّغ للخالق، وكأنّه عن قريب ملاقيه، ولا يتمكّن الإنسان الطائع أن يأخذ أهبته للموت ما لم يردّده على لسانه، ويخطره على قلبه آناء الليل وأطراف النهار، ليكون بذلك على استعداد تام لمواجهته من دون أن ينبهر به بغتةً، فيعتقل لسانه دون أن ينطق بالحقّ كما يريد الحقّ، وأن يعترف به كما يجب.
* * *
النهي عن الاغترار بالدنيا:
قوله (عليه السلام): «وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْض، وَيَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا. نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا، وَرَكِبَتْ مَجْهُولَهَا. سُرُوحُ عَاهَة بِوَاد وَعْث، لَيْسَ لَهَا رَاع يُقِيمُهَا، وَلاَ مُسِيمٌ يُسِيمُهَا. سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُوهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا. رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلاَمُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الاَْظْعَانُ; يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ!».
الإمام (عليه السلام) يسمو بولده المجتبى عن أن يكون مثالا للرذائل والأطماع الخسيسة، والهوي في هاوية الفساد السحيقة، فإنّ ذلك ممّا لا يرضاه كلّ أب لابنه فكيف بمثل عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأمره فيما أمره أن يستعدّ للموت ما وسعه، وأن يكون قد فرغ من جميع ذنوبه بالاستغفار والتوبة، وأن يكثر من ذكر الموت الذي يهجم عليه.
والآن ينهاه (عليه السلام) فيما ينهاه أن يغترّ بما يرى من إخلاد أهل الدنيا إليها وتكالبهم عليها، فيخلد مثلهم إلى الأرض «ويتّبع هواه»، ونبّهه على أنّه لا ينبغي له ذلك الاغترار بقوله: «فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا» بقوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو) [الأنعام : 32].
وقوله تعالى: (إنّما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل الناس والأنعام حتّى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكّرون) [يونس : 24] في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وبيان أنّها محلّ الهموم والغموم والأعراض والأمراض، ودار كلّ بلاء، ومنزل كلّ فتنة، وكلّ ما أخبر الله تعالى عنه بذلك، فلا ينبغي أن يغتر به المرء، خصوصاً بعد معرفته أنّ الغرور مركّب من الجهل، وحبّ مقتضيات الشهوة والغضب.
فمن كان فطناً كيّساً عارفاً بربّه ونفسه وبالآخرة والدنيا، وعالماً بكيفية سلوك الطريق إلى الله، وبما يقرّبه إليه، وبما يبعده عنه، وعالماً بآفات الطريق وعقباته وغوائله، اجتنب عن الغرور ولم يغره الشيطان في شيء من الأُمور، إذ من عرف نفسه بالذلّ والعبودية، وبكونه غريباً في هذا العالم، أجنبياً من هذه الشهوات البهيميّة، عرف كون هذه الشهوات مضرّة له، وانّ الموافق له طبعاً هو معرفة الله، فإنّ من عرف ربّه، وعرف الدنيا والآخرة ولذّاتهما تمكّن في قلبه حبّ الله والرغبة إلى دار الآخرة.
وإذا غلبت هذه الارادة على قلبه صحّت نيّته في الأُمور كلّها، فإن أكل مثلا أو اشتغل بقضاء الحاجة، كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة، واندفع عنه كلّ غرور، منشأه تجاذب الأعراض والنزوع إلى الدنيا، وإلى الجاه والمال، وما دامت الدنيا أحبّ إليه من الآخرة، وهوى نفسه أحبّ إليه من رضا الله، لم يمكنه الخلاص من الغرور، فالأصل في علاج الغرور أن يفرغ القلب من حبّ الدنيا، ويغلب عليه حبّ الله حتّى تتقوّى به الارادة، وتصحّ به النيّة، ويندفع عنه الغرور، ومن يستطع ذلك وقلوبنا استولت عليها ظلمة الشهوات؟!
ثمّ يبالغ الإمام (عليه السلام) في التأثير على ولده البارّ بوصف أهل الدنيا وصفاً شنيعاً، فيصفهم بأنّهم كلاب عاوية، ليس من شأنها أن تهدأ وتفتر ليلا ونهاراً، وسباع ضارية يفترس بعضها بعضاً، ويعتدي بعضها على بعض، ويأكل قويّها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها «نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ».
فهي كلّها تتّصف بصفات حيوانيّة، إلاّ أنّك تعرف الفرق بين المعقلة والمهملة; فالأُولى أضيق حريّةً من الثانية، ومن شأن النعم إذا تركت أن تهيم على وجهها لا تلوي على شيء، فهؤلاء أهل الدنيا أيضاً كذلك، فقد أضلّوا عقولهم دون أن يردّوها منهل الايمان العذب، وركبوا مجهولهم، وتسرب اليأس من نيل الآخرة إلى قلوبهم، فطفقوا يركبون المجاهل دون أن يلتمسوا جادة مستقيمة يسيروا بهديها فتوصلهم إلى الغاية القصوى، فهم لا راعي لهم يرعاهم حسب ما يقتضي، ولا سلكت الدنيا بهم الطريق الجدد فيأمنوا العثار، وإنّما سارت بهم طريق العمى، فأضلّتهم وتركتهم يخبطون خبط عشواء إن جنّ عليهم الليل.
فهم كبعض الأحجار لا يجدون سبيلا يطرقونه، وإذا بزغت عليهم الشمس ألفيتهم يتخبّطون في تيه النور بعدما كانوا يتخبّطون في تيه الظلام، والثاني أشدّ من الأوّل.
وقد توثّقت الصلات بينهم وبين الدنيا، حتّى اتّخذوها ربّاً يتقرّبون إليه زلفى، فلعبوا بها كما لعبت بهم، وفات عن أذهانهم ما وراءها من موت ونشور وحياة أُخرى ممّا لم يخلقوا إلاّ لأجله.
رويداًرويداًيسفرالظلام فيكشف النور عن السوءآت وسوء السرائر، وخبث الضمائر، وسوف يظهر كلٌّ بشكل العمل الذي جناه لنفسه في هذا اليوم من ذلك الغرس الذي وضعه في دار الدنيا، فقد وردت الأظعان، وحلّ وقت السفر الذي لارجعة بعده، فقد أوشك من أسرع أن يلحق، إمّا بنعيم دائم، أو عذاب واصب.
ولا يخفى أنّ التهالك على الدنيا والتكالب على نعيمها، ليس يشمل طلب العيش لاقامة الأود، وإنعاش العيال والتوسعة عليهم بما وسّع الله، ولا يشمل طلب الرزق لاقامة شعائر الله، وأداء حقوقه وفروضه كاملة غير منقوصة، فإنّ ذلك محض الآخرة، وهو الزاد المفروض به أن يكفي الإنسان في النجاة من النار.
فقد جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من طلب الدنيا تعفّفاً عن المسألة وتوسّعاً على عياله، وتعطّفاً على جاره، لقي الله يوم القيامة وجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مكاثراً مفاخراً مرائياً جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبال الله به بأيّ واد هلك»(11).
وورد رجل على عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سائلا: إنّي أطلب العيش بكدّ وجدّ، هل أنا من أهل الدنيا الذين ينطبق عليهم أوصاف أهلها أم لا؟ فقال علي (عليه السلام): ولم تطلبها، ألكي تنعم بنعيمها، ولا يدخل قلبك الرحمة بعد ذلك إذا سمعت جارك يئنّ من شدّة الجوع، ورأيت أطفاله يتضاغون جوعاً، ولكي تكون من ذوي الجاه والشرف، فتحلّ محلّ الصدارة منهم أم لشيء آخر؟
قال الرجل: لا يا سيّدي إنّ شيئاً من ذلك لم يكن، إنّي إنّما أطلب الرزق الكثير لأُوسّع على نفسي وعيالي، وأسبغ عليهم ما يسبغه الله علينا من النعم، ويغدقه علينا من الفواضل، ولكي أقوم بأداء الفرائض كما وجبت، وأداء حقوق الله الماليّة، وهي الضريبة التي تؤخذ للفقراء وللصالح العام، ولكي أحجّ بيت الله ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
فأجابه عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلا: هنيئاً لك فإنّك لست منهم إنّما أنت من أهل الآخرة، أرسلت إلى الدنيا لكي ترى الناس طريقاً لاحباً يهديهم إليها، ولكنّهم يصدفون عنك كلّما رأوك، هنيئاً لك إنّك طالب للآخرة لا للدنيا، وإنّ الذي تطلب من الدنيا إنّما هو زاد وافر يكفيك مؤونة الطريق على طوله وشسوعة مسافته، اذهب بارك الله فيك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دعوات الراوندي : 235 ح648.
(2) دعوات الراوندي : 235 ح649.
(3) البحار 6 : 126 ح4.
(4) العيث: الفساد.
(5) البحار 22 : 126 ضمن حديث 98.
(6) النَّشَبُ: المللُ والعَقارُ.
(7) صحيح ابن حبان 7 : 260 ح2993، والترغيب 4 : 235 ح1.
(8) البحار 73 : 119 ح110.
(9) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7 : 107 باب 102.
(10) البحار 40 : 329 ضمن حديث 11.
(11) حلية الأولياء 3 : 110، تحت رقم 227.