الفصل السابع عشر

الصمت وقبح الظلم

 

 

«وَتَلاَفِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ، وَحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ. وَحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ، وَمَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ. وَالْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ، وَالْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ، وَرُبَّ سَاع فِيمَا يَضُرُّهُ! مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ، وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ. قَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ. بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ !

وَظُلْمُ الضّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ! إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً. رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً، وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ. وَإِيَّاكَ وَالاِْتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى، وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ.

بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً. لَيْسَ كُلُّ طَالِب يُصِيبُ، وَلاَ كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ، وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ، وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ، وَلِكُلِّ أَمْر عَاقِبَةٌ، سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ، التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ، وَرُبَّ يَسِير أَنْمَى مِنْ كَثِير!».

 

قِلّةُ الكلام:

وهنا يعظ الأمام (عليه السلام) ولده الحسن (عليه السلام) محبّاً له، مائلا إليه، يريده أن يسلم من كل ما يشين به من عيب، فهو يهدي كلمته هذه لابنه هذا، فانّ له فيها لخيراً كثيراً يعود عليه عاجله وآجله، وَلَكَمْ وَدَّ الامام (عليه السلام) أن يكون ولده كما يريد وكما يريد الله له أن يكون.

فها نحن أُولاء نسمع إلى عظاته البالغة التي تهدف إلى الخير، وتبتغي الخير، فنسمع شيئاً عظيماً فما هو، نرى الامام (عليه السلام) ينهى عن الاكثار من الكلام العابث الذي ليس يقصد الى شيء، ويدعو إلى الصمت ما حسن الصمت، ونبذ الكلام ما لم يكن للكلام وجه حسن، فما الصمت للإنسان إلاّ وقار وهيبة، وما الهذر من الكلام الاّ اذلال له وإسقاط في أعين الآخرين.

فعلى الإنسان أن يزن كلامه أوّلا حتّى إذا رآه خليقاً بالاظهار أطلقه من وكره، بحيث لا يطلقه إلاّ وهو على جانب عظيم من الثقة بأنّ هذا يصيب الهدف وينال الغاية، وإلاّ فخير للإنسان أن يصمت ويستر على نفسه كثيراً من العيب، وقد عرف أنّ الكلام لو كان من فضّة لكان السكوت من ذهب.

وما أكثر ما نطلق من الكلام ما لا نعقل، ومن القول ما لا نتبصّر عواقبه، فإذا هو لا يكاد ينطلق حتّى يعود وبالا علينا، وقد يحمل في جنباته الشرّ الكثير ما كان أحسن الكلام لو أطلق على طريقة تليق به، وما كان أسعد الإنسان لو لم ينطق إلاّ بعد أن يفكّر في ما يريد أن ينطق.

وما كان أحسن للانسان أن يحتفظ بشدّ الوكاء بدل أن يهمل، فإذا سال منه الماء عاد فشدّه شدّاً قويّاً، وليس له إلى استرجاع ما تبدّد من سبيل، وليس شدّه للوكاء بعد هذا بمجد عليه نفعاً، فقد وقع الأمر وانتهى كلّ شيء، فعلى الإنسان أن يتحفّظ بما في نفسه بأن يعقل لسانه عن النطق في غير موضعه، وقد قيل فيما سبق: «الكلام أسيرك فإذا أطلقته صرت أسيره».

 

فضيلة صون اللسان:

جدير بمن يقصد الكمال أن يبلغ مجهوده في حفظ اللسان حتّى يستقيم له، إذ اللسان هو المورد للمرء موارد العطب، والصمت يكسب المحبّة والوقار، ومن حفظ لسانه أراح نفسه، والصمت منام العقل والمنطق يقظته.

والواجب على اللبيب ألاّ يغالب الناس على كلامهم، ولا يعترض عليهم فيه; لأنّ الكلام حينئذ قد يؤدّي إلى فوز موقّت غير أنّه لو أُرجئ إلى حينه لكان الفوز أدوم وأبقى، قال الأحنف بن قيس: «الصمت أمان من تحريف اللفظ، وعصمة من زيغ المنطق، وسلامة من فضول القول، وهيبة لصاحبه».

وقال بعض المربّين: «الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلّم، فما أكثر من ندم إذا نطق، وأقلّ من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتلى بلسان جامح».

 

عشر خصال للسان:

واللسان فيه عشر خصال يجب على العاقل أن يعرفها ويضع كلّ خصلة منها في موضعها:

1 ـ فهو أداة يظهر بها البيان.

2 ـ وشاهد يخبر عن الضمير.

3 ـ وناطق يرد به الجواب.

4 ـ وحاكم يفصل به الخطاب.

5 ـ وشافع تدرك به الحاجات.

6 ـ وواصف تُعرف به الأشياء.

7 ـ وحاصد يذهب الضغينة.

8 ـ ونازع يجذب المودّة.

9 ـ ومسلّ يذكي القلوب.

10 ـ ومعزّ تردّ به الأحزان.

ولقد أحسن الذي يقول:

أخفض الصوت إن نطقت بليل *** والتفت بالنهار قبل المقال

جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه»(1).

وأنشد الأبرش:

ما ذلّ ذو صمت وما من مكثر *** إلاّ يذلّ وما يعاب صموت

إن كان منطق ناطق من فضّة *** فالصمت درّ زانه الياقوت

قال عليّ بن بكار: جعل الله لكلّ شيء بابين وجعل للّسان أربعة: الشفتين مصراعين، والأسنان مصراعين.

وقال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن ينصف أُذنيه من فيه، ويعلم أنّه إنّما جعلت له أُذنان وفم واحد ليسمع أكثر ممّا يقول، لأنّه إذا قال ربّما ندم، وإن لم يقل لم يندم، وهو على ردّ ما لم يقل أقدر منه على ردّ ما قال، والكلمة إذا تكلّم بها ملكته، وإن لم يتكلّم بها ملكها، وربّ كلمة سلبت نعمة.

قال ابن مسعود: والله الذي لا إله غيره ما شيء أحقّ بطول سجن من لسان(2).

 

المرأة التي ما تكَّلمت الاّ بالقرآن:

جاء في الخلق الكامل عن الأصمعي قال: بينا أنا أطوف بالبادية إذا أنا بأعرابية تمشي وحدها على بعير لها فقلت: يا أَمةَ الجبّار من تطلبين؟ فقالت: «من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له» [مضمون الآية] قال: فعلمت أنّها قد أضلّت أصحابها، فقلت لها: كأنّك قد أضللت أصحابك؟ قالت: (ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً)[الأنبياء : 79].

فقلت لها: يا هذه من أين أنت؟ قالت: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) [الاسراء : 1] فعلمت أنّها مقدسية، فقلت لها: كيف لا تتكلّمين؟ فقالت: (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد) [ق : 18] فقال بعض أصحابي: ينبغي أن تكون هذه من الخوارج، فقالت: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أُولئك كان عنه مسؤولا) [الاسراء : 36].

فبينما نحن نماشيها إذ رفعت لنا قباب وخيم، فقالت: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) [النحل : 16] فلم أفطن لقولها، فقلت: ما تقولين؟ فقالت: (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام) [يوسف : 19]، قلت: بمن أصوت؟ وبمن أدعو؟ فقالت: (يا يحيى خذ الكتاب بقوّة) [مريم : 12]، (يا زكريا إنّا نبشّرك) [مريم : 7]، (يا داود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض) [ص : 26].

قال: فإذا نحن بثلاثة إخوة كاللآلي، فقالوا: أُمّنا وربّ الكعبة أضللناها منذ ثلاث. فقالت: (الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور) [فاطر : 34 ]فأومأت إلى أحدهم فقالت: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيّها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه) [الكهف : 19].

فقلت: إنّها أمرتهم أن يزوّدونا فجاءوا بخبز وكعك، فقلت: لا حاجة لنا في ذلك، وقلت للفتية: من هذه منكم؟ قالوا: هذه أُمّنا ما تكلّمت منذ أربعين سنة إلاّ من كتاب الله مخافة الكذب، فدنوت منها وقلت: يا أمة الله أوصني، فقالت: (لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) [الشورى : 23](3).

واللسان أنفع الجوارح إذا صلح، وأضرّها إذا فسد، ولذا جعل نصف الإنسان، قال علي (عليه السلام): «المرء بأصغريه قلبه ولسانه»(4) وعثرته لا تداوى.

يصاب الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته بالقول تذهب رأسه *** وعثرته بالرجل تبرأ على مهل

وصيانته وصلاحه بقصر كلامه على جلب نفع أو دفع ضرر، وفساده بالسبّ، والشتم، والكذب، والغيبة، والنميمة، وكثرة المزاح، والسخرية، وما إلى تلك من الرذائل التي تحطّ من قدر صاحبها، وتفرّق بينه وبين أهله وعشيرته.

وجدير بمن يتّصف برقّة اللفظ وجمال القول، أن يدرك ما يبتغيه وينجو من الشرّ وذويه، وقد قيل: «لا يستقيم ايمان المرء حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(5)، وقد استعرضنا موضوع الصمت وحسنه في الفصل الثالث من هذا الكتاب فراجعه.

* * *

الاستغناء عن الناس:

قوله (عليه السلام): «وَحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ، وَمَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ».

فيا بني احتفظ بما في يديك، واقصد في عيشك، ولا تتجاوز القصد، فالاحتفاظ بما في اليد خير من إطالة النظر إلى ما في أيدي الناس، فإليك من إكثار الحاجة بحيث لو وجدت سبيلا إلى الاستغناء في شؤونك عن أي أحد، والاستقلال بنفسك في كلّ ما يمسك فافعل، فإنّ مرارة اليأس وعذاب الحرمان خير لك من الطلب.

ولأن تتجرّع كؤوس اليأس والحرمان غصصاً خير لك من أن تمدّ يدك إلى أحد لتكون له عبداً، أو ترى أنّك ناس يد من أعانك، أو تجد من نفسك رغبة عن هذا الذي أنقذك من كارثة ألمّت بك.

فكن عن الناس مستغنياً، وبربّك مستكفياً، فهو قد ضمن لك كلّ ما تريد، ما دام هو الذي كان لوجودك علّة وسبباً، ولا تأخذك الأنفة والخيلاء إلى مواطن لا يخلق بك ورودها، فاكتسب واحترف ما وسعك ذلك مع العفّة، فإنّ ذلك خير لك من غنىً مصحوب بالفجور.

ولا تظنّن أنّ أحداً يستطيع أن يرعى سرّك كما ترعاه، وأن يحتفظ به كما تحتفظ به أنت، فأنت أرعى لمكنون أمرك، وأحفظ عليه من غيرك، فإنّك إن تحدّثت بسرّك إلى أحد فقد بحت به إلى كثيرين.

من أجل ذلك قيل: «كتمان الأسرار من شيم الأحرار، وشمائل الأبرار، وهو أبعد الأفعال من الضرر، وأحقّ الخصال بالظفر، يدلّ على وفور العقل، وكثرة الصبر، وكمال المروءة».

وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «استعينوا على نجاح حوائجكم بالكتمان، فإنّ كلّ ذي نعمة محسود»(6).

وقال المهلب بن أبي صفرة: «أدنى أخلاق الشريف كتمان السر، وأعلاها نسيان ما أسرّ به إليه»(7).

ومن كلام الحكماء: كتمان السرّ يوجب السلامة، وإفشاؤه يعقب الندامة، وقال بعضهم: من شحّ على سرّه فقد أعان على برّه.

وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «سرّك أسيرك فإذا فضحته صرت أسيره»(8).

وقال سقراط: «كتمان سرّ غيرك متعيّن عليك، وكتمان سرّك سبب صيانتك، والمشكور من كتم سرّاً لم يستكتمه، ومن خان في سرّ نفسه فهو في غيره أخون». ومن كلام بعض الحكماء: «لا تودع سرّك إلاّ حافظاً، فإنّ قلوب الأحرار حصون الأسرار».

ولبعض الشعراء:

لا يحفظ السرّ إلاّ كلّ ذي كرم *** والسرّ عند لئام الناس مبذول

وفي الحكم المنثورة: كن جواداً بالمال في موضع الحقّ، بخيلا بالأسرار على جميع الخلق، ومن أمثال الحكماء: سرّك من دمك فلا يخرج من تحت قدمك، وما تحلى ذو فضل وبرّ وعلم وخير بأحسن من كتمان السرّ.

وقال بعض الحكماء في هذا المعنى: «من حصن بالكتمان سرّه تمّ له تدبيره، وكان له الظفر بما يريد، والسلامة من العيب والضرر، وإن أخطأه التمكّن والظفر».

والحازم يجعل سرّه في وعاء، ويكتمه عن كلّ مستودع، فإن اضطرّه الأمر وغلبه أودعه العاقل الناصح له، لأنّ السرّ أمانة وإفشاءه خيانة، والقلب وعاؤه فمن الأوعية ما يضيق بما يودع، ومنها ما يتّسع لما استودع، والافراط في الاسترسال بالأسرار عجز، وما كتمه المرء من عدوّه يجب أن لا يظهره لصديقه، ومن استودع حديثاً فليستره ولا يكن مهتاكاً ولا مشياعاً، لأنّ السرّ إنّما سمّي سرّاً لأنّه لا يُفشى.

فيجب على العاقل أن يكون صدره أوسع لسرّه من صدر غيره بأن لا يفشيه، ومن كتم سرّه كانت الخيرة في يده، ومن أنبأ الناس بأسراره هان عليهم وأذاعوها، ومن لم يكتم السرّ استحقّ الندم، ومن استحقّ الندم صار ناقص العقل، ومن دام على هذا رجع إلى الجهل، فتحصين السرّ للعاقل أولى به من التلهّف بالندم بعد خروجه منه.

قال المبرد: أحسن ما سمعت في حفظ اللسان والسرّ، ما روي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ :

لعمرك إنّ وشاة الرجال *** لا يتركون أديماً صحيحا

فلا تبد سرّك إلاّ إليك *** فإنّ لكلّ نصيح نصيحا

وقال أبو نواس:

لا تفشِ أسرارك للناس *** وداو أحزانك بالكاس

فإنّ إبليس على ما به *** أرأف بالناس من الناس

وقال آخر:

صن السرّ بالكتمان يرضك غبه *** فقد يظهر السرّ المضيع فيندم

ولا تفشينّ سرّاً إلى غير أهله *** فيظهر خرق الشرّ من حيث يكتم

وما زلت في الكتمان حتّى كأنّني *** يرجع جواب السائلي عنه أعجم

لنسلم من قول الوشاة وتسلمي *** سلمت وهل حي على الدهر يسلم

وقال آخر:

أمنّي تخاف انتشار الحديث *** وحظّي في ستره أوفر

ولو لم أصنه لبقيا عليك *** نظرت لنفسي كما تنظر

وقال العتبي:

ولي صاحب سرّي المكتم عنده *** محاريق نيران بليل تحرق

غدوت على أسراره فكسوتها *** ثياباً من الكتمان ما تتخرّق

فمن كانت الأسرار تطفو بصدره *** فأسرار صدري بالأحاديث تغرق

فلا تودعنّ الدهر سرّك أحمقاً *** فإنّك إن أودعته منه أحمق

وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً *** من القول ما قال الأديب الموفق

إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه *** فصدر الذي يستودع السرّ أضيق

قيل: دخل أبو العتاهية على المهدي وقد ذاع شعره في عتبه، فقال: ما أحسنت في حبّك، ولا أجملت في اذاعة سرّك، فقال:

من كان يزعم أن سيكتم حبّه *** أو يستطيع الستر فهو كذوب

الحبّ أغلب للرجال بقهره *** من أن يرى للسرّ فيه نصيب

وإذا بدا سرّ اللبيب فإنّه *** لم يبد إلاّ والفتى مغلوب

إنّي لأحسد ذا هوىً مستحفظاً *** لم تتهمه أعين وقلوب

فاستحسن المهدي شعره وقال: قد عذرناك على إذاعة سرّك، ووصلناك على حسن عذرك، إنّ كتمان السرّ أحسن من اذاعته.

وقال زياد: لكلّ مستشير ثقة، وإنّ الناس قد ابتدعت بهم خصلتان: اذاعة السر، وترك النصيحة، وليس للسرّ موضع إلاّ أحد رجلين: إمّا أُخروي يرجو ثواب الله، أو دنياوي له شرف في نفسه وعقل يصون به حسبه، وهما معدومان في هذا الدهر.

* * *

قوله (عليه السلام): «وَرُبَّ سَاع فِيمَا يَضُرُّهُ! مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ، وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ. قَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ. بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ! وَظُلْمُ الضّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ!».

واسع واعرف مقدار سعيك، والى أيّ هدف ترمي به، فلربّ سعي في غير هدى، ولربّ عمل في غير طائل، ولربّ ساع يسعى وسعيه فيما يضرّه ولا ينفعه، ولكنّه لا يدري، ولكنّه لا يعلم، ومن أكثر الكلام فرط منه الهجر، وبدر منه الكلام الدنيء الذي ينم عمّا وراءه من عقل ضعيف، فلا تكثر من الكلام ما لم تجد إلى ذلك داعياً وعليه حاثاً.

وإنّ أصابة الواقع المنشود، وإنّ اصابة الهدف المقصود، إنّما هي بالتبصّر والتفكّر في أناة وروية دونما استعجال وتسرّع، فقد عرف أن في العجلة الندامة، وأنّ في التأنّي السلامة، وزاحم العلماء بركبتيك، وقارن أهل الفضل تكن كواحد منهم، وإيّاك وأهل السوء فإليك عنهم، ولا تكوننّ بينك وبينهم صلة في قريب أو بعيد، وباينهم فإنّ في مباينتهم البعد عن السوء والنجاة من الشر.

ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّع الله به أفراداً من الناس، وإيّاك والظلم فما الظلم إلاّ ظلم للنفس، وهل تريد لنفسك الظلم، وهل تحبّ لنفسك الأذى، واعلم بأنّ من أشدّ الظلم أن تمس بالظلم فرداً لا عشيرة له، ولا قرابة، ولا جاه له، ولا مال، ولكن له ربّاً يعصمه الشرور، وإنّ له إلهاً يردّ عنه ظلم الظالم وعسف الجائر، وإنّ ذلك لخير له من مال عريض، وجاه عريض واسع، وإنّ ذلك لأجدى نفعاً من العشير والقريب، وإنّ أشدّ العقاب لعقاب الربّ، وإنّ أعظم الجزاء لجزاء الحكيم، فإيّاك أن تتعرّض لفرد لا يجد لنفسه عاصماً إلاّ الله.

قال عليّ بن الحسين لابنه أبي جعفر (عليه السلام): «يا بني إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله»(9).

وقال الصادق (عليه السلام): «ما من مظلمة أشدّ من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلاّ الله تعالى»(10).

 

الظلم:

الظلم مجاوزة الإنسان حدّه، واستطالته بالجور على غيره، وهو إحدى طبائع النفس تظهره القوّة ويخفيه الضعف:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفّة فلعلّة لا يظلم

وإذا تأمّلت كلّ شيء في الوجود تجد للظلم أثراً فيه.

أُنظر إلى النبات تجده يعدو قويّه على ضعيفه، فيمتصّ غذاءه، ويحرمه قوته، ويتركه ذابلا يتصوّح، ثمّ يصير هشيماً تذروه الرياح.

وانظر إلى الحيوان في مستقرّه في البرّ والبحر، تراه يأكل قويّه ضعيفه، ويفتك كبيره بصغيره، حتّى لتكاد تبيد بعض فصائله، وتذهب من الوجود باعتداء بعض أنواعه على بعض، وهذا ما جعل نفور بعضه من بعض طبيعياً.

وقد قيل: إنّ من الطيور ما لا يحضن بيضه، وإنّ أُناثه تضع بيضها في وكور بعض الطيور، فتضمّه هذه إليها حتّى إذا فقس ونما قليلا، وأحسّ من نفسه القدرة على فراخ الطير الذي احتضنه، قذف بها من العش فتقع فتموت ليخلو العشّ له، وهذا نوع من الظلم يخفى مكانه على اللبيب الفهم.

خبرني بربّك، من ذا الذي علّم هذا الفرخ الضعيف العقوق، وهداه إلى الغدر والخيانة، حتّى جعله يقذف بفراخ التي آوته وصارت تغدو عليه بما تسعى به لأفراخها، لم يكن التعليم، وإنّما هداية الفطرة وكامن الظلم.

وقد شاءت قدرته ـ جلّ شأنه ـ أن يجعل لكلّ نوع من أنواع الحيوان سلاحاً يدافع به عن نفسه، فمنه ما جعل له الناب والظفر، ومنه ما جعل له قروناً في رأسه مثنى وفرادى، ومنه ما أحاط ظاهر جلده بشوك إذا انقبض انتصب وكان كالأُبر الحادّة، ومن عجائب خلق الله حيوان ذفر يُعرف بالظربان، سلاحه نتن ريحه وذفره، فإذا اقتحم عليه جحره حيوان ليفترسه، أطلق عليه من ريحه شيئاً فأماته لفوره.

والإنسان يظلم وينال بظلمه ما دنا ونأى، وأوّل من يصيبه بظلمه نفسه التي بين جنبيه، فإنّ ما تنطوي عليه من الشرور، وما يخالط قلبه من الاثرة وحبّ الاستبداد، يجد ألمه ووخزه كلّما تحرّكت فيه الاثرة وحبّ الاستئثار بالمنفعة، وكثيراً ما يقتصر ظلم الإنسان على نفسه ولا يتعدّاه إلى غيره، كالذي لا يؤدّي واجب نفسه، ولا يعمل صالحاً يعود عليه نفعه في الدنيا والآخرة، وقد يظلم أهله فلا يحسن معاشرتهم، ولا ينفق نفقة أمثالهم ويسوسهم بالقسوة والغلظة.

 

التعامل مع الأهل:

وهذه حال كثير ممّن يتوهّمون أنّ سوء معاملة الأهل من موجبات الاحترام، وأنّ الخوف أقوم سبيل لتأديب الأولاد، وهذا رأي سقيم، وخطّة قضت عليها أساليب التربية الصحيحة، وليس لها من قبل حظّ من تأييد العقل والشرع.

دخل على عمر بن الخطّاب أحد عمّاله، فوجده مستلقياً على ظهره، وصبيانه يلعبون حوله، فأنكر ذلك عليه فقال له عمر: كيف أنت مع أهلك؟ فقال: إذا دخلت سكت الناطق، فقال له: اعتزل عملنا فإنّك لا ترفق بأهلك وولدك، فكيف ترفق بأُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله).

ومن هذا ماروي في صحيح البخاري أنّ الأقرع بن حابس رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله)وهو يقبّل الحسن بن علي (عليه السلام)فقال: إنّ لي عشرة أولاد ما قبّلت واحداً منهم، فقال (صلى الله عليه وآله): «من لا يَرحم لا يُرحم»(11) وفي ردّ النبي (صلى الله عليه وآله) على الأقرع بن حابس ما ينبئ بخطئه، وشدّة ظلمه لأهله، ومقت النبي إلى فعله، وتنبيهه إلى سوء عاقبته.

ومن ضروب ظلم الأهل أن يظلم زوجته، فينظر إليها نظره إلى متاع بيته، وهي أُم ولده والقائمة على تدبير شؤونه والحافظة لغيبه، فيروضها على الذلّ ومهانة النفس والصغار، فتبثّ في نفوس أولاده رذائل الأخلاق، وتنقل صفاتها إليهم بحكم التقليد، فيكون ظلمه لها ظلماً لأولاده وأمته بما تلد من عبيد وإماء في ثياب أحرار.

 

التعامل مع الجيران:

ويظلم جيرانه فلا يقوم بحقّ الجوار لهم، فلا يواسيهم في محنتهم، ولا يساعدهم في شؤونهم، ولا يفرح لهم إذا فرحوا ولا يحزن معهم إذا حزنوا، ولا يحبّ لهم من كلّ شيء ما يحبّه لنفسه.

ولقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالاحسان الى الجار كما أوصى بعبادته، والاحسان إلى الوالدين، وهما ـ على ما تعلم ـ أحقّ الناس ببرّنا، وأولاهم بعطفنا وحسن رعايتنا. قال الله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين احساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) [لنساء : 36].

وممّا يدلّ على معرفة حقّ الجار والوفاء له، والعمل بما أوصى به الدين في شأنه، ما حكي عن بعض ذوي الأخلاق الطاهرة أنّه اشتكى كثرة الفيران في داره، فقال له بعض من سمعه: لو اقتنيت هرّاً لذهب عنك الفيران، فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دار الجيران، فأكون قد أحببت لهم ما لا أُحبّه لنفسي.

وممّا يدلّ على التنفير من سوء معاملة الجيران، وممّا أعدّه الله لمن لا يحسن معاملتهم، ما روي أنّه قيل للنبي (صلى الله عليه وآله): «إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيّئة الخلق، تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: لا خير فيها وهي من أهل النار»(12).

ويظلم الناس فيستطيل عليهم بلسانه ويده، ولا يوقّر كبيرهم، ولا يرحم صغيرهم، ولا يعطف عليهم، ولا يساعدهم بفضل ماله، ويظلم خدمه فيكلفهم ما هو فوق طاقتهم، ولا يؤدّي لهم أُجورهم في وقتها، ولا يعفو عن زلاّتهم، ولا يرأف بضعيفهم، ولا يحسن جزاء المحسن منهم.

 

ظلم الحكّام للشعوب:

وأشدّ أنواع الظلم وأدعاها للويل والثبور، ظلم الحاكم فيمن ولّي عليه وإطاعة هواه، فإنّ هذا يسلب من الناس الأمن على الأرواح والأموال والأعراض، وينشر في المحكومين الفساد وسوء الأخلاق، وينقل إليهم ما اتّصف به من رذائل.

فإن كان من صفاته التجسّس والميل إليه، وهو ما يحبّه الظالمون دائماً، رأيت حاشيته يسعون إليه بالأبرياء، ويبتغون الزلفى عنده بالايقاع بالناس كذباً وبهتاناً، فتنفر منه القلوب، وتجتمع على بغضه والكيد له، وتتهيّأ النفوس للأخذ بالثار منه وانتهاز الفرصة فيه، وإنّها لممكنة لأنّ الزمان قلب، وغيره تصيب الحذر من مأمنه.

ومن أضرّ أنواع الظلم بالشعوب وأفتكه بها أن يستبدّ الحاكم، بأن يجعل إلهه هواه وارادته شرعاً وقانوناً، فلا يحكم إلاّ بما يرى في نفسه، فتذهب حرمة النفس والمال، ويتقلّص ظلّ الأمن من البلاد، وتنقبض الأيدي عن العمل فتقلّ الثروة، ويتّسع نطاق الجهل بما يسعى إليه دائماً من اطفاء نور العلم الذي يصوح الاستبداد وأهله، ويدكّ بنيانه، ويقوض أركانه، وينسخ آثاره.

ولا جرم أنّه باطفاء نور العلم تنحطّ الأخلاق، وتفقد الأُمّة خير صفات الكمال، وينتشر فيها الملق والنفاق، والكذب والغيبة والنميمة والرشوة، ويكون عاقبة أمر الظالم أن تعصف به ريح هوجاء من الفتن فتثل عرشه، وتذهب بملكه وأمنه، فإذا نشأ هذا في أُمّة كان دليلا على فنائها وزوالها ومحوها من سجل الأُمم، ونزل بأهلها من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون.

والسلطان ظلّ الله في الأرض يأوي إليه كلّ مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الطاعة والشكر، وإن جار وظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر، وفي الأثر: «ما من عبد يسترعيه الله عزّ وجلّ رعية يموت يوم يموت غاش رعيّته إلاّ حرّم الله تعالى عليه الجنّة»(13).

وقال: «من ولّي أُمّة من أُمّتي قلّت أو كثرت فلم يعدل فيهم كبّه الله على وجهه في النار»(14).

وقال: «إنّ الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلّى عنه ولزمه الشيطان»(15).

 

النصوص القرآنية في حرمة الظلم:

وقد نصّ القانون الإسلامي على حرمة الظلم وقبحه الناشئ من لؤم الطبع وخبث النفس، وضعف الوازع الديني والخلقي، والدليل على تجرّد من اتّصف به من خلال الكرم والمروءة، وصفات النبل والفضيلة، والبرهان على ذهاب نور الايمان من القلوب، فاستمع إليه وهو يقول: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أُحلّت لهم وبصدّهم عن سبيل الله كثيراً) [النساء : 160].

(ثمّ قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون)[يونس : 52].

(ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أُولئك يعرضون على ربّهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذّبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين) [هود : 18].

(ولمّا جاء أمرنا نجّينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منّا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين)[هود : 94].

(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تنصرون)[هود : 113].

(فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلا ممّن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) [هود:116].

* * *

قوله (عليه السلام): «إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً، رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً. وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ وَإِيَّاكَ وَالاِْتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى، وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ. بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً».

 

الدِّقة في قبول النُصح:

استقبل النصح راضياً به، متقبّلا إيّاه، متفحّصاً له، فمن النصح ما يعود عليك بالويل والثبور، فلربّ أحد ينصح لك ليغويك عمّا أنت عليه، وقد لا يكون لما يأتي من النصح فاهماً.

وإن رمت خيراً وإن قصدت إلى نفع، فالعمل والجدّ لا المنى والأحلام، فما الأحلام بكافية أصحابها، وما الأحلام دافعة عنك ضرّاً، ولا الأحلام تردّ عليك أكثر ما فاتك من خير، اعمل ما وسعك العمل ولا تكوننّ بطراً إن شبعت، ولا تدع الأماني العذاب والأحلام الزائفة تحتل من نفسك مكاناً عظيماً، وأنفذ للعمل الصالح ينفعك، ويجلب لك الحياة الهادءة المطمئنّة.

فأنا لا أُريدك للاتّكال على المنى لأنّها بضائع ضعفاء البصائر، قاصري الأنظار، خائري الهمم، جامدي القلوب، وإنّما العقل في التجربة تحفظها، وتسير على طبق ما تأتي به من النتائج، وإنّ خير ما أجريت من تجارب ما أفادك موعظة وخلع عنك خلقاً سيئاً.

 

انتهاز الفرص:

بادر إلى اقتناص الفرصة التي تسنح لك بكثير من العمل، ولا تتركها فإنّ في تركها خسارة كبيرة، فاقتنص الفرص فما الفرص دائمة ليس لها من زوال، قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «إضاعة الفرصة غصة»(16).

وقال (عليه السلام): «الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود»(17).

وفي المثل: «انتهزوا الفرص فإنّها تمرّ مرّ السحاب»، ومن كلام بعض الأكابر: «إنّ فوت الوقت أشدّ عند أصحاب الحقيقة من فوت الروح، لأنّ فوت الروح انقطاع عن الخلق، وفوت الوقت انقطاع عن الحق».

إنّ من أكمل مزايا النفس المؤيّدة وأحسن صفاتها، اليقظة في الأُمور والمسارعة إلى احراز قصب السبق في مضمارها، والمسابقة إلى نيل المقاصد بانتهاز فرصها قبل فواتها، ومجانبة أسباب الغفلة والتحرّز عن آفاتها، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى عباده في السور المنزلة بمحكم آياتها، فقال جلّ وعلا تارةً: (وسارعوا) وتارةً: (وسابقوا)تنبيهاً على أنّ يقظة النفس ومبادرتها إلى مصالحها من سعادتها، وغفلتها وتوانيها عن واجب ذلك من شقاوتها.

فمن سمت نفسه إلى جسيم رتب المعالي، وترامت همّته إلى استخدام بيض الأيّام وسود الليالي، وأحبّ انتظام الأُمور إليه في سلك مطلوبه الدائم ومرغوبه المتوالي، تسربل بملابس اليقظة فهانت لديه عظائم الأُمور، وعظمت مهابته في الصدور، وتحامى الناس أن يعاملوه بشيء من المحضور والمحذور.

ومتى آثر تعب التيقّظ راحة الاهمال، وركن إلى دعة التواني الداعية إلى الاغفال، وأخلد إلى مساكن الغافلين عمّا يؤول إليه حال المغترّين بما لهم اللاّهين عن مستقبلهم، كان جديراً بانتقاض مبرم ما ركن إليه، واعراض الناس عنه بعد اقبالهم عليه، وآل أمره إلى ندامة يعضّ منها على يديه.

ويكفي في نقيصة الغفلة وذمّ المتّصف بها أنّ الخسارة لازمة له فيما غفل عنه بسببها، فإن كان في أمر ملك أو دنيا فاته نصيبه منهما وبات ملوماً محروماً، وإن كان في حال الآخرة فقد خسر خسراناً مبيناً، وقد أنفذ الله عزّ وجلّ حكمه في ذلك وأبرمه وقصه في كتابه العزيز الذي أنزله وأحكمه، فقال عزّ من قائل في حقّ من سبق قضاؤه فيهم بدمارهم، وجرى القلم في القدم ببوارهم:

(أُولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأُولئك هم الغافلون  لا جرم أنّهم في الآخرة هم الخاسرون)[النحل : 108-109].

وكما أنّ الخسارة من لوازم الغفلة فكذا الربح من لوازم اليقظة، ومن هذا قال أبو سعيد الحسن البصري: «التواني رأس خسران الدنيا والآخرة».

وجاء في حِكَم الأقدمين: «انتهز الفرصة فإنّها خلسة، وإيّاك والعجز فإنّه أوضع مركب، واحذر التواني فإنّه يجلب أنواعاً من البلاء».

هذا كسرى عظيم الفرس خصّ ببقاء الذكر، واشتهار السمعة، وانتشار الصيت، واستقامة الحال، وحراسة الملك، وحفظ الرعايا، وحماية البلاد، وانقياد الناس له، وميل القلوب بمحبّتها إليه، ومخافة الأعداء منه، كلّ ذلك يسّره الله تعالى بما ألهمه إيّاه من كمال التيقّظ الذي لم يسبقه أحد بمثله، حتّى نقل أنّه كان من أشدّ الناس تطلّعاً إلى خفايا الأُمور، ومن أكثرهم بحثاً عن أسرار الصدور، وكان يبثّ العيون على الرعايا والجواسيس في البلاد، ليقف على حقائق الأحوال، ويطّلع على غوامض القضايا، فيعلم المفسد فيقابله بالتأديب، والمصلح فيجازيه بالاحسان.

ويقول ما معناه: «متى غفل الملك عن تعرّف ذلك فليس له من الملك إلاّ اسمه، وسقطت من القلوب هيبته، ولا يأمن دخول خلل عليه في ملكه، وانبسطت أيدي حاشيته باتّباع هواها، وتسلّطت عمّاله على أقطاع أمواله وافنائها، وصارت رعاياه فوضى».

ولا غرو فقد علم كسرى أنّ سلوك سبل اليقظة يهدي إلى الصلاح، فصلح ملكه باتّباعه وانتهاجه، وهكذا كلّ من اقتفى في اليقظة طريقته وأثره، وارتقى في نهج معراجه أمن على نظام ملكه من اختلاله وعلى حاله من اعوجاجه.

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «تنفّسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عنف السياق»(18) أي انتهزوا الفرصة واعملوا قبل أن يفوتكم الأمر ويجدّ بكم الرحيل ويعدم الندم.

يقول الشاعر في هذا المعنى:

اختم وطينك رطب إن قدرت فكم *** قد أمكن الختم أقواماً فما ختموا

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «من وجد مورداً عذباً ولم يرتو منه ولم يغتنمه يوشك أن يظمأ ويطلبه فلا يجده».

دخل رجل من أهل الشام على أبي جعفر المنصور فاستحسن لفظه وأدبه، فقال له: سل حاجتك، فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويزيد في سلطانك، فقال: سل حاجتك فليس كلّ وقت يمكن أن يؤمر لك بذلك.

ومنه ما قال بعض الأُدباء:

إذا ذهبت رياحك فاغتنمها *** فإنّ لكلّ خافقة سكون

وإن درت نياقك فاحتلبها *** فما تدري الفصيل لمن يكون

قال رجل للحسن البصري: آخذ عطائي أم أدعه حتّى آخذه من حسناتهم يوم القيامة، فقال له: قم ويحك خذ عطاءك فإنّ القوم مفاليس من الحسنات يوم القيامة.

وقال بعضهم:

بادر إذا حاجة في وقتها عرضت *** فللحوائج أوقات وساعات

إن أمكنت فرصة فانهض لها عجلا *** ولا تؤخر فللتأخير آفات

يقال: من ظفر بالساعة التي ينجح فيها العمل ثمّ لا يعاجله بالذي ينبغي له فليس بحكيم، ومن طلب الأمر الجسيم فأمكنه ذلك فأغفله فأتاه الأمر وهو خليق أن لا تعود الفرصة ثانية، ومن وجد عدوّه ضعيفاً ولم ينجز اتلافه ندم إذا استقوى ولم يقدر عليه.

وقال بعضهم:

انتهز الفرصة في حينها *** والتقط الجوز إذا ينتثر

وقال ابن الهبارية:

انتهز الفرصة إنّ الفرصة *** تعود إنْ لم ينتهزها غصة

واسبق إلى الأجود سبق ناقد *** فسبقك الخصم من المكائد

وقال ابن المعتز:

كم فرصة ذهبت فعادت غصة *** تشجي بطول تلهّف وتندم

حكي عن بعض العلماء: انّه كان ذات يوم في الخلاء، فدعا تلميذاً له وقال له: انزع عنّي القميص وادفعه إلى فلان، فقال: هلاّ صبرت حتّى تخرج؟ قال: خطر لي بذله ولا آمن على نفسي أن تتغيّر.

قال أرسطو: افترص على عدوّك الفرصة، واعلم انّ الدهر دول.

وقال حكيم: تجرع من عدوّك الغصة، إلى أن تجد منه الفرصة، فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك ويعينه الفلك، فإنّما الدنيا دول تقلبها الأقدار، ويهدمها الليل والنهار.

وقال حكيم آخر: الفرصة نوعان: فرصة في عدوّك، وفرصة في غير عدوّك، فالفرصة في عدوك ما إذا بلغتها نفعتك وإن فاتتك ضرّتك، وفي غير عدوك ما إذا أخطأت نفعه لم يصل إليك ضرّه.

ومن الحكم المنثورة: انتهز أمر عدوّك قبل أن يمتدّ باعه، ويطول ذراعه، وتشتدّ شكيمته، وتقوى شوكته.

قال ابن المعتزّ في ذلك:

وإن فرصة أمكنت في العدى *** فلا تبد فعلك إلاّ بها

فإن لم تلج بابها مسرعاً *** أتاك عدوّك من بابها

وفصل الخطاب في هذا المورد قول علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «بادر الفرصة قبل أن تكون غصة»(19).

وناهيك من ذلك انّه لما حضر عبيد الله بن زياد عند هاني بن عروة عائداً وقد كمن له مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وأمره أن يقتله إذا جلس واستقرّ، فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه ويريدها على الوثوب به فلم تطعه، وجعل هاني ينشد كأنّه يترنّم بالشعر قائلا:

ما لانتظار بسلمى لا يحيّيها *** حيّوا سليمى وحيّوا من يحيّيها

ويكرّر ذلك، فأوجس عبيد الله خيفةً ونهض، فعاد إلى قصر الامارة، وفات مسلماً منه ما كان يؤمله باضاعة الفرصة حتّى صار أمره إلى ما صار.

* * *

قوله (عليه السلام): «لَيْسَ كُلُّ طَالِب يُصِيبُ، وَلاَ كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ. وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ، وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ. وَلِكُلِّ أِمْر عَاقِبَةٌ، سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ. التَّاجِرُ مُخِاطِرٌ، وَرُبَّ يَسِير أَنْمَى مِنْ كَثِير!».

أُطلب الرزق واطلب العيش الرغد، ولكن بشيء كثير من القناعة وبشيء من التأنّي، فما كلّ طالب بمصيب، وما كلّ غائب راجعاً إلى وطنه، فاجمع ليومك زادك من الآن، ويا ويل من فسد زاده أو ضاع، أو فسدت عقباه وتقوّضت آخرته.

ولابدّ أنّنا لا محالة صائرين إلى غاية معلومة نجري نحوها مسرعين، وسوف يوافينا كلّ ما قدّر لنا، ولن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا، والتاجر مخاطر في بضاعته فقد يبلغ ما يريد، وقد يكبو به الطريق، وقد تلتوي به العقبات فلا ينال إلاّ يسيراً، وربّ يسير أنفع من الكثير، وربّ يسير أنمى من كثير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) البحار 71 : 291 ح62.

(2) احياء العلوم 3 : 108 / آفات اللسان.

(3) المستطرف 1 : 128 نحوه.

(4) البحار 70 : 4 ح1.

(5) المحجة البيضاء 5 : 193; والترغيب 3 : 528.

(6) البحار 77 : 150 ح1، والمستطرف 1 : 443.

(7) المستطرف 1 : 444.

(8) غرر الحكم : 320 ح7415، والمستطرف 1 : 443.

(9) الكافي 2 : 331 ح5; عنه البحار 46 : 153 ح16.

(10) الكافي 2 : 331 ح4; عنه البحار 75 : 329 ح60.

(11) صحيح البخاري 8 : 323 ح879 كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.

(12) البحار 71 : 393 ح63.

(13) الترغيب والترهيب 3 : 176 ح28.

(14) الترغيب والترهيب 3 : 173 ح25.

(15) الترغيب والترهيب 3 : 172 ح21.

(16) نهج البلاغة : قصار الحكم 118; عنه البحار 71 : 217 ح22.

(17) مستدرك الوسائل 12 : 142 ح13731.

(18) نهج البلاغة : الخطبة 90; عنه البحار 4 : 310 ضمن حديث 38.

(19) نهج البلاغة : الكتاب 31; عنه البحار 71 : 341 ح14.