الفصل الثامن عشر

قواعد الصداقة والإخاء

 

 

«لاَ خَيْرَ فِي مُعِين مَهِين، وَلاَ فِي صَدِيق ظَنِين. سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ، وَلاَ تُخَاطِرْ بِشَيْء رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ.

احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَة عَلَيْكَ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ. لاَ تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صِدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ، وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً، وَتَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً، وَلاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً. وَلِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحْد الظَّفَرَيْنِ. وَإِنْ أَرَدْتَ قَطيِعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْماً مَّا، وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ، وَلاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ. وَلاَ يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ، وَلاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ، وَلاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَى الاِْسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الاِْحْسَانِ. وَلاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ، فَإِنِّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَنَفْعِكَ، وَلَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ».

* * *

سوء الظن:

في هذا الفصل أُسس وقواعد في الصداقة والاخاء متينة، فنحن نعلم من هذا الفصل أنّ الصديق لا يكون ظنيناً، وأنّ المعين لا يكون مهيناً، بمعنى أنّ الصداقة لا تسمح للظنون أن تتطرّق إليها، فليس لصديق على صديق أن يظنّ به أسوء الظن، وليس من حقّ صاحب على صاحبه أن يكيد له أعظم الكيد، كما ليس لمن أراد الاعانة على أمر أن يهين ذلك المعان ويغض من قدره، ويرى لنفسه في ذلك حقّاً إزاء عمله واعانته على الأمر.

 

سلطان الدهر:

وفي هذا الفصل نتعرّف إلى أنّ الإنسان مخطئ أشدّ الخطأ إذ يريد أن يعمل على عكس ما يريد له الدهر أن يعمل، فما من الدهر وأعماله محيد، وكيف يستطيع أحدنا أن يتّخذ له سبيلا غير سبيله، وقد خضع له من هو أشدّ منّا قوّة وبأساً، وإذاً فليس من واجبنا أن نكون مع الدهر أو عليه، وإنّما نحن أهل حياد ـ كما يقولون ـ نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا.

وإنّما الواجب أن نتربّص فرص الدهر السانحة، فنستغلّها فيما نريد أن نعمل ونقول، فإنّ للدهر غفلات، وإنّ له لقعود يلين به جانبه، فعلينا أن نلين له ما أبدى لنا اللين واللطف، وما كان لنا بحقّ ـ بحكم العقل ـ أن نتسرّع في شيء، وما كان لنا أيضاً أن نخاطر بما لدينا طمعاً بما في أيدي الناس، فذلك ممّا لا يليق بنا.

ولله ذلك الرجل القانع الذي لا يطمع من دنياه بأكثر من طمريه، ولا يبغي لنفسه فيها سوى قرص أو قرصين من الشعير يقيم به صلبه، لله ذلك الإنسان الرباني، أُنظر إليه كيف يأمر ولده تارةً باتّخاذ الطريقة القاصدة، ولزوم السيرة المثلى، وفيها تارةً أُخرى عن ارتكاب ما لا يحلّ لمثله أن يفعله، ممّا يشين به ويحطّ من مقامه في أعين الناس وعند الربّ.

 

الطمع:

أُنظر إليه تراه ينهى ولده عن الطمع والطلب، فهو يدعوه إلى أن لا يخاطر بما يده ابتغاء تجارة مربحة ومال غزير، مخافة أن يذهب ما في يده فيقعده حينذاك ملوماً محسوراً، يودّ لو لم يكن قد فعل ما فعل، ويودّ لو أُتيح له استرجاع ما قدّم، ولكن أنّى له ذلك وقد انتقل ما كان عنده إلى غيره، وصار ملكاً لذلك الغير، وليس له فيه أيّ نصيب.

 

اللجاجة:

وينهاه عن اللجاج في الخصومة مخافة أن يقع في أسرها، ينهاه عن اللجاج هذا الذي يؤدّي إلى الغضب، والغضب أبعد ما يكون عن منطقة العقل السليم.

 

شروط الصداقة:

ونرى هنا أنّ من شروط الصداقة أشياء كثيرة: فمنها اللطف واللين للصديق، ومنها العطف والحنو عليه، ومنها حسن الظنّ به، ومنها الدفاع عنه والذبّ عن حوضه إن غاب وإن حضر، فإذا بدرت من الصديق بادرة فلا يحسن بهذا الصديق الآخر الصرم وقطع الصلة المتينة التي تمكّنت منهما وأمعنت في التمكّن، بل يجب عليه أن يبشرفيوجهه، وأن يظهرالاخاءالأوّل الذي يظهر أنّه فوق أن تزعزعه الحوادث.

والصديق إذا بخل عليك بشيء فإن كان لذلك سبب فهو بالعذر أحقّ منه باللوم، وإن لم يكن عن عذر فما يمنعك أن تعرض عن بخله وشحّه، وتجد من نفسك من يعلمه الصلة والاخاء، والسخاء الأخوي، وإن اشتدّ عليك وأسرف في التشدّد، وإن أحبّ لنفسه البُعد عنك، وإن بدر منه جرم تجاهك، فليس من جناح أن تعمل بضدّ ما يعمل، أن تجود بما لديك إذ يبخل بأدنى ما لديه، وتقرب منه إذ يتباعد عنك، وتلين له إذ يشتدّ عليك، وتعفو عنه إذ أساء إليك.

وإن أحببت دوام تلك الصداقة والأُخوّة فلا تصاحب خصم صديقك، وابتغ لنفسك في غيره صديقاً، أفما كفاك الكثير من الناس عن اتّخاذ عدوّ الصديق صديقاً، فاتّخذ لنفسك من دونه صديقاً تأنس إليه، تبادله الودّ وتصافيه المحبّة، وترفعه وتكرمه وتعزّه، ويعمل هو معك كما أنت تفعل.

فكم من صديق قد ضيّع أصدقاء كثيرين لسبب أنّه اتّحد بأعدائهم، ومعلوم أنّ كلّ من يتّخذ عدوّك صديقاً لنفسه فهو غير مبال بما يجره عليك هذا العدو، ولو كان يبالي بذلك ما صادقه ولا آخاه، ولكنّه راض بما يعمل معك وما يوقعه فيك، فمن هذا الطريق يكون هجر الصديق للصديق; لأنّ صديق العدو لم يعد صديقاً حقّاً فهو شريك للعدو في عداوته، وشريك له في بغضائه وكيده، وشريك في خديعته ومكره، يوصل إليك ضرّه وكيده في لباس الصداقة والمحبّة.

ومن أحضر طعاماً مسموماً عند الغير مريداً اهلاكه، فهو أخبث نفساً وأشدّ معصيةً ممّن شهر سيفه علانية مريداً قتله، إذ الثاني أظهر ما في ضميره، وأعلَمَ المقابل بارادته، فجزم بأنّه عدو محارب له فاستعدّ لدفع شرّه ومنع ضرّه، وأمّا الأوّل فظاهره في مقام الاحسان، وباطنه في مقام الايذاء والعدوان، والغافل لا خبر له عن خباثة باطنه فيقطع بأنّه يحسن إليه، فلا يكون معه في مقام الدفع والاحتياط بل في مقام المحبّة والوداد، فيقتله وهو يعلم أنّه يحسن إليه، ويهلكه وهو في مقام الخجل منه.

 

المكر:

ولأجل ذلك عدّ المكر من المهلكات العظيمة إذ يتوقّف بقصد الضّرر على الكذب; لأنّه اظهار خلاف الحقيقة، والكذب هو الركن الأوّل في المكر.

ويتوقّف بقصد العدوان على اللؤم الكامن في النفس، وبدونه لا يتحقّق المكر، واللؤم من الصفات القبيحة المذمومة عند العقلاء.

ويتوقّف على وجود ما يوجب المكر في نفس الماكر من حسده لمن يمكر به، أو رغبته في الاستيلاء على نعمته وسلطانه، أو عداوته له بلا ذنب يوجبها، فإن تسبّب المكر بقصد الظلم والعدوان عن هذا فلا ريب في قبحه، وإن كان بلا سبب فهو سجيّة قائمة في نفس الماكر، وهذا منتهى الرداءة والخساسة.

المكر بقصد العدوان من الأوباء العامة، والأمراض النفسية المنتشرة في جملة من أفراد النوع الإنساني.

يبرز المكر من أهله بأشكال عجيبة، وصور مختلفة في الموضوع الواحد بسبب تفاوت الأفهام ومدارك الأفكار قوّة وضعفاً، فالحاذق في أساليب المكر ربّما يقع في حبالته إذا ما كره غيره بصورة لا يراها على حذاقته في المكر مكراً، أو بصورة لم تكن تخطر بباله، إذ ما من طامة إلاّ وفوقها طامة.

المكر بقصد الظلم والعدوان لمن ارتضاه سهل هين، وإنّما عسر الوصول إليه والجري عليه من العرفاء والمفكّرين، وأهل البصائر الروحانيين لكبر نفوسهم، وعلوّ هممهم وشيمهم، وسلامة قلوبهم، وخوفهم من خالقهم، إذ لابدّ للماكر من الكذب، والغدر، والفجور، والخيانة، واللؤم، والخساسة، والمخالفة العظيمة لأمر الله ونهيه، وهذا كلّه من لوازم المكر من أهله بقصد الظلم والعدوان، وهو الكفر من حيث لا يشعرون.

لأهل المكر صفات متباينة مع من يمكرون بهم، يظهرون لهم ما يزيد على رأفة الآباء والأُمّهات، وهو مطعمة الصيّادين، وبعده إلقاء الأشراك والأشباك بالترغيب، والترهيب، والتحريك، والتسكين، والتقريب، والتبعيد، حتّى تنفذ سهام المكر في قلوب البسطاء والمساكين، ولا مناص عن تسخير الأفكار، وتبعيّة الارادة، واستخدام الأجسام، واستثمار النعم بعد تملّك القلوب بنفوذ سهام المكر فيها، وهذا يراه عامة أهل المكر والغافلين عن الحقيقة في كلّ عصر انّه عين الاقتدار، وروح السياسة، وغاية الرجولية.

أمّا أهل البصائر والاستقامة والمعرفة بما يُدان به سبحانه وتعالى، فإنّ بينهم وبين سلوك طريقة المماكرة كما بين السماء والأرض، وأبعد من ذلك، كيف لا يكونون كذلك والحقيقة نصب أعينهم، وسوء عاقبة أهل المكر غير خفيّة عليهم، بعد استنارتهم بالموحيات الربانية، والكتب السماوية المعربة عمّا كان ويكون.

جاء النصّ في القانون الإسلامي على ذمّ أهل المكر وتوبيخهم، وبيان عاقبة أمرهم، فقال سبحانه: (أفأمن الذين مكروا السيّئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) [النحل : 45].

الاستفهام في أوّل الآية الشريفة جاء بنحو الانكار، والتوبيخ من الله سبحانه على من نزلت بهم هذه الآية، ومعناها: أيّ شيء أمن هؤلاء القوم الذين دبّروا التدابيرالسيّئة لتوهين أمرالنبي(صلى الله عليه وآله)واطفاء نور الدين، وايذاء من آمن بالله ورسوله.

ثمّ بيّن سبحانه انّه قادر على أن يخسف بهم الأرض عقوبة لهم كما فعل بمن تقدّمهم، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.

نزلت هذه الآية في مشركي قريش حين اشتدّ سيّئ مكرهم برسول الله (صلى الله عليه وآله)بعد اخراجهم له من بين أظهرهم، من بيته وبلدته وحرم ربّه، فاشتدّ غضب الله عليهم، فهدّدهم ثمّ عذّبهم بسيوف أوليائه يوم بدر، يوم الفوز والنصر.

 

مجمل وقعة بدر وأسبابها:

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يثرب بعد هجرته إليها ونجاته من كيد المشركين ومكر الكافرين، مشغولا ببثّ الدعوة الإسلامية، وتهذيب أخلاق المؤمنين، وغرس حمية الدين في قلوبهم، واعدادهم لكفاح أعدائه وأعدائهم، ولقد عادته عامّة العرب بجهلها، وأشدّها عداوةً له قريش، نعم كانت العرب تنظر إلى امتناع قريش عليه، وانقيادها إليه نظرة التابع للمتبوع والجاهل للعالم.

وحيث تمّت مقدّمات دعوته وأسباب استنارة العالم بأنوار نبوّته، وقعت حرب بدر بينه وبين قريش، فكانت من معجزات النبوّة وآيات الرسالة لمن شاهدها أو ألمّ خبراً بها.

خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بدر ومعه ثلاثمائة وثلاث عشرة رجلا، ومعهم فرسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان معهم سبعون جملا يتعاقبون عليها، فهم على قلّتهم تظهر عليهم الفاقة والفقر وضعف الاستعداد.

خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بدر وغايته تأسيس قواعد الدين، ونشر لواء الحقّ والعدل على الأنام، وابطال عبادة الأصنام، نعم خرج لهذه الغاية الشريفة، ودعا المسلمين إلى اغتنام الفرصة بالاستيلاء على تجارة قريش حال إيابها من الشام، وفقاً لرغبتهم وبعثاً لهمّتهم، وكان قد تعرّض لها حال ذهابها إلى الشام ففاتته، وكان خروجه لبدر في السنة الثانية من الهجرة، ونزل وادي بدر وهو يعلم بخروج قريش لحربه، وقريش تعلم بخروجه لحربها.

كانت تجارة قريش وعيرها بقيادة أبي سفيان ومعه عدد وافر من قريش، فلقيهم رجل من جذام حال إيابهم من الشام، وأعلمهم اعتراض رسول الله (صلى الله عليه وآله)لهم حال ذهابهم، وأنّه ينتظر رجوعهم، فارتابوا بخبره وأرسلوا رجلا منهم يقال له ضمضم بن عمرو إلى مكة ليعلم قريشاً باياب عيرها وتجارتها، وخروج رسول الله للاستيلاء عليها.

خرجت قريش من مكة بقوّتها واستعدادها بعد وصول ضمضم، واستصراخه قريشاً بندائه واستغاثته، وهو مشقوق القميص محول الرحل، خرجت قريش وسائقها أبو جهل، أخرجها أبو جهل وهو قائد الجهالة بالرغبة والرهبة، رغبتها بالاستيلاء على ما خالفها في عقيدتها وعابها في عبادتها، وخوفها من ذهاب عيرها وتجارتها، فنفرت بقضها وقضيضها إلاّ أبو لهب فلم يقدر عليه أبو جهل.

جاءت قريش وقائدها أبو جهل وعليها ملابس العظمة والفخر، وقد قادت مائة فرس بطراً وخيلاء، وعدّتها تسعمائة وخمسون فارساً يعللها أبو جهل بما تتوق إليه نفوسها من أنّها بعد استئصالها محمّداً والتابعين له تلبث في بدر ثلاثاً تنحر الجزر، وتطعم الطعام، وتشرب الخمر، وبذلك تهابها عامّة العرب، وتسمو ذروة الفخر.

أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد نزوله ببدر أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) والزبير وبسيس بن عمر إلى ماء هناك ليقفوا على أمر قريش، فرأوا سقاة قريش فأسّروهم إلاّ رجلا واحداً فرّ حتّى جاء قريشاً، فنادى:

يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة وأصحابه قد أسّروا سقاتكم فماجت قريش، ودخلها الهلع ممّا سمعت، فكأنّها سمعت بهجوم كسرى وقيصر بجنودهما عليها حتّى كأنّها أحسّت بنزول العذاب، ولولا أبو جهل كانت حريصة على الرجوع وترك قتال رسول الله (صلى الله عليه وآله).

رجع علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن معه بالأسرى من سقاة قريش إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو قائم يصلّي، فأحاط المسلمون بالأسرى وسألوهم عن أبي سفيان وتجارة قريش، فقالوا: لا علم لنا بهم إنّما نحن مع قريش نستقي لها الماء، فكرهوا ما سمعوه منهم وظنّوا كذبهم، فضربوهم حتّى قالوا: نحن مع أبي سفيان.

ولمّا انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الصلاة، قال لأصحابه: إن صدّقوكم ضربتموهم وإن كذّبوكم تركتموهم. وأقبل على الأسرى فقال لهم: أين قريش؟ فقالوا: خلف هذا الكثيب الذي تراه، فقال: كم هم؟ قالوا: كثير، قال: كم عددهم؟ قالوا: لا علم لنا، قال: كم ينحرون؟ قالوا: يوماً عشرة ويوماً تسعة، فقال (صلى الله عليه وآله): القوم ما بين الألف والتسعمائة.

وتحرّك رسول الله من مكانه بأصحابه ونزل أدنى مياه القوم في بدر، وجاءت قريش تشتدّ بحماسها وسائقها العمى، فنزلت بالعدوة القصوى من بدر.

أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمر بن الخطاب إلى قريش يقول لهم: ارجعوا لا حاجة لي بقتالكم، ولأن يلي هذا الأمر منّي غيركم أحبّ إليّ من أن تلوه منّي، فقال عتبة بن ربيعة وجماعة: قد أنصفنا، فقال أبو جهل: هذا من الجبن لا نرجع بعد أن أظفرنا الله به كي لا يعرض لنا بعد هذا أبداً.

ولم يكن بعد الانذار إلاّ مباشرة القتال، فأوّل متعرّض له من المشركين، تفاقم حماسه بنسبة الجبن إليه من أبي جهل هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأخوه شيبة، وابنه الوليد، ولهم سابقة الشجاعة وميزة الحسب.

فبرز إليهم ثلاثة من الأنصار فأعرضوا عنهم ونادوا: يا محمّد ليبرز إلينا أكفاؤنا من قومنا، فندب رسول الله (صلى الله عليه وآله)علياً وحمزة وعبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب، فبرزوا وانتسبوا لهم، فقالوا: أكفاء كرام، فقتل حمزة عتبة، وقتل علي الوليد، وجرح عبيدة شيبة، فأسرع عليّ فقتله.

وكان الوليد خال حنظلة بن أبي سفيان، ولذلك لم يملك حنظلة نفسه دون أن يحمل على علي (عليه السلام) طالباً دم خاله من علي، فلمّا داناه ضربه علي (عليه السلام) بالسيف على وجهه فقتله.

ولمّا قتل هؤلاء من صناديد قريش طارت قلوبها، واشتدّ الحرب وحمي الوطيس، وباشر رسول الله (صلى الله عليه وآله) القتال بنفسه، قال عمر بن الخطاب: لما كان يوم بدر نظرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يثب بالدرع وثباً وهو يقول: سيهزم الجمع ويولّون الدبر.

وكان علي أمير المؤمنين (عليه السلام) يقصد شجعان قريش وعتاتها الناصبين العداوة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كنوفل بن خويلد المعروف بعداوة رسول الله المطاع في قريش، وله قبل هجرة رسول الله مواقف فيها مظاهر عداوته لرسول الله وأصحابه، وقال رسول الله حين علم بقدومه بدراً: اللّهمّ اكفني ابن العدوية.

وكم نادى نوفل يوم بدر بصوت له زجل: يا معشر قريش إنّ هذا اليوم يوم العلاء والرفعة.

ولمّا قصده علي (عليه السلام) وهو منقض عليه كالصقر إذا قصد بغاة الطير، نظر إليه نوفل فقال لمن في جنبه: من هذا كأنّه يريدني، فقال له: هذا عليّ بن أبي طالب، فقال نوفل: ما رأيت كاليوم رجل أسرع في قومه منه، وحين قاربه علي (عليه السلام)ضربه على ساقيه فقطعهما، فناشده الرحم، فقال له علي (عليه السلام): كل رحم مقطوعة إلاّ من كان متبعاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ قتله وتركه طعم الوحوش وفجعة الأعداء، وحين علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتل نوفل بن خويلد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، كبّر شاكراً نعم الله على ما أولاه من قتل رأس الضلالة والنفاق.

وكان طعمة بن عدي من أبطال العرب، وكبار المشركين، والعدوّ الألد لرسول الله والمؤمنين، فقصده علي (عليه السلام)وقتله وأراح منه المؤمنين، وقصد علي (عليه السلام) أبا جهل فأحدق به بنو مخزوم، وأشرعوا دونه الرماح، وألبسوا لامته عبد اللاّة بن المنذر، فقتله علي (عليه السلام) وهو يراه أبا جهل، وألبسوها حرملة بن عمرو، فقتله علي (عليه السلام)، فأبى أن يلبسها بعدهما أحد.

ونظر علي (عليه السلام) إلى العاص بن سعيد بن العاص والزبد يرغو على شدقيه، وهو يبحث للقتال كما يبحث الثور، فقصده حتّى إذا داناه بادره بضربة جعلته صريعاً كالوليد وحنظلة ونوفل وشيبة وطعمة، ولا يسعني هذا المختصر أن أذكر كلّ من قتله علي أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم بدر من أبطال الحرب وأعيان قريش الذين بقتلهم رفت أعلام النصر على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وغنم المسلمون ما سدّ فاقتهم، وأغناهم من مال مكة وتجارة قريش.

نعم كان قتل علي (عليه السلام) لأبطال بدر وزعماء الشرك سبباً تامّاً لتأسيس قواعد الدولة الإسلامية، وباباً كبيراً للرهبة والرغبة في الإسلام، كان قتله لأبطال بدر وزعماء الشرك سبباً لفشل قريش وانكسارها حتّى قتل منها من قتل وأسر منها من أسر، ولو أحجم علي (عليه السلام) عن قتل أُولئك الأبطال سراة قريش وزعماء الحرب لكان النصر في جانب قريش، ولو كان ذلك لخرج المسلمون من دين الله أفواجاً، وربّما فتكت قريش برسول الله (صلى الله عليه وآله).

راجع كتب السير والتاريخ تعلم حراجة موقف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومقدار خوف المسلمين من ذلك اليوم، تعلم قوّة قريش في ذلك اليوم وبأسها بكثرتها وسلطتها، ومقدار أبطالها المعروفة وكماتها المشهورة، وكيف آبت منكسة أعلامها، طائشة أحلامها، مسودّة أيّامها، راجع السير والتاريخ تعلم عدد الهالكين من عظمائها في يوم بدر.

تعلم في ذلك اليوم من تغنّت بشجاعته الركبان، وجبنت من سطوته ومبارزته الشجعان، من أطاش ببسالته الألباب، وأذهل العقول وقتل النصف من أُولئك الفحول.

راجع شرح النهج لابن أبي الحديد تعلم أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قتل النصف، وبقية المسلمين قتلوا النصف الآخر، وأنّه إنّما قتل أهل الفتك والبطش منهم، ولم يكن (عليه السلام) قبل وقعة بدر خاض غمار الحرب ولا نازل الأبطال.

لكن النفوس الكبيرة والهمّة والبصيرة، أبت إلاّ الظهور في مظاهرها، فعلى المسلمين أن يعرفوا حقّ من أسّس قواعد هذا الدين، وأزاح الكرب عن وجه سيّد المرسلين، وأرجع أعداء الله ورسوله ملوية رقابها، ساخطة على أربابها، قد خلت جيادها من جيادها، وباءت بسىّء مكرها وعنادها، وأتاهم العذاب بسيف علي أمير المؤمنين (عليه السلام)من حيث لا يشعرون، كما وعدهم به سبحانه وهو لا يخلف الميعاد.

 

مكر قوم صالح:

وقال سبحانه: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون  فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمّرناهم وقومهم أجمعين  فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إنّ في ذلك لآية لقوم يعلمون  وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتّقون)[النمل : 50-53].

صرّحت هذه الآية الشريفة بما كان من عاقبة مكر قوم صالح، والآية السابقة عليها تدلّك على كيفية مكر قوم صالح، حيث اجتمع تسعة من قومه وأجمع رأيهم على تبييت صالح (عليه السلام) واغتياله مع من آمن به ليلا، فمكروا مكراً ـ أي دبّروا تدبيراً ـ ودبّر الله تدبيراً وهم لا يعلمون تدبيره.

وكان تدبيره أنّه سبحانه أنزل عليهم صيحة من السماء جعلت بيوتهم خاوية على عروشها بسبب ظلمهم ومكرهم وكفرهم بربّهم ونبيّهم، وفي ذلك آية بيّنة لقوم يعقلون، وأنجى الله سبحانه نبيّه صالحاً، والذين آمنوا معه من سيّئ المكر وعذاب الدنيا والآخرة.

قيل: إنّهم كانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح (عليه السلام) من وادي القرى (بين الشام والحجاز) إلى حضرموت، وسمّيت تلك الأرض حضرموت لأنّ صالحاً مات حين حضرها.

 

مكر قريش برسول الله (صلى الله عليه وآله):

وقال الله سبحانه: (والذين يمكرون السيّئات لهم عذاب شديد ومكر أُولئك هو يبور) [فاطر : 10] بيّن سبحانه في هذه الآية إنّ الذين يمكرون المكر السيّئ برسول الله (صلى الله عليه وآله) لهم عذاب شديد، ومكرهم يرجع عليهم وبوار المكر فساده.

وحاصل القضيّة أنّه قد أجمعت قريش في دار الندوة، ودبّروا التدابير السيّئة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأعلمه الله أنّ مكرهم يبور.

وقال سبحانه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)[الأنفال : 30].

قد تقدّم ما نقلناه عن أعلام المفسّرين، أنّ هذه الآية نزلت بمكر قريش حين اجتمعت على قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان اجتماعها في دار الندوة ـ وهي دار قصي بن كلاب ـ ، فاختلفت آراؤهم في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال عروة بن هشام: نتربّص به ريب المنون، وقال غيره: أخرجوه تستريحوا منه، وقال أبو جهل: نجعله في دار ونضيق عليه حتّى يموت.

واشترك معهم إبليس ـ لعنه الله ـ فقال لهم: يجتمع عليه من كلّ بطن رجل، فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة، فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية، فاتّفقوا كلّهم على هذا الرأي، وأعدّوا الرجال والسلاح لقتله ليلا، فهذا هو تدبير قريش ومكرها، وكان تدبير الله ما عرفته من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخروج بنفسه إلى الغار، ومبيت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على فراش رسول الله لتشتغل به قريش فلا تلحق برسول الله. وقد تقدّم ذكر قضيّة المبيت، وما كان من مباهات الله سبحانه ملائكته بعلي (عليه السلام) حيث جعل نفسه فداء لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

 

أحاديث شريفة في ذم المكر:

والمجال يضيق عن ذكر تمام الآيات القرآنية الدالّة على قبح المكر وذمّ أهله، وبيان سوء عاقبتهم، وفيما ذكرناه كفاية لمن تدبّر.

قال صاحب الدعوة الإسلامية الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله) في ذمّ المكر كلمة فيها كفاية لأُولي الألباب. قال (صلى الله عليه وآله): «إن كان العرض على الله حقّاً فالمكر لماذا»(1).

تعطيك هذه الكلمة من صاحب الدعوة الإسلامية بياناً كافياً في ذم المكر ومقته وسوء عاقبة أهله.

تدلّك كلمته ـ صلوات الله عليه ـ ، على أنّ من أيقن بالله وكتبه رسله، وجزم بأنّه يعرض يوم القيامة على الله، وأنّ الله لا تخفى عليه خافية، وأنّ الناس مجزون بأعمالهم، وأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد، وأنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أُولئك كان عنه مسؤولا، ذلك يوم العرض على الله، نعم تدلّك كلمته (صلى الله عليه وآله) على من أيقن بذلك لماذا يصدر المكر منه إن كان عاقلا.

 

الغدر والدهاء:

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في معرض رفع لوم من لام عليه، لعدم اتّخاذه المكر باباً للرياسة والسياسة: «والله ما معاوية بأدهى منّي ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة، والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة»(2).

إنّ صريح كلامه (عليه السلام) دالّ على أنّ الدهاء متوقّف على الغدر، وكلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة.

والمكر من أهل الرياسة والسلطة بقصد الضرر، هو الدهاء والغدر والفجور، وقبحه محسوس ملموس، وهو شعار أهل النفاق، وطريقة أهل الشقاق، وآلة سلطة أهل الباطل، وباب امرة أُمراء الجور، ولا ريب في نزاهة علي (عليه السلام)عن ذلك كلّه عند عامة المسلمين، وعصمته عند خاصّتهم.

أمّا معاوية فإنّك بعد أقلّ اطّلاع على سيرته، تعلم أنّ إمرته وسلطته مبنيّة على تجاوز الحدود الدينية، ونبذ الأوامر الربانية، والاعراض عمّا علمه من صاحب الدعوة الإسلامية.

فمعاوية ـ حين بايع أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) ـ أظهر المعصية، وخرج عن الطاعة، وموّه على أهل الشام بما يوجب انقيادهم له وبغضهم لأمير المؤمنين (عليه السلام).

كان معاوية والياً على الشام، معروفاً فيها، يُخاف ويُرجى قبل خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وقد كان من تحامل أهل الأمصار على عثمان وإنكارهم لكثير من أُموره وأحكامه، كتوليته الولايات لأقاربه، وإقطاعهم القطائع، وإعطاهم جزيل المال، ما هو معروف بحيث هاجموا المدينة، وكان بينه وبينهم احتجاج عظيم دوّنه التاريخ.

ثمّ اتّفقوا معه على شروط حمله مروان على نقضها بعد تفرّق أهل الأمصار عنه، حتّى أدّت الحالة إلى رجوعهم ليثرب وحصارهم وقتلهم له.

وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ينهاهم ويخوّفهم الله، ويدافع عن عثمان بكلّ ما يقدر عليه بقوله وفعله وولده وخاصّته، وينهى عثمان عن إطاعة مروان والعمل برأيه، وكان مروان متغلّباً على عثمان بكلّ ما يريده، ولذلك لم يجد بدّاً من إطاعته وترك رأي علي (عليه السلام)، ولم يعلم أنّ نتيجة رأي مروان هتك حرمته وقتله.

 

فتنة معاوية:

ولمّا بلغ معاوية قتل عثمان ومبايعة المهاجرين والأنصار لعلي (عليه السلام)، جمع الناس وخطبهم خطبة أبكى منها العيون، وقلقل القلوب حتّى علت الرنّة، وارتفع الضجيج، وهمّ النساء بأن يتسلّحن، هكذا ذكر ابن أبي الحديد في ج2 من شرح النهج.

ولا يخفى بغض معاوية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وحقده عليه، لأنّه قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد يوم بدر، وغيرهما ممّن يمتّ إليه، فكان لا يذكر عليّاً بخير فضلا عن أن يدخل في طاعته.

كان قد وطّن نفسه على مخالفة الله ورسوله، وإضرام نار الفتنة، واعمال أنواع الحيل والمكر.

كان لخطبته حين وافاه كتاب مروان بمبايعة علي (عليه السلام) بعد قتل عثمان، وفيه يحثّه على طلب الخلافة والخروج عن الطاعة، وهي مبدأ إعلان الحرب على أمير المؤمنين والخروج عن طاعته.

نعم كانت تلك الخطبة من معاوية مبدأ إعلان الحرب على أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وأوّل الخروج عن طاعته، حثّ الناس فيها على الطلب بدم عثمان، وقتل قاتليه، وأعلمهم أنّ دمه عند عليّ بن أبي طالب، ثمّ كتب إلى طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، والوليد بن عقبة، ويعلى بن منبه، كتباً لا يسع هذا المقام ذكرها.

كتب لكلّ واحد من هؤلاء بما يوجب خروجه عن الطاعة، وتأجّجه نار الفتن، فمنهم من دعاه إلى القيام بالامرة والخلافة، وأنّها لا تليق لغيره، كطلحة والزبير، وأنّه يوطّد له الأمر في الشام، ومنهم من أطمعه في موازرته، ومنهم من حرّكه على طلب ثاره، على ما ذكر ابن أبي الحديد في ج2، فأجابوه يحرّضونه، ويغرّونه، ويهيجونه، ويحرّكونه، إلاّ سعيد بن العاص، فإنّه كتب بخلاف ذلك، كان كتاب سعيد بن العاص لمعاوية:

 

كتاب سعيد بن العاص لمعاوية:

أمّا بعد فإنّ الحزم من التثبّت، والخطأ في العجلة، والشؤم في البدار، والسهم سهمك ما لم تنبض به الوطر، ولن يرد الحالب في الضرع اللبن، ذكرت حقّ عثمان علينا، وقرابتنا منه وأنّه قتل فينا، فخصلتان ذكرهما نقص، والثالثة تكذب، وأمرتنا بطلب دم عثمان، فأيّ جهة تسلك أبا عبد الرحمن، ردمت الفجار، وأحكم الأمر عليك، وولي زمامه غيرك.

فدع مناواة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به غيره، وقلت كأنا عن قليل لا نتعارف، فهل نحن إلاّ حيّ من قريش إن لم تنلنا الولاية لم يضق عنّا الحق، وبالله أُقسم قسماً مبروراً، لئن صحت عزيمتك على ما ورد به كتابك، لألفينّك بين الحالبين طليحاً، وهبني أخالك بعد خوض الدماء تنال الظفر، هل في ذلك عوض من ركوب المأثم ونقص الدين.

أمّا أنا فلا على بني أُمية ولا لهم، أجعل الحزم داري، والبيت سجني، وأتوسّد الإسلام، وأستشعر العافية، فأعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتك إلى محجّة الحق، واستوهب العافية لأهلك، واستعطف الناس على قومك، وهيهات من قبولك ما أقول حتّى يفجر مروان ينابيع الفتن تأجّج في البلاد، وكأنّي بكما عند ملاقاة الأبطال، تعتذران بالقدر، ولبئس العاقبة الندامة، وعمّا قليل يتّضح لك الأمر والسلام(3).

إنّك بعد الاطلاع على هذا الكتاب، تعلم أنّ علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عارفاً بمعاوية، وعدم قبوله للحقّ والدخول فيما دخل به الناس، لأنّه (عليه السلام) لا يجهل من حال معاوية ما يعلمه سعيد بن العاص، بل هو أعرف من سعيد بمعاوية.

إنّك بعد التأمّل في كتاب سعيد بن العاص، لا يسعك إلاّ الوقوف على حقيقة ما فيه من الاشارات والاعتراف بالحقيقة بصريح بيانه، وهي أُمور لا تخفى:

(منها) أنّه كذَّب معاوية بقوله: «والثالثة تكذب» حيث زعم معاوية أنّ عثمان قتل في بني أُميّة.

(ومنها) بيان نقص دين معاوية، وخوضه بدماء المسلمين، وبُعده عن الحقّ، ولذلك قال له: «فأعدل زمام راحلتك الى محجّة الحقّ ولبئس العاقبة الندامة، وهيهات من قبولك ما أقول، حتّى يفجر مروان ينابيع الفتن تأجّج في البلاد»، أي يفجر مروان بسبب نهوض معاوية لأمر ما جعله الله له ـ ، وإنّما ذكر مروان لأنّه السبب الوحيد في قتل عثمان، فهو السبب في خروج معاوية.

(ومنها) تذكيره لمعاوية وتخويفه بقوله: «فدع مناواة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به غيره» فإنّ هذا صريح بأنّ علياً (عليه السلام) لو ناضل ونازع وجرّد سيفه وحارب في صدر الأمر، لم يعدل به غيره، وهذا كلّه كناية عن طلب الخلافة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقوّة والفتك وعدم المبالاة بدماء العباد، فسعيد بن العاص يذكر معاوية ويخوّفه بالله مرّة، وبسيف علي ثانية، وبأنّ الناس لا يتركوا عليّاً إذا قام، وليس هذا وأنت القابل له بل في صدر الأمر.

 

الأسباب التي دعت الامام علي (عليه السلام) للسكوت:

فعلي (عليه السلام) إنّما ترك الطلب بحقّه في صدر الأمر لعلمه بأنّ الناس دخلت في الإسلام، ولم يطل الأمد بين دخولها ووفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهي إذا رأت باباً مفتوحاً للخروج منه رجعت إلى عبادة الأصنام وعهدها بها قريب.

وإنّما ثبت الإسلام في قلوبهم بعد أن فتحت لهم خزائن كسرى وقيصر، وذاقوا نعيم الدنيا في الشام والعراق وغيرهما، فلو أعلن علي (عليه السلام) الحرب على أبي بكر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لخرج أكثر الناس من الإسلام، فهل يحارب علي (عليه السلام)في صدر الأمر أو يفترش فراشه، وهو العالم بما ينتهي إليه أمر الناس.

فعلي (عليه السلام) يرى أنّ سكوته عن الحرب وضياع حقّه مصيبة وضرر، وفي حربه وقيامه في صدر الأمر مصيبة وضرر أعظم، والعاقل الحكيم يترك طلب المهمّ لأجل الأهمّ، ولا ريب أنّه يرى أهمية توسعة الدين الإسلامي في البلاد ونشر لوائه على العباد، فهذه هي المصلحة التي دعته لترك القيام في صدر الأمر.

فعلي (عليه السلام) إنّما يهمّه أمر الدين لا الدنيا، فلهذه الغاية لم يفترش فراشه صدر الأمر، ولم يكن يرى أنّ أحداً ينازعه الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لقربه من رسول الله، وسبقه في الإسلام، وجهاده وبلائه في جميع المواقف.

يرى نفسه أنّه صاحب بدر وحنين وأُحد وخيبر، وكاشف الكرب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعامّة المسلمين يوم الخندق، يوم هجوم العرب بأحزابها على يثرب (عاصمة المسلمين) وعلى صاحب الدعوة ومؤسس الدولة، يوم عبر عمرو بن ودّ الخندق، فطارت النفوس، وبلغت القلوب الحناجر، وكادوا يخرجون لخوفهم من عصمة الإسلام، نعم يرى أنّه لولا سيفه في ذلك اليوم لكان ابن ودّ جعلهم أحاديث، ومزّقهم كلّ ممزّق وفعل ما فعل.

ومن يرجع إلى كتب السير والتاريخ، يعلم كيف كان هجوم العرب على يثرب، وكيف عبر عمرو بن ودّ الخندق الذي حفره المسلمون من شدّة خوفهم، وكم نادى عمرو بن ود يطلب المبارزة بعد أن عبر الخندق ووقف بينهم ولا يمنعهم منه مانع، حتّى قال:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

وأبياته مشهورة، فهل تحرّك أحد من المسلمين، وعمرو بن ودّ بينهم يناديهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يحمّسهم لمبارزته ويضمن لهم الجنّة، هل تجاسر على الدنوّ من عمرو أحد سوى علي (عليه السلام)، فإنّه أرداه بضربة لم يزل لصداها دوي في العالم العلوي والسفلي، وجاء فيها: «ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين».

فعلي (عليه السلام) يرى أنّ له ما له ممّا لا يخول غيره التعرّض للخلافة، ويعلم أنّ المسلمين سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّه ما يمنعهم من العدول عنه إلى غيره لو افترش فراشه صدر الأمر، وإليك ما سمعوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ممّا هو متّفق على وروده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند عامّة المسلمين.

 

أحاديث في فضل الامام علي (عليه السلام):

قال ابن أبي الحديد في المجلد الثاني من شرح النهج ص449:

«واعلم أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لو فخر بنفسه، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله، بفصاحته التي آتاه الله تعالى إيّاها واختصّه بها، وساعده على ذلك فصحاء العرب كافّة، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق ـ صلوات الله عليه ـ في أمره.

ولست أعني بذلك الأخبار العامّة الشائعة التي يحتجّ بها الامامية على إمامته، كخبر الغدير، والمنزلة، وقصّة براءة، وخبر المناجاة، وقصّة خيبر، وخبر الدار بمكّة في ابتداء الدعوة ونحو ذلك، بل الأخبار الخاصّة التي رواها فيه أئمّة الحديث التي لم يحصل أقلّ القليل منها لغيره.

وأنا أذكر من ذلك شيئاً يسيراً ممّا رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه، وجلّهم قائلون بتفضيل غيره عليه، فروايتهم فضائله توجب سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم.

1 ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إليه منها، هي زينة الأبرار عند الله تعالى: الزهد في الدنيا، جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئاً، ولا ترزأ الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حبّ المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعاً ويرضون بك إماماً»(4)، رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه «حلية الأولياء»، وزاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند: «فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك، وويل لمن أبغضك وكذّب فيك»(5).

2 ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوفد ثقيف: «لتسلمنّ أو لأبعثنّ اليكم رجلا منّي أو قال: عديل نفسي، فليضربنّ أعناقكم، وليسبينّ ذراريكم، وليأخذنّ أموالكم»، قال عمر: فما تمنّيت الامارة إلاّ يومئذ، وجعلت أنصب لها صدري رجاء أن يقول هو هذا، فالتفت فأخذ بيد علي وقال: هو هذا مرّتين»(6)، رواه أحمد في المسند.

ورواه في كتاب فضائل علي (عليه السلام) أنّه قال (صلى الله عليه وآله): «لتنتهنّ يا بني وليعة، أو لأبعثنّ اليكم رجلا كنفسي، يمضي فيكم أمري، يقتل المقاتلة ويسبي الذرية»، قال أبو ذر: فما راعني إلاّ برد كفّ عمر في حجيزتي من خلفي يقول: من تراه يعني؟ فقلت: لا يعنيك وإنّما يعني خاصف النعل بالبيت، وانّه قال: هو هذا ـ أي أنّه علي (عليه السلام) ـ »(7).

3 ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله عهد إليّ في عليّ عهداً، فقلت: بيّنه لي؟ قال: اسمع إنّ عليّاً راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتّقين، من أحبّه فقد أحبّني، ومن أطاعه فقد أطاعني، فبشّره بذلك، فقلت: قد بشّرته يا رب، فقال: أنا عبد الله وفي قبضته، فإن يعذّبني فبذنوبي لم يظلم شيئاً، وإن يتمّ لي ما وعدني فهو أولى.

وقد دعوت له فقلت: اللّهمّ أجل قلبه، واجعل ربيعه الايمان بك، قال: قد فعلت ذلك غير أنّي مختصّه بشيء من البلاء لم أختصّ به أحداً من أوليائي، فقلت: ربّي أخي وصاحبي، قال: إنّه قد سبق في علمي انّه لمبتلي ومبتلى»(8).

ذكره أبو نعيم في «حلية الأولياء» عن أبي برزة الأسلمي، ثمّ رواه باسناد آخر عن أنس بن مالك: «إنّ ربّ العالمين عهد إليّ في عليّ عهداً انّه راية الهدى، ومنار الايمان، وإمام أوليائي، ونور جميع من أطاعني، إنّ علياً أميني غداً يوم القيامة، وصاحب رايتي، بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي»(9).

4 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه، والى آدم في علمه، والى إبراهيم في حلمه، والى موسى في فطنته، والى عيسى في زهده، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)»(10). رواه أحمد بن حنبل في «المسند»، ورواه أحمد البيهقي في صحيحه.

5 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويتمسّك بالقضيب من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده، ثمّ قال لها كوني فكانت، فليتمسّك بولاء عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)»(11). ذكره أبو نعيم في «حلية الأولياء» ورواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في «المسند» في فضائل علي (عليه السلام)، وحكاية لفظ أحمد: «من أحبّ أن يتمسّك بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله في جنّة عدن بيمينه فليتمسّك بحبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)»(12).

6 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «يا علي والذي نفسي بيده لولا أن تقول طوائف من اُمّتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم، لقلت اليوم فيك مقالا لا تمرّ بملأ من المسلمين إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة»(13)، ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في «المسند».

7 ـ خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الحجيج عشيّة عرفة، فقال لهم: «إنّ الله قد باهى بكم الملائكة عامة، وغفر لكم عامة، وباهى بعليّ خاصة، وغفر له خاصة، إنّي قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي، إنّ السعيد حقّ السعيد من أحبّ علياً في حياته وبعد موته»(14)، رواه أحمد بن حنبل في كتاب «فضائل علي (عليه السلام)» وفي المسند أيضاً.

8 ـ رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أنا أوّل من يُدعى به يوم القيامة، فأقوم عن يمين العرش في ظلّه، ثمّ أُكسى حلة ثمّ يُدعى بالنبيّين بعضهم على أثر بعض، فيقومون عن يمين العرش ويكسون حللا، ثمّ يدعى بعليّ بن أبي طالب لقرابته منّي ومنزلته عندي، ويدفع إليه لواء الحمد، آدم ومن دونه تحت ذلك اللواء.

ثمّ قال لعلي: فتسير به حتّى تقف بيني وبين إبراهيم الخليل، ثمّ تكسى حلة، وينادي منادي من العرش: نعم العبد أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، إبشر فإنّك تدعى إذا دعيت، وتكسى إذا كسيت، وتحيا إذا حييت»(15).

9 ـ قال (صلى الله عليه وآله): يا أنس اسكب لي وضوء، ثمّ قام فصلّى ركعتين، ثمّ قال: أوّل من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتّقين، وسيّد المسلمين، ويعسوب الدين، وخاتم الوصيّين، وقائد الغرّ المحجلين، قال أنس: فقلت: اللّهمّ اجعله رجلا من الأنصار وكتمت دعوتي.

فجاء عليّ (عليه السلام)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من جاء يا أنس، فقلت: علي، فقام إليه مستبشراً فاعتنقه، ثمّ جعل يمسح عرق وجهه، فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله صلّى الله عليك وآلك، لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئاً ما صنعته بي قبل، قال: وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي»(16)، رواه أبو نعيم الحافظ في «حلية الأولياء».

10 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «أُدعو لي سيّد العرب علياً، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب، فلمّا جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال لهم: يا معشر الأنصار ألا أدلّكم على ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هذا علي فأحبوه بحبي، وأكرموه بكرامتي، فإنّ جبرائيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عزّ وجلّ»(17)، رواه الحافظ أبو نعيم في «حلية الأولياء».

11 ـ قال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): مرحباً بسيّد المؤمنين، وإمام المتّقين، فقيل لعلي (عليه السلام): كيف شكرك؟ فقال: أحمد الله على ما آتاني، وأسأله الشكر على ما أولاني، وأن يزيدني ممّا أعطاني»(18)، ذكره صاحب الحلية.

12 ـ قال (صلى الله عليه وآله): من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي، وليوال وليه، وليعتقد بالأئمة من بعدي، فانّهم عترتي، خلقوا من طينتي، ورزقوا فهماً وعلماً، فويل للمكذبين من امتي القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي. ذكره صاحب الحلية (حلية الأولياء 1 : 86 رقم4).

13 ـ «بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد في سرية، وبعث علياً (عليه السلام) في سرية أُخرى، وكلاهما إلى اليمن، وقال: إن اجتمعتما فعليّ على الناس، وإن افترقتما فكلّ واحد منكما على جنده.

فاجتمعا وأغارا وسبيا نساءاً، وأخذا أموالا، وقتلا ناساً، وأخذ علي (عليه السلام)جارية فاختصّها لنفسه، فقال خالد لأربعة من المسلمين، منهم بريدة الأسلمي: اسبقوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فاذكروا له كذا، واذكروا له كذا لأُمور عددهاعلى عليّ(عليه السلام)، فسبقوا إليه فجاء واحد من جانبه فقال: إنّ علياً فعل كذا، فأعرض عنه.

فجاء الآخر من الجانب الآخر، فقال: إنّ علياً فعل كذا، فأعرض عنه، فجاء بريدة الأسلمي فقال: يا رسول الله إنّ علياً فعل ذلك، وأخذ جارية لنفسه، فغضب (صلى الله عليه وآله) حتّى احمرّ وجهه، وقال: دعوا لي علياً يكرّرها، إنّ عليّاً منّي وأنا من علي، وإنّ حظّه في الخمس أكثر ممّا أخذ، وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي»(19) رواه أحمد في المسند غير مرّة ورواه أكثر المحدّثين.

14 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عزّ وجلّ قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق آدم قسّم ذلك فيه، وجعله جزءين: فجزء أنا وجزء علي»(20). رواه أحمد في المسند، وذكره صاحب الفردوس وزاد فيه: «ثمّ انتقلنا حتّى صرنا في عبد المطلب، فكان لي النبوّة، ولعليّ الوصية»(21).

15 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «النظر إلى وجهك يا علي عبادة، أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، من أحبّك أحبّني وحبيبي حبيب الله، وعدوّك عدوّي وعدوّي عدوّ الله، الويل لمن أبغضك»(22) رواه أحمد في المسند.

16 ـ لما كانت ليلة بدر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ومن يستقي لنا ماء فأحجم الناس، فقام علي (عليه السلام) فاحتضن قربة ثمّ أتى بئراً بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها، فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن تأهّبوا لنصر محمّد وأخيه وحزبه، فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه، فلمّا حاذوا البئر سلّموا عليه من عند آخرهم إكراماً له وإجلالا»(23)، رواه أحمد في كتاب فضائل علي (عليه السلام). وزاد فيه من طريق آخر عن أنس بن مالك: «لتؤتينّ يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنّة فتركبها وركبتك مع ركبتي، وفخذك مع فخذي حتّى تدخل الجنّة»(24).

17 ـ خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس يوم جمعة فقال: «أيّها الناس قدّموا قريشاً ولا تقدّموها، وتعلّموا منها ولا تعلّموها، قوّة رجل من قريش تعدل قوّة رجلين من غيرهم، وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم، أيّها الناس أُوصيكم بحبّ ذي قرباها أخي وابن عمّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، لا يحبّه إلاّ مؤمن، ولا يبغضه إلاّ منافق، من أحبّه فقد أحبّني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني عذّبه الله بالنار»(25)، رواه أحمد في كتاب فضائل علي (عليه السلام).

18 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ومؤمن آل فرعون الذي كان يكتم ايمانه، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم»(26)، رواه أحمد في كتاب فضائل علي (عليه السلام).

19 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «أعطيت في علي خمساً هنّ أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: أما واحدة فهو كاب بين يدي الله عزّ وجلّ حتّى يفرغ من حساب الخلائق، وأما الثانية فلواء الحمد بيده، آدم ومن ولد تحته، وأما الثالثة فواقف على عقر حوضي يسقي من عرف من أُمّتي، وأما الرابعة فساتر عورتي ومسلّمي إلى ربّي، وأما الخامسة فإنّي لست أخشى عليه أن يعود كافراً بعد إيمان، ولا زانياً بعد إحصان»(27)، رواه أحمد في كتاب الفضائل.

20 ـ كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقال (صلى الله عليه وآله) يوماً: «سدّوا كلّ باب في المسجد إلاّ باب علي (عليه السلام)»، فسدّت، فقال في ذلك قوم حتّى بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقام فيهم فقال: «إنّ قوماً قالوا في سدّ الأبواب وتركي باب علي، إنّي ما سددت ولا فتحت، ولكنّي أُمرت بأمر فأتبعته»(28)، رواه أحمد في المسند وفي كتاب الفضائل.

21 ـ دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً في غزاة الطائف فانتجاه وأطال نجواه، حتّى كره قوم من الصحابة ذلك، فقال قائل منهم: لقد أطال اليوم نجوى ابن عمّه، فبلغه عليه الصلاة والسلام ذلك، فجمع منهم قوماً ثمّ قال: «إنّ فلاناً قال: لقد أطال اليوم نجوى ابن عمّه، أما إنّي ما انتجيته ولكن الله انتجاه»(29) رواه أحمد في المسند.

22 ـ قال (صلى الله عليه وآله): «أخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوّة بعدي، وتخصم الناس بسبع لا يجاحد فيها أحد من قريش، أنت أوّلهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم بالرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية»(30)، رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء.

23 ـ قالت فاطمة (عليها السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبتي إنّك زوّجتني فقيراً لا مال له، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «زوّجتك أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً، ألا تعلمين أنّ الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك، ثمّ اطلع إليها ثانية فاختار منها بعلك»(31)، رواه أحمد في المسند.

24 ـ لما أنزل إذا جاء نصر الله والفتح، بعد انصراف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غزاة حنين، جعل يكثر من: سبحان الله أستغفر الله، ثمّ قال: «يا علي إنّه قد جاء ما وعدت به، جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وإنّه ليس أحد أحقّ منك بمقامي، لقدمك في الإسلام، وقربك منّي، وصهرك، وعندك سيّدة نساء العالمين، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل القرآن، فأنا حريص على أن أُراعي ذلك لولده»(32)، رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن.

 

كلام ابن أبي الحديد في فضائل علي (عليه السلام):

أقول: قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 2 : 451 بعد أن ذكر هذه الأخبار كما هي مذكورة هنا بألفاظها من غير أن يفصل بكلمة واحدة بين الأخبار المذكورة وبين فكرته الخاصة، قال معرباً عن فكرته الخاصة:

«واعلم أنّا إنّما ذكرنا هذه الأخبار هاهنا لأنّ كثير من المنحرفين عنه (عليه السلام) إذا مرّوا على كلامه في نهج البلاغة وغيره المتضمّن التحدّث بنعمة الله عليه من اختصاص الرسول (صلى الله عليه وآله) له وتمييزه إيّاه عن غيره، ينسبونه إلى التيه والزهو والفخر، ولقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة، قيل لعمر: ولّ علياً أمر الجيش والحرب، فقال: هو أتيه من ذلك، وقال زيد بن ثابت: ما رأينا أزهى من علي وأُسامة.

فأردنا بايراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسير قوله (عليه السلام): «نحن الشعار والأصحاب الخزنة والأبواب» أن ننبّه على عظم منزلته عند الرسول (صلى الله عليه وآله)، وانّ من قيل في حقّه ما قيل لو رقي إلى السماء، وعرج في الهواء، وفخر على الملائكة والأنبياء تعظيماً وتبجّحاً، لم يكن ملوماً بل كان بذلك جديراً، فكيف وهو (عليه السلام) لم يسلك قط مسلك التعظّم والتكبّر في شيء من أقواله ولا من أفعاله.

وكان ألطف البشر خلقاً، وأكرمهم طبعاً، وأشدّهم تواضعاً، وأكثرهم احتمالا، وأحسنهم بشراً، وأطلقهم وجهاً حتّى نسبه من نسبه إلى الدعابة والمزاح، وهما خلقان ينافيان التكبّر والاستطالة.

وإنّما كان يذكر أحياناً ما يذكره من هذا النوع نفثة مصدور، وشكوى مكروب، وتنفّس مهموم، ولا يقصد به إذا ذكره إلاّ شكر النعمة، وتنبيه الغافل على ما خصّه الله به من الفضيلة، فإنّ ذلك من باب الأمر بالمعروف، والحضّ على اعتقاد الحقّ، والصواب في أمره، والنهي عن المنكر، الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل، فقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال: (أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) [يونس : 35]».

أقول: ولا يخفى المقصود من ذكر هذه الأخبار الشريفة، محفوفة بما تقدمها وتأخر عنها من كلام ابن أبي الحديد العلامة المتبحّر العارف بما يقول من المعقول والمنقول.

نعم إنّما يقصد العارف تنبيه الغافلين لما اختصّ به أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، من سبقه للدعوة الإسلامية، وشدّة ايمانه، وعظيم بلائه منذ بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى منتهى حياته، ومن كسره شوكة المشركين، وقطعه دابر الكافرين، وكشفه الكرب عن وجه سيّد المرسلين.

ومن جهاده وعزمه وبصيرته وصبره وثباته وفتكه بقادة الشرك وزعماء الضلالة، ومن قربه لسيّد المرسلين، واختصاصه بسيّدة نساء العالمين، وعلمه بمحكم الكتاب، وفصل الخطاب، وأخبار الماضين، وأمر الباقين، ومن مدح الله ورسوله له بما ذكرناه من الأخبار الصحيحة التي عرفت رواتها.

نعم نقصد تنبيه المعاصرين، ويقظة الغافلين، ونظرة أهل الوجدان للسير وراء الحقيقة برفع ستار التمويه، وكشف نقاب الألقاب، وفكّ قيود التقاليد، وبذلك يحكم العقل الصحيح والكتاب الصريح، فإنّه سبحانه ذمّ الغافلين عن وظائفهم المقلّدين لأسلافهم بقوله: (إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون)[الزخرف : 23].

ولا أخال القارئ بعد الوقوف على ما ذكرناه، إلاّ جازماً بما بينّاه من شرح كلام سعيد بن العاص لمعاوية حيث قال له: «فدع مناواة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به غيره»(33) فسعيد بن العاص مع قرابته لمعاوية وعداوته لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، لأنّه قاتل أبيه يوم بدر، يعترف بما ذكرناه وبينّا معناه.

ولا تظن أنّ البسطاء من قريش والأنصار يجهلون شيئاً ممّا امتاز به علي (عليه السلام)وخصّه الله به، فكيف يجهل ذلك معاوية وأمثاله من الواقفين على حقيقة الأمر، لكنّها الدنيا وشهواتها، والنفس أمارة بالسوء، فحبّ الرياسة والامرة والسيادة والسلطة، استحكم في قلوبهم فأعماها، وامتزج بحسد أكيد لذلك الإمام حتّى فاض على أبصارهم فأغشاها.

وكيف لا يحسد امرئ علم *** له على كلّ هامة قدم

وانضمّ إلى ذلك كلّه تذكر الأذحال والأوتار، وهو وحده علّة تامّة لدفع الأمر وصرفه عن علي (عليه السلام)، إذ قلّ من لم يكن له عند عليّ ترة، وكلّهم له حاسد، ومن راجع سير العرب عرف نكايتها بمن لها عنده ترة.

 

عود الى أصل المطلب:

وقد توسّعنا في هذا الباب بما لا ضرورة لبيانه، ولا حرج في كتمانه، غير أنّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه لمكر معاوية ودهائه وفجوره واعتدائه جرّنا إلى ما بينّاه ممّا هو بعض ما دوّنه أهل السير والتحقيق.

 

كلمات الامام علي (عليه السلام) في ذم المكر:

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في ذمّ المكر وتوبيخ أهله: «المكر لؤم والخديعة شؤم»(34).

وقال (عليه السلام): «المكر سجية اللئام، والشرّ جالب الآثام».

وقال (عليه السلام): «المكر شيطان في صورة إنسان(35)، والثقة بالنفس من أوثق فرص الشيطان».

وقال (عليه السلام): «لولا أنّ المكر والخديعة في النار لكنت أمكر الناس»(36).

لا ريب في المقصود من كلامه (عليه السلام) وأنّ أهل المكر في النار، فكم مكروا برسول الله وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم. ولم يخف على ذي لبّ ما لاقاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)من مكر الماكرين، وكيد المنافقين، فإنّ هذا بارزاً في شكله، ممثلا بحقيقته من أهل المكر والنفاق في معاكسة أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

فإنّ معاوية وأمثاله جاؤوا بكلّ ما يقدرون عليه من الحيل، وارتكبوا من المحارم الجلل حتّى كادوا كيدهم، ومكروا مكرهم.

وقال (عليه السلام): «قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»(37).

الحُوَّل القُلَّب: هم الذين يعرفون وجوه الأُمور فيحولونها ويقلبونها بعلمهم وفكرهم وفطنتهم. والحريجة: هي التقوى والخوف من الله سبحانه، ويمكنك من فحوى كلامه (عليه السلام) وصريحه الجزم بأنّه كان يعلم جميع الأبواب التي طرقها معاوية وغيره ممّن تقدّم أو تأخّر، كالمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص.

نعم كان علي (عليه السلام) يعلم ذلك ولكنّه كان ممنوعاً ومحجوزاً عن سلوك تلك الطرق بمانع ربّاني وحاجز من تقوى الله، فيدعها بعد القدرة عليها لعدم انطباقها على القانون الديني.

وكان غيره ينتهز فرصتها، ويسلك في الطريق الموصلة إلى بغيته، الموافقة لشهوته، مع مخالفتها لأمر الله ونهيه، ولم يكن لعامة الناس علم بأنّ حيلة الغادر تخرجه إلى رذيلة الفجور، وانّه لا حسن لحيلة جرت إلى رذيلة.

وإنّك ترى ذلك جارياً في كلّ زمان، وأهل المكر والاحتيال لهم في نفوس العامة نظرة التدبير، وعند الله سوء العاقبة، أعاذنا الله من المكر وأهله، وخلّصنا من بوائقه وشرّه.

* * *

الاخلاص في النصيحة:

قوله (عليه السلام): «وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً».

يعلمنا الإمام (عليه السلام) في هذه الفقرة بأنّ على الإنسان أن يبذل النصح لأخيه وصديقه ما وسعه، فإنّ النصح من أعظم لوازم المحبّة، وأهم مقوّمات المودّة، ولا تتمّ صداقة، ولا تنعقد أُخوّة، ما لم تكن النصيحة رائدها وباعثها، ومن لم يكن ناصحاً لأخيه فليس بأخ.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المؤمن أخو المؤمن لا يدع نصيحته على كلّ حال»(38).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «يحقّ على المؤمن للمؤمن النصيحة»(39).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «من مشى في حاجة أخيه المؤمن فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله»(40).

والنصيحة أفضل صفة في النوع الإنسان كما أنّ نقيضها وهو الغشّ أقبح خصلة في الإنسان، وهي تجب لعامة المسلمين إعانة وارشاداً، بحقّ والى حقّ، كما يحرم نقيضها وهو الغش. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من غشّنا فليس منّا»(41).

 

معنى النصيحة:

قال في القاموس: «نصحه نصحاً ونصاحة ونصاحية، وهو ناصح ونصيح من نصّح ونصّاح، والاسم النصيحة، ونصح: خلص»(42).

وقال ابن الأثير في النهاية في الحديث «إنّ الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامّتهم»(43).

النصيحة كلمة يعبّر بها عن جملة، هي ارادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبّر هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناها غيرها، وأصل النصح في اللغة الخلوص، يقال نصحته ونصحت له، ومعنى نصيحة الله صحة الاعتقاد في وحدانيّته واخلاص النيّة في عبادته، والنصيحة لكتاب الله هو التصديق به والعمل بما فيه، ونصيحة رسوله التصديق بنبوّته ورسالته، والانقياد لما أمر به ونهى عنه، ونصيحة الأئمة أن يطيعهم في الحقّ، ولا يرى الخروج عليهم إذا جاروا، ونصيحة عامة المسلمين ارشادهم إلى مصالحهم.

هذا على رأيه ومعتقده، في حين أنّه لا كرامة لامام فاجر جائر، وقد أوجب الله مقاومته وردعه وكبح جماحه، وردّه عن الجور إلى العدل، فإذا لم يتمكّن المرء على ذلك فعلى الأقل لا يركن إليه ولا يخالطه، يقول تعالى: (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسّكم النار) [هود : 113].

وحاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يأمرنا بمتابعة الإمام الجائر وبمناصحته، وإنّما الذين تجب متابعتهم والمناصحة لهم من الأئمة، هم أئمة أهل البيت النبوي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

والنصيحة لهم معناه التصديق بامامتهم، وأنّها فريضة من الله ونصّ من رسوله (صلى الله عليه وآله)، والانقياد لأوامرهم ونواهيهم، نعم يناصح من لا يجور من الخلفاء معونة للعدل، ومساعدة للمساواة.

 

الأدلّة على فضيلة المناصحة:

جاء في الكتاب العزيز: (إذا نصحوا لله ورسوله) [التوبة : 91]، (وأنا لكم ناصح أمين) [الأعراف : 68]، (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم) [هود : 34]، (ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) [الأعراف : 93]، (ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين) [الأعراف : 79].

وفي السنّة أحاديث كثيرة: منها ما في «أُصول الكافي» عن الإمام الباقر (عليه السلام)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه»(44).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ أعظم الناس عند الله منزلة يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه»(45).

وعن جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على إقام الصلاة، وايتاء الزكاة، والنصح لكلّ مسلم»(46).

وقال الصادق (عليه السلام): «يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب»(47).

وقال: «عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(48).

وقال: «من مشى في حاجة أخيه ثمّ لم يناصحه فيها، كان كمن خان الله ورسوله وكان الله خصمه»(49).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من سعى في حاجة لأخيه فلم ينصحه فقد خان الله ورسوله»(50).

 

أسباب المناصحة:

للمناصحة أسباب كثيرة: منها العفة; فإنّ العفيف يأنف من الغش حتّى لعدوّه، ومنها الديانة; فإنّ المتديّن يرى من واجبه الديني المبالغة في مصالح المسلمين، وفي أيّ عمل كان وقام به من أعمال وأقوال ترضي الله ورسوله، ومنها الحياء; فإنّ الحيي لا يغشّ، وإنّما ينصح استحياءً من نسبة الغش إليه، ومنها الصدق; فإنّ الصادق لا يكذب فيقول له قد نصحتك وهو له غاش. ومنها سلامة الذات والفطرة; فإنّ سليم الذات لا يغش، ولا يرى النصح إلاّ لازماً، وما ذاك إلاّ لسلامة نفسه وفطرته على هذا الخلق الحسن.

 

ثمرات المناصحة:

وأهمّها أنّها تفيد الاجتماع، ويكون داعياً إلى الأُلفة وموجباً للثقة والاطمئنان، ومن ثمراتها عند المتديّن الفوز بما وعد الله من كرامة أرباب العمل الصالح من المخلصين لدينهم، ومن ثمراتها اكتساب الحمد، فإنّ الناصح ممدوح، وله وقع في القلوب وأثر في النفوس كبير، وله القبول حتّى عند الأعداء.

 

صعوبة قبول النصيحة:

أمر قبول النصيحة صعب لا يقبله إلاّ أفذاذ العقلاء ونوادر البشر.

قال في «المستطرف»: «إنّ جرعة النصيحة مرّة لا يقبلها إلاّ أُولوا العزم»(51).

وفي «المحاضرات» للراغب: الحثّ على قبول النصح وإن كان مرّاً.

قال بعض الحكماء: من أوجرك المرّ لتبرء أشفق عليك ممّن أوجرك الحلو لتسقم، وقيل: النصيحة آمن من الفضيحة(52).

والأنسب للعاقل إبداء النصيحة وابرازها صادفت قبولا أم لا، فإنّها إن صادفت قبولا فقد نال حمداً وأجراً، وإن لم تصادف قبولا فقد اكتسب أجراً وعذراً، وخرج عن صفة الغش المذمومة، قال ورقة بن نوفل الأسدي:

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم *** أنا النذير فلا يغرركم أحدُ

لا شيء ممّا ترى تبقى بشاشته *** إلاّ الإله ويؤدّي المال والولدُ

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه *** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا(53)

وقال أوس بن حجر التميمي:

إن قال لي ماذا ترى يستشيرني *** فلم يك عندي غير نصح وارشادِ

وقال البصري:

إن كان حمدي ضاع في نصحكم *** فإنّ أجري ليس بالضائعِ

وقال آخر:

النصح أرخص ما باغ الرجال فلا *** تردد على ناصح نصحاً ولا تلمِ

إنّ النصائح لا تخفى منافعها *** على الرجال ذوي الألباب والهممِ(54)

وقال معاذ بن مسلم الغرا النحوي:

نصحتك والنصيحة إن تعدت *** هو المنصوح عزلها القبول

فخالفت الذي لك فيه حظ *** فغالك دون ما أملت غول(55)

قصصٌ فيمن ردّ النصيحة فَهَلك:

منهم يزيد بن المهلب الأزدي، نصحه فيروز أن لا يضع يده في يد الحجاج، فلم يقبل منه فسار إليه فحبسه وحبس أهله، فقال فيروز:

أمرتك أمراً حازماً فعصيتني *** فأصبحت مسلوب الامارة نادماً

امرتك بالحجاج إذ أنت قادر *** فنفسك أولى اللوم ان كنت لائماً

فما أنا بالباكي عليك صبابة *** وما أنا بالداعي لترجع سالماً(56)

ومنهم عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري، قال محمّد بن جرير الطبري: لما كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان، دعا عبيد الله بن زياد عمر بن سعد فقال: سر إلى الحسين فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك، فقال عمر بن سعد: إن رأيت أن تعفيني فافعل، فقال له عبيد الله: نعم على أن ترد لنا عهدنا.

قال: فلمّا قال له ذلك، قال له عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتّى أنظر، قال: فمضى عمر يستشير نصحائه فلم يكن يستشير أحداً إلاّ نهاه، قال: وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة ـ وهو ابن أُخته ـ ، فقال: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربّك، وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها لو كان لك، خير لك أن تلقى الله يوم القيامة بدم الحسين، فقال له عمر: أفعل إن شاء الله(57).

وعن عمّار بن عبد الله الجهني، عن أبيه، أنّه دخل عليه وقد أُمر بالمسير إلى الحسين (عليه السلام) فقال له: إلى أين يا ابن سعد؟ فقال: انّ الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين، فقال له: لا تفعل ولا تسر إليه.

وجاءه أولاد المهاجرين والأنصار وقالوا: يا ابن سعد تخرج إلى حرب الحسين وأبوك سادس الإسلام؟ فقال: لست أفعل ذلك، ثمّ جعل يفكّر في ملك الري وقتل الحسين، فأضلّه الشيطان وأعمى قلبه، فاختار قتل الحسين، ولم يصغ لنصح الناصحين، فكان عاقبة أمره أنّ الأطفال يجرون رأسه بحبل في سكك الكوفة وشوارعها، ولعذاب الآخرة أكبر(58).

ومنهم أهل الكوفة، فقد نصحهم زهير بن القين البجلي (قدس سره)، ذكر أبو جعفر الطبري، عن كثير بن عبد الله الشعبي، قال: لما زحفنا نحو الحسين (عليه السلام) خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب شاك في السلاح، فقال:

يا أهل الكوفة نذاراً لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن اخوة على دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أُمّة وكنتم أُمّة، إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) لينظر ما نحن وأنتم عاملون.

إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ السوء، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة و أشباهه، قال: فسبّوه وأثنوا على عبيد الله ودعوا له، وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير ابن زياد سلماً.

فقال: عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد بن معاوية، فلعمري انّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين (عليه السلام)، فرماه شمر بسهم وقال: أُسكت أسكت الله نامتك أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير: يا ابن البوّال على عقبيه ما إيّاك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تحكم من الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم، فقال له شمر: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة، قال زهير: أفبالموت تخوّفني، والله للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم.

ثمّ أقبل على الناس رافعاً صوته فقال: عباد الله لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمّد قوماً اهراقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم.

قال: فناداه رجل فقال: إنّ أبا عبد الله يقول لك: أقبل فلعمري لأن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه فأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والابلاغ، لكن أهل الكوفة لم يقبلوا نصح الناصحين، فغلبت عليهم شقوتهم واتّبعوا الهوى، فخسروا الدنيا والآخرة(59).

* * *

كظم الغيظ:

قوله (عليه السلام): «وَتَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً، وَلاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً».

وعليك بالحلم، فإنّه لو كان مرارة ساعة كان لك حلاوة لا تفارق مذاقك حتّى نهاية العمر، وتجرع أكؤس الغيظ غصصاً، كما عليك أن تبلو من أكؤس الصبر الشيء الكثير، فما من أحد يفعل ذلك إلاّ ذاق المغبة لذيذة، واستقبل العافية بما يستقبل به صاحب النفع منفعته، وبما يستقبل به صاحب الأمل أمله، وفي المثل: «الحلم مرارة ساعة، وحلاوة الدهر كلّه».

وهو من أكرم الخلال، وأتمّ الخصال، وأفضل شمائل الرجال، وأسنى مواهب الله تعالى، وهو أصل من أُصول الدين، وركن من أركان الطاعة، وحبل من حبال الشرع، وحصن من حصون الايمان، من استند إليه وتمسّك به واعتمد عليه استنارت له الظلم، وأمن من عثار القدم، وعصم من مواقع الندم.

 

الحِلم:

الحلم إمساك النفس عن الاستشاطة في الغضب، وملك الجوارح عند اتقاد جمرة الشر، والسكون عند الأحوال المحرّكة للانتقام، والتثبّت في ترك تعجيل إنفاذ الحكم، لما في عواقب ذلك من وقوع الندم، لا سيّما مع تمكّن القدرة، وتحكم القوّة، فإنّ ذلك آية الرحمة، وسعة الصدر، وعلوّ الهمّة، وايثار مكارم الأخلاق، فما منع شيئاً من دواعي الفضل من طبع عليه، ولا قصر عن أرفع مراتب الخير من وفق إليه، كما أنّه ما ترك شيئاً من الأحوال الذميمة، وتأخّر عن سبب من الأسباب المليمة من أنفذ غضبه، واستعجل عند القدرة انتقامه.

وما زال الحلم يعرب عن نزاهة النفس وبعد الهمم، والفوز بأوفر حظوظ الفضل والكرم، ومن تحلّى به واستعمله، وأخذ به نفسه وامتثله فقد استمسك من الصبر بكلّ سبب، واستولى على دواعي الخير ومساعي البر في كلّ أرب، فما زال يطفئ جمرة الغضب، ويسمو بصاحبه في الدارين إلى أرفع الرتب.

وهو اسم من أسماء الله سبحانه، وصفة من صفاته، لأنّه ـ جلّ ذكره ـ يرى عصيان العاصين، ويطلع على خيانة الخائنين، ويشاهد جور الظالمين، ويحصي ذنوب الخاطئين، فلا يحتجب عنه عمل عامل، ولا يغيب عن علمه شيء في عاجل ولا آجل.

وهو بحلمه لا يعجل الانتقام مع القدرة، ولا يستفزه الغضب مع إمكان القوّة، ولا تبعثه العجلة على انفاذ حكمه مع وضوح الحجة، بل يؤثر الحلم والامهال، ليكون له الفضل والمنّة، وحسبنا قوله عزّ من قائل: (وربّك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا)[الكهف : 58].

وقوله تبارك اسمه: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة)[النحل : 61].

 

الحِلم صفة الأنبياء:

وقد أثنى الله تعالى بالحلم على أنبيائه، وخصّ به صفوة أوليائه، ومنحه من أراد كرامته من أهل طاعته وأصفيائه، فقال سبحانه: (إنّ إبراهيم لحليم أوّاه منيب) [هود : 75].

وقال لرسوله (صلى الله عليه وآله): (خذ العفو وأْمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)[الأعراف  : 199].

روي أنّه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجبرئيل عند نزول هذه الآية: «ما هذا؟» قال: لا أدري حتّى أسأل العالم، ثمّ عاد جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ ربّك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك(60).

 

نصوص نبويّة في الحلم:

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وجبت محبّة الله لمن أغضب فحلم»(61).

وقال: «إذا غضب أحدكم وكان قائماً فليقعد، وإن كان قاعداً فليضطجع»(62)يريد بذلك تسكين الغضب عند استشاطة النفس.

وأتاه رجل فقال: يا رسول الله أوصني، قال: لا تغضب، ثمّ أعاد عليه، فقال: لا تغضب، ثمّ أعاد عليه، فقال: لا تغضب(63).

وقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا كلّه أن يعلم أصحابه هذا الدرس في الأناة وضبط النفس، حتّى أنّه روي أنّ أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً، فأعطاه ثمّ قال له: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا، ولاأجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم(صلى الله عليه وآله)أن كفّوا، ثمّ قام ودخل منزله، فأرسل إليه وزاده شيئاً، ثمّ قال له: أحسنت إليك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): إنّك قلت ما قلت آنفاً، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتّى يذهب ما في صدورهم عليك، قال: نعم.

فلمّا كان الغد جاء، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنّ هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنّه رضي، أكذلك؟ قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس ـ جروا خلفها ـ فلم يزيدوها إلاّ نفوراً، فناداهم صاحبها فقال لهم: خلّوا بيني وبين ناقتي، فإنّي أرفق بها منكم وأعلم، فتوجّه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض، فردّها حتّى جاءت، واستناخت وشدّ عليها رحلها، واستوى عليها، وإنّي لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال، فقتلتموه دخل النار.

 

الحلم في كلمات الحكماء:

وحكي عن بعض ملوك الفرس، أنّه كتب كتاباً دفعه إلى بعض وزرائه وقال له: إذا غضبت فناولنيه، وكان قد كتب فيه: ما لك وللغضب، وإنّما أنت بشر، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.

وكتب أبرويز لابنه: «يا بني إنّ كلمةً منك تسفك دماء، وكلمة تحقن دماء، وأمرك نافذ، وكلامك ظاهر، فاحترس في غيظك من قولك أن يخطئ، ومن لونك أن يتغيّر، ومن جوارحك أن تخف، فإنّ الملوك تعاقب قدرة، وتعفو حلماً».

وقالت الحكماء: «ليس الحليم من ظلم فحلم، حتّى إذا قدر انتصر، إنّ الحليم من إذا قدر عفا»، وقيل: «الحلم ترك المكافأة بالشرّ قولا وفعلا».

وقيل للأحنف بن قيس: ممّن تعلّمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري، رأيته يوماً قاعداً بفناء داره محتبياً بحمائل سيفه يحدّث قومه، إذا برجل مكتوف ورجل مقتول، فقيل له:

هذا ابنك قتله ابن أخيك هذا، فوالله ما قطع كلامه، ولا حل حبوته، ثمّ التفت إلى ابن أخيه وقال له: يا ابن أخي أنت رميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمّك، ثمّ قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك، وحلّ كتاف ابن عمّك، واحمل إلى أُمّك مائة ناقة دية عن ابنها فإنّها غريبة.

والحلم يحسبه السفيه من ضعف السنة، واحتمال الذلة، والعاقل يراه من كمال العزّة واسداء المنّة، ولذا قال الأحنف: لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم، وتقلّدت السيوف، ولم تر الحلم ذلاًّ، ولا التراهب فيما بينها ضعة، كما قال:

لا يدرك المجد أقوام وإن كرموا *** حتّى يذلوا وإن عزّوا لأقوام

ويصفحوا عن كثير من إساءتهم *** لا صفح ذلّ ولكن صفح أحلام

وقال بعض الحكماء: الحلم والأناة توأمان نتيجتهما علوّ الهمّة.

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «أوّل ما يرى الحليم من بركة حلمه أنّ الناس كلّهم أعوانه على الجاهل»(64).

وقال محمّد بن كنانة:

إنّ أهل الجاهلية لم يكونوا يسودون رجلا حتّى يكون حليماً، وإن كان أكرم الناس، وأشجع الناس، وأشرف الناس.

وقال بعض العلماء: ثلاث من لم تكن فيه لم ينفعه الايمان: حلم يرد به جهل الجاهل، وورع يكفّه عن المحارم، وخلق حسن يداري به الناس.

ومن تمام أحكام الحلم، وكمال أسبابه، واجتماع معانيه، قبول العذر من صادق كان أو كاذب، فإنّ الاعتذار دليل الندم، والندم توبة، وقد يكون الاعتذار حياءً من المعتذر، والحياء من الايمان، ومن درر الكلم: «لا يظهر الحلم إلاّ مع الانتصار، ولا يبين العفو إلاّ عند الاعتذار».

الحِلم على لسان الشعراء:

من ذلك قول بعضهم:

إذا اعتذر المسيء إليك يوماً *** من التقصير عذر فتىً مقرِّ

فصنه عن عقابك واعف عنه *** فإنّ الصفح شيمة كلّ حُرِّ

وقال أبو الطيب المتنبي:

وإن كان ذنبي كلّ ذنب فإنّه *** محى الذنب كلّ المحو من جاء تائباً

وقال آخر:

يستوجب العفوَ الفتى إذا اعترف *** وتاب عمّا قد جناه واقترفْ

بقوله قل للذين كفروا *** إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلفْ

وقال آخر:

أتيتك تائباً من كلّ ذنب *** وخير الناس من أخطأ فتابا

أليس الله يُستعفى فيعفو *** وقد ملك العقوبة والثوابا

قصة الملك والعابد:

روي أنّه كان في بني إسرائيل ملك وصف له عالم من العباد، فأرسل إليه وأحضره وراوده على صحبته ولزوم بابه، فقال له العابد: إنّ قولك هذا حسن، ولكن لو دخلت يوماً بيتك ورأيتني ألعب مع جاريتك ماذا تفعل؟

فغضب الملك وقال له: يا فاجر تجترئ عليّ بمثل هذا الكلام، فقال له العابد: إنّ لي ربّاً كريماً حليماً لو رأى منّي سبعين ذنباً في اليوم ما غضب عليّ، ولا طردني عن بابه، ولا أحرمني من رزقه، فكيف أُفارق بابه وألزم باب من غضب عليّ قبل وقوع الذنب منّي، فكيف لو رأيتني في المعصية، ثمّ تركه ومضى.

وورد في الحديث: انّ مجوسياً استضاف إبراهيم (عليه السلام) فقال له: بشرط أن تسلم، فمضى المجوسي فأوحى الله إليه: أنا أطعمه منذ خمسين سنة على كفره، فلو ناولته لقمة من غير أن تطالبه بتغيير دينه، فمضى إبراهيم على أثره فاعتذر إليه، فسأله المجوسي عن السبب فذكر له ذلك فأسلم.

هذه صفة من صفات الله، والسعيد من اتّصف بها وجعلها رداءه.

* * *

اللين، والفضل، وأداء الحقوق:

قوله (عليه السلام): «وَلِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحْد الظَّفَرَيْنِ. وَإِنْ أَرَدْتَ قَطيِعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْماً مَّا، وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ، وَلاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ».

ولن لمن غالظك ولا تغالظه فتكون الغلظة مضاعفة، وقد قيل: إنّ الشر شر واحد لو أغضيت عنه، ولم تأبه به، ولكنّك إذا قابلته بشرّ مثله فقد وريت الزند، وأصبح الشرّ شرّين بعد أن كان الشرّ واحداً.

وقد تستطيع أن تبلغ من ذلك المغالظ الذي تعرض عن سوأته صفحاً، قد تستطيع أن تبلغ منه ما تريد أن تجده في كلّ أحد، فأنت إن أغضيت عن الأمر الذي يريده لك عدوّك، أو فاوضته في أمره بلسان طيّب لا شذوذ فيه، فقد جلبت لنفسك أصدقاء يفادونك بأنفسهم، استمع إلى القرآن تجد أنّه بلّغ إلى الناس هذا، وأراد حملهم عليه في كلّ ما يذهب إليه: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم) [فصلت : 34].

وقابل عدوّك بالتفضّل عليه والاحسان إليه، فإنّك إن كنت تروم الغلبة فتلك أحلى من الغلبة التي تكسبك اذعان العدو واستسلامه كرهاً، ولكنّك لو فعلت ما ذكرت لحزت على السيطرة والغلبة والنفوذ، ولنقاد لك العدو طواعية، وكفى بذلك غلباً وظفراً.

وإن أردت أن تقطع ما بينك وبين صديقك من أسباب المودّة والاخاء، فاترك له جانباً يستطيع أن ينفذ منه إليك متى أراد ذلك، ومتى أحوجته الظروف إلى ذلك، ومن ظنّ بك خيراً فلا تخيب ظنّه، بل صدّقه في ظنّه، بأن تعمل بموجب ما ظنّك عليه، فإذا ظنّك جاداً عاملا فلا تظهر نفسك أمامه بمظهر المتخاذل المتباطئ في العمل بل اعمل كما يظنّ وأزيد ممّا يظنّ.

ولا يذهب بك حسن الظنّ بصديقك مذاهب بعيدة، فتعتقد أنّ الصداقة الوثيقة لا سبيل إلى فصم عراها، وقطع أسبابها، وأي سبب استعصى على القطع، وأي حبل ثبت للأثقال يعلّق به، ولا ينقطع من ثقلها الثقيل، فما أيسر ما يقطع الحبل، وينفصم السبب فتعود الصداقة عداوة، وينقلب الاخاء بغضاً.

فماذا عليك أن تعمل إذن للمحافظة على حبل الصداقة أن ينقطع، عليك أن تشكر لصديقك أياديه متى قدّم لك شيئاً، ولا تجحف بحقّه اعتماداً على ما بينك وبينه من صلة، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه.

 

ما يجب في الصديق:

قيل للهائم أبي علي: من تحب أن يكون صديقك؟ قال: من يطعمني إذا جعت، ويكسوني إذا عريت، ويحملني إذا كللت، ويغفر لي إذا زللت.

وقيل للبنوي: من تحبّ أن يكون صديقك؟ قال: من يقيلني إذا عثرت، ويقومني إذا ازوررت، ويهديني إذا ضللت، ويصبر عليّ إذا مللت، ويكفيني ما لا أعلم وما علمت.

وسمع أبو عامر النجدي يقول: الصديق من صدّقك عن نفسك لتكون على بيّنة من أمرك، ويصدّقك أيضاً عنه لتكون على بيّنة منه، لأنّكما تقتسمان أحوالكما بالأخذ والعطاء، في السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء، فليس لكما فرحة ولا ترحة إلاّ وأنتما تحتاجان فيهما إلى الصدق.

 

خير أُسس الصداقة:

وخير أُسس الصداقة التقوى والثقة، قال ابن الجلاء الزاهد لأصحابه: اطلبوا خلّة الناس في هذه الدنيا بالتقوى تنفعكم في الدار الأُخرى، ألم تسمعوا قوله تعالى: (الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتّقين) [الزخرف : 67].

وتوفي ابن ليونس بن عبيد فقيل له: إنّ ابن عون لم يأتك، فقال: إنّا إذا وثقنا بمودّة أحد لا يضرّنا ألاّ يأتينا.

وقال العروضي: لمّا عاد السلطان عليّ بن عيسى من مكّة تلقّاه قوم من بغداد إلى زبالة، والى ما فوقها ودونها، فلمّا قرّت به الدار بمدينة السلام أتاه قوم كانوا بها لم يتجشّموا لقاءه، فقال: كم من إنسان قعد لم يرم مجلسه حتّى وافيناه فكان أنوط بقلوبنا، وأسكن في أسرارنا من قوم تجشّموا المسير إلى زبالة، ألا إنّ المودّة هي الأصل، والصداقة هي الركن، والثقة هي الأساس، وما عدا ذلك فمحمول عليه ومردود إليه.

وقال يحيى بن أكثم: كنت أرى شيخاً يدخل على المأمون في السنة مرّة، وكان يخلو به خلوة طويلة، ثمّ ينصرف فلا نسمع له خبراً، ولا نرعى له أثراً، ولا نقدم على المسألة عنه، فلما توفي قال لنا المأمون: وا أسفاه على صديق مسكون إليه، موثوق به، يلقى إليه العجز والبجر، وتقتبس منه الفوائد والغرر.

قلنا: ومن ذا يا أمير المؤمنين؟ قال: أما كنت ترى شيخاً يأتينا في الفرط ونخلو به من دون الناس؟ قلت: بلى، قال: قد تأخّر عن إبانه، وأظنّه قد قضى، قلت: الله يمدّ في عمر أمير المؤمنين وما في ذاك، قال: كان صديقي بخراسان، وكنت أستريح إليه استراحة المكروب، وأجد به ما يوجد بالولد السارّ المحبوب، ولقد كنت أستمدّ منه رأياً أُقوّم به أود المملكة، وأصل به إلى رضا الله في سياسة الرعية، وآخر ما قاله لي عند وداعه أن قال: يا أمير المؤمنين إذا استشن ما بينك وبين الله تعالى فابلله، قلت: بماذا يا صاحب الخير؟

قال: بالاقتداء به في الاحسان إلى عباده، كما تحبّ الاحسان إلى ولدك من حاشيتك، والله ما أعطاك القدرة عليهم إلاّ لتصبر على الاحسان إليهم بالشكر على حسناتهم والتغمّد لسيّئاتهم، من لي يا يحيى بمثل هذا القائل، وأنّى لي بمن يذكّرني ما أنا إليه صائر.

وقال يحيى بن معاذ: بئس الصديق تحتاج معه إلى المداراة.

قيل لأبي سليمان: ما الفرق بين الصداقة والعلاقة؟ قال: الصداقة أذهب في مسالك العقل، وأدخل في باب المروءة، وأبعد من توازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأسباب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة.

فأمّا العلاقة فهي من قبيل العشق والمحبّة، والكلف والشغف، والتتيم والتهيم، والهوى والصبابة، والتدانف والتشاجي، وهذه كلّها أمراض أو كالأمراض تصيب النفس الضعيفة، وتجانس الميل الطبعي، وليس للعقل فيها ظلّ ولا شخص.

ولهذا تسرع هذه الأعراض إلى الشباب من الذكران والأُناث، وتنال منهم وتملكهم، وتحول بينهم وبين أنوار العقول وآداب النفوس، وفضائل الأخلاق، وفوائد التجارب، ولهذا وأشباهه يحتاجون إلى الزواجر والمواعظ ليفيئوا إلى ما فقدوه من اعتدال المزاج، والطريق الوسط.

 

خير خلال الصديق:

أُمّهات الخلال في الصديق أربع خصال:

الأُولى: عقل موفور يهدي إلى مراشد الأُمور، فإنّ الحمق لا تثبت معه مودّة، ولا تدوم لصاحبه استقامة، وفي ذلك يقول النبي (صلى الله عليه وآله): «البذاء لؤم، وصحبة الأحمق شؤم».

ويقول بعض الحكماء: عداوة العاقل أقلّ ضرراً من مودّة الأحمق، لأنّ الأحمق ربّما ضرّ وهو يقدر أن ينفع، والعاقل لا يتجاوز الحدّ في مضرّته، فمضرّته لها حدّ يقف عليه العقل، ومضرّة الجاهل ليست بذات حد، والمحدود أقلّ ضرراً ممّا هو غير محدود.

قال المسيّب بن زهير: مادة العقل مجالسة العقلاء.

وقال بعض البلغاء: من الجهل صحبة ذوي الجهل.

وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «فساد الأخلاق معاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق معاشرة العقلاء»(65).

وقال: «صديق الجاهل معرض للعطب»(66)، وقال: «عاشر أهل الفضائل تنبل»(67)، وقال: «مجالسة العقلاء تزيد في الشرف»(68)، وقال: «لا تصحبنّ من لا عقل له»(69).

وقال بعض الأُدباء: من أشار عليك باصطناع جاهل أو عاجز لم يخل أن يكون صديقاً جاهلا، أو عدوّاً عاقلا، لأنّه يشير بما يضرّك، ويحتال فيما يضع منك.

الثانية: الدين الواقف بصاحبه على الخيرات، فإنّ تارك الدين عدوّ لنفسه فكيف يُرجى منه مودّة غيره، والى هذا يشير بعض الحكماء إذ يقول: اصطف من الاخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب، فإنّه ردء لك عند حاجتك، ويد عند نائبتك، وأُنس عند وحشتك، وزين عند عافيتك.

وقال حسّان بن ثابت:

وكلّ أخ يقول أنا وفيّ *** ولكن ليس يفعل ما يقول

سوى خلّ له حسب ودين *** فذاك لما يقول هو الفعول

الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق، مرضي الفعال، مؤثراً للخير آمراً به، كارهاً للشرّ ناهياً عنه، فإنّ مودّة الشرير تكسب الأعداء، ولا خير في مودّة تجلب عداوة وتورث مذمّة وملامة، فإنّ المتبوع تابع صاحبه.

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): «ينبغي للمسلم أن يجتنب مؤاخاة ثلاثة: الفاجر، والأحمق، والكذّاب، فأمّا الفاجر فيزيّن لك فعله ويحبّ أنّك مثله، ولا يعينك على أمر دينك ومعادك، فمقارنته جفاء وقسوة، ومدخله عار عليك.

وأمّا الأحمق، فإنّه لا يشير عليك بخير، ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو جهد نفسه، وربّما أراد نفعك فضرّك، فموته خير من حياته، وسكوته خير من منطقه، وبعده خير من قربه.

وأمّا الكذّاب، فإنّه لا يهنيك معه عيش، ينقل حديثك وينقل إليك الحديث حتّى انّه يحدّث بالصدق فلا يصدق، يغري بين الناس بالعداوة، فيثبت الشحناء في الصدور، فاتّقوا الله وانظروا لأنفسكم»(70).

قال بعض الحكماء: مخالطة الأشرار خطر، والصبر على صحبتهم كركوب البحر الذي من سلم منه ببدنه من التلف فيه لم يسلم بقلبه من الحذر منه.

وقال بعض البلغاء: صحبة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار.

وقال بعض الشعراء:

مجالسة السفيه سفاه رأي *** ومن عقل مجالسة الحكيم

فإنّك والقرين معاً سواء *** كما قدّ الأديم من الأديم

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «ثلاثة يجب على كلّ إنسان تجنّبها: مقارنة الاشرار، ومحادثة النساء، ومجالسة أهل البدع»(71).

وقال: «إيّاك ومخالطة السفلة، فإنّ السفلة لا تؤدّي إلى الخير»(72).

وقال: «لا تصحب خمسة: الكذّاب فإنّك منه على غرور، وهو مثل السراب يقرّب منك البعيد، ويبعّد منك القريب، والأحمق فإنّك لست منه على شيء، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، والبخيل فإنّه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنّه يسلمك ويفرّ عند الشدّة، والفاسق فإنّه يبيعك بأكلة أو أقلّ منها»(73).

الرابعة: أن يكون من كلّ واحد منهما ميل إلى صاحبه، ورغبة في مؤاخاته، فإنّ ذلك أوكد لحال المؤاخاة، وأمدّ لأسباب المصافاة، إذ ليس مطلوب إليه بطالب، ولا كلّ مرغوب إليه براغب، ومن طلب مودّة ممتنع عليه ورغب إلى زاهد فيه، كان معنّىً خائباً، كما قال البحتري:

وطلبت منك مودّة لم أعطها *** إنّ المعنّى طالب لا يظفر

وقال العباس بن الأحنف:

فإن كان لا يدنيك إلاّ شفاعة *** فلا خير في ودّ يكون بشافع

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الصداقة محدودة فمن لم يكن فيه تلك الحدود فلا تنسبه إلى كمال، أوّلها: أن تكون سريرته وعلانيته واحدة. والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه. والثالثة: لا يغيّره مال ولا ولد. والرابعة: أن لا يمسك شيئاً ممّا تصل إليه مقدرته. والخامسة: أن لا يسلمك عند النكبات»(74).

فإذا استكملت هذه الخصال في إنسان وجب إخاؤه، وتعيّن اصطفاؤه، وعلى قدر وفورها فيه يكون الميل إليه، والثقة به، فالاخوان على طبقات مختلفة، وأنحاء متشعّبة، ولكلّ واحد منهم حال يختصّ بها في المشاركة، وثلمة يسدّها في الموازرة والمظافرة، وليس تتّفق أحوال جميعهم على حدّ واحد، لأنّ التباين في الناس غالب، واختلافهم في الشيم ظاهر، والى هذا يشير بعض الحكماء إذ يقول: الرجل كالشجر، شرابه واحد، وثمره مختلف، ومن رام اخواناً تتّفق أحوال جميعهم رام متعذّراً.

قال المأمون: الاخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يُستغنى عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحياناً، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبداً.

ولعمري إنّ الناس على ما وصفهم، ولكن ليس من كان منهم كالداء من الاخوان المعدودين، بل هم من الأعداء المحذورين، وإنّما يداجون المودّة استكفافاً لشرّهم وتحرّزاً من مكاشفتهم، فدخلوا في عداد الاخوان بالمظاهرة والمساترة، وفي الأعداء عند المكاشفة والمجاهرة، ألم تر قول بعض الحكماء: مثل العدوّ الضاحك إليك كالحنظلة الخضراء أوراقها، القاتل مذاقها، وقول بعض الفلاسفة: لا تغترّ بمقاربة العدو، فإنّه كالماء الذي إن أُطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها.

وقال ابن الحكم الثقفي:

تكاشرني ضحكاً كأنّك ناصح *** وعينك تبدي أنّ صدرك لي دوي

لسانك معسول ونفسك علقم *** وشرّك مبسوط وخيرك ملتوي

فليت كفافاً كان خيرك كلّه *** وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي

فإذا خرج من كان كالداء من عداد الاخوان، فالاخوان هم الصنفان الآخران: من كان منهم كالغذاء أو كالداء، فالغذاء قوام للنفس وحياتها، والدواء علاجها وصلاحها، وأفضلهما من كان كالغذاء، لأنّ الحاجة إليه أعمّ.

وإذا تميّز الاخوان وجب أن ينزل كلّ منهم حيث نزلت به أحواله إليه، واستقرّت خصاله وخلاله عليه، فمن قويت أسبابه قويت الثقة به، وبحسب الثقة به يكون الركون إليه والتعويل عليه، قال الشاعر:

ما أنت بالسبب الضعيف وإنّما *** نجح الأُمور بقوّة الأسباب

فاليوم حاجتنا إليك وإنّما *** يدعى الطبيب لشدّة الأوصاب

وقد اختلفت مذاهب الناس في اتّخاذ الاخوان، فمنهم من يرى أنّ الاستكثار منهم أولى ليكونوا أقوى منعةً ويداً، وأوفر تحبّباً وتودّداً، وأكثر تعاوناً وتفقّداً، وفي ذلك يقول بعض الحكماء: العيش إقبال الزمان، وعزّ السلطان، وكثرة الاخوان.

قال بعض الشعراء:

تكثّر من الاخوان ما استطعت انّهم *** كنوز إذا ما استنجدوا وظهور

وليس كثير ألف خلّ وصاحب *** وإنّ عدوّاً واحداً لكثير

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنّهم ينفعون في الدنيا والآخرة; أمّا الدنيا فحوائج يقومون بها، وأمّا الآخرة فإنّ أهل جهنّم قالوا: (فما لنا من شافعين  ولا صديق حميم)[الشعراء : 100 ـ 101](75).

وقال (عليه السلام): «من لم يرغب في الاستكثار من الاخوان ابتلي بالخذلان»(76).

وقال (عليه السلام): «استكثروا من الاخوان فإنّ لكلّ مؤمن دعوة مستجابة»(77).

وقال: «استكثروا من الاخوان فإنّ لكلّ مؤمن شفاعة»(78).

وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): «وأجلّ الخلائق وأكرمها اصطناع المعروف، واغاثة الملهوف، وتحقيق أمل الآمل، وتصديق مخيلة الراجي، والاستكثار من الأصدقاء في الحياة»(79).

ومنهم من يرى أنّ الاقلال منهم أولى، لأنّه أخفّ أثقالا وكلفاً، وأقلّ تنازعاً وخلفاً، وفي هذا قال الاسكندر: المستكثر من الاخوان من غير اختيار كالمستوقر من الحجارة، والمقلّ من الاخوان المتخيّر لهم كالذي يتخيّر الجوهر.

وقال إبراهيم بن ا لعباس: مثل الاخوان كالنار; قليلها متاع وكثيرها بوار.

ولقد أحسن ابن الرومي في هذا المعنى إذ يقول:

عدوّك من صديقك مستفاد *** فلا تستكثرنّ من الصحاب

فإنّ الداء أكثر ما نراه *** يكون من الطعام أو الشراب

ودع عنك الكثير فكم كثير *** يعاف وكم قليل مستطاب

فما اللجج الملاح بمرويات *** وتلقى الري في النطف العذاب

وقال بعض البلغاء: ليكن غرضك في اتّخاذ الاخوان واستماع النصحاء تكثير العدّة لا تكثير العدد، وتحصيل النفع لا تحصيل الجمع، فواحد من أهل الاخلاص والوفاء خير من ألف من ذوي النفاق والرياء.

وإذا كان التجانس والتشاكل من قواعد الاُخوّة وأسباب المودّة، كان وفور العقل وظهور الفضل يقتضيان من حال صاحبهما قلّة إخوانه، لأنّه يروم مثله ويطلب شكله، وأمثاله من ذوي العقل والفضل أقلّ من أضداده من ذوي الحمق والنقص، لأنّ الخيار في كلّ جنس هو الأقل، فلذلك قلّ وفور العقل والفضل.

قال الشاعر:

لكلّ امرئ شكل من الناس مثله *** فأكثرهم شكلا أقلّهم عقلا

وكلّ أُناس آلفون لشكلهم *** فأكثرهم عقلا أقلّهم شكلا

لأنّ كثير العقل لست بواجد *** له في طريق حين يسلكه مثلا

وكلّ سفيه طائش إن فقدته *** وجدت له في كلّ ناحية عدلا

وقال بعض العلماء: التمس ودّ الرجل العاقل في كلّ حين، وودّ الرجل ذي النكر في بعض الأحايين، ولا تلتمس ودّ الجاهل في كلّ حين.

وسمعت العوامي يقول لعليّ بن عيسى الوزير: إنّ الحال بينك وبين ابن مجاهد صفيقة، فما الذي قرّبه منك، ونفّقه عليك، وأولعك به؟ قال: وجدته متواضعاً في علمه، هشّاً في نسكه، كتوماً لسرّه، حافظاً لمروءته، شفيقاً على خليطه، حسن الحديث في حينه، محمود الصمت في وقته، بعيد القرين في عصره، والله لو لم يكن فيه من هذه الأخلاق إلاّ واحدة لكان محبوباً ومقبولا.

وقال بعض الأفاضل: سمعت برهان الصوفي الدينوري يقول: سمعت الجنيد يقول: لو صحبني فاجر حسن الخلق كان أحبّ إليّ من أن يصحبني عابد سيّئ الخلق، قال: لأنّ الفاجر الحسن الخلق يصلحني بحسن خلقه، ولا يضرّني فجوره، والعابد السيّئ الخلق يفسدني بسوء خلقه، ولا ينفعني بعبادته لأنّ عبادة العابد له، وسوء خلقه عليّ، وفجور الفاجر عليه، وحسن خلقه لي.

وقال العتابي لصاحب له: ما أحوجك إلى أخ كريم الاُخوّة، كامل المروءة، إذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوّك كفّ عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت.

وفي وصف خير الأصدقاء يقول ابن المقفّع:

كان لي أخ أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظّمه في عيني صغر الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان لا يأشر عند نعمة، ولا يستكين عند مصيبة، وكان خارجاً من سلطان الجهالة، فلا يتقدّم أبداً إلاّ ثقة بمنفعة، وكان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بَذَّ(80)القائلين.

وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جدّ الجدّ فهو الليث عادياً، وكان لا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مراء، ولا يدلي بحجة حتّى يرى قاضياً فهماً وشهوداً عدولا، وكان لا يلوم أحداً فيما يكون العذر في مثله حتّى يعلم ما عذره، وكان لا يشكو وجعه إلاّ عند من يرجو عنده البرء، ولا يستشير صاحباً إلاّ أن يرجو منه النصيحة، وكان لا يتبرّم ولا يتسخّط، ولا يتشكى ولا ينتقم من العدو، ولا يغفل عن الولي، ولا يخصّ نفسه بشيء دون اخوانه من اهتمامه وحيلته وقوته، فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها ـ ولن تطيق ـ ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع.

وقال أبو سليمان: الصديق لا يراد ليؤخذ منه شيء أو ليعطى شيئاً، ولكن ليسكن إليه، ويعتمد عليه، ويستأنس به، ويستفاد منه، ويستشار في الملم، وينهض في المهم، ويتزيّن به إذا حضر، ويتشوّق إليه إذا سفر، والأخذ والعطاء في عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم.

وقيل لأرسطاطاليس ـ معلّم الاسكندر ـ : من الصديق؟ قال: انسان هو أنت، إلاّ أنّه بالشخص غيرك.

سئل أبو سليمان عن هذه الكلمة، وقيل له: فسّرها لنا، فإنّها وإن كانت رشيقة فلا نظفر منها بحقيقة، فقال: وإنّما أشار بكلمته هذه إلى آخر درجات الموافقة التي يتصادق المتصادقان بها، ألا ترى أنّ لهذه الموافقة أولا منه يبتدئانها، كذلك لها آخر ينتهيان إليه، وأوّل هذه الموافقة توحّد وآخرها وحدة، وكما أنّ الإنسان واحد بما هو انسان كذلك يصير بصديقه واحداً بما هو صديق، لأنّ العادتين تصيران عادة واحدة، والارادتين تتحوّلان إرادة واحدة، ولا عجب من هذا، فقد أشار إلى هذه الغريبة الشاعر بقوله:

روحه روحي، وروحي روحه *** إن يشأ شئت وإن شئت يشأ

وليس يبعد هذا عليكم إلاّ لأنّكم لم تروا صديقاً لصديق، ولا كنتم أصدقاء على التحقيق، بل أنتم معارف يجمعكم الجنس المقتبس من الحيوان، وينظمكم النوع المقتبس من الإنسان، ويؤلفكم بعد ذلك البلد أو الجوار، أو الصناعة أو النسب.

ثمّ أنتم في كلّ ذلك الذي اجتمعتم عليه، وانتظمتم به، وتألفتم له على غاية الافتراق للحسد الذي يدبّ بينكم، والتنافس الذي يقطع علائقكم، والتدابر الذي يثير البينونة منكم، فلو ثبتم على الصراط المستقيم، وعلقتم بحبل العقل المتين المستبين، واعتصمتم بالعروة الوثقى من الهدى والدين، كنتم كنفس واحدة في كلّ حال ذللت أو صعبت، تجمّعت أو تشعّبت، تعرّفت أو تنكّرت.

وكانت هذه الشريعة ـ أعني ـ «الموافقة الموحدة» تسري في الصديق والصديق، ثمّ في الثاني والثالث، ثمّ في الصغير والكبير، وفي المطيع والمطاع، والسائس والمسوس، ثمّ في الجار والجار، وفي المحلّة والمحلّة، والبلد والبلد، حتّى تبلغ الأغوار والنجود، وتشتمل على الأداني والأقاصي، فحينئذ ترى كلمة الله العليا، وطاعته العالية، قال: فعلى هذا يحمل رأي الحكيم في قوله: الصديق إنسان هو أنت، إلاّ أنّه بالشخص غيرك.

 

منزلة الصديق:

حدّث أبو حامد العلوي ـ وكان من الحجاز ـ سنة سبعين وثلاثمائة بمدينة السلام، قال: رُمي أعرابي من بني هلال عن حيّه بأطراف الشام، فقيل له: من خلّفت وراءك؟ فقال: خلّفت والداً ووالدة، وأُختاً، وابن عم، وبنت عم، وعشيقاً، وصديقاً، قيل له: فكيف حنينك إليهم؟ قال: أشدّ حنين، قيل: فصفه لنا، قال:

أمّا حنيني إلى والدي فللتعزّز به، فإنّ الوالد عضد وركن يعاذ به ويؤوى إليه.

وأمّا نزاعي إلى الوالدة فللشفقة المعهودة منها، ولدعائها الذي لا يعرج إلى الله مثله.

وأمّا شوقي إلى الأُخت فللصيانة لها والتروّح إليها.

وأمّا شوقي إلى ابن العم فللمكافأة له والانتصار به.

وأمّا ابنة العم فلأنّها لحم على وضم، أتمنّى أن أشبل عليها بالرقة، وأصلها ببعض من يكون لها كفئاً ويكون لنا أيضاً إلفاً.

وأمّا صبابتي بالعشيق فذلك شيء أجده بالفطرة والارتياح الذي قلّما يخلو منه كريم له في الهوى عرق نابض، وفي المجون جواد راكض.

وأمّا الصديق فوجدي به فوق كلّ من نعتّه لك، لأنّي أباثه بما أجل أبي عنه، وأجبأ أُمّي فيه، وأطويه عن أُختي خجلا منها، وأُداجي ابن عمّي عليه خوفاً من حسد يفقأ ما بيني وبينه، وكلّ هؤلاء مع شرف موقعهم منّي وانتسابهم إليّ دون الصديق.

أرى الدنيا بعينه إذا رنوت، وأجد فائتي عنده إذا دنوت، وإذا عززت له ذلّ لي، وإذا ذللت له عزّ لي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودّة، وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عنّي إلاّ حافظاً للغيب، ولا يتراءى لي إلاّ ساتراً للعيب، قيل: فهل نمى إليك خبره منذ بان عنك أثره؟

قال: نعم لحقني بعض فتيان الحي أمس فسألته عن قرابتي وعشيرتي، فنعت لي كلاًّ وأطاب أخبارهم، حتّى إذا ما سألته عن الصديق قال: ما له هجيري سواك، إن عبر فباسمك يستقل، وإن تنفّس فبذكراك يقطع، وإن آوى إلى ندوة الحي فبلسانك ينشر، وجودك يذكر، لا يمرّ بمعهد لك إلاّ حيّاه، ولا بمكان حلّه معك إلاّ انتواه، فقلت له: كف قليلا، فقد أججت في صدري ناراً كانت طافئة، وأبديت منّي صبابة كانت خافية، قال أبو حامد: فضرب والله كبد راحلته إلى حيّه.

* * *

العطف على الأهل:

قوله (عليه السلام): «وَلاَ يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ».

ذلك أنّ الأهل أولى بالعطف، وأجدر باللطف، وأي شيء أجدر من الزجاج باللين واللطف، ومن كان أشقى الخلق به أهله فما هو من الإسلام وتعاليمه في شيء، وأي شيء منه يلائم التعاليم الإسلامية، والتعاليم الإسلامية تأبى ذلك أشدّ الاباء، تأبى التعاليم الإسلامية أن يكلّف الرجل امرأته بأيسر العمل دون رضاً منها ورغبة، فكيف بالرجل يكلّف المرأة مشقّة ما فوقها مشقّة، وعملا مضنياً ما فوقه عمل مضن.

أتراه يرعى من تعاليم الإسلام شيئاً، أم أنّ بينه وبين ذلك أشدّ الخلاف، وأنا لا أرى كثيراً من أصحابنا في هذا العصر، وغير أصحابنا إلاّ من كلّف المرأة شططاً، وحملها أمراً صعباً تكرهه وتضجر منه، واتّخذ لنفسه من زوجه المسكينة مطيّة يركبها، يستخدمها في أعماله، ويسخّرها في كلّ ما يريد، ويستعملها فيما يريد، وهو عليها كما يكون الملك الاستبدادي القاسي يفرض عليها أحكامه، وينزل عليها سخطه.

فإذا حادت عن رأيه قليلا، وإذا تركت من قوله جانباً، وإذا أغفلت من أوامره ناحية فهنالك القطيعة والتنكّر والاستكبار، وهناك السبّ واللوم والتعنيف الذي يوجّه نحو أبويها وأقربائها، فمن قرأ مقالتنا هذه فليكفّ عن زوجه بعض الأذى، وليرجع إلى ناموس وجدانه، وليخفّف من غلوائه، فإنّها أسيرة فرفقاً بالأسير، وإنّها قارورة فرفقاً بالقوارير أن تنكسر وتعدم فائدتها.

* * *

قوله (عليه السلام): «وَلاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ».

فإنّك لو رغبت فيه لم تجد منه إلاّ نكراً، ولم تلاق منه إلاّ ما تكره، فما أيسر أن ترغب عنه وتنأى بجانبك، ولا تعيره أي اهتمام.

* * *

الأمر بالصلة والاحسان:

قوله (عليه السلام): «وَلاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَى الاِْسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الاِْحْسَانِ».

وكن أقوى على صلة أخيك منه على القطيعة، ولا تدعه يكون أقوى على القطيعة منه على الصلة، ولتكن أنت كذلك أقوى على الاحسان منه على الاساءة، فمقابلة السيّئة بالحسنة يكسر شرّة النفوس، ويوجهها إلى الخير، ويطفئ جذوة الشرّ، ويرد نزغ الشيطان، وهذه المقابلة من خلق الكرام الذين زكت نفوسهم وطهرت قلوبهم.

 

قصة عصام بن المصطلق:

ومن روائع ما أثر من مقابلة السيّئة بالحسنة ما ذكره عبد الملك بن شمس الخلافة ـ أحد وزراء العلماء في مصر، المتوفى في حدود الستمائة ـ في كتاب له ألّفه في محاسن المحاضرة، وآداب المسامرة، فقال: إنّ عصام بن المصطلق ـ وكان شامياً أموياً ـ قال: دخلت المدينة فرأيت الحسين بن عليّ ـ سلام الله عليهما ـ ، ومعه غلمانه وحاشيته، فأعجبني سمته وروائه، وحسنه وبهاؤه، وأثار الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض.

فجئت إليه وقلت: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إليّ نظر عاطف رؤوف برقّة ورحمة، ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (وامّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه سميع عليم  إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون  وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ ثمّ لا يقصرون) [الأعراف : 200-202].

ثمّ قال لي: خفض عليك أستغفر الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا لأعنّاك، ولو استرفدتنا لرفدناك، ولو استرشدتنا لأرشدناك، قال عصام: فندمت على ما قلت، وتوسّم منّي الندم على ما فرّط منّي، فقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ثمّ قال: أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حيّانا الله وإيّاك، أتبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنّك إن شاء الله.

قال عصام: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وودت لو أنّها ساخت بي، ثمّ انسللت من بين يديه لواذاً وما على وجه الأرض أحبّ إليّ منه ومن أبيه.

 

قصة الامام الكاظم مع الرجل الخطابي:

كان رجل من ولد آل الخطّاب بالمدينة ينال من أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام)ويشتم علياً، فقال بعض الشيعة للإمام: يا ابن رسول الله ألا نقتل هذا الرجل؟ فنهاهم الإمام عن ذلك أشدّ النهي.

ثمّ سأل الإمام عن الخطابي، فقيل له: إنّ له زرعاً بناحية من نواحي المدينة، فركب (عليه السلام) إليه فوجده في زرعه، فدخل الزرع وهو راكب على حماره، فصاح به الخطابي: لا تطأ زرعنا، فوطئه الإمام بالحمار حتّى وصل إليه فنزل وجلس معه، فباسطه وضاحكه، ثمّ قال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ قال: مائة دينار، فقال (عليه السلام): فكم ترجو أن تصيب؟ قال: لست أعلم الغيب.

فقال (عليه السلام) له: ما قلت لك كم تصيب وإنّما قلت لك كم ترجو، فقال: أرجو ثلاثمائة دينار، فأخرج الإمام صرّة فيها ثلاثمائة دينار وقال: خذ هذا لك وزرعك على حاله يرزقك الله تعالى فيه ما ترجو.

فلمّا رأى الخطابي ذلك قام إلى أبي الحسن (عليه السلام) وقبّل رأسه ويديه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسّم الإمام (عليه السلام)وانصرف، ثمّ لمّا كان من الغد ودخل الإمام المسجد فوجد الخطابي جالساً، فلمّا بصر به الخطابي قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته، فقال له أصحابه: ما شأنك لقد كنت تقول غير هذا، فقال: قد علمتم ما قلت الآن، وجعل يعظّم شأن أبي الحسن (عليه السلام)(81).

روي أنّ المأمون لمّا خرج عمّه إبراهيم بن المهدي عليه، وبايعه العبّاسيّون بالخلافة ببغداد، وخلعوا المأمون ـ وكان إذ ذاك بخراسان ـ فلمّا بلغه الخبر قصد العراق، فلمّا دخل بغداد اختفى إبراهيم بن المهدي، وعاد العبّاسيّون وغيرهم إلى طاعة المأمون.

ولم يزل المأمون متطلّباً لإبراهيم حتّى أخذه مستنقباً مع نسوة، فحبس ثمّ أحضر حتّى وقف بين يدي المأمون، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال له المأمون: لا سلّم الله عليك ولا قرّب دارك، استغواك الشيطان حتّى حدثتك نفسك بما تنقطع دونه الأوهام.

فقال إبراهيم: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنّ وليّ الثأر يحكم في القصاص والعفو، والعفو أقرب للتقوى، ولك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)شرف القرابة وعدل السياسة، ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الرجاء أمن عادية الدهر على نفسه، وهجمت به الأيّام على التلف، وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذنب، كما جعل كلّ ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقّك، وإن عفوت فبفضلك، والفضل أولى بك يا أمير المؤمنين، ثمّ قال:

ذنبي إليك عظيم *** وأنت أعظم منه

فخذ بحقّك أو لا *** فاصفح بعفوك عنه

إن لم أكن في فعالي *** من الكرام فكنه

فلمّا سمع المأمون كلامه وشعره ظهرت الدموع في عينيه، وقال: يا إبراهيم القدرة تذهب بالحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أعظم ممّا يحاول، وأكثر ممّا يؤمل، ولقد حبّب إليّ العفو حتّى خفت ألاّ أوجر عليه، لا تثريب عليك، وردّ أمواله جميعها إليه، فقال فيه مخاطباً:

رددت مالي ولم تمنن عليّ به *** وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي

فإن جحدتك ما أوليت من كرم *** إنّي لباللّوم أولى منك بالكرم

ومن ذلك ما روي من أنّ الرشيد بن المهدي خرج عليه خارجي رام زوال ملكه وإفساد دولته، فجهّز له جيشاً، وأنهض الناس والجند للخروج لقتاله، فلمّا توجّه الجيش إليه وظفروا به أحضروه إلى دار الخلافة، فلمّا دخل على الرشيد قال له: ما تريد أن أصنع بك؟

قال: اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه، وهو أقدر عليك منك عليّ، فأطرق الرشيد مليّاً ثمّ رفع رأسه، وأمر باطلاقه، فلمّا خرج قال بعض الحاضرين: يا أمير المؤمنين تقتل رجالك، وتفني أموالك، وتظفر بهذا الذي خرج عليك، وأفسد في بلادك، وتطلقه بكلمة واحدة، تأمّل يا أمير المؤمنين، فإنّه يجرئ عليك أهل الفساد.

فأمر الرشيد بردّه، فلمّا عاد ومثل بين يديه علم أنّه قد سُعي به، وأُشير على الخليفة بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تطع فيّ مشيراً يمنعك عفواً تدّخر به عند الله يداً، ويبعثك على الانتقام الذي ليس من مكارم الأخلاق، واقتد بالله تعالى، فإنّه لو أطاع فيك مشيراً ما استخلفك طرفة عين، وأحسن كما أحسن الله إليك، فأمر بإطلاقه وأحسن إليه، وقال: لا تعاودوني فيه.

* * *

نتيجة الظلم:

قوله (عليه السلام): «وَلاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ، فَإِنِّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَنَفْعِكَ، وَلَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ».

واصبر نفسك على من ظلمك، وغصب حقّك، وحرمك من نصيبك شيئاً، ففي الصبر بلوغ الأرب ونيل المطلب، ولو نظرت فأمعنت في النظر لتكشف لك أنّ الظالم محسن، وكيف يكون الظالم محسناً، وكيف يكون الظلم احساناً.

نعم هو كذلك لأنّ الظالم لا يظلم إلاّ نفسه، ولا يسعى إلاّ في جلب الضرر لنفسه، ولو تفكّرت جيّداً رأيت نفسك الرابح، وإنّك صاحب الكفّة الراجحة من الميزان، فلا تخففنّ من ضرره على نفسه بأن تدعو الله عليه أو تدافعه عن نفسك، بل اتركه، فما عرفت لك أحداً أعود عليك نفعاً من ظالمك، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه.

وقد قلت لك انّه ليس لك أن تجحد لصاحب الاحسان إحسانه بل اعرف صنيعه، واذكره بلسان المدح والثناء، وأنا لا أرى ظالمك هذا إلاّ محسناً فهو يسدي إليك يداً يجب عليك أن تؤدّي إليها حقّها من الشكر، فإن لم تفعل فإنّك الظالم، وإنّ ذلك الذي لا يستطيع أن يضع الشيء في موضعه المناسب له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) البحار 75 : 284 ح1.

(2) نهج البلاغة : الخطبة 200; عنه البحار 33 : 197 ح483.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 10 : 244.

(4) حلية الأولياء 1 : 71 رقم 4; وينابيع المودّة 2 : 484 ح363.

(5) راجع ينابيع المودّة 2 : 484 ح363.

(6) فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : 87 ح130; وينابيع المودة 2 : 484 ح364.

(7) فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : 59 ح90; وينابيع المودة 2 : 484 ح365.

(8) حلية الأولياء 1 : 66و67 رقم 4; وينابيع المودة 2 : 485 ح365.

(9) حلية الأولياء 1 : 66 رقم 4; وينابيع المودة 2 : 485 ح367.

(10) ينابيع المودة 2 : 486 ح368.

(11) حلية الأولياء 1 : 86 رقم 4 ، و 4 : 176; وينابيع المودة 2 : 486 ح369.

(12) فضائل علي (عليه السلام) : 181 ح253; وينابيع المودة 2 : 486 ح370.

(13) راجع ينابيع المودة 2 : 486 ح371.

(14) فضائل علي (عليه السلام) : 172 ح243; وينابيع المودة 2 : 487 ح372.

(15) راجع ينابيع المودة 2 : 487 ح373.

(16) حلية الأولياء 1 : 61 رقم4; وينابيع المودة 2 : 488 ح374.

(17) المصدر نفسه.

(18) حلية الأولياء 1 : 66 رقم4; وينابيع المودة 2 : 489 ح376.

(19) فضائل علي (عليه السلام) : 219 ح298; ومسند 5 : 358.

(20) فضائل علي (عليه السلام) : 178 ح251; وينابيع المودة 2 : 490 ح379.

(21) الفردوس 3 : 283 ح4851.

(22) راجع ينابيع المودة 2 : 491 ح380.

(23) فضائل علي (عليه السلام) : 116 ح171.

(24) فضائل علي (عليه السلام) : 115 ح169; وينابيع المودة 2 : 491 ح381.

(25) فضائل علي (عليه السلام) : 126 ح188; وينابيع المودة 2 : 492 ح382.

(26) فضائل علي (عليه السلام) : 131 ح194; وينابيع المودة 2 : 492 ح383.

(27) فضائل علي (عليه السلام) : 182 ح255; وينابيع المودة 2 : 492 ح384.

(28) فضائل علي (عليه السلام) : 72 ح109; وينابيع المودة 2 : 493 ح385.

(29) راجع ينابيع المودة 2 : 493 ح386.

(30) حلية الأولياء 1 : 65 رقم4; وينابيع المودة 2 : 494 ح387.

(31) راجع ينابيع المودة 2 : 494 ح388.

(32) راجع ينابيع المودة 2 : 495 ح389.

(33) شرح النهج لابن أبي الحديد 10 : 244.

(34) غرر الحكم : 291 ح6478.

(35) إلى هنا في غرر الحكم : 291 ح6483.

(36) الكافي 2 : 336 ح1; عنه البحار 33 : 454 ح670.

(37) نهج البلاغة : الخطبة 41; عنه البحار 75 : 287 ضمن حديث 11.

(38) مستدرك الوسائل 12 : 430 ح14530.

(39) البحار 74 : 286 ضمن حديث 13.

(40) المصدر نفسه.

(41) كنز العمال 3 : 545 ح7824.

(42) القاموس المحيط : 312 / نصح.

(43) النهاية 5 : 62 / نصح.

(44) الكافي 2 : 208 ح4; عنه البحار 74 : 358 ح7.

(45) الكافي 2 : 208 ح5; عنه البحار 74 : 358 ح8.

(46) الترغيب والترهيب 1 : 534 ح21.

(47) الكافي 2 : 208 ح2; عنه البحار 74 : 358 ح5.

(48) الكافي 2 : 208 ح6; عنه البحار 74 : 358 ح9.

(49) الكافي 2 : 363 ح4; عنه البحار 75 : 183 ح26.

(50) الكافي 2 : 362 ح1; عنه البحار 75 : 182 ح24.

(51) المستطرف : 1 : 174 الباب 11.

(52) محاضرات الأُدباء 1 : 129 مما جاء في النصح.

(53) المستطرف 1 : 174 الباب 11.

(54) المستطرف 1 : 175 الباب 11.

(55) المصدر نفسه.

(56) المصدر نفسه.

(57) تاريخ الطبري 3 : 310.

(58) المصدر نفسه.

(59) تاريخ الطبري 3 : 319.

(60) البحار 75 : 243 ح4.

(61) كنز العمال 3 : 131 ح5826.

(62) الترغيب والترهيب 3 : 450.

(63) مستدرك الوسائل 12 : 9 ح13366.

(64) جامع الأخبار : 319 ح896; عنه البحار 71 : 425 ح68.

(65) البحار 1 : 160 ح45.

(66) غرر الحكم : 432 ح9865.

(67) غرر الحكم : 429 ح9773.

(68) البحار 78 : 6 ح58.

(69) غرر الحكم : 434 ح9910 نحوه.

(70) الكافي 2 : 376 ح6; عنه البحار 74 : 205 ح43; والمحجة البيضاء 3 : 311.

(71) البحار 78 : 232 ح33.

(72) البحار 78 : 249 ح85.

(73) البحار 74 : 196 ح29; والمحجة البيضاء 3 : 315.

(74) البحار 74 : 173 ح1.

(75) مصادقة الاخوان : 46 باب منفعة الاخوان; عنه الوسائل 8 : 407 ح5.

(76) البحار 78 : 232 ح107.

(77) الوسائل 8 : 408.

(78) المصدر نفسه.

(79) البحار 78 : 355 ح9.

(80) بذّهم: أي كفّهم عن القول ومنعهم.

(81) البحار 48 : 102 ح7.