الفصل التاسع عشر

حِكَمٌ في السلوك الاجتماعي

 

 

«وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ.

مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى!

إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ.

وَإِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ.

اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ، فَإِنَّ الاُْمُورَ أَشْبَاهٌ.

وَلاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالاْدَابِ، وَالْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ.

اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ.

مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ.

وَالصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ.

وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ.

وَالْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى.

وَرُبَّ بَعِيد أَقْرَبُ مِنْ قَرِيب، وَقَرِيب أَبْعَدُ مِنْ بَعِيد.

وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ.

مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ.

وَأَوْثَقُ سَبَب أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ.

وَمَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ.

قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلاَكاً.

لَيْسَ كُلُّ عَوْرَة تَظْهَرُ، وَلاَ كُلُّ فُرْصَة تُصَابُ.

وَرُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ، وَأَصَابَ الاَْعْمَى رُشْدَهُ.

أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ.

وَقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ.

مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ، وَمَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ.

لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ.

إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ.

سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وَعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ».

* * *

الرزق رزقان:

الرزق لا يعدو احدى اثنتين: فرزق تطلبه وتسعى إليه، وتتذرّع إليه بالوسائل المختلفة، وتحدث بينك وبينه أسباباً وصلات حتّى إذا بلغ منك الاعياء مبلغاً عظيماً نلته بعد جهد جاهد، وعسر عسير.

ورزق يسعى نحوك ولا تسعى أنت إليه، بل لم تر أنّه قد كتب لك، فهو يأتيك من دون أن تبذل فيه شيئاً من راحة، ومن دون أن تركب لنيله الصعاب، وتجتاز من أجله العقاب.

 

الرزق الذي يطلبك:

دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بابويه بشيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها وهو فقير لا مال له، فساخت احدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض، فنزل عنها وابتدرها غلمانه فخلصوها، فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع، فأمرهم بحفره فوجدوا فيه أموالا عظيمة وذخائر لابن ياقوت.

واستلقى يوماً آخر على ظهره في داره بشيراز ـ التي كان ابن ياقوت يسكنها ـ فرأى حيّة في السقف، فأمر غلمانه بالصعود إليها وقتلها، فهربت منهم ودخلت في خشب الكنيسة، فأمر أن يقلع الخشب وتستخرج وتقتل، فلمّا قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت.

واحتاج أن يفصل ويخيط ثياباً له ولأهله، فقيل: هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت، وهورجل منسوب الى الدين والخير، إلاّ أنّه أصمّ لا يسمع شيئاً أصلا، فأمر باحضاره فأحضر عنده وهو في رعب وهلع، فلمّا أُدخل عليه كلّمه وقال: أريد أن تخيط لنا كذا وكذا قطعة من الثياب، فارتعد الخياط واضطرب كلامه وقال: والله يا مولاي ما له عندي إلاّ أربعة صناديق ليس غيرها، فلا تسمع قول الأعداء فيّ، فتعجّب عماد الدولة وأمر باحضار الصناديق، فوجدها كلّها ذهباً وحلياً وجواهراً مملوءة وديعة لابن ياقوت(1).

عبد الله بن جدعان التيمي ـ أحد أجواد الجاهلية ـ كان في ابتداء أمره صعلوكاً ترب اليدين، وكان من ذلك شريراً فاتكاً لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه حتّى أبغضه عشيرته ونفاه أبوه، وحلف أن لا يؤويه أبداً.

فخرج في شعاب مكة حائراً ثائراً يتمنّى الموت أن ينزل به، فرأى شقّاً في جبل فظنّ أنّ فيه حيّة، فتعرّض للشق يريد أن يكون فيه ما يقتله فيستريح فلم ير شيئاً، فدخل فيه فإذا فيه ثعبان عظيم له عينان تتقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان فأفرج له فانساب عنه مستديراً بدارة عند بيت، ثمّ خطا خطوة أُخرى فصفر به الثعبان، فأقبل إليه كالسهم فأفرج له فانساب عنه.

فوقف ينظر إليه يفكّر في أمره فوقع في نفسه أنّه مصنوع، فأمسكه بيديه فإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت، فإذا جثث طوال على سرر لم ير مثلهم طولا وعظماً، وعند رؤوسهم لوح من فضّة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم وآخرهم موتاً ـ الحرث بن مضاض ـ صاحب العذبة الطويلة ـ وإذا عليهم ثياب من وشي لا يمسّ منها شيء إلاّ انتثر كالهباء من طول الزمان، مكتوب في اللوح عظات.

وكان اللوح من رخام، وكان فيه: أنا نفيلة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن نبيّ الله هود (عليه السلام)، عشت من العمر خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض ظاهرها وباطنها في طلب الثروة والمجد والملك، فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب:

قد قطعت البلاد في طلب *** الثروة والمجد قالص الأثواب

وسريت البلاد قفراً لقفر *** بقناة وقوّة واكتساب

فأصاب الردى بنات فؤادي *** بسهام من المنايا صياب

فانقضت مدّتي وأقصر جهلي *** واستراحت عواذلي من عتابي

ودفعت السفاه بالحلم لما *** نزل الشيب في محلّ الشباب

صاح هل رأيت أو سمعت براع *** ردّ في الضرع ما قرى في الحلاب

وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضّة والزبرجد، فأخذ منه ثمّ علّم على الشقّ بعلامة وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلّهم، فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف، وكانت له جفنة يأكل منها الراكب وهو على البعير لعظمها، وسقط فيها صبي فغرق ومات.

وفي الرواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله): «إنّ أرزاقكم تطلبكم كما تطلبكم آجالكم، فلن تفوتوا الأرزاق كما لم تفوتوا الآجال».

 

الرزق الذي تطلبه:

وأمّا الرزق الذي يطلبه الإنسان ويسعى إليه، فهو كثير جدّاً لا يُحصى.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب»(2).

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «الدنيا دول فاطلب حظّك منها بأجمل الطلب»(3).

وسأل الصادق (عليه السلام) عن بعض أصحابه، فقيل له: أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال: «ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا تُستجاب له دعوة، إنّ قوماً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما نزلت (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً  ويرزقه من حيث لا يحتسب) [الطلاق : 2-3] أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله)فأرسل إليهم فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا: يا رسول الله تكفّل الله لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال (صلى الله عليه وآله): انّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب»(4).

وعنه (عليه السلام) قال: «إنّي لأركب في الحاجة التي كفانيها الله، ما أركب فيها إلاّ لالتماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول الله تعالى: (فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) [الجمعة : 10 ]أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيتاً وطيّن عليه بابه، وقال رزقي ينزل عليّ أكان يكون هذا»(5).

ويمكن الجمع من هذه الأخبار أن يجعل الرزق على قسمين: أحدهما ما ليس للطلب والسعي فيه مدخليّة، والثاني ما لا يُنال إلاّ بالطلب، فتحمل الأخبار منها على القسم الأوّل، والأدلّة الأخيرة على القسم الثاني.

ويشهد على هذا الجمع قول الصادق (عليه السلام): «الرزق مقسوم على ضربين; أحدهما واصل إلى صاحبه وإن لم يطلبه، والآخر معلّق بطلبه، فالذي قسم للعبد على كلّ حال آتيه وإن لم يسع له، والذي قسم له بالسعي فينبغي أن يلتمسه من وجوهه وهو ما أحلّه الله دون غيره، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه وحوسب به»(6).

 

الكسب من الحرام:

وأكثر الناس حرموا عن السعادة من أجل الكسب في المحرّمات، ومنعوا عن توفيق الوصول إلى الله بسببه.

ومن تأمّل يعلم أنّ أكل الحرام أعظم الحجب للعبد من نيل درجة الأبرار، وأقوى الموانع له عن الوصول إلى عالم الأنوار، وهو الموجب لظلمة القلب وكدرته، والباعث لخبثه وغفلته، والعلّة العظمى لخسران النفس وهلاكها، وهو السبب الأقوى لضلالتها وخباثتها.

هو الذي أنساها عهود الحمى، وهو الذي أهواها في مهاوي الضلالة والردى، وما للقلب المتكوّن من الحرام والاستعداد لفيوضات عالم القدس، وأنّى للنطفة الحاصلة منه والوصول إلى مراتب الأُنس، كيف يدخل النور والضياء في قلب أظلمته أدخنة المحرّمات، وكيف تحصل الطهارة والصفاء لنفس أخبثتها قذارة المشتبهات، ولأمر ما أصبحت أصحاب الشرع، وأُمناء الوحي محذرين عنه غاية التحذير، وزاجرين منه أشدّ الزجر.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ لله ملكاً على بيت المقدس، ينادي كلّ ليلة: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل»(7) ـ أي نافلة ولا فريضة ـ .

وقال (صلى الله عليه وآله): «من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار»(8).

وقال (صلى الله عليه وآله): «كلّ لحم ينبت من حرام فالنار أولى به»(9).

وقال (صلى الله عليه وآله): «من أصاب مالا من مأثم، فوصل به رحماً، أو تصدّق به، أو أنفقه في سبيل الله جمع الله ذلك جمعاً ثمّ أدخله في النار»(10).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إنّ أخوف ما أخاف على أُمّتي من بعدي هذه المكاسب الحرام، والشهوة الخفيفة، والزنا»(11).

وقال: «من اكتسب مالا من الحرام فإن تصدّق به لم يقبل منه، وإن تركه كان زاده إلى النار»(12).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إذا كسب الرجل مالا من غير حلّه ثمّ حجّ فلبّى، نودي لا لبّيك ولا سعديك، وإن كان من حلّه نودي لبّيك وسعديك»(13).

وقال (صلى الله عليه وآله): «كسب الحرام يبين في الذرية»(14).

وفي بعض الأخبار إنّ العبد يوقف عند الميزان وله من الحسنات أمثال الجبال، فيسأل عن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه، وعن رعاية عياله والقيام بحقّهنّ، حتّى تفني تلك المطالبات تمام أعماله، فلا يبقى له حسنة، فتنادي الملائكة: هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا، وارتهن اليوم بأعماله.

وورد أنّ أهل الرجل وأولاده يتعلّقون به يوم القيامة، فيوقفونه بين يدي الله تعالى، ويقولون: يا ربّنا خُذْ لنا بحقّنا منه فإنّه ما علّمنا ما نجهل، وكان يطعمنا من الحرام ونحن لا نعلم، فيقتصّ لهم منه.

فعليه ينبغي لطالب النجاة أن يفرّ من الحرام فراره من الأسد، ويحترز منه احترازه من الحيّة السوداء بل أشدّ، وأنّى يمكنه ذلك في أمثال زماننا ونحن في سنة 1378 من الهجرة الذي لم يبق فيه من الحلال إلاّ الماء والكلاء النابت في أرض الموات، وما عداه قد أخبثته الأيدي العادية، وأفسدته المعاملات الفاسدة، ما من درهم إلاّ وقد غصب من أهله مرّة بعد أولى، وما من دينار إلاّ وقد خرج من أيدي من أخذها قهراً كرّة غب أولى.

وصفوة القول: الحلال يمكن أن نقول إنّه في زماننا مفقود، والسبيل دون الوصول إليه مسدود، ولعمري أنّ فقده آفة عمّ في الدين ضررها، ونار استطار في الخلق شررها، والظاهر انّ أكثر الأعصار كان حالها كذلك، ولذلك قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام): «المؤمن يأكل في الدنيا بمنزلة المضطرّ»(15).

وقال رجل للكاظم (عليه السلام): أُدع الله عزّ وجلّ أن يرزقني الحلال، فقال (عليه السلام): أتدري ما الحلال؟ قال: الكسب الطيّب، فقال: كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: الحلال قوت المصطفين، ولكن قل: اللّهمّ إنّي أسألك من رزقك الواسع ...(16).

 

لابد من الاحتياط في الكسب:

ومع ذلك كلّه لا ينبغي للمؤمن أن ييأس من تحصيل الحلال، ويترك الفرق والفصل بين الأموال، فإنّ الله سبحانه أجل وأعظم من أن يكلّف عباده بأكل الحلال، ويسدّ عنهم طرق تحصيله.

إنّ الأموال على أقسام ثلاثة: حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بينهما ولكلّ منها درجات، فإنّ الحرام وإن كان كلّه خبيثاً إلاّ أنّ بعضه أخبث من بعض، فإنّ ما يأخذ بالمعاملة الفاسدة مع التراضي ليس في الحرمة كمال اليتيم الذي يؤخذ قهراً، وكذا الحلال وإن كان كلّه طيّباً إلاّ أنّ بعضه أطيب من بعض، والشبهة كلّها مكروهة، ولكن بعضها أشدّ كراهةً من بعض.

وكما أنّ الطبيب يحكم على كلّ حلو بالحرارة، ولكن بعضه حار في الدرجة الأولى، وبعضه في الثانية، وبعضه في الثالثة، وبعضه في الرابعة، فكذلك الحرام بعضه خبيث فى الدرجة الأُولى، وبعضه في الثانية، وبعضه في الثالثة، وبعضه في الرابعة، وكذلك درجات الحلال في الصفاء والطيب، ودرجات الشبهة في الكراهة.

ثمّ الحرام إمّا يحرم بعينه كالكلب والخنزير والتراب وغيرها من المحرّمات العينية، أو لصفة حادثة فيه كالخمر لاسكاره، والطعام لسميته، أو لخلل في جهة إثبات اليد عليه، وله أقسام غير محصورة كالمأخوذ بالظلم والقهر، والغصب والسرقة، والخيانة في الأمانة وغيرها، والغش، والتلبيس، والرشوة، وبالبخس في الوزن والكيل، وبأخذ المعاملات الفاسدة من الربا والصرف والاحتكار، وغير ذلك ممّا هو مذكور في كتب الفقه.

وقد نهى الله سبحانه عن جميع ذلك في آيات كثيرة كقوله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) [البقرة : 188]، وقوله: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) [النساء : 10].

مهما يكن الأمر ينبغي للإنسان أن يجعل رزقه من الطيب الذي أحلّه الله تعالى له.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: «ألا أنّ الروح الأمين نفث في روعي، أن لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب، وما يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله، فإنّ الله تعالى قسم بين خلقه حلالا ولم يقسّمها حراماً، فمن اتّقى الله وصبر أتاه رزقه من حلّه، ومن هتك حجاب ستر الله وأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال، وحوسب عليه يوم القيامة»(17).

جاء في المستطرف أنّه دخل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) المسجد، فقال لرجل: امسك على بغلتي، فأخذ الرجل لجامها ومضى وتركها، فخرج علي وفي يده درهمان ليكافي بهما الرجل على مسك البغلة، فوجدها بغير لجام فركبها ومضى، ودفع لغلامه الدرهمين ليشتري بهما لجاماً، فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين، فقال (عليه السلام): إنّ العبد ليحرم على نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدّر له(18).

 

الرزق بمقدار النفقة:

ورزق الإنسان من حيث القلّة والكثرة على قدر ما ينفقه، إن كثّر كثر عليه، وإن قلّل قلّل عليه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ مفاتيح الرزق بازاء العرش، ينزل الله للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له»(19).

روى أبوحيّان، قال: رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها غلبة الدين عليه وكثرة العيال وقلّة الصبر، فوقّع المأمون عليها: أنت رجل فيك خلّتان: السخاء والحياء، فأمّا السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأمّا الحياء فهو الذي بلغ بك إلى ما ذكرت، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كنّا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كنّا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك.

وأنت كنت حدّثتني وأنت على قضاء الرشيد، عن محمّد بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس بن مالك، انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال للزبير: يا زبير إنّ مفاتيح الرزق بازاء العرش ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له.

 

فلسفة الإقتار في الرزق:

ومن ناحية أُخرى انّ الله سبحانه وتعالى يبتلي أنبياءه وأولياءه وعباده الصالحين بتقتير الرزق لوجوه من الحكمة، وضروب من المصلحة، اقتضت لعنايته سبحانه بهم، كما دلّ عليه صحيح الخبر ومستفيض الأثر.

منها: اكرامهم وصيانتهم عن الاشتغال بالدنيا وقيناتها، والتنعّم بطيباتها لما تقرّر من أنّ الدنيا والآخرة ضرتان بقدر ما يقرب من احداهما يبعد من الأُخرى.

والأنبياء والأولياء ومن سلك سبيلهم، وإن كانوا أكمل الخلق نفوساً وأقواهم استعداداً لقبول الكمالات النفسانية، إلاّ أنّهم محتاجون إلى الرياضات التامّة بالاعراض عن الدنيا وطيباتها، وهو الزهد الحقيقي، والى تطويع نفوسهم الأمارة لنفوسهم المطمئنّة بالعبادة التامّة، كما هو المشهور من أحوالهم صلوات الله عليهم أجمعين، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)كان يربط على بطنه حجراً من الجوع، وكان يسمّيه بالشبع، والى ذلك أشار من قال:

وشدّ من سغب أحشاءه وطوى *** تحت الحجارة كشحاً مئزر الأدم

ومن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): «وأيم الله يميناً استثني فيها بمشية الله، لأُروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً»(20).

وليس ذلك منهم (عليهم السلام) إلاّ زهداً في الدنيا، وإعراضاً عن متاعها وزينتها، لما كان ذلك شرطاً في بلوغهم درجات النبوّة والرسالة، ومراتب الوحي والولاية، فلو فتحت لهم أبواب الدنيا واشتغلوا بنعيمها، وانغمسوا في لذّاتها لانقطعوا عن حضرة جلال الله، وبعدوا عن ساحة القرب منه والوصول إليه.

ومنها: اعظام مثوبهاتهم على الصبر والقناعة، وظلف أنفسهم عن النزوع إلى الدنيا وشهواتها، لأنّه كلّما كانت المحنة أعظم كانت المثوبة عليها أجزل.

ومنها: ابتلاء المتكبّرين وأرباب الدنيا بهم، إذ لو وسّع الله عليهم أرزاقهم فاتّسعوا في القينات الدنيويّة من الكنوز والقناطير المقنطرة، من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة، والأنعام والحرث، لكانت طاعة الناس لهم أسرع، والانحياش إليهم أقرب.

كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبته القاصعة: «فإنّ الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه (عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهم العصا، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين يشترطان لي دوام العزّ وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذلّ، فهلاّ ألقينا عليهما أساور من ذهب، اعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه، ولو أراد سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان(21)، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طير السماء ووحوش الأرضين لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء»(22).

ومنها: ابتلاؤهم بالمتكبّرين والمكذّبين، لأنّهم لو كانوا على الحالة الموصوفة من الاتّساع في الدنيا لسقط بلاؤهم بالصبر على أذى المسكنة من المكذّبين لهم والمستخفّين بشأنهم، كما قال أهل مدين لشعيب (عليه السلام): (يا شعيب ما نفقه كثيراً ممّا تقول وإنّالنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)[هود:91].

ومنها: تأسّي المسلمين واقتداء المؤمنين بهم (عليهم السلام) في العزوف عن الدنيا، والاعراض عن زخرفها وزبرجها، إذ كانوا هم القدوة للخلق ومحلّ الأُسوة لهم، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

«ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) كاف لك في الأُسوة، ودليل على ذمّ الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها، وفطم من رضاعها، وزوي عن زخارفها، وإن شئت ثنّيت بموسى كليم الله (عليه السلام) حيث يقول: (ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير)[القصص : 24] ووالله ما سأله إلاّ خبزاً ليأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله، وتشذّب لحمه.

وإن شئت ثلّثت بداود (عليه السلام)صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنّة، ولقد كان يعمل صفائف الخوص ويقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها، ويأكل قرص الشعير من ثمنها، وإن شئت قلت في عيسى بن مريم (عليه السلام)، ولقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب، وكان أدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وصلاؤه في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانته ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذلّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه.

فتأسّ بنبيّك الأطهر (صلى الله عليه وآله) فإنّ فيه أُسوة حسنة لمن تأسّى، وعزّاً لمن تعزّى، وأحبّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه والمقتصّ لأثره، ـ إلى أن قال (عليه السلام): ـ ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يدلّك على مساوي الدنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه بزخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمّداً (صلى الله عليه وآله)بذلك أم أهانه، فإن قال أهانه فقد كذب والله العظيم، وإن قال أكرمه فليعلم أنّ الله سبحانه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس لله.

فتأسّى متأسّ بنبيّه (صلى الله عليه وآله)، أو اقتفى أثره وولج مولجه، وإلاّ فلا يأمن الهلكة فإنّ الله جعل محمّداً (صلى الله عليه وآله) علماً للساعة، ومبشّراً بالجنّة، ونذيراً بالعقوبة، وخرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً، لم يضع حجراً على حجر حتّى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربّه، فما أعظم منّة الله علينا حين أنعم علينا به سلفاً نتّبعه، وقائداً نطأ عقبه، والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك، فقلت: أعزب عنّي فعند الصباح يحمد القوم السرى(23).

ومنها: ايثاره سبحانه لهم بالحضور في حضرته المقدّسة بالدعاء والابتهال، والتضرّع والسؤال، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الله يبتلي العبد وهو يحبّه ليسمع تضرّعه»(24).

وفي ذلك كان يقول بعض أرباب القلوب: «الدعاء يوجب الحضور، والعطاء يوجب الصرف، والمقام على الباب أشرف من الانصراف بالمبار»، وعلى هذا ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طريق العامّة والخاصة، إنّه قال: «عرض عليّ ربّي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا ربّ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك»(25).

* * *

عند الفقر والغنى:

قوله (عليه السلام): «مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى!».

وإنّ للإنسان لكرامة ما أجملها لو أعطى حقّها من العناية والاهتمام، وما أعزّ الإنسان لو كفّ عن السؤال، وما أحبّه إلى النفوس، وأعظمه في الأبصار لو غني وأثرى وهو باق على مراعاته حرمات الله، وهو لم يتغيّر عمّا كان عليه أوّلا من تواضع ولين.

ونحن نستطيع أن نرى من كلام سيّدنا الإمام أشياء كثيرة، فالفقير غني إذا عفّ عن السؤال، والغنيّ فقير إذا ألحف في الطلب، وهو في غنى عمّا يطلب، الفقير عزيز إذا لم يمدّ يده إلى من يحسن إليه، وهو ذليل إذا شره وطمع بما في أيدي الناس.

فعلى الإنسان أن يكون مثلا رائعاً للإنسانية في فقره وغناه، فإن كان فقيراً فلا يخضع لأحد، وإن كان غنيّاً فلا يجفوا أحداً ممّن كانت تجمعه وإيّاه الصلات والأسباب.

ومن الشعر الجيّد في هذا المعنى قول من قال:

خلقان لا أرضاهما للفتى *** تيه الغنى ومذلّة الفقر

فإذا غنيت فلا تكن بطراً *** وإذا افتقرت فته على الدهر(26)

ولقد اجتمع علي أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الخضر (عليه السلام)، فقال له علي: عظني، فقال الخضر: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء شكراً لله، فقال علي: وأحسن من ذلك تعزّز الفقراء على الأغنياء ثقةً بالله(27).

قال بعض الصحابة: ملعون من أكرم بالغني وأهان بالفقير.

وقال لقمان لابنه: لا تحقرنّ أحداً بخلقان ثيابه، فإنّ ربّك وربّه واحد(28).

 

فضيلة الفقر:

لا شكّ أنّ الفقر بشروطه ـ أعني الرضا أو القناعة أو الصبر أو الصدق ـ أفضل من الغنى، وممّا يدلّ على فضيلته قول الرسول (صلى الله عليه وآله): «يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم، فإن لم تفعلوا فلا ثواب لكم»(29).

وقال (صلى الله عليه وآله): «لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً»(30).

وقال (صلى الله عليه وآله): «يقول الله تعالى يوم القيامة: أين صفوتي من خلقي؟ فتقول الملائكة: من هم يا رب؟ فيقول: فقراء المسلمين القانعين بعطائي، الراضين بقدري، أُدخلوهم الجنّة، فيدخلونها ويأكلون ويشربون، والناس في الحساب يتردّدون»(31).

 

أيّهما أفضل الفقر أم الغنى:

لا ريب في أنّ الفقر مع الصبر والقناعة وقصد الفراغ أفضل من الغنى مع الحرص والامساك، كما لا ريب في أنّ الغنى مع الانفاق وصدق الاستعانة على العبادة أفضل من الفقر مع الحرص والجزع، وإنّما وقع الشكّ في الترجيح بين الفقر والغنى في مواضع:

 

الأوّل: الفقر مع الصبر والقناعة:

في الترجيح بين الفقر مع الصبر والقناعة، والغنى مع الانفاق وقصد الاستعانة على العبادة، فقال قوم: إنّ الأوّل أفضل لما روي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه: «أيّ الناس خير؟ فقالوا: مؤسر من المال يعطي حقّ الله تعالى من نفسه وماله، فقال (صلى الله عليه وآله): نعم الرجل هذا وليس به المراد، قالوا: فمن خير الناس يا رسول الله؟ فقال: فقير يعطي جهده».

وما روي أنّ الفقراء بعثوا رسولا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إنّي رسول الفقراء إليك، فقال (صلى الله عليه وآله): مرحباً بك وبمن جئت من عندهم، جئت من عند قوم أحبّهم، فقال: قالوا: إنّ الأغنياء ذهبوا بالجنّة، يحجّون ولا نقدر عليه، ويعتمرون ولا نقدر عليه، وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): بلّغ عنّي الفقراء أنّ لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء، أما خصلة واحدة: فإنّ في الجنّة غرفاً ينظر إليها أهل الجنّة كما ينظر أهل الأرض الى نجوم السماء، لا يدخلها إلاّ نبيّ فقير، أو شهيد فقير، أو مؤمن فقير، الثانية: يدخل الفقراء الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام، والثالثة: إذا قال الغني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير وإن أنفق فيها عشرة آلاف درهم، وكذلك أعمال البرّ كلّها، فرجع إليهم، فقالوا: رضينا(32).

وقال آخرون: الثاني أفضل لأنّ الغنى من صفات الربوبية، والفقر من لوازم العبودية، ووصف الحقّ أفضل من وصف العبد.

وأُجيب عنه بأنّ غنى الواجب سبحانه ليس بالأسباب والأعراض، وغنى العبد بهما، إذ هو غني بوجود المال ومفتقر إلى بقائه، فأنّى يكون الغنى الذي يتّصف العبد به من أوصاف الربوبيّة، نعم الغنا بمعنى الاستغناء من وجود المال وعدمه جميعاً بأن يستوي كلاهما عنده يشبه أوصاف الحقّ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّه نوع من الفقر، وبأنّ التكبّر من أوصاف الربوبية، فينبغي أن يكون أفضل من التواضع، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل الحقّ أنّ الأفضل للعبد صفات العبودية كالخوف والرجاء، إذ صفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها، ولذلك قال الله سبحانه: «العظمة ازاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته»(33)، وعلى هذا فالفقر أفضل من الغنى.

والحقّ أنّ ترجيح واحد من صفات الربوبيّة وصفات العبوديّة على الآخر للعبد على الاطلاق غير صحيح، إذ كما ينتقض ترجيح الأُولى على الثانية بالتكبّر ينتقض العكس بالعلم والمعرفة، والجهل والغفلة، فإنّ العلم من صفات الربوبية، والجهل من صفات العبودية مع أنّ الأوّل أفضل من الثاني ضرورة.

والحقّ أنّ الأفضل من الفقر والغنى ما لا يشغل العبد عن الله، فإن كان الفقر يشغله فالغنى أولى به، وإن كان الغنى يشغله عن الله فالفقر أولى به، وذلك لأنّ الغنى ليس محذوراً بعينه، بل لكونه عائقاًعن الوصول إلى الله، والفقر ليس مطلوباً لذاته، بل لعدم كونه عائقاً عن الله.

وليس مانعيّة الأوّل وعدم مانعيّة الثاني كلياً، إذ رُبَّ فقير يشغله الفقر عن المقصد، وكم من غني لا يصرفه الغنى عنه، إذ الشاغل ليس إلاّ حبّ الدنيا لمضادته حبّ الله تعالى، والمحبّ للشيء مشغول به سواء كان في وصاله أو في فراقه، فاذن فضل الفقير والغني بحسب تعلّق قلبهما بالمال وجوداً وعدماً، فإن تساويا فيه تساوت درجتهما، وإن تفاوتا فيه فأيّهما أقلّ تعلّقاً درجته أعلى وأفضل، بل مع وجود تعلّق لهما وتساويهما فيه يكون وجود قدر الحاجة من المال أفضل من فقده، إذ الجايع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة والطاعة، ومع عدم تعلّق قلبهما أصلا بحيث يستوي عندهما وجود المال وعدمه، وكان المال عندهما كهواء الجوّ ومدّ البحر.

وبالجملة إذا حصلت لهما المرتبة الأخيرة من الفقر ـ أعني الاستغناء والرضا ـ كان الواجد أفضل من الفاقد لاستوائهما في عدم الالتفات إليه، ومزية الواجد باستفادة أدعية الفقراء والمساكين.

ثمّ الحكم بانقطاع القلب رأساً عن المال وجوداً وعدماً إنّما يتصوّر في الشاذّ النادر الذي لا يسمح الدهر بمثله إلاّ بعد أزمنة متطاولة، وقلوب جلّ الناس غير خالية عن حبّ المال والتعلّق به، فتفصيل القول بأفضليّة من هو أقلّ تعلّقاً بالمال، واستواء درجتهما مع استوائهما في التعلّق، ومزيّة الواجد على الفاقد مع انقطاع قلبهما بالكلية عنه، مزلّة الأقدام وموضع الغرور.

إذ الغني ربّما يظنّ أنّه منقطع القلب عن المال، ويكون حبّه دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به إلاّ إذا فقده، فما عدا الأنبياء والأولياء وشرذمة قليلة من أكابر الأتقياء، لو ظنّوا انقطاعهم عن الدنيا إذا جرّبوا أنفسهم باخراج المال من أيديهم، يظهر لهم أنّهم مغرورون، وليس لهم تمام الانقطاع عن الدنيا.

وإذا كان ذلك محالا أو بعيداً، فليطلق القول بأنّ الفقر أصلح لكافة الناس وأفضل، لأنّه عن الخطر أبعد إذ فتنة السراء من فتنة الضراء أشدّ، وعلاقة الفقر وأُنسه بالدنيا غالباً أضعف، وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب أذكاره وعباداته، إذ حركات اللسان والجوارح ليست مرادة لأعيانها، بل ليتأكّد بها الأُنس بالمذكور، وتأثيرها في إثارة الأُنس في قلب فارغ عن غير المذكور أشدّ من تأثيرها في قلب مشغول، ولهذا وردت الأخبار مطلقة في فضل الفقر على الغنى، وفي فضل الفقراء على الأغنياء.

 

الثاني: الفقر مع الجزع:

في الترجيح بين الفقر مع الحرص والجزع، والغنى مع الحرص والامساك، والتحقيق فيه: أنّ مطلوب الفقير إن كان ما لابدّ منه في المعيشة، وكان حرصه في تحصيل هذا القدر دون الزائد منه، وكان قصده الاستعانة به على الدين، وكذا حرص الغني وامساكه في هذا القدر بهذا القصد فحال الوجود أفضل، لأنّ الفقد يصدّه عن أُمور الدين لاضطراره في طلب القوت، وهو أولى بالتفضيل إذا كان قصد الغني ذلك، وكان مطلوب الفقير فوق الحاجة أو قدر الحاجة بدون قصد الاستعانة به إلى أمر الدين.

وإن كان مطلوب كلّ منها فوق الحاجة، أو لم يكن قصدها الاستعانة به على أمر الدين، فالفقد أصلح وأفضل لأنّهما استويا في الحرص وحبّ المال، وفي عدم قصد الاستعانة به على الدين، لكنّهما افترقا في أنّ الواجد يتأكّد حبّ الدنيا في قلبه، ويطمئنّ إليها لأُنسه بها، والفاقد يتجافى قلبه عنها اضطراراً، وتكون الدنيا عنده كالسجن الذي يطلب الخلاص منه، وهو أولى وأحرى بالتفضيل إذا كان قصد الفقير ذلك، وكان قصد الغني فوق الحاجة أو قدر الحاجة بدون الاستعانة به على أمر الدين.

 

الثالث: الفقر مع التكالب على الدنيا:

في الترجيح بين فقير حريص متكالب على الدنيا ليس له همّ سواه، وغني هو دونه في الحرص على حفظ المال، وتفجّعه بفقد المال لو فقده أقلّ من تفجّع الفقير بفقده، والظاهر حينئذ كون الفقير أسوء حالا، إذ البعد عن الله بقدر قوّة التفجّع بفقد المال، والقرب بقدر ضعف التفجّع به.

 

ماذا يجب على الفقير:

وينبغي للفقير أن لا يكون كارهاً للفقر من حيث أنّه فعل الله، ومن حيث أنّه فقر، بل يكون راضياً به طالباً له فرحاناً به، لعلمه بغوائل الغنى. وأن يكون متوكّلا في باطنه على الله، واثقاً به في اتيان قدر ضرورته، ويكون قانعاً به كارهاً للزيادة عليه، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، وغير حريص على اكتساب المال كيف كان، وأن يكون صابراً شاكراً على فقره.

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إنّ لله عقوبات بالفقر فمن علامته إذا كان مثوبة أن يحسن عليه خلقه، ويطيع به ربّه، ولا يشكو حاله، ويشكر الله على فقره، ومن علامته إذا كان عقوبة أن يسيء عليه خلقه، ويعصي به ربّه، ويكثر الشكاية، ويسخط بالقضاء»(34).

وهذا يدلّ على أنّ كلّ فقير ليس مثاباً على فقره بل يرضى بفقره ويفرج به ويقنع بالكفاف ويقصر الأمل، وإن لم يرض به، وتشرّف به إلى الكثرة وطول الأمل، وفاته عزّ القناعة، وتدنّس بذلّ الحرص والطمع، وجرّه الحرص والطمع إلى مساوي الأخلاق وارتكاب النكرات الخارقة للمروات، حبط أجره وكان آثماً قلبه.

وينبغي أن يظهر التعفّف ويستر الفقر، وأن لا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم، ولا يتواضع لهم لأجل غناهم، بل يتكبّر عليهم، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله»(35).

وأن لا يسكت عن ذكر الحقّ مداهنةً للأغنياء وطمعاً لما في أيديهم، ولا يفتر بسبب فقره عن عبادة الله، ويبذل قليل ما يفضل عنه، فإنّ ذلك جهد المقل، وفضله أكثر من أموال كثيرة يبذلها الغني.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف دينار، قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف دينار يتصدّق بها، وأخرج رجل درهماً من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه، فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب مائة ألف دينار»(36).

وينبغي أن لا يدّخر أزيد من قدر الحاجة، فإن لم يدّخر أكثر من قوت يومه وليلته فهو من الصديقين، وإن لم يدّخر أكثر من قوت أربعين يوماً كان من المتّقين، وإن لم يدّخر أكثر من قوت سنة وهو الفصل المشترك بين الفقر والغنى كان من الصالحين، ولو زاد عليه خرج عن زمرة الفقراء، وأفضل من هذا كلّه الصبر على الفقر والقناعة بما قسم الله.

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طوبى للمساكين بالصبر، وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض»(37).

ويقول (صلى الله عليه وآله): «من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس وأفشا إلى الله تعالى، كان حقّاً على الله أن يرزقه رزقاً من الحلال»(38).

ويقول (صلى الله عليه وآله): «إنّ لكلّ شيء مفتاحاً، ومفتاح الجنّة حبّ المساكين والفقراء لصبرهم، هم جلساء الله يوم القيامة»(39).

وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى إسماعيل (عليه السلام): اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، قال: ومن هم؟ قال: الفقراء الصادقون(40).

ومن دعاء زين العابدين عليّ بن الحسين ـ صلوات الله عليه ـ وهو من أدعية الصحيفة: «اللّهمّ حبّب إليّ صحبة الفقراء، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر».

لمّا كانت النفوس البشرية مجبولة على بغض الفقر وكراهيّته، نافرة عن صحبة الفقراء ومعاشرتهم، سأل (عليه السلام) ربّه أن يحبّب إليه صحبتهم، بأن يجعلها ملائمة لقلبه ليكون مائلا إليها، إذ كانت المحبّة ميل القلب إلى ما يلائمه، وذلك لما في صحبتهم من رياضة النفس وتحليتها بالتواضع والتذلّل، والتأسّي بهم في القناعة باليسير من حطام الدنيا، والرضا بالقليل من متاعها، وصيانة النفس عن الانهماك في شهواتها ولذّاتها، وترك طلب المنزلة والجاه والكرامة فيها.

وقلّة الحرص على طلب الحاجات والأوطار منها، وترك الخلطة مع أبناء الدنيا الراغبين فيها، والتفرّد في الخلوات، وكثرة ذكر الموت، وفناء نعيم الدنيا وزوال ملكها، والنظر إلى آثار القرون الماضية، والاعتبار بها وبالمباني الخربة، والمنازل الدارسة، والمعالم العافية للأُمم الخالية، لنزولهم بها غالباً، واعتباراتهم تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، واليقين بأمر المعاد، وشدّة الشوق إلى نعيم دار القرار مع الأبرار من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أُولئك رفيقاً.

ولذلك أمر الله سبحانه حبيبه المختار من خيار خلقه بصبر نفسه معهم، وحبسها على صحبتهم ومجالستهم، فقال في محكم كتابه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطاً) [الكهف:28].

قال المفسّرون: المراد بهم فقراء المؤمنين مثل عمّار، وخباب، وسلمان، وأبي ذر، وغيرهم، وقيل: أصحاب الصفّة وكانوا نحو سبعمائة رجل، قيل: إنّه قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله): نحّ هؤلاء الموالي الذين كان ريحهم ريح الضان حتّى نجالسك، كما قال قوم نوح (عليه السلام): (أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون) [الشعراء : 111 ]فنزلت الآية.

وروي عن سلمان، وخباب قالا: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن الحصن الفزاري، وعبّاس بن مرداس، وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً مع ناس من ضعفاء المؤمنين، فلمّا رأوهم حوله حقّروهم، فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس، ونفيت عنّا هؤلاء وأرياح جبابهم ـ وكانت عليهم جباب من صوف ـ جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك.

فقال (صلى الله عليه وآله): ما أنا بطارد المؤمنين، قالوا: فإنّا نحبّ أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا فيه العرب فضلنا، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد ـ  يعنون فقراء المسلمين ـ فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا بذلك كتاباً، فدعا (صلى الله عليه وآله) بالصحيفة وبعلي ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبرئيل (عليه السلام) بقوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ)[الأنعام : 52] إلى آخر الآية.

فرمى (صلى الله عليه وآله)بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده، وكنّا ندنو منه حتّى تمسّ ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنّا إذا أراد القيام، فنزلت: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم) [الكهف : 28] الآية، فترك القيام عنّا إلى أن نقوم عنه، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتّى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أُمّتي، معكم الحياة، ومعكم الممات(41).

وفي حديث ليلة المعراج: يا أحمد انّ المحبّة لله هي المحبّة للفقراء والتقرّب إليهم، قال: يا ربّ ومن الفقراء؟ قال: الذين رضوا بالقليل، وصبروا على الجوع، وشكروا على الرخاء، ولم يشكوا جوعهم ولا ظمأهم، ولم يكذبوا بألسنتهم، ولم يغضبوا على ربّهم، ولم يغتمّوا على ما فاتهم، ولم يفرحوا بما أتاهم(42).

* * *

النافع من الدنيا:

قوله (عليه السلام): «إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ جَازِعاً ...».

قد علم أنّ الإنسان مهما أنفق وأسرف في الانفاق، ومهما أعطى وبذل فلن يعدو ذلك مقداراً معيّناً، ولن يتجاوز حدّاً محدوداً، فما باله يسعى ويغلو في السعي وراء المزيد من الرزق، وإنّ في ماله لما يضمن له السعادة والراحة والطمأنينة ما عمر من السنين.

أو ما علم بأنّه لو اكتفى بما لديه لأراح نفسه من عناء كثير، أولست ترى أنت في هذا الساعي وراء ما لم يقدر له ساعياً بلا أُجرة، وعاملا بلا نفع، أو ما علم بأنّ ما يجمعه الآن ممّا يفوق حاجته، ويفيض على مطالبه، سيبقى غداً ليهنأ به غيره ممّن لم يذق في سبيل جمعه عناءً كثيراً ولا قليلا.

وقد ترى البعض يأسى على ما فاته من رزق وقع في يده، فليس أساه هذا إلاّ عبثاً، وما أسفه إلاّ سفه وضلال، فلم الأسى والأسف، ولم هذا الجزع الذي نراه عند بعضهم، وإنّ رزقاً لم يكن يكتب له قد وقع في يده عفواً، أفما آن له أن يعرف بأنّ ما قدّر كان، فإن كان له بلغه حيثما أقام، وإلاّ فما يصرف من جهد وما يبذل من جهود، ليس إلاّ سبب في إبعاد ما ليس له وإقصائه عنه، ولم هذا الجزع وأحرى به أن يجزع على ما لم يصل إليه، أوليس جديراً به أن يجزع على ما لم ينل من نعيم الدنيا، وعلى ما لم يصب من ملذّاتها.

 

قصة الصياد والقنبرة:

روي أنّ رجلا من بني إسرائيل صاد قنبرة فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك فآكلك، قالت: والله ما أشفي من برم، ولا أغني من جوع ولكنّي أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي; أمّا الواحدة فأُعلمكها وأنا في يدك، والثانية إذا صرت على هذه الشجرة، والثالثة إذا صرت على الجبل.

فقال: هات، قالت: لا تلهفنّ على ما فاتك، فخلّى عنها، فلمّا صارت فوق الشجرة قال: هات الثانية، قالت: لا تصدقنّ بما لا يكون أنّه يكون، ثمّ طارت فصارت على الجبل، فقالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درّة فيها زنة عشرين مثقالا.

فلمّا سمع عضّ على شفتيه وتلهّف، ثمّ قال: هات الثالثة، قالت له: أنت قد نسيت الاثنتين فكيف أُعلّمك الثالثة، ألم أقل لك لا تلهفنّ على ما فاتك فقد تلهّفت عليّ إذ فتّك، وقلت لك لا تصدّقنّ بما لا يكون أنّه يكون فصدّقت، أنا وعظمي وريشي لا أزن عشرين مثقالا فكيف يكون في حوصلتي ما يزنها(43).

فالغرض جزع الرجل على ما فاته أشدّ الجزع، وتلهّف عليها غاية التلهّف.

وإذا أردت أن تلهم نفسك علماً غيبياً بما سيكون بعدك من تقلّبات الزمن وتصرّفات الدهر، فلست بحاجة إلى أعمال فكر وعقل، وإنّما تكفيك نظرة واحدة فيما صار وحدث بعد من أكل الدهر عليهم وشرب، أو أن تنظر في حالك هذه وفي وقتك الذي تعيش فيه فتقيس غيره عليه، فالزمان لحظات متساوية متكافئة تتّصف كلّها بصفة واحدة، وتتّسم كلّها بطابع زمن واحد.

ونرى الإمام (عليه السلام) يوصي ابنه بما يأتي: «وكن إنساناً كما خلقك الله إنساناً، وإنّ الله لم يخلقك عبداً بل خلقك حرّاً، فلا تكوننّ عبداً لغيرك وقد خلقك الله حرّاً، فلا تخرج من فطرتك ولا تخالف ما جبلت عليه، ولا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في ايلامه، فإنّ ذلك من خلال البهائم»(44).

وما من بهيمة إلاّ ما لا تتّعظ إلاّ بضرب مبرّح وايلام شديد، فأمّا أنت وقد وهبك الله عقلا وقلباً، وأودع في عقلك وقلبك حكمة وعلماً ونوراً، أفيصحّ لك أن تكون على ما كان عليه غيرك ممّا هو دونك منزلة، العاقل يتّعظ بالآداب، والبهائم هي التي لا تعرف من الآداب شيئاً، وإنّما هي تتّعظ وتنصاع وتنقاد بالضرب، فالى العزّة يا بني، والى الحريّة، والى الشعور المرهف، الحرية تستدعيك إليها فلبّ طلبها، واتّعظ بكلّ ما توعظ به لأنّ الحرّ تكفيه الاشارة.

 

الحرّية في المفهوم الإسلامي:

تقوم في هذه الأيّام ضجّة حول التمسّك بالحرية وترك ما عداها، ويا ليتها الحرية العفيفة الفاضلة، ولكنّها الحرية التي تطلقها أو تدعيها مدنيّة الدول الكافرة والمشركة والملحدة، هذه الحرية التي تقضي بأن يختفي الإسلام ويضيع بين أهله، وتنهدر كرامة بنيه، وعزّة شبابه، وعرض نسائه.

الحرية التي تجعل الإنسان ينطلق بغرائزه مفضلا نفسه على الغير، وباحثاً عن منفعته الخاصة دون التفات إلى وجود غيره.

الحرية التي تجعل الشاب يشبع غرائزه من أعراض الآخرين.

الحرية التي تملأ البطون من موائد الغصب والنصب والتزوير والرشوة.

الحرية التي تفرض الزعامات على الناس للعبث والافساد باسم الدين أو الوطنيّة.

الحرية التي يتسرّع بها الإنسان دون تدبّر أو إدراك للحسن والقبيح، والصالح والفاسد، وفي جوّ من التهاون، فيرتكب الجرائم والأحداث.

الحرية التي لا تقبل النصيحة، وترفض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلّ يقول ... : «أنا حر».

الحرية التي تقوم الحروب لحمايتها، واستعمرت الأراضي الإسلامية باسمها.           

اليهود أحرار فيما يفعلون، والانكليز أحرار فيما يصنعون، والشعوب حرّة في لهوها .. الوجود كلّه حرّ .. .

إلاّ الدين، هو الذي ليس له الحقّ في الحرية.

يجب أن يحيا في سجن من الصوامع والأضرحة، ليس للدين أن يدخل على الحاكم ويحاسبه، وعلى التاجر، ولا الموظّف، ولا القاضي، ولا الطوائف والهيئات، كلّهم أحرار، إنّها الفوضى.

ليست هذه هي الحرية.

إذا أراد المسلمون استرداد سالف عظمتهم، فعليهم بالأخذ بكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله)، والعمل بكلّ ما أمر به الإسلام جملة.

يجب أن تقلم أظفار هذا العقل الطائش، وأن ترغمه على الرجوع في تفكيره إلى كتاب الله وسنّة الإنسان الكامل (صلى الله عليه وآله).

(يا أيّها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم وأنزلنا اليكم نوراً مبيناً  فأمّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً) [النساء : 174-175].

واصبر نفسك مع الذين صبروا، ولا تلعب بك الهموم كلّ ملعب، واطرح عنك واردات الهموم، وكلّ ما تجلبه من يأس وابتئاس، ادفع كلّ هذا بحسن اليقين، وكرم العزاء، وعزائم الصبر، فإنّك بالهموم لا تستردّ فائتاً ولا تنفي حاضراً، وإنّما هو القضاء والقدر عجلة تدور حولها، أو هي تدور حولنا، فإن شئت أن تعمل شيئاً فاعمل ولا تجبن فلن يجنبك الجبن موتاً، ولا تغرق فلن يمنحك الغرق خلوداً.

وكن معتدلا في كلّ أُمورك فلا تتطرّف، بل قف على النقطة التي لا تميل إلى يمين ولا إلى شمال، لأنّ التوسّط خير، ولأنّ خير الأُمور أوسطها، ولأنّ التطرّف شرّ فلنصرف عنّا هذا الشرّ، أو فلننصرف عنه إلى سواه من أعمال الخير.

واعلم أنّ الصاحب جناح يطير به الإنسان كما يطير الطير بجناحيه، وما خير طير مهيض، وارع حقّ الصديق فإنّ في رعايته احتفاظاً عليه واستبقاءً له، والصديق من صدّق غيبه، أي من كان عندك كما لو كان عند غيرك، لا يمدحك في حضورك بسبب حضورك، ولا يوقع بك فيما إذا غبت عنه، بل هو يذكرك بخير أو غيره في الحضور وفي الغياب.

 

القريب والبعيد:

«وربّ قريب أبعد من بعيد، وربّ بعيد أقرب من قريب»، فأنت إذا غبت عن صديق لك وفيّ، لا يخلفك ولا يضمر لك شرّاً، وإنّما يخلصك الأُخوّة ويمنحك النصيحة، إنّك إن فارقته كنت أقرب إليه من قريبه الذي بينه وبينه عداء بغيض، فالقلوب متآلفة، والأرواح متناغمة منسجمة، وهل رأيت أحداً أقرب إلى الدار من الميت المقبور فيها، ولكنّه مع ذلك بعيد عنها البعد كلّه، فهو في عالم آخر ليس بينه وبين عالمنا هذا شبه من قريب أو بعيد.

وإذا أردت أن تسمع حقّاً فاسمع لي، ليس الغريب من بعدت به الأرض عن أهله وذويه، وليس الغريب من اشتطّت به نوىً بعيدة، وإنّما الغريب من بَعُدَ عن حبيب، أو فقد حبيباً وإن كان ذا مال وافر وأقرباء كثيرين.

 

أقوى الأسباب:

واعلم أنّه لابدّ لكلّ إنسان من سبب يتمسّك به، وإنّ من الأسباب لما هو ضعيف نحيل لا يكاد يستمسك بالذي يتشبّث به، ومنها ما هو قوي كلّ القوّة، وإنّ أوثق سبب يمكن التمسّك به هو السبب الذي يربط بينك وبين الله، وإنّ أوثق قرابة يمكنك الظفر بها هي القرابة والصلة التي تحدثها بينك وبين الله.

 

الصديق الحقيقي:

وإنّما محبّك وصديقك من حفل بك وعنى بأمرك، أمّا إن لم يكن من ذلك في شيء فهو عدوّ بغيض، فمن أصبح ولم يكن من أمر المسلمين في شيء فليس منهم.

وإن كنت والياً فارفق برعيّتك، ولاينهم باللطف والعدل وسامحهم، وألزم جانب العفو في أكثر الأحيان، فأنت تطلب من الله دائماً أن يعفو عنك، فكن للناس كما تريد من الله أن يكون لك.

 

اليأس والطمع:

ايئس وابتئس وأنت في ضيق وعوز وحاجة، فإنّ ذلك لخير لك من أن تطمع; لأنّ الطمع مهلكة للإنسان، والطمع والجشع مطيّة من مطايا الموت، وأمّا اليأس والفقر فهو حياة ليس فيها احتمال هلاك أو موت، إن كان في الطمع هلاك وموت فليكوننّ في اليأس والحرمان إدراكاً وظفراً، وأي عقل لا يرجح الظفر والادراك على الهلاك والموت.

وليس كلّ بصير مصيب، فقد يصيب وقد تزلّ به القدم فيخطئ، وليس كلّ أعمى مخطئ فقد يصيب وقد لا يصيب، وإن أردت أن تستفيد مثل ما تستفيده من العاقل الذي تصاحبه، فاقطع الجاهل قطيعة لا رجعة لك بعدها أبداً، لأنّ الجاهل يضيع عليك كثيراً ممّا تتعلّمه من العاقل، فلذلك تعدل قطيعة الجاهل صلة العاقل.

والزمان غادر ماكر كأعظم ما يكون الغدر والمكر، فمن أمن مكره واستراح إلى مكره فهو المغدور المغلوب على أمره، لأنّ من ظنّ بالزمان خيراً كذب ظنّه، ومن أمنه خانه، ومن استراح إليه جرعه الغصص، ومن أعظمه وأكبره أهانه، وقد قيل: «من هاب شيئاً فقد سلّطه على نفسه»، فمن كان في نفسه ضعف وخور فأعظم الدنيا وأكبر من شأنها فقد جعل للزمان على نفسه سبيلا.

وليس كلّ من رمى السهم عن القوس قاصداً المرمى أصابه; لأنّه لم يضمن له ذلك، ومتى كان الجادّ الكادح محصلا للرزق دائماً فقد يكتب له الرزق فيصيبه بكدّ أو بغير كدّ وقد لا يكتب له، فلو قلب سماء على أرض على أن يستجلب ما لم يكن له من الرزق لم يكن له ذلك بحال من الأحوال، ومن يستطيع أن يتحدّى القدر المكتوب، والقضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل.

وبتغيّر السلطان يتغيّر الزمان، إذ ليس شيء أعظم ضرراً على الرعية من تبدّل رأي السلطان، وعدوله عن العدل الى الظلم، وعن مراعاة الحقوق إلى إضاعتها، وقد عرف أنّ انقطاع الغيث، وانتشار الأوباء لا تبلغ من تغيير صفحة التاريخ إلى مثل ما يبلغه تغيّر السلطان، وانقلابه على السيرة الصالحة الحميدة.

جاء في كتب الفرس أنّ أنوشروان جمع عمّال السواد وبيده درّة يقلّبها، فقال: أيّ شيء أضرّ بارتفاع السواد وأدعى إلى محقه، أيّكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرّة في فيه، فقال بعضهم: الجراد، وقال بعضهم: انقطاع الشرب، وقال بعضهم: احتباس المطر، وقال بعضهم: استيلاء الجنوب وعدم الشمال.

فقال لوزيره: قل أنت فإنّي أظنّ عقلك يعادل عقول الرعية كلّها أو يزيد عليها، قال: تغيّر رأي السلطان في رعيّته، وإضمار الحيف لهم والجور عليهم، فقال: لله أبوك بهذا العقل، أهّلك آبائي وأجدادي لما أهلوك له، ودفع له الدرّة فجعلها في فيه(45).

وإيّاك أن تسير وحدك إلى غاية بعيدة، فإنّ الوحشة تسري إلى قلبك فتميته، فاستصحب معك رفيقاً وصديقاً يؤنسك من وحشتك، ويعينك على أمرك، فإذا أزمعت السفر فاختر الرفيق المواسي قبل أن تلج في الطريق.

 

الجار قبل الدار:

وإذا أردت داراً فسل عن جوارها، فليس شيء أصعب على الإنسان من جار السوء، فإنّ مجاورته تعدل مجاورة كلاب ناهشة، وسباع ضارية، وهل يأمن الإنسان على نفسه يوماً من مجاورة هذه الكلاب والسباع، كلاّ.

أجل جار السوء أفعى سامّة شديدة السمّ، فإذا أردت داراً فسل عن الجار قبل أن تأخذ مكانك منها، فتقع في مأرب لا خلاص لك منه.

 

الكلام المضحك:

قوله (عليه السلام): «إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلاَمِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً، وَإِنْ حَكَيْتَ ذلِكَ عَنْ غَيْرِكَ».

نهى الإمام ولده عن ذلك لما تشتمل عليه تلك الخلّة من المساوئ والعواقب غير الحسنة، فمن نتائجها أنّها تحطّ المرء في الأعين، فبعد أن كان الإنسان محترماً وكان له مقامه المرموق، تراه إذا ما تفوّه بكلمة يستخفّ بها يهوي من شرفة العزّة والشرف إلى الهاوية السحيقة من الذلّ والاحتقار والسقوط، وأكثر ما في هذا أنّه يسلب ثقة الناس واطمئنانهم تجاه كلّ ما يقوله فيما بعد، فتمثّل تلك القولة الأُولى حدّاً فاصلا بين ثقة الناس وتصديقهم إيّاه، وبين سلب تلك الثقة وزوال ذلك التصديق.

والإمام (عليه السلام) يربأ بولده أن يكون حاله كهذه التي وصفناها لك، كيف وهو الذي سيكون من بعده محطّ أنظار أصحابه وتابعيه، وهو الذي سيكون مرجعاً في الأحكام الشرعية، ومنبعاً لمختلف العلوم، وهو الذي ستعيّنه القدرة الإلهية منصباً سامياً ـ هو منصب الخلافة ـ .

وما تقدّم كلّه مضاف إلى أنّ ذكر ما يؤدّي إلى الخفّة ليس من صفات أهل الشرف والمقام الجليل والمكانة السامية، وليس هذا شأنهم، وإنّما هو شأن أُناس عجزوا عن التفوّه بالحقائق العلمية الراهنة فعمدوا إلى تعويضها بالسفاسف والمضحكات، أو قل إنّهم عجزوا عن الوقوف أمام تلك الحقائق إلاّ عن طريق ضدّها والحدّ منها بواسطة الاكثار من الهزليات والأباطيل.

وما يقال في ذكر المضحك من الكلام إن كان من الإنسان نفسه فيشمله الحديث: «ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك القوم ويل له، ثمّ ويل له»(46).

وإن كان حكاية عن الغير فهو وإن لم يبلغ في الشدّة ما يبلغه الأوّل إلاّ أنّه يقاربه من جهات عديدة، وقد قيل قديماً: «الناقل للقول ليس كقائله»، أو «الناقل للكفر ليس بكافر».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 115 باب 31.

(2) الكافي 2 : 74 ح2; عنه البحار 70 : 96 ح3; والمحجة البيضاء 6 : 51.

(3) البحار 73 : 81 ح43.

(4) الكافي 5 : 84 ح5; عنه البحار 22 : 131 ح111.

(5) البحار 89 : 129.

(6) الوسائل 12 : 29 ح9.

(7) البحار 103 : 16 ح72.

(8) عدّة الداعي : 82; عنه البحار 103 : 13 ح63.

(9) البحار 66 : 314 ح7.

(10) كنز العمال 4 : 15 ح9265.

(11) البحار 73 : 158 ح3.

(12) مستدرك الوسائل 13 : 68 ح14770.

(13) الوسائل 12 : 59 ح3.

(14) الوسائل 12 : 53 ح3.

(15) الوسائل 12 : 53 ح4.

(16) الوسائل 4 : 1158 ح2.

(17) التمحيص : 52 ح100; عنه البحار 103 : 35 ح68.

(18) المستطرف 1 : 158 في القناعة والرضا بما قسّم الله تعالى.

(19) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 114 باب 31.

(20) نهج البلاغة : الكتاب 45; عنه البحار 40 : 342 ح27.

(21) العِقيان: نوع من الذهب ينمو في معدنه.

(22) نهج البلاغة : الخطبة 192; عنه البحار 11 : 141 ح91.

(23) نهج البلاغة : الخطبة 160; عنه البحار 16 : 284 ح136.

(24) ارشاد القلوب : 148.

(25) البحار 16 : 279 ح118.

(26) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 115 باب 31.

(27) البحار 39 : 132 ضمن حديث 4.

(28) البحار 72 : 46 ضمن حديث 57.

(29) الكافي 2 : 263 ح14; عنه البحار 72 : 17 ح16; والمحجة البيضاء 7 : 325.

(30) المحجة البيضاء 7 : 325.

(31) المحجة البيضاء 7 : 325.

(32) البحار 72 : 48 ح58.

(33) راجع البحار 73 : 195.

(34) المحجة البيضاء 7 : 331.

(35) البحار 75 : 123 ح21، والمحجة البيضاء 7 : 331.

(36) المحجة البيضاء 7 : 331.

(37) الكافي 2 : 263 ح13; عنه البحار 72 : 15 ح15.

(38) جامع الأخبار : 302 ح824; عنه البحار 72 : 49 ح58.

(39) المحجة البيضاء 7 : 325.

(40) المحجة البيضاء 7 : 325.

(41) البحار 22 : 32.

(42) البحار 77 : 23 ضمن حديث 6.

(43) احياء العلوم 3 : 227; والمحجة البيضاء 6 : 53.

(44) نهج البلاغة : الكتاب 31.

(45) شرح النهج لابن أبي الحديد 16 : 121 باب 31.

(46) البحار 72 : 235 ح2.