الفصل الأول
أهمية نهج البلاغة
الشريف الرضي من الشخصيات الشيعية البارزة في القرن الرابع الهجري ولد في بغداد سنة (359 ﻫ), و توفّي سنة (406 ﻫ). له مصنفات عديدة منها: خصائص الأئمة . مجازات الآثار النبوية . مجازات القرآن . الرسائل. نهج البلاغة. و غير ذلك . و قد حاز الكتاب « نهج البلاغة » علي شهرة واسعة . دوّنه عام (400 ﻫ) , أي قبل وفاته بست سنوات . و يضّم الخطب أمير المؤمنين (عليه السلام) و كتبه و كلماته القصار . كتب السيد رضي في مقدمة نهج البلاغة , يقول :
«أما كلامه, فهو من البحر الذي لايساجل , و الجم الذي لايحافل, و أردت إن يسوغ لي التمثيل في الافتخار به (عليه السلام) بقول الفرزدق: أولئك آبائي فجئتني بمثلهم اذا جمعتنا يا جرير المجامع و رأيت كلامه (عليه السلام) يدور على أقطاب ثلاثة : أوّلهم الخطب و الأوامر, و ثانيها الكتب و الرسائل, و ثالثها الحكم و المواعظ . فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم و الأدب»(1). و قد احتلّ «نهج البلاغة» مقاماً سامياً عند العلماء الشيعة و السنة, و أثار إعجاب الجميع . قال ابن ابي الحديد في مقدمة شرحه على «نهج البلاغة» : «علي (عليه السلام) إمام الفصحاء و سيد البلغاء, و عن كلامه قيل دون الاخلاق و فوق كلام المخلوقين, و منه تعلم الناس الخطابة و الكتابة »(2). و قال الشيخ محمد عبده ( مفتي مصر الأسبق) في مقدمة شرحه: «و بعد, فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب «نهج البلاغة» مصادفة بلا تعمّل أصبته على تغيّر حال, و تبلبل بال, و تزاحم أشغال, و عطلة من أعمال, فحسبته تسلية , و حيلة للتخلية, فتصفحت بعض صفاحته , وتأملت جملاً من عباراته , من مواضع مختلفات , و مواضيع متفرقات . فكان يخيّل لي في كل مقام أن حروباً شبّـت , و غارات شنّت , و إ، للبلاغة دولة, و للفصاحة صولة ... بل كنت كلما انتقلت من موضع إلي موضع , أحس بتغيّر المشاهد , و تحوّل المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية في حلل من العبرات الزاهية , تطوف علي النفوس الزاكية ... و أحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لايشبه خلقاً جسدانياً, فصل عن الموكب الالهي, و اتصل بالروح الانساني ... و آنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة, و أولياء امرالأمة, يعرفهم مواقع الصواب, و يبصّرهم مواضع الارتياب, و يحذرهم مزالق الاضطراب, و يرشد هم إلى دقائق السياسة, و يهديهم طريق الكياسة ... و ليس في و سعي أن اصف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسمه, و لاأن آتيّ بشيء في البيان مزيّته فوق ما أتي به صاحب الاختيار(3). و السؤال المطروح, هو: ماسبب هذا الاقبال الواسع علي « نهج البلاغة» و الاهتمام الكبير الذي حظي به ؟ أجاب عن هذا السؤال العديد من الباحثين, و أكدوا أن سبب ذلك يعود إلى بلاغته و فصاحته, و من هؤلاء ابن أبي الحديد, و الشيخ محمد عبده اللذين مرّ كلامهما قبل قليل. إلاّ أن الشهيد المطهّري بادر إلي الافصاح عن سببين, و قال: ترافقت كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) منذ القدم مع مزيتين عرفت بها. احداهما: فصاحتها و بلاغتها, و الأخرى تعدد جوانبها, أو ما يعبر عنه اليوم بتعدد أبعادها, و كل مزية من هاتين المزيتين المزايا كافية لإضفاء قيمة عالية على كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) . بيد أن اقترانهما معاً – أي بمعنى أن كلماته (عليه السلام) ولجت مسارات و ميادين مختلفة وأحياناً متضادة مع احتفاظها بمنتهى الفصاحة و البلاغة – قرّب كلام علي (عليه السلام) الى حد الاعجاز, وجعل حداً فاصلاّ بين كلام الخالق و كلام المخلوق, حتي قيل: إنه فوق كلام المخلوق, و دون كلام الخالق(4). ويبدو أن ثمّة عللاً متعددة و متضافرة نستجب «لنهج البلاغة» أردية الخلود و البقاء منها: 1- إن السبب المهم يتمحور حول شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام) الفذّة, و جامعيته للصفات و الخصال التي تجلّت في كلامه. 2- إن فصاحة كلامات أمير المؤمنين (عليه السلام) و بلاغتها التي اعترف بها الأدباء و الفصحاء و الخطباء, تأتي بعد القرآن الكريم في المرتبة. قال عبد الحميد بن يحيى العامري ( متوفّى 132 ﻫ). حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع (الامام علي (عليه السلام) ) ففاضت ثم فاضت. و قال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنز لايزيده الإنفاق إلاّ سعة و كثرة , حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن ابي طالب(5). 3- تنوع المفاهيم و جامعية الكلمات التي لايحسّ المرء معها أنه أمام كتاب سياسي, أخلاقي, عقائدي, و تاريخي, فكل هذه الجوانب اقتحم أمير المؤمنين بكلماته لجّتها, و من أعماقها و أغوارها راح ينثر علي القاريء درراً ثمينة. 4- نهج البلاغة هو نتاج تلك الفترة القصيرة الحكومة ذلك الانسان الإلهي, و التي صادفت أزمات داخلية حادّة, و تيارات اجتماعية مختلفة, من القاسطين و المارقين و الناكثين, فخرج عليه السلام من جميع ذلك منتصراً مرفوع الرأس. 5- نهج البلاغة بعكس تاريخ التطورات السياسية التي مرت على المجتمع الإسلامي بعد الجاهلية, و خاصة بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله). 6- انطوى نهج البلاغة على تصوير دقيق لنفسيات الناس المختلفة, و بتعبير آخر انه اشتمل على نوع من علم النفس الاجتماعي. 7- هذا الكتاب كلما ولج ميداناً خاض فيه إلى اوجه و كماله, فخطبة همّام و القاصعة, فيما ترسيم دقيق لملامح المتقين . و عهده إلى مالك الاشتر مشحون بصفات من يتصدّي للحكم و إدارة البلاد . و وصيته إلى الامام الحسن (عليه السلام) حفلت بأنواع الوصايا و السلوك الاجتماعي و الفردي. و خطبة الاولى فيها التذكير بعظمة الخالق و عجائب خلقه . و خطبة الشقشقية, فيها تلميح الى الحوادث المريرة التي أعقبت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) , و المحن التي تعرض لها أهل البيت (عليه السلام) . و الخطبة (176) فيها تمجيد القرآن الكريم, و حثٌ على استجلاء عجائبة و غرائبة. |
|
الهوامش |
|
1- مقدمة الشريف الرضي على نهج البلاغة . 2- مقدمة شرح ابن أبي الحديد: 1/8. 3- مقدمة شرح الشيخ محمد عبده على نهج البلاغة:3- 4 4- سير في نهج البلاغة (بالفارسية):7 . 5- شرح ابن ابي الحديد: 1/8. |