المبحث الثالث؛ غريب الصفات الجارية مجرى الفعل وصيغها:

تتوزَّع الصفات الجارية مجرى الفعل على عدّة مشتقات من الأسماء، كاسم الفاعل، والصفة المشبهة، وصيغ المبالغة، واسم المفعول، وقد حفلت كتب الصرف في تفصيل مقاييس أبنيتها، ولسنا بصدد الحديث عنها، ولكننا سنجزيء قسماً من هذه الألفاظ التي وردت باشتقاقات غريبة عند الإمام في (نهج البلاغة) مثالاً لا حصراً, تاركين البقية الكبرى في نصوص (النهج).

ومن هذه الألفاظ، لفظة اشتهرت وصارت، تدور على ألسن العامة والأدباء، أرجِّح القول أَنَّها من أبتداع الإمام, على ما سيبيّنه البحث، ولا يقدح اشتهار الكلمة وكثرة استعمالها، عند أهل اللغة والأدب في, غرابتها، ذلك أنَّها لم يُسمع بها أو مثلها عند قولها، أوّل مرّة منه (ع).

وأمثل دليل على هذا؛ ما جاء به القرآن من ألفاظ وتراكيب غريبة، صنّف فيها العلماء، عشرات الكتب، على الرغم من شيوع القرآن على الألسنة بعد حفظه في الصدور، وبطون الكتب، وصدعت به، وبألفاظه، ومعانيه؛ الآفاقُ، وهذه اللفظة هي: (الجاهلية الجهلاء) في قوله (ع) «بَعَثَهُ وَالناسُ ضُلَّالُ في حَيْرةٍ، وحَاطِبونَ في فِتْنَةٍ، قَدْ اسْتَهْوَتْهُمْ الأهواءُ واسْتَزَلَّتْهُمْ الكِبرياءُ، واسْتَخَفَّتْهُمْ الجَاهِليةُ الجَهْلاء...»(1)، وهذه الكلمة من الألفاظ التي جاء بها الإسلام، بمعنى أنّ الإسلام أطلق على الحقبة السابقة عليه عند العرب، اسم(الجاهلية) منها قوله تعالى: ((وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولى))(2)، وقوله: ((يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ))(3) وغير هذه الآيات(4), التي ذكرت (الجاهلية)، ولستُ بصدد الحديث عن (الجاهلية) ولكن عن (الجهلاء).

المعروف أنَّ زنة (فَعْلاء) هي المقابل المؤنث لزنة (أفعل), وهو من الصفات المشبهات باسم الفاعل من الخلال, كالعيوب, والزينة، والألوان, نحو: (أكْحَل كَحْلاء, وادْعَج دَعْجَاء, وأحْوَر حَوْراء, وأعْوَر عَوْراء, وأعْرج عَرْجاء, وأعْسَر عَسْراء, وأبْيَض بَيْضاء, وأسْوَد سَوْداء, وأخْضَر خَضْراء) وهكذا ممّا جاء على هذه المعاني في باب (فرح)(5), فجاءت لفظة (الجهلاء) على غير هذا القياس, ولم نسمع بمقابل لها في المذكر كـ(أجهل).

قال ابن خالويه: «ليس في كلام العرب أفعل، إلّا ومؤنّثه فعلاء إلّا في أحرف قالوا: امرأة حسناء، ولم يقولوا رجلٌ أحسن وقالوا: فرس شَوْهاء للرائعة، ولم يقولوا للمذكر أشْوَه، وقالوا: دِيمة هَطْلاء، ولم يقولوا: سحاب أهْطل، وقالوا: شجرة مرداء: لا ورق لها، ولم يقولوا: غصنٌ أمرد، وقالوا: غُلام أَمْرَد ولم يقولوا: امرأة مَرْداء، ومَرْطاء, إذا لم يكن على رُكَبِها شعر، ويقال: امرأة عجزاء، ولا يقال: رجلٌ أعْجز، كما قالوا: رجل أَلْيَء، ولم يقولوا: امرأة أليَاء»(6).

وما يحدونا بالاعتقاد بأنّها تثبت للإمام في النسبة؛ أمور:

أوّلها: أنّ اللفظة بمعناها الجديد من مبتكرات الإسلام كما أسلفتُ، فإن لم تأتِ على لسان نبي الإسلام (ص) وقد صحَّ هذا لديّ من خلال متابعة كتب الصحاح، وفهارسها(7), جاءت على لسان صحابي وإن لم يكن ذلك, فعلى لسان تابعي, ولكنّها؛ جاءت على لسان صحابي من أوائل المسلمين إسلاماً وأقدمهم إيماناً, ذلك هو الإمام علي (ع) ولَمّا كانت قد وردت في خطبة له, لا في كتاب أو وصية, أو حديث مع قسم من أصحابه, فهي أغلب الأمر, تعود بزمنها, إلى ما بعد استخلافه على أمور المسلمين, بعد مقتل الخليفة عثمان سنة (35هـ), فهي محصورة في السنوات الأربع ما بين استخلافه واستشهادهِ إلى سنة (40هـ).

وثانيها: أنّها لم تُسمع أو تَرِد في الكتب والأخبار عن أحد من الصحابة ممّن توفي قبله أو عاصره ومات بعده, ممّا ينفي أنّه اقتبسها من هذا الصحابي.

وثالثها: لم ترد هذه الصيغة منفصلة عن موصوفها (الجاهلية) أو صفة لغيره, ولَمّا كان أقدم نصّ لها هو هذه الخطبة, فقَد وصلت إلينا على أصلها منه, ولو كانت غير ذلك, لسمعنا من يستعملها ممّن عاصره وجاء بعده صفة بشيء آخر, ولكن جميع من ذكروها قرنوها بالجاهلية.

قال الخليل: «والجاهلية الجهلاء: زمان الفترة قبل الإسلام»(8), ولم ترد هذه اللفظة في الجاهلية والإسلام صفة قبل الكلام, ولكن جاءت اسماً, قال ابن دريد: «ومنهم: جَهْلاء تُبّع, وإنّما سُمّي جهلاء؛ لأنّه نزل بخيوان؛ موضع, فأُتِي بجارية من أهل صَعْدة فوقع عليها, فاشتملت منه على غلام, فأُخبِرَ بذلك فقال: واجَهْلا! فسُمّي بذلك»(9). أي أنّه صاح على سبيل الندبة, تعجباً أو استغراباً, فحُكيت اللفظة حكاية عنه, وبعد أن مُدِّت ليحسن الوقوف عليها في التسمية, فهي ليست (جهلاء) الصفة, بل هي (جهل) أُلحِقت بها ألف الندبة ومُدّت عند التسمية.

وجاء في (الأساس): «وكان ذلك في الجاهلية الجهلاء وهي القديمة»(10). وفي القاموس: «والجاهليةُ الجهلاءُ: توكيد»(11), و كلّ هذا يوحي إلى اشتهارها على ألسن الناس, ولكنّ الذي يستوقفهم غرابة ٌ أخرى على نحو ما عند صاحب (اللسان) وصاحب (القاموس), والطريحي كما مرّ, وهو تكرارها بعد لفظةٍ من جنسها, فتأوّلوها بمعنى التوكيد.

وشبيه بـ (جهلاء) لفظة أخرى قالها الإمام, فذهبت على الألسن مثلاً أو كالمثل, وتجاذبتها أطراف الأقلام. جاء في (نهج البلاغة): «وَسُئِلَ عَنْ أَشْعَرِ الشُّعراءِ, فَقَال (ع): «إنّ القَوْمَ لَمْ يَجْروا فِي حَلْبَةٍ, تُعرَفُ الغايَةُ عِند قَصَبَتِها, فَإنْ كَانَ ولابُدْ فَالمَلِكُ الضِّلِّيل» قال: يريد امْرِأ القَيْس(12), وقد أورد ابن أبي الحديد رواية أخرى لا تخالف هذا النصّ, ولكنـّها تزيد عليه, ذكرها ابن دريد في (أماليه)(13).

وقد شاعت هذه الكلمة بعده وصار امرؤ القيس يُعرف ممّا يُعرف بها, وذكرت رواية ابن دريد أنّه سمّاه (الملك الضِّلِّيل ذو القروح). والثانية ـ ذو القروح ـ مشهورة عنه بعد موته في قصة طويلة, وهي ليست للإمام بل للبيد ابن ربيعة العامري(14). ولم يقفِ الإمام هذه اللفظة باشتقاقها, وصفاً (لملك) كناية عن أمرىء القيس, بل توسّع في استعمالها, دلالة على كثير الضلال, وذلك في قوله (ع) : «لكأنِّي أنْظُرُ إلى ضِلِّيل قَدْ نَعَقَ بالشَّام, وفَحَصَ بِرَاياتِهِ في ضَواحِي كُوفانَ»(15), وهو ما أخذه عنه الشعراء والرَّجاز, فلم تختصّ اللفظة بكلمة عندهم, كما هو الحال مع (جهلاء), قال الخليل: «والضليل على بناء سكِّير: الذي لا يُقلع عن الضلالة, قال رؤبة:

قلتُ لِـزيرٍ لَمْ تَصِلْــه مَرْيَمُــهْ ضِلِّيلُ أَهْواءِ الصِّبا يُندِّمُهْ»(16)

ويبدو أنَّ هذه الزنة أي (فعِّيل) وردت في عدد ألفاظ معدودة, قال ابن السكِّيت: «وما كان على مثال فِعِّيل أو فِعْليل, فهو مكسور الأول, نحو قولك بَصَلٌ حِرِّيف, ورجل سِكِّير, إذا كان كثير السكر, وفِسِّيق, إذا كان كثير الفسق, وخمِّير, إذا كان كثيرالشرب للخمر, وعِشِّيق؛ كثير العشق, وفِخِّير, كثير الفخر, وجبِّير: كثير التجبّر, وصِرِّيع, شديد الصِّراع؛ وغِلِّيم: شديد الغُلْمَة, وظِلِّيم: إذا كان شديد الظلم, وضِلِّيل: كثير التَّتَبُعِ للضلال, وجرجِير للبقل, وسِفسير للفيج والتابع»(17).

وبإسقاط (جِرجير) و(سِفسير)؛ لأنّهما على زنة (فِعْليل) كما ذكر, فإنّ عددها يكون أحد عشر لفظاً, وبإزادة (سكِّيت) التي يبدو أنّه أغفلها ـ تحرُّجاً ـ تكون إثنتي عشرة لفظة, وينقل لنا باحث معاصر رأي الأصمعي وأبي عمرو في هذه الصفة عند رؤبة بقوله: «وقد جاءت في رجز رؤبة محتملة المصدرية في قوله:

(ضِلِّيلُ أَهْواء الصبا يُنَدِّمُهْ)

المعروف أنَّ الضِّلـِّيل كالشِّريب والسِّكِّير ... إلخ, صيغة وصفية إلّا أنَّ أبا عمرو جعلها هنا بمعنى الضلال. ويُلاحظ هنا إرتباك الشرح فتارة تجعل ضليل صفة كما هو معلوم, فيكون المعنى مضطرباً بإضافة (ضِّلـِّيل) إلى اسم معنى. وتارة تجعل بمعنى المصدر.

قال الأصمعي: الضليل: الهوى الذي يضلله ثم اضاف هذا الهوى إلى الأهواء، ولو أنّنا جعلنا (ضِّلـِّيل) بمعنى ضلال كما ذكرها أبو عمرو لتخلّصنا من هذا الارتباك ولإتّضح المراد»(18).

وظاهر أنَّ (المصدرية) المرادة هنا خاصّة؛ بموضع اللفظة في شعر رؤبة، حمْل للمعنى لا للفظ، فاللفظ بقي لفظ المبالغة، وبقي أمر واحد، هو أنّنا لانعرف أهذه الصيغة مطّردة القياس؛ أو اقتصرت على السماع المحصور بما ذكره (ابن السكِّيت)، والأرجح أنّها مقصورة على السماع، وأنّ الأكثر فيها من الفعل اللازم، فمِن الصفات الأثنتي عشرة، جاءت ثلاثة من فعل متعدٍ، وهي: (ظِلِّيم، وصِرِّيع, وشِرِّيب).

ومن ألفاظ الصفات غريبة الاشتقاق ما جاء مقلوباً، من نحو مجيء الفاعل بمعنى المفعول وعكسه، فمن ذلك ما جاء في القرآن في قوله تعالى : (( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ))(19) إذ ذكر المفسرون وأصحاب اللغة أنَّ (دافق) هنا بمعنى (مدفوق)، فهو (فاعل) بمعنى (مفعول)(20).

قال الطريحي ـ في القرآن ـ : «قوله (فلينظر الإنسان ممّ خُلِقْ، خُلِق من ماء دافق)، أي مدفوق، كما قالوا: سرّ كاتم، أي مكتوم، لأنَّه من قولك : دُفِق الماء على ما لم يُسمَّ فاعله، ولا يُقال دَفَق الماء على الأصحِّ، وقيل : المعنى ذي دفق...»(21), ولسنا بصدد غريب القرآن لنفيض فيه، إلّا إنّنا لابدّ من أن نشير إلى كلامهم على غرابة هذا الاستعمال، وهذا مأربنا، لنقدم منه مقدمة أخرى لغرابة، كأنّها مشتقة على هذه الغرابة القرآنية.

قال الإمام: ـ في وصف السماء ـ: «فأَجْرى فِيها ماءً مُتَلاطِماً تَيَّارُهُ، مُتَراكِماً زَخَّارُه، حَمَلَهُ على مَتْنِ الرِّيح العاصِفَةِ، والزَّعْزعِ القاصِفَةِ، فأَمَرَهَا بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَها على شَدِّه، وَقَرَنَها إلى حَدِّه؛ الهَواءُ مِن تَحْتِها فَتِيقٌ، والمَاءُ مِن فَوْقِها دَفِيقٌ...»(22).

و(فتيق، ودفيق) (فعيل بمعنى مفعول)(23)، وهذا من كثير الكلام، وربَّما بيّنوا القواعد فيه إلّا أنَّه سماعي غير مقيس(24)، وما يهمّنا ها هنا (دَفِيق) إذ إنَّ (فَتِيق) ومثيلاتها كثيرة في كلام الإمام، وكأنَّه مولع في صوغ (فعيل) بدلاً من (مفعول), وربَّما أراد من ذلك بيان شدّة المبالغة في الوصف، لتأصّل (فعيل) في الصفة المشبهة، وصيغ المبالغة، إلّا أنَّ أهمية (دفيق) جاءت ها هنا من كونه انحرف عن الصياغة القرآنية في ذلك، فلم يقـُلْ (والماء من فوقها دافق)، بل قال: (دَفِيق)، وربّما كان لموافقة نسق السياق على السجع، ولكنّ هذا, افضى إلى غرابة التركيب، فـ(دافق) بمعنى (مدفوق)، كان غريباً وزاد عليها الإمام (دفيق) بالمعنى نفسه، ولنتابع قول ابن خالويه في مسألة (دافق) ومثيلاتها قال: «ليس في كلام العرب : فاعل بمعنى مفعول إلّا قولهم : تراب سافٍ، وإنَّما هو مَسْفِيٌّ ؛ لأنَّ الريح سَفَتْه، والريح سافيةٌ والتراب؛ مسفِيٌّ، والرياح هي السوافي، والسَّافياءُ : التراب أيضاً والرياحُ، ومثله (عيشةٍ راضية)، بمعنى مرضية، و(ماء دافق) بمعنى مدفوق؛ وسرٌّ كاتم بمعنى مكتوم، وليلٌ نائم بمعنى ناموا فيه...»(25).

فابن خالويه حصرها في هذه الألفاظ الخمسة، ونحن نحمل (دفيق) عليها لا على (فعيل)، بمعنى (مفعول)، فالكلام مسبوق ـ بقول الله ـ سبحانه ـ وهنا نعرف أنَّه أراد المبالغة في شدّة دفق الماء، وفي الآية لم يرد ذلك، كما هو في مظانها.

وللرضي الأسترابادي رأي في (فاعل) بمعنى (مفعول) لا بدّ من ذكره ؛ قال: « قالوا: وقد جاء فاعل بمعنى مفعول، نحو : (ماء دافق) ؛ أي مدفوق، و(عيشة راضية). أي مرضية، والأوْلى أن يكون على النسب كنابل وناشب، إذ لا يلزم أن يكون فاعل الذي بمعنى النسب مّما لا فعل له كنابل، بل يجوز أيضاً كونه ممّا جاء منه الفعل، فيشترك النسب واسم الفاعل في اللفظ»(26). أي: ماءٍ ذي دفق، وعيشةٍ ذات رضى، كـ (نابل) و(ناشب)، أي : ذو نبل، وذو نشب، أمّا الراغب ؛ فيأتي برأي يكاد يكون ـ في نظري ـ هو الأقرب ؛ قال : «قال تعالى (ماء دافق) سائل بسرْعة، ومنه استُعير ؛ جاؤا دفقةً, وبعيرٌ أدفقُ : سريعٌ، ومشى الدِّفقي، أي : يتصبَّب في عدْوه، كتصبُّب الماء المتدفق، ومَشَوا دَفقاً...»(27).

فتبقى (دافق) ؛ بمعنى : (سائل) إلّا أنَّ هذا لا يستقيم مع بقية الألفاظ الخمسة، ومّما يُستغرب أنَّ ابن خالويه، قد حصرها في هذه (الخمسة)، على حين نجد أنَّ الإمام علي (ع) يأتينا بسادس لها. قال: حين سأله أحدهم من أنَّ مسيرهم أبقضاءٍ من الله وقدره؟! قال: «وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قضاءً لازِماً، وَقَدَراً حَاتِماً ! لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذلِكَ، لَبَطَلَ الثَّوَاْبُ والعِقَاْبُ، وسَقَطَ الوَعْدُ وَالوَعِيدُ...»(28).

و(حاتم) جاءت في المعاجم بمعنى (القاضي)(29)، والقدر ليس قاضياً بل مقضي، قال تعالى: (( وَكانَ أَمْراً مَقْضِيّاً))(30) وقال الإمام جعفر بن محمد الباقر، الصادق (ع) حينما فسّر الآية الكريمة : (( ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى))(31): «الأجل المقضّي ؛ هو المحتوم، الذي قضاه وحتمه، والمسمّى هو الذي فيه البداء، ويقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير»(32)، وقد قال الزمخشري: «حتم الله الأمر : أوجبه. وغراب البين يحتم بالفراق، ولذلك قيل له: الحاتم، وحتم الحاتم بكذا، أي : حكم الحاكم. وتقول: هذا حتمٌ مقضيٌّ، وحكم مرضي ؛ وقال الطـِّرِمّاح :

(وإذا النفوسُ جَشأْنَ وَقَّرَ خالداً ثبـتُ اليَقِينِ بِحِتْمِــه المِقـــدارِ)

أي : استيقانه بأن حتْم الله كائن..»(33).

والقدر هاهنا لا بدّ من أن يكون (محتوماً) لا حاتماً، فعلى رأي من رأى مجيْءَ قسم من (فاعل) بمعنى (مفعول) فهذه منها، و إلّا فرأي الرضي الاسترابادي، هو الأولى، فيكون ماء ذا دفق، وأجلاً ذا حتم، وقدراً ذا حتم, واجب الوقوع .

ولعلّي اخترت ها هنا ما كان فيه فائدة أكبر وفضلاً عمّا هو معروف في كتب التصريف، وتركت ما ليس كذلك إلى باقي النصوص المحتوية على مثل هذه المفردات في كتاب (النهج)(34).

 

***

المبحث الرابع؛ غريب أفعل التفضيل:

وضع الصرفيون عدّة شروط في صياغة اسم التفضيل، بلغت الثمانية ؛ ونحن نوجزها إجمالاً على ما يأتي :

1 ـ لا يُصاغ ممّا ليس له فعل، وشذّ منه نحو (أقمن)، (ألص) .

2 ـ لا يُصاغ إلّا من الثلاثي، وشذّ منه نحو (أخصر) من أختصر .

3 ـ لا يُصاغ من الفعل الجامد، من نحو ليس، وعسى ... إلخ.

4 ـ لا يُصاغ من الفعل الناقص، من نحو كان وأخواتها.

5 ـ لا يُصاغ من المنفي لزوماً، من نحو ما عاج بالدواء؛ أي: ما انتفع به .

6 ـ لا يُصاغ من العيوب والخلال الظاهرة والألوان، عند البصريين، وأجاز الكوفيّون صياغته، من نحو: (أسود منه) وغيرها، أمّا ما كان عيباً باطناً على (فعل)، فجائز عند البصريين؛ من نحو: (أبْلَه منه)، و(أحمق منه).

7 ـ لا يُصاغ ممّا لا تفاوت فيه، من نحو : مات وهلك.

8 ـ لا يُصاغ من المبني للمجهول، وشذّ منه من نحو (أشغلُ منِ ذات النحيين)، وكلام أخصر من غيره(35).

وإذا خالف شيء أحَد هذه الشروط، أحتيل إلى تفضيله بعد كلمة (أشدّ)، أو (أفضل)، أو (أكثر) .

وبهذا فما علينا إلّا أن نعرض الألفاظ التي جاءت على زنة (أفعل) التفضيل على هذه الشروط، والظاهر أنَّ ما كثر في هذه الألفاظ عند الإمام هو ما لم يكن متفاوتاً نحو (أبور)، و(أحضر) ، و(أخلى) و(أنفق)، و(أملك) على ما سأوضحه.

ولابدّ من أن أقدم من أنَّهم لم يوضِّحوا، أو يبينوا مسألة التفاوت بأكثر من تمثيلهم لغير المتفاوت بالموت والفناء، ومن المؤكد أنَّ هذا لا يعني أنَّ عدم التفاوت محصور بهذين المعنيين، بل يمتدُّ إلى كلِّ ما لم تتفاضل فيه الناس والأشياء، وسيكون المعيار في هذا العُرف، بشرط أن نفهم التفاوت على أنَّه متدرّج بدرجات، فالموت يتفاوت فيه الحي والميت، أي أنَّ الحي غير الميت، فهما مختلفان متفاوتان، ولكن ليس في هذه الدنيا درجة ثالثة بينهما على المعنى الحقيقي. أمَّا على المعنى المجازي فربّ عيش أسوء من الموت، ولما كان العرف، هو المعيار، حكّمتُ في مسالة التفاوت، ما كان بدرجتين، هما الإثبات والنفي، كأن (يفعل زيد أو لا يفعل زيد) وليس ما كان بمقدار كالربح والخسارة, والطول والقصر, والثقل والخفّة, والعلم والجهل، فكلّ ما كان له مقدار صحّ أن يُعدّ من التفاوت، وعلى هذا كانت الألفاظ التي قدّمتُها ليست بذات مقدار، ولو أراد أحد أن يتكلّف لها مقداراً لاستعمل (أشدّ) و (أكثر) و(أفضل) نحو (زيد أشدّ من عمرو موتاً) مثلا، ولا يقال : (أموت).

من ذلك قول الإمام (ع) : «... لَيْسَ فيهم سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الكِتابِ إذا تُلِي حقَّ تِلاوَتِهِ، ولا سِلعةٌ أنْفَقُ بَيْعاً...»(36). وبار يبور، فهو إذن؛ بائر ولا تبدو فيه درجات، فهو إمّا بائر، أي: كاسد(37)، أو نفِق في السوق، وأمّا (أنفق) فمثلها ؛ لأنَّها عكسها ونقيضها، فـ(نفقت الدراهم) أي : نفدت(38). فكان القياس فيهما أكثر بواراً، وأكثر نفقاً.

ومنه قوله (ع) : «اللَّهُمَّ إنَّكَ آنَسُ لأَوْلِيائِكَ، وأحْضَرُهم بالكِفاية للمُتوكِّلين عَلَيكَ...»(39) وهو من (حضر يحضر) ؛ أي وُجد في المكان وبلغه، وهو معروف، ولا غرو أنَّ القياس: (أكثر حضوراً منهم)، فإمّا أن يحضر وإمّا أن لا يحضر، ولا درجة أو مقداراً في ذلك. ومنه قوله (ع) : «... إلّا أنْ يكفَي اللهُ مِن نَفْسي ما هو أَمْلَكُ به مِنِّي، فإنَّما أنا وأنْتُم عَبيدٌ مَمْلُوكُون لِرَبِّ لا رَبَّ غيرُه...»(40)، و(المِلك) أيضاً درجة واحدة ونفيه هو الدرجة الأخرى، والقياس (أشَدُّ مِلكاً)، وقد نحتجّ لهذين الاستعمالين ؛ (أملك، وأحضر) بأنَّهما جاءا إخباراً عن صفة لله ـ عز وجل ـ ما بينه وبين خلقه، فهو أعظم التفاوت فأين الربّ من المربوب؟

وفي هذا يكون الإمام باختياره صيغة (أفعل) في أعلى درجات البلاغة والحذق في صناعة الأدب، لإختياره ما يوافق المعنى العميق لكلامه، وفي هذا المعنى نفسه قوله: «إنّا لا نَمْلِكُ مَعَ الله شَيْئاً، ولا نَمْلِكُ إلّا ما مَلَّكَنَا، فَمَتى مَلّكَنا ما هُو أَمْلَكُ بِهِ مِنّا كَلَّفَنا، ومتى أَخَذَهُ مِنّا وَضَعَ تَكْلِيفَهُ عَنّا»(41). ومع هذا فإنَّ بلوغ هذا الحدّ من البلاغة، لا يمنع من الغرابة بمخالفة القاعدة اللغوية، بل إنَّ هذه المخالفة والغرابة هي التي أفضت إلى هذا المستوى من التعبير.

ومن غريب ما استعمله في (التفضيل) استعماله (فوق) ظرف الزمان بدلاً من (أعلى) أو (أكبر) مرتين في خطبة واحدة، وهي الخطبة التي خطبها بصفين، ومنها في هذين الموضِعين قوله : « وَلَيْسَ أمرُؤٌ، وإنْ عَظُمَتْ في الحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ في الدِّين فَضِيَلتُهُ، بِفَوْقِ أن يُعانَ عَلى ما حَمَّلهُ مِنْ حَقِّهِ»(42)، أي : بأعلى من أن يُعان، أو بأكبر من أن يُعان أو بخير من أن يُعان، وكذلك قوله في موضع آخر من الخطبة: «فَلا تَكُفّوا عن مقالةٍ بحقٍّ أو مَشُورَةٍ، بِعَدْلٍ، فَإنِّي لَسْتُ في نَفْسِي بِفوْقِ أنْ أخْطِئ، لا آمَن ذلك مِن فِعْلي»(43)، أي بأعظم من أن أُخطئ، وقال الإمام هذا تواضعاً منه (ع)وتنبيهاً إلى كل من يرى نفسه عظيماً، وقد ورد في الحديث: «مَنْ تَعَظّمَ في نَفْسِهِ يَلْقَى اللهَ تَعَالى غَضْبَاْنَاً»(44). وقول الإمام هذا «بِفوْقِ أنْ أخْطِئ...» من قبيل قوله تعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ))(45). فالمعنيّ بهذا هم الناس ، وليس النبي (ص) ، وكذلك قول الإمام (ع)؛ فهو من باب : «إياك أعني واسمعي يا جارة» فالإمام معصوم ولا تنقصه صفة من صفات الكمال.

ولعلّنا نلحظ أنّ ما نقدمه من نظائر لغوية لا تستطيع أن تسدّ المجال الدلالي لهذه اللفظة، وهو مجال الفوقية، فان لـ(فوق) زيادة وفضول على هذه النظائر، ذلك أنَّ (فوق) ظرف مكان يوحي بالفوقية الماديّة الحسّية، أمّا العلوّ والعظمة والكبر، فتعمُّ الأمر المادي والمعنوي، لذا فهي لا تجزي عن (فوق) في هذا المعنى، ولا أدري كيف أغفل النحاة والبلاغيون صياغةً كهذه، ولم يلتفت إليها إلّا زيد بن علي (ت/121هـ) (ع) الذي قال لهشام بن عبد الملك : «أنّه لَيْسَ أحدٌ وَإنْ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ بِفَوْق أنْ يُذكَّر بِالله وَيُحذَّرَ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَلَيْسَ أحَدٌ وَإنْ صَغُرَ بِدُوْن أن يُذكِّر بالله ويُخوِّف مِنْ نِقْمَتِهِ»(46).

ولا نجد مهما تكلّفنا التقويم لهذه الصياغة عند الإمام وحفيده بمكافئها ما تستحقّه ..

وشبيه بـ( أبور، وأخضر، وأخلى، وأملك)، كثير في (النهج) من مثل «أحْجى»(47)، و«أعْوَز»(48)، و«أَصْلَب»(49) .

***

 

الهوامش

 

(1) شرح النهج: 7/66. رواها موثقة النسبة للإمام، المجلسي في (البحار): 18/219.

(2) الأحزاب /33.

(3) آل عمران /154.

(4) المائدة /50، وينظر : (المعجم المفهرس)، (ج/هـ/ل) : 225 ـ226.

(5) ينظر: الكتاب : 1/99 وما بعدها ، و(شرح الشافية للرضي) : 1/144 ـ 151 ، و(شرح الكافية): 95، و (شرح ابن عقيل) : 2/141،و( شذا العرف) : 76 ـ 77.

(6) ليس في كلام العرب :270 ـ 271.

(7) قال الطريحي ـ بعد أن استوفى الحديث عن (الجهل) ومشتقاته في القرآن والحديث ـ : «وقولهم كان ذلك في الجاهلية الجهلاء، وهو تأكيد للأوّل, يُشتق له من اسمه ما يُؤكد به، كقولهم : ليلة ليلاء، ويوم أيوم، ونحو ذلك» ولم ينسبه لأحد ممّا يدلّ على شيوعه ـ , ينظر:(مجمع البحرين) (ج/هـ/ل) : 4/218, (تحقيق: أحمد علي الحسيني).

(8) العين (ج/هـ/ل) : 3/390.

(9) الأشتقاق : 533.

(10) أساس البلاغة : (ج/هـ/ل):67.

(11) القاموس المحيط : (ج/هـ/ل) : 902.

(12) شرح النهج: 20/153، وثـّق نسبة هذا الكلام للإمام؛ ابن رشيق في (العمدة) : 1/41.

(13) ينظر: (شرح النهج): 20/153 ـ 154. وقد ذكر الرواية أيضاً ابن رشيق في (العمدة) : 1/41.

(14) ينظر:شرح ديوان امرئ القيس: 10، و (طبقات فحول الشعراء للجمحي) : 19، و (الشعر والشعراء طبقات) : 16.

(15) شرح النهج : 1/98. رويت موثقة النسبة للإمام في (الحيوان): 2/90, روى الجاحظ فقرات منها, ووجدتها في (أمالي الصدوق): 3/252, وفي (معدن الجو اهر): 226.

(16) العين (ض/ل/ل): 7/9، والرجز في (ديوان رؤبة): 194.

(17) أصلاح المنطق: 245.

(18) دراسة لغوية في أراجيز رؤبة والعجاج:ق1/154. وقول أبي عمرو والأصمعي في: (شرح ديوان رؤبة): ورقة 168.

(19) الطارق / 6 ـ7 .

(20) ينظر: جامع البيان: 29/143، و (الكشاف): 4/734. و(ليس في كلام العرب): 63، و(شرح الشافية للرضي): 2/226.

(21) مجمع البحرين (د/ف/ق): 5/161, (تحقيق: أحمد علي الحسيني).

(22) شرح النهج:1/83, رُويت موثقة النسبة للإمام في (التوحيد): 24, وفي (الإحتجاج): 1/150, وفي (مطالب السؤول):1/181.

(23) ينظر: إصلاح المنطق: 395, و(شرح ابن عقيل): 2/138 ـ 139, و(شذا العرف): 75, و(أبنية الصرف في كتاب سيبويه): 263.

(24) ينظر: المصادر نفسها .

(25) ليس في كلام العرب:317, والآية (21) من سورة الحاقة, ووردت (راضية) بمعنى: مرضية أيضاً في سورة الفجر, الآية: 28.

(26) شرح الشافية: 2/85، 88, وينظر أيضاً: ( شذا العرف): 74, فقد وضع الحملاوي القاعدة الصرفية من دون أن ينسبها إلى الرضي.

(27) معجم مفردات ألفاظ القرآن:11.

(28) شرح النهج: 18/227. رويت موثقة النسبة للإمام في (الفصول المختارة): 1/40, و(أمالي المرتضى): 1/150, و(كنزالفوائد): 169.

(29) العين، و(القاموس)، و(لسان العرب المحيط)، (ح/ت/م) : 3/195، 1007، 1/564.

(30) مريم /21.

(31) الأنعام /2.

(32) الإمام الصادق علم وعقيدة : 93.

(33) أساس البلاغة، (ح/ت/م) : 73.

(34) ينظر شرح النهج : 6/169/5، 6/260/8، 7/84/7، 10/188/3، 19/72/2، ... .

(35) ينظر : الكتاب : 2/251 ـ 252، وينظر أيضاً: (شرح الكافية للرضي): 2/235، و(التذييل والتكميل): جزء: 3 ورقة 194، (المفصل في علم العربية): 232 وما بعدها، و(شرح ابن عقيل): 2/153 ـ 155، و (شرح الأشموني): 3/16، و(تصريف الأسماء): 115وما بعدها، و (شذا العرف): 79 ـ 81، و(شرح المفصل): 6/91.

(36) شرح النهج: 1/84، رويت مقيّدة للإمام في (عيون الأخبار): 1/61، و(المسترشد): 75 .

(37) ينظر: الزاهر: 1/417، وينظر: أيضاً: (أساس البلاغة)، و(لسان العرب المحيط)، و(القاموس المحيط) : (ب/و/ر) : 33، 1/286، 333.

(38) ينظر: شرح الفصيح لابن الجبان : 169, و(شرح الفصيح لابن هشام): 103.

(39) شرح النهج: 11/267, رويت بالسند المعنعن المتصل بالإمام في (الصحيفة العلوية): 75, و(المصباح): 249, و... .

(40) شرح النهج: 11/102. رويت بالسند المعنعن المتصل بالإمام في (الكافي): 352.

(41) شرح النهج : 20/6، رواه الحرّاني بسند متصل ينتهي إلى الإمام، في (تحف العقول): 345.

(42) المصدر نفسه: 11/92، ورواه الكليني بسند موثّق متصل بالإمام, في (روضة الكافي): 354.

(43) م. ن. : 11/102.

(44) مجمع البحرين: (ع/ض/م): 2/205.

(45) الفتح / 2.

(46) شرح النهج: 11/93.

(47) شرح النهج: 1/151/7.

(48) المصدر نفسه: 7/288/8.

(49) م .ن. : 17/36/2.