الفصل الثالث

غرابة سياق الكناية وغرابة السياق في نصوص النهج كلّها

 

لا ريب أن مباحث المسند والمسند إليه, والفصل, والوصل, والتقديم والتأخير و... وإن كانت لا تخلو من لمحات بلاغية وسمات بيانية بالمعنى العام إلاّ أنّها مباحث نحوية, وأن المجاز والتشبيه, والتمثيل والاستعارة و الكناية و... وإن كانت لا تخلو من دقائق نحوية, إلاّ أنها مباحث بلاغية.

فمن الخير للعربية, ومن الصيانة للتراث,أن نرجع إلى أصولها, فما غلب من منحى على فن ما, أُلحق به, وما تمييز بخصائص تأصله باتجاه متميز اختص به, وليس في ذلك شطط, بل دقة وموضوعية, الدقة في التغليب, والموضوعية في التبويب.وعلى هذه الدقة والتبويب كان هذا الفصل يتكون من مبحثين:

المبحث الأول؛ غرابة السياق في نظم (الكناية):

تكمن الغرابة هنا بسبب بُعد معاني ألفاظ الكناية, عمّا وُضعت عليه في الأصل, فتؤثّر في السياق, والوصول إلى هذه الدلالات, لا يتمّ إلاّ بتعدّد الوسائط, وبذلك تحدث غرابة في السياق النظمي لها.

أطبق البلغاء على أنّ المجاز أبلغ من الحقيقة, وأنّ الاستعارة أبلغ من التصريح بالتشبيه, وأنّ التمثيل على سبيل الاستعارة أبلغ من التمثيل لا على سبيلها, وأنّ الكناية أبلغ من الإفصاح بالذكر(1). فكلما كان الكلام أبلغ كان أغرب, وأية ذلك أنّ البلاغة: هي إصابة المعنى والقصد إلى الحجة(2), وهذا المعنى يؤدى بطرق كثيرة, بواسطة علم (البيان) وفروعه, ومن هذه الفروع (الكناية), فكلّما تعدّدت الوسائط للوصول إلى المعنى, خَفِي القصد إلى الحجة وبالتالي تنشأ الغرابة في (الكناية).

والكناية: عدم التصريح في الكلام, وهذا ينتج تداعي(3) المعاني الموصلة إلى المعنى (الحجة), وبهذا تبعد الألفاظ عمّا وُضعت عليه في الأصل اللغوي, التي بمجموعها تنشأ نظماً يرتفع به الغموض لحدّ الغرابة, فيتكون السياق الغريب.

الكناية: لغةً: ما يتكلم به الإنسان ويريد غيره(4), وهي مصدر (كنيت), أو (كنوت), إذا ترك التصريح به, واصطلاحاً؛ عرّفه البلاغيون بتعريفاتٍ عديدة(5), خلاصتها هي: لفظ أُريد به غير معناه الذي وُضع له مع جواز إرادة المعنى الأصلي, لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته, من نحو: (زيد طويل النجاد), فإنّك تريد بهذا النظم؛ أنّه شجاع عظيم, فعدلت عن التصريح بهذه الصفة إلى الإشارة إليها بشيء من طول الجسم,الشجاعة عادة.

فإذن: المراد طول قامته, وإن لم يكن له نجاد, ومع ذلك يصحّ أن يُراد المعنى الحقيقي, بيد أنّه تمتنع إرادته في الكناية لخصوص الموضوع، كقوله تعالى: ((وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ))(6)، وكقوله تعالى: ((الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى))(7) , ففي كل من الآيتين كناية عن تمام القدرة, وقوّة التمكّن, ومن هنا نعلم أن الفرق بينها, وبين المجاز, صحة إرادة المعنى الأصلي فيها من دون المجاز, فإنّه ينافي ذلك. والذي يفيد بحثنا هذا؛ هو المعنى المشار إليه ـ قبل قليل ـ (من دون المعنى الأصلي للكناية). أي: لفظ أُريد به غير معناه؛ وتشتدّ الحاجة إليه, إذا كثرت الوسائط, فيحصل كدّ في الذهن, وإعمال فكر ، فتنشأ الغرابة في النظم, التي تكوّن في ما بعد سياقاً غريباً.

تتصدّر الكناية مرتبة متميزة في كيان البيان العربي, فالتعبير بها له منزلة التصوير الاستعاري, فكلّ واحدٍ منهما, يصدر عن ذائقة فنية, وقيمة بلاغية لفنِّ القول(8), وعلى هذا فهو ـ أسلوب الكناية ـ الأسلوب الوحيد الذي يتجنب التصريح بالألفاظ الوضعية, أو الكلام الحرام(9), وكذلك العبارات التي تدخل في دائرة هذا الكلام, قد يكون باعثها الاشمئزاز, وقد يكون الإبهام.

فاللغة المهذبة؛ مصدر إيحائي من مصادر الفكر والقرآن, فقد كان القرآن والحديث حريصين كلّ الحرص على إيصال مفاهيمهما إلى الجميع من دون جرح العواطف, أو خدش المشاعر, وكان الطريق إلى ذلك هو الكناية, وهذا واضح في قوله تعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ))(10). وهي: كناية عن موصوف.

حينما أراد الله ـ سبحانه ـ باللفظ أن يرتفع بمستواه, وللكلمة أن تسمو بعطائها, يتكلّم باللازم, ويكنّي عن نتائج ذلك ما يذكره من اللفظ الظاهر, ولهذا قال عن المسيح وأمه (كانا يأكلان الطعام), وهو كناية عن الحاجة, لأنّها تكون من ناتجة الطعام, فكنّى عنها, فهي منه مسبِّب, كما كنّوا عن (السمة) بالنار, فقالوا: (ما نار تلك؟) أي ما سِمَتُها؟ ومنه قول الشاعر(11):

«قد وَسَموا آبالَهم بالنارِ والنارُ قَدْ تَشْفِي من الأَوَارِ»(12)

يقول: هم أهل عزّ ومنعة, فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التي على الإبل, وعلم المزاحمون له في الماء, أنّه لا طاقة لهم بمنازعتهم عليه لعزّهم, فكانت السمات سبباً لسقيها, والأوار: العطش.

ومن تقسيمات الكناية؛ كناية الصفة(13), وهي: التي يطلب بها نفس الصفة, والمراد بالصفة: المعنوية, لا الصفة في اصطلاح النحويين, وسميت كذلك, لأنّ المطلوب بها صفة. أيّ: أنّ المكنّى بها صفة ملازمة لموصوف, مذكور في الكلام, وهي إمّا كناية قريبة؛ وهي: ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بغير واسطة بين المعنى المنتقل عنه, و بين المعنى المنتقل إليه. أو كناية بعيدة, وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بواسطة, أو بوسائط(14), وهي محطّ رحالنا, وعليها تدور أمثالنا.

العرب حينما تتخلى عن التعبير المباشر إلى التعبير غير المباشر, فإنِّها تضع لذلك ألفاظاً, وتصطلح كلماتٍ, تدلّ بها على المراد, بالكناية, ومن ذلك إنَّهم يكنّون عن المرأة بالشجرة, والنخلة, والنعجة, وقد أشار إلى ذلك ابن رشيق القيرواني(15) ومن هذه التعابير والاصطلاحات ما جاء في قوله ـ تعالى ـ: ((إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ))(16). ومثل هذا وجدت في (النهج) من قول الإمام حينما قتل الخوارج, وقيل: له يا أمير المؤمنين؛ هلك القوم بأجمعهم, قال: «كَلاّ والله، إنّهم نُطَفٌ في أصْلابِ الرِّجال, وقرارات النِّساءِ, كُلّما نَجَمَ مِنهُمْ قَرْنٌ, قُطِعَ حتى يكونَ آخِرُهم لُصوصَاً سلاَّبين...»(17).

أشار الرضي إلى هذه الكناية لغرابتها بقوله: « (قرارات النساء) كناية لطيفة عن الأرحام»(18).

أصل القرار؛ المستقرّ من الأرض(19), ومنه قوله ـ تعالى ـ: ((وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها))(20) , أي : مأواها على وجه الأرض ومدفنها, أو موضع قرارها ومسكنها ومستودعها, حيث كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من أصلاب الآباء, وأرحام الأمهات(21).

ثم أنّ معنى (القرار) هو: ما قرّ فيه, ومنه سمي (مقر الرحم)؛ أي: آخره, وناقة مقر؛ عقدت ماء الفحل, فأمسكته في رحمها, فاستقرّ, وهو؛ من الاقترار الذي يعني: استقرار ماء الفحل في رحم الناقة(22). وعلى هذا كان رحم الناقة هو: (المقرّ) و(القرار) الأخير, حينما يوضع فيه ماء الفحل عند الضراب. فالأرحام؛ قرارات هذا الماء, وعليها أطلق الإمام لفظ (القرارات), من باب تسمية الشيء بما يحويه.

لحظنا كيف بَعُدت بنا وسائط هذا النوع من الكناية للوصول إلى معناها في السياق النظمي لها.

فالإمام أشار إلى كونهم ـ الخوارج ـ نطفاً في أصلاب الرجال, وقرارات النساء, أي لابد من وجود قوم منهم, يقولون بمثل مقالتهم, وأنّهم الآن موجودون في الأصلاب والأرحام بالقوّة, فمنهم نطف برزت إلى الأرحام وكنّى بـ(القرارات) عنها, ومنهم نطفٌ بعد في الأصلاب, ثم ألحقهم أحكاماً أُخر, تقريراً لبقائهم منها؛ من ـ السياق ـ أنّه سيقوم منهم رؤساء ذوو أتباع وعبّر عمن يظهر منهم بـ(القرن) استعارة مرشحاً لتلك الاستعارة بقوله: (كلّما نجم منهم قرن قطع), يريد: كلّما ظهر منهم قوم استؤصلوا, فعبّر عن ذلك بلفظ (قرن), أي: كما يقطع قرن الشاة, إذا نجم, وشبههم بهذا التشبيه لرذائلهم, وهي غاية لكون أواخرهم لصوصاً سلابين, أي: قطاعاً للطريق.

ومثل غرابة السياق عن الطريق تعدّد قرائن الكناية, أو تعدد وسائطها التي توصلنا إلى فهم معنى النظم الكلي قوله (ع) حينما وصف الطاووس: «... يَخْتالُ بألوانهِ, وَيَميسُ بِزَيفَانِهِ, يُفْضِي كإفْضَاءِ الدِّيكة, وَيَؤُرُّ بملاقحه أرَّ الفُحول المُغْتَلِمَة للضّرابِ...»(23).

فسّر الرضي 2 غريب هذه الكناية في قوله: « قوله (ع): (يؤر بملاقحه), الأرُّ كناية عن النكاح, يقال: أرَّ الرجل المرأة يؤرها؛ إذا نكحها»(24), والآن مع قرائن اللفظ ودلالاته, من الدلالة الأصلية إلى ما استقرت عليه في هذه الكناية.

الأرّ في الأصل السَّوْق, والطَّرد, ورمي السلخ, وسقوطه, وإيقاد النار, وفي هذه المعاني دلالة مشتركة, تلك هي: الرمي, أو القذف, وتتجلى هذه الدلالة ـ القذف ـ أكثر في (إيقاد النار), أي: هناك غصن أو خشبة, توضع في النار فتتقد, ووصلت الدلالة في ما بعد إلى معنى (الجماع), لأنّ من معاني (الأرّ): «غصن من شوك تُضرب به الأرض حتى تلين أطرافه ثم تبلّه وتذر عليه ملحاً، وتدخله في رحم الناقة»(25) لا يمكنني أن أذكر التفصيل الذي وصلت إليه في معنى (الأرّ) الأخير هنا، فأدب البحث يمنع الباحث, وهو الآن مفهوم لدى القارئ الفاضل.

وبعد تدرّج هذا المعنى ـ الغصن ـ صار؛ معنى (الأرّ) هنا: الجماع, فيكون معنى النظم(ويؤر بملاقحه أرّ الفحول)؛ يسفد بأدوات اللقاح وأعضائه, وهي: آلات التناسل, (أرَّ الفحول)؛ أي: أرّاً مثل أرِّ الفحول ذات الغلمة والشبق.

والقسم الثالث من أقسام الكناية؛ هي: الكناية التي يُراد بها نسبة(26) أمرٍ لآخر, إثباتاً, أو نفياً, وقد عبّر ابن الزملكاني (ت/651هـ) عنها بقوله: «أن يأتوا بالمراد منسوباً إلى أمر يشتمل عليه من هي له حقيقة.»(27). والمراد بهذه الكناية تخصيص الصفة بالموصوف لا عن طريق إثبات الصفة تصريحاً, بل عن طريق الكناية, وخير مثال على ذلك؛ قوله تعالى: ((الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ))(28).

فقد أراد التعبير عن يوم القيامة, لا بصريح اللفظ, بل بنسبة أوصافها وتأكيدها بالقارعة, كناية عن القيامة, فقد أثبت أمراً لأمر. ومثل هذا قول الإمام في (النهج): «كُنّا إذا احْمَرَّ البأْسُ, اتَّقَيْنا برسولِ الله, فَلَمْ يَكُنْ؛ أحدٌ مِنّا أقَرَبُ إلى العَدِّو مِنه»(29).

ولو لم تكن هذه الكناية غريبة, لما أثرت في سياقها وجعلته غريباً, ولهذا شرحت كتب الغريب(30) غرابته, وأوّلها؛ (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم ابن سلاّم, بعد أن نقل إلينا قول الأصمعي في معنى (البأس), بقوله: «قال الأصمعي: يقال: هو الموت الأحمر ـ أي البأس ـ والموت الأسود, قال: ومعناه: الشديد, قال: وأرى أصله مأخوذاً من ألوان السباع؛ كأنّه من شدّته سبع, إذا هوى إلى الإنسان...

قال أبو عبيد: أراد بقوله: احمرّ البأس، أنّه صار في الشدّة, والهول مثل ذلك.ومن هذا حديث عبدالله بن الصامت, قال: أسرع الأرض خراباً؛ البصرة ومصر, وقيل: وما يخرِّبهما؟ قال: القتل الأحمر, والجوع الأغبر, قال: الأصمعي: يقال هذه وطاة ـ حمراء إذا كانت جديدة, ووطأة دهماء ـ إذا كانت دارسة...»(31).

وشرح الرضي غريب هذا السياق أيضاً بقوله: «وقوله: (إذا احمرّ البأس) كناية عن اشتداد الأمر؛ وقد قيل في ذلك أقوال؛ أحسنها؛ أنّه: شبّه حمي الحرب بالنار التي تجمع الحرارة, والحمرة بفعلها, ولونها..»(32).

وقول الرضي: (وقد قيل في ذلك أقوال), دالٌّ على غرابة سياق هذه الكناية ولو لم تكن كذلك لَمَا قيل في معناها (أقوال). ثم يرجّح القول الصائب في رأيه بقوله: (أحسنها أنّه شبّه...).

قلتُ: لمّا كان (البأس): الشدّة في الحرب(33), فكيف تحمرّ الشدّة؟ ولا تكون كذلك إلاّ إذا كانت (الشدّة) هي: الحرب, وهذا يعني: كثرة الحرب فيها فتكون حمراء, والتعبير هنا مجازي. لكن معنى الشدّة: «هو الحملة في الحرب»(34). فإذن يمتنع معنى (الشدّة) للحرب. و هنا يجوز أن يكون قول الرضي: (شبّه حمي الحرب, بوصف ـ الحمي ـ شدّة الحرب, ولم يقل الرضي هذا, وإن قاله, فهو لا يجوز أيضاً, لأنّ المعاجم لم تنقل لنا (الحملة) إلاّ في معنى (الشدّة)(35).

وأنا أتفق مع الشارح بأنّ معنى البأس هو الحرب نفسها(36), وهذا المعنى من قوله ـ تعالى ـ: ((وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ))(37). وفي اللفظ؛ حذف مضاف تقديره: (إذا احمرّ موضع البأس) وهو؛ ساحة ميدان معركة القوم, وجاء احمرارها من ما يسيل عليها من الدم.

وجاء في هذا المعنى حديث النبي (ص) : «الفَقْرُ هُوَ المَوْتُ الأحْمَرُ»(38), ويعني: القتل لما فيه من حمرة الدم, أو لشدّته يقال: موتٌ أحمر, أي : شديد, وفيه أيضاً قوله (ص) : «سَتَلْقى أُمَّتِي مَوْتاً أحْمَراً»(39), أي شديد, وكثيراً ما يطلقون الشدّة على الحمرة, ومنه: «سنةٌ حمراء»(40), أي شديدة.

فقد أراد الإمام (ع) التعبير عن الحرب المروِّع, والقتل الذي يريق الدماء, لا بصريح اللفظ, بل بنسبة أوصافه وتأكيده بـ(الاحمرار), كناية عن اشتداد الحرب وعضاضها, فقد أثبت أمراً لأمر, وهو (اشتداد الحرب) وأصدائه بقرع القلوب بأهواله, ووقعه, وذلك تفخيم لمعنى (الاشتداد) وتعظيم شأنه, وهنا تُخصّص الصفة بالموصوف, بوساطة طرف آخر.

فالصفة هي (الاشتداد), والموصوف الحرب ـ البأس ـ والطرف الثالث, هو: (الاحمرار) في ما يبدو لي. وذلك هو كناية النسبة.

وغرابة هذه الكناية جاءت من كثرة وسائطها, فاكتساء السلاح بالدم, بسبب كثرة عضاض الحرب ـ أي جراحها ـ ولا تتمّ الجراح إلاّ بالسلاح, فيحمر السلاح, وبكثرة الجرحى, خاف المسلمون الهزيمة فهرعوا ـ فزعوا ـ إلى رسول الله (ص) يستنجدون به, ليقاتل, فيجتمعون بقتاله, ويأمنون شرَّ الهزيمة ببركته.

لحظنا كيف أثرت غرابة هذه الكناية في النظم فَغَرُبَ سياقه.

ومن نافلة القول؛ إنّ كناية الإمام هذه جاءت مقابلة لكناية النبي حينما رأى مجتلد الناس يوم (حُنين), وهي: حرب هوازن فقال (ص) : «الآن حَمِيَ الوَطِيْسُ...»(41). وشرح الرضي هذا بقوله : «والوطيس : مستوقد النار ...»(42).

قلتُ: إنّه لمّا كان الوطيس: «الضرب الشديد بالخف وغيره»(43), كانت دلالة هذه الكناية على اشتداد الحرب, واحتدام حركة الفرسان, والخيل أبلغ, لأنّ حوافر الخيل في احتدامها, تضرب بشدة, الأرض التي تطأوها, فيسخن فيه الحصى, في حين يبقى هذا الحصى بارداً, إذا لم تطأه حوافر الخيل.

وشبيه بهذا قول الإمام, حينما أراد أن يحثَّ فيه أصحابه على الجهاد؛ قال: «واللهُ مُستَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ, ومُوَرِّثكُمْ أمْرَهُ, ومُمْهلُكم في مِضْمارٍ محدودٍ, لِتتَنازَعوا سَبَقَهُ, فَشُدوا عُقَد المآزر, واْطوُوا فُضُولَ الخَواصِرِ, لا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَوَلِيمَةٌ, ما أنْقَضَ النَّوَم, لِعَزَائِمِ اليَوْمِ, وأمْحَى الظُّلَم, لِتَذَاكِيرِ الهِمَمِ!»(44).

قوله: (مستأديكم): أي طالب منكم أداء ذلك, والقيام به, وقوله: (مورثكم أمره): أي سيرجع أمر الدولة إليكم, ويزول ملك بني أمية.

ثم شبّه الآجال التي ضربت للمكلفين ليقوموا فيها بالواجبات, ويتسابقوا فيها إلى الخيرات, بالمضمار المحدود لخيل تتنازع فيه السبق(45).

وفي الكنايات الآتية, غرابة جاءت من تعدد وسائطها للوصول إلى معناها الأخير أولاً, ومن ابتكار هذه المعاني ثانياً.

قوله: (فشدّوا عقد المآزر)، كناية عن الأمر بالتشمير والاجتهاد في طاعة الله ـ عز وجل ـ والاستعداد لها. فشمِّروا عن ساق الاجتهاد, ويقال لمن يوصى بالجدّ والتشمير «اشدد عقدة أزارك»(46), لأنّه إذا شدّها, كان أبعد عن العثار, وأسرع للمشي, فلا عائق يعوق حركته, ومن هذه الحركة؛ الحرب في سبيل الله.

وقوله: (واطووا فضول الخواصر)، وهي كناية عن الأمر بترك, ما يفضل من متاع الدنيا, والأخذ على قدر الحاجة من ألوان الطعام والملابس.

والأصل في هذا النظم؛ أنّ الخواصر والبطون, لها احتمال في أن تتسع لِمَا فوق قدر الحاجة من المأكول, فذلك القدر المتسع؛ هو فضول الخواصر، وكنّى لطييها عمّا ذكرناه, إذ كان من لوازم ذلك الطي, ترك الفضول, والزيادة في الأكل والشرب.

وقوله: (لا تجتمع عزيمة ووليمة)؛ العزيمة؛ الإرادة الجازمة للأمر بعد اختياره(47), وأراد بها هنا؛ العزيمة على اقتناء الفضائل واكتسابها, وكنى بالوليمة, وهي طعام العرس, ونحوه, عن خفض العيش والدعة لاستلزام الوليمة لذلك.

والمعنى: أنّ العزيمة؛ على تحصيل المطالب الشريفة وكرائم الأمور, ينافي الدعة, وخفض العيش؛ لا يحصل مع الهوينا, لِمَا يستلزمه تحصيل تلك المطالب, والعزم عليها, من المشاق, وإتعاب النفس, وكذلك البدن, بالرياضة والمجاهدة المنافية للدعة والراحة, ثم أكّد ذلك بقوله: (ما أنقض النوم لعزائم اليوم).

والأصل في هذه الكناية ـ الثانية ـ: أنَّ الإنسان يعزم في النهار على المسير في الليل, ليقرب المنزل, فإذا جاء الليل نام إلى الصباح, فانتقض بذلك عزمه, فضُرِب هذا القول مثلاً لِمَنْ يعزم على تحصيل الأمور الكبار, والسعي فيها, ثم يلزم الأناة والدعة, ومراده: أنكم مع هذه الدعة, وحب الراحة من المتاعب, والجهاد لا تتمّ لكم ما تريدونه, وتعزمون عليه من تحصيل السعادة في دنيا وآخره, وكذلك قوله: (وأمحى الظلم لتذاكير الهمم).

فالأصل في هذه الكناية: أنَّ الرجل تبعثه همته في مطالبه على المسير في الليل, فإذا جنّ الظلام, أدركه الكسل, وغلبه حب النوم عن تذكّر مطالبه, وصرفه عنها, فكان الظلام سبباً لمحو ذلك التذكّر, فضرب مثلاً, لمن يدعوه الداعي إلى أمر, ويهتمّ به, ثم يعرض له، أدنى أمر, فينصرف به عنه.

ومعنى السياق الكلّي في هذا النصّ بما احتواه من الكنايات؛ أنّه: لا يجتمع لكم دخول الجنة والدعة والقعود عن مشقة الحرب.

ومما يعضد رأي هذا؛ في ابتكار هذه المعاني اللطيفة والالتفات إليها؛ قول الشارح: «ثم أتى (ع) بثلاثة أمثال مخترعة له, لم يُسبق بها, وإن كان قد سبق: بمعناها, وهو قوله: (لا تجتمع عزيمة ووليمة)، وقوله: (ما أنقض النوم لعزائم اليوم), وقوله: (وأمحى الظلم لتذاكير الهمم!»(48).

هذه غرابة الكناية التي أثّرت في معنى نظمها, فجاء السياق غريباً, وغرابتها ؛ إنَّما جاءت من تعدد الوسـائط, وبُعْدها , ومن ابتكار معانيها المبتدعة.

فكيف إذا ما تعدّد كل ما درسته في هذا البحث من غرابة (للنهج) في نصٍّ واحد, أتحصل غرابة في المعنى العام له أو لا؟ هذا ما سيعقده المبحث الثاني من الفصل الأخير من هذه الدراسة, إن شاء الله.

***

 

الهوامش

(1) ينظر: الإيضاح: 2/468.

(2) ينظر: مختار العقد الفريد: 98, وينظر أيضاً: (جواهر البلاغة): 37.

(3) ينظر: تداعي المعاني في (دراسات في علم النفس الأدبي): 46, وفي (فنون بلاغية): 381.

(4) ينظر: القاموس المحيط (ك/ن/ي): 220.

(5) ينظر: مجاز القرآن: 1/73, و(البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن): 105, و(نهاية الإرب): 7/59.

(6) الزمر: 67.

(7) طه: 5.

(8) ينظر: دلائل الإعجاز: 70.

(9) هذا المعنى في: (علم البيان لعبد العزيز عتيق): 224.

(10) المائدة/75.

(11) الرجز في (المقاييس), و( اللسان): 1/40, 7/ 102.

(12) ورد هذا البيت في (المقاييس) (أ/ب/ل): 1/40, وقد ورد في (اللسان) أيضاً (أ/ب/ل): 5/95: حتى سقوا آبالهم بالنار... ولم ينسبه كل من ابن فارس وابن منظور, غير أن الأخير قال في شرحه للبيت «أي سقوا إبلهم بالسمة, أي: إذا نظروا في سمة صاحبه فسقى وقدم على غيره لشرف أرباب تلك السمة , وخلوا لها الماء».

(13) ينظر: الإيضاح: 2/456.

(14) ينظر: المصدر نفسه: 2/459.

(15) ينظر: العمدة: 1/282.

(16) ص/23.

(17) شرح النهج: 5/14, روي هذا الكلام موثقاً للإمام في (الكامل): 2/120, و(مروج الذهب): 2/416, و(المحاسن والمساوئ): 385... .

(18) شرح النهج: 5/14.

(19) ينظر: مختار الصحاح (ق/ر/ر): 528.

(20) هود/6.

(21) ينظر:تفسير القرآن الكريم:222.

(22) ينظر: القاموس المحيط (ق/ر/ر):429.

(23) شرح النهج/9/268. رويت مصادر هذه الخطبة في فصل التشبيه, (المبحث الأول) من هذا الباب.

(24) شرح النهج/9/278.

(25) القاموس المحيط (أ/و/ر):322.

(26) ينظر: الإيضاح:2/462.

(27) البرهان الكاشف:105.

(28) القارعة/1ـ 3.

(29) شرح النهج:19/116, رويت موثقة النسبة, وضبطت وقيدت للإمام في (غريب الحديث) للقاسم بن سلام:3/479, وفي (تاريخ الطبري):2/135, وفي (العقد الفريد):2/234, وفي (النهاية):1/89, 1/439.

(30) ينظر: (غريب الحديث) للقاسم بن سلام : 3/479, و(النهاية):1/89, 1/439, و... .

(31) غريب الحديث: 3/480.

(32) شرح النهج: 19/116.

(33) ينظر: القاموس المحيط (ب/أ/س): 492.

(34) القاموس المحيط: (ش/د/د): 277.

(35) ينظر: مختار الصحاح, و(القاموس المحيط), و(مجمع البحرين), (ح/م/ر):156, 908 , 1/577, وينظر: أيضاً: (القاموس المحيط), و(مجمع البحرين) (ش/د/د): 277, 2/491.

(36) ينظر: شرح النهج: 19/116.

(37) سورة البقرة/177.

(38) مجمع البحرين (ح/م/ر): 2/572، ترتيب محمود عادل.

(39) المصدر نفسه: 2/572.

(40) م. ن: 2/572.

(41) مسند أبي يعلى: 6/289.

(42) شرح النهج: 19/116.

(43) القاموس المحيط (و / ط / س): 536.

(44) شرح النهج:11/142, رويت موثقة للإمام في(غرر الحكم):308, وذكر الشارح هذه الخطبة: (والله مستأديكم ... في مضمار ممدود...) وقد رجعت إلى ما وصلت إليه يدي من الشروح ونسخ النهج المخطوطة بما فيها النسخة المخطوطة التي إعتمدها الشارح فوجدت الخطبة بعبارة: (... مضمار محدود...) وليس (ممدود) فضلاً عن أن معنى (المضمار) هنا؛ هو المدة المحددة من الزمان, فكيف يكون (ممدود)؟, ينظر:(القاموس المحيط) (ض/م/ر): 400.

(45) ينظر: شرح النهج: 11/142.

(46) المستطرف: 2/211.

(47) ينظر: القاموس المحيط (ع/ز/م): 1048.

(48) شرح النهج : 11/ 143.