ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان
قال الحافظ ابن شهر آشوب السروي (ره): ذكر الجاحظ في كتاب العزة أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى معاوية (1): غرك عزك، فصار قصار ذلك ذلك (2) فاخش فاحش فعلك فعلك تهدأ بهذا (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا نقل بالمعنى، وليس بنص كلامه، إذ لم يحضرني المناقب الآن وانما نقلته عن مسودتي عنه سابقا، وقد كنت نقلت عبارته بالمعنى.
(2) القصار - بفتح القاف وضمها أيضا كالقصر - على زنة الفلس والقصارى - بضم القاف وفتح الراء -: الجهد والغاية.
يقال: (قصرك أو قصارك أو قصارك أو قصاراك أن تفعل كذا) أي غاية جهدك وآخر أمرك وكل مستطاعك هو أن تفعل كذا.
(3) كذا في البحار نقلا عن المناقب، وفى النسخة المطبوعة من المناقب في (قم): (فأخش فاحش فعلك، فعلك تهدي بهذا). وكتب في هامشه: وفى نسخة: (تهدا بهذا).
[166]
مناقب آل ابي طالب: ج 2 ص 48 ط قم، في عنوان: (المسابقة بالعلم).
وقريب منه في مطالب السئول ص 176، ط النجف قبيل منظوم كلامه (ع) ورواه عنه في البحار: ج 17، ص 139، الا انه لم يذكر انه (ع) كتب به إلى معاوية.
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان أيضا
أما بعد فإن الدنيا حلوة خضرة ذات زينة وبهجة (1) لم يصب إليها أحد إلا وشغلته بزينتها عما هو أنفع له منها (2) وبالآخرة أمرنا، وعليها حثثنا، فدع - يا معاوية - ما يفنى، واعمل لما يبقى، واحذر الموت الذي إليه مصيرك، والحساب الذي إليه عاقبتك، واعلم أن الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي ان الدنيا بحلاوتها واخضرار غصونها ونضارتها تغر أهلها وتخدعه. أقول: الخضر - ككتف -: الاخضر والمؤنث خضراء. والبهجة - بفتح فسكون -: الحسن. النضارة. السرور. وقوله (ع): (ذات زينة وبهجة) كالتفسير لقوله: (خضرة) فان الخضرة في حد ذاتها مما يبتهج به الانسان ويعدها زينة ويتزين بها.
(2) يقال: (صبا يصبو صبوة وصبوة وصبوا كفلسة وقفلة وعتوا) إليه وله: مال وحن إليه. والذي هو أنفع للذي شغلته الدنيا بزينتها هو الدعة في الدنيا وسلامة آخرته من الزوال، وبراءة ساحته من الوزر والوبال.
[167]
إذا أراد بعبد خيرا حال بينه وبين ما يكره، ووفقه لطاعته، وإذا أراد الله بعد سوءا أغراه بالدنيا وأنساه الآخرة، وبسط له أمله وعاقه عما فيه صلاحه (3).
وقد وصلني كتابك فوجدتك ترمي غير غرضك، وتنشد غير ضالتك، وتخبط في عماية، وتتيه في ضلالة وتعتصم بغير حجة، وتلوذ بأضعف شبهة (4).
فأما سؤالك المتاركة والاقرار لك على الشام، فلو كنت فاعلا ذلك اليوم، لفعلته أمس.
وأما قولك إن عمر ولا كه. فقد عزل من كان ولاه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) يقال: (أغرى الرجل بكذا): حضه عليه. وغراه وغرءا وغرا - على بناء المجهول من باب علم وفعل وأفعل -: اولع به. ويقال: (عاقه يعوقه عوقا - كقاله قولا - وعوقه تعويقا وأعاقه اعاقة واعتاقه اعتياقا) عن كذا: صرفه وثبطه وأخره عنه.
(4) يقال: (نشد من باب ضرب ونصر، والمصدر على زنة الضرب والانسان والنعمة: - نشدا ونشدانا ونشدة الضالة): نادى وسأل عنها وطلبها. عرفها. ويقال: - (خبط الشئ - من باب ضرب - خبطا): وطئه شديدا. وخبط الليل: سار فيه على غير هدى. يقال: انه يخبط خبط عشواء: يتصرف في الامور على غير بصيرة. والعماية والعمية والعمية والعماءة - كسحابة وأذية ورقية وسماحة -: الغواية. اللجاج.
[168]
صاحبه (5) وعزل عثمان من كان عمر ولاه، ولم ينصب للناس إمام إلا ليرى من صلاح الامة ما قد كان ظهر لمن [كان] قبله، أو أخفى عنهم عيبه (كذا) والامر يحدث بعده الامر، ولكل وال رأي واجتهاد.
فسبحان الله ما أشد لزومك للاهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة (6)، مع تضييع الحقائق، واطراح الوثائق التي هي لله تعالى طلبة (7) وعلى عباده حجة.
فأما إكثارك الحجاج على عثمان وقتلته (8) فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك (9) وخذلته حيث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) الضمير في (عزل) و (صاحبه) عائد إلى عمر أي فقد عزل عمر ولاة صاحبه: أبي بكر.
(6) وفى بعض الروايات: (والحيرة المتعبة) من قولهم: (أتعبه): ادخله في التعب.
(7) الوثائق: جمع الوثيقة - مؤنث الوثيق: المحكم -: ما يعتمد به. الاحكام في الامر. والطلبة - بفتح الطاء وكسر اللام كفرحة -: ما يطلب. وبكسر الطاء وسكون اللام: الاسم من المطالبة، يقال: (طالبة طلابا ومطالبة): طلب منه حقا له عليه. والاسم الطلب - كفرس - والطلبة - كعبرة -.
(8) الحجاج: المخاصمة والمجادلة، وهو مصدر قولهم: (حاجه محاجة وحجاجا): نازعة. وفى النهج: (فأما اكثارك الحجاج في عثمان وقتلته) الخ.
(9) وهو طلب دمه مكرا وخدعة لتتخذه ذريعة لجمع الناس إلى غرضك وبلوغ شهواتك من الرئاسة والسيطرة على أموال المساكين، وأعراض الغرة من المسلمين، واما حيث كان النصر يفيده وهو حي يستنصرك ويستغيث بك فقد خذلته وأبطأت عنه.
قال ابن أبي الحديد - في شرح هذا الكتاب ج 16، ص 154 -: روى البلاذري قال: لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده، بعث (معاوية) يزيد بن أسد القسري - جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق - وقال له: إذا أتيت ذا خشب فأقم بها ولا تتجاوزها ولا تقل: الشاهد يرى مالا يرى الغائب، فانني أنا الشاهد وأنت الغائب قال (البلاذري) فأقام (يزيد بن أسد القسري) بذي خشب حتى قتل عثمان، فأستقدمه حينئذ معاوية، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان ارسل معه، وانما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه.
وكتب معاوية إلى ابن عباس - عند صلح (الامام) الحسن عليه السلام له - كتابا يدعوه فيه إلى بيعته ويقول له فيه: (ولعمري لو قتلتك بعثمان رجوت ان يكون ذلك لله رضا، وان يكون رأيا صوابا، فانك من الساعين عليه والخاذلين له، والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ولا بيدك أمان).
فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا يقول فيه: (وأما قولك: (اني من الساعين على عثمان، والخاذلين له والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني) فأقسم بالله لانت المتربص بقتله، والمحب لهلاكه، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذرا بأجرة (كذا) وأنت تعلم انهم لن يتركوه حتى يقتل، فقتل كما كنت أردت، ثم علمت عند ذلك ان الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه وتقول: قتل مظلوما.
فان يك قتل مظلوما فأنت اظلم الظالمين، ثم لم تزل مصوبا ومصعدا وجاثما ورابضا تستغوي الجهال، وتنازعنا بالسفهاء حتى ادركت ما طلبت (وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) 111 / الانبياء: 21).
[169]
كان النصر له، والسلام.
شرح المختار (37) من كتب نهج البلاغة، من شرح ابن أبي الحديد: ج 26 / 153 / وفي ط ج 4 ص 57، ونقله عنه، تحت الرقم (441) من جمهرة الرسائل.
[170]
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان أيضا
نصر بن مزاحم المنقري (ره) عن عمر بن سعد [الاسدي] عن أبي روق، ان ابن عمر بن مسلمة الارحبي أعطاه كتابا في امارة الحجاج بكتاب من معاوية إلى علي (1).
قال: وان أبا مسلم الخولاني (2) قدم إلى معاوية في أناس من قراء اهل الشام [قبل مسير أمير المؤمنين عليه السلام إلى صفين] فقالوا [له]: يا معاوية علام تقاتل عليا وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته.
؟ قال لهم: ما أقاتل عليا وأنا ادعي ان لي في الاسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته، ولكن خبروني عنكم ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما.
قالوا: بلي.
قال: فليدفع الينا قتلته فنقتلهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اي أعطاه كتابا كان موسوما ومعروفا بكتاب من معاوية إلى علي (ع).
(2) واسمه عبد الله بن ثوب - بضم المثلثة وفتح الواو، وقيل باشباع الواو - وقيل: ابواثوب - بوزن احمر - ويقال: ابن عوف، وابن مشكم. ويقال: اسمه يعقوب بن عوف. والخولاني نسبة إلى خولان - بفتح الخاء -: احدى قبائل اليمن، انظر ترجمته من تاريخ دمشق: ج 28 ص 39، وتقريب التهذيب 612، والمعارف 194.
[171]
به، ولا قتال بيننا وبينه.
قالوا: فأكتب [إليه] كتابا يأتيه [به] بعضنا.
فكتب [معاوية] إلى علي هذا الكتاب، مع أبي مسلم الخولاني، فقدم به إلى علي (ع)، [فلما قدم أبو مسلم بالكتاب إلى علي عليه السلام فدفع إليه] ثم قام أبو مسلم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فانك قد قمت بأمر وتوليته، والله ما أحب أنه لغيرك ان اعطيت الحق من نفسك، ان عثمان قتل محرما مظلوما (3) فأدفع الينا قتلته وأنت اميرنا، فان خالفك أحد من الناس، كانت أيدينا لك ناصرة، وألستنا لك شاهدة، وكنت ذا عذر وحجة.
فقال له علي (ع): أغد علي غدا فخذ جواب كتابك.
فانصرف [أبو مسلم] ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه، فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه، فلبست الشيعة أسلحتها (4) ثم غدوا فملؤوا المسجد وأخذوا ينادون: كلنا قتل ابن عفان [وأكثروا من النداء بذلك] وأذن لابي مسلم فدخل على علي أمير المؤمنين، فدفع إليه جواب كتاب معاوية، فقال له أبو مسلم: قد رأيت قوما مالك معهم أمر.
قال: وما ذاك.
قال: بلغ القوم أنك تريد ان تدفع الينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح، وزعموا (3) محرما: له حرمة وذمة، أو أراد انهم قتلوه في آخر ذي الحجة.
وقال أبو عمرو: أي صائما.
ويقال: أراد لم يحل بنفسه شيئا يوقع به فهو محرم.
وبكل هذه التأويلات فسر بيت الراعي الذي أنشده صاحب اللسان: 15 / 13:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما * ودعا فلم أر مثله مقتولا
وانظر خزانة الادب: 1 / 503 - 504.
كذا في هامش كتاب صفين.
(4) وكان في طليعتهم جماعة من المهاجرين والانصار، من الذين بايعوا النبي تحت الشجرة، وهم الذين أطلع الله إليهم وقال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم.
إلى غيرذلك مما رواه اخواننا في حق اهل بدر من المهاجرين والانصار.
[172]
أنهم كلهم قتلة عثمان.
فقال علي: (والله ما أردت ان ادفعهم اليك طرفة عين، لقد ضربت هذا الامر أنفه وعينه، ما رأيته ينبغي لي ان ادفعهم اليك ولا إلى غيرك).
فخرج [أبو مسلم] بالكتاب وهو يقول: الآن طاب الضراب.
وكان كتاب معاوية إلى علي عليه السلام.
بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، سلام عليك، فاني احمد اليك الله الذي لا إله الا هو.
أما بعد فان الله اصطفى محمد بعلمه، وجعله الامين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام، فكان أفضلهم في اسلامه، وانصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده، وخليفة خليفته، والثالث الخليفة المظلوم عثمان، فكلهم حسدت، وعلى كلهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وفي قولك الهجر، وفي تنفسك الصعداء، وفي ابطائك عن الخلفاء، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتى تبايع وانت كاره (5) ثم لم تكن لاحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) يقال: (شزر - من باب ضرب - شزرا الرجل واليه): نظر إليه بجانب عينه مع اعراض أو اغضب: وهذا بحسب الخارج يكون من أنحاء نظر العدو إلى عدوه. والهجر - كقفل -: الكلام القبيح. الافحاش في النطق، الاسم من الاهجار، يقال: (اهجر بفلان اهجارا) استهزأ به وقال فيه قولا قبيحا. و (تنفس الصعداء): التنفس الطويل الممدود الذي يخرجه جريح القلب من رئته القريحة وفؤاده المحروق. و (الفحل): الذكر من كل حيوان. ويستعار غالبا ويستعمل في الجمل لظهور قوته ومهيب صولته إذا سكر أو ابي عن الانقياد. و (المخشوش): الذي جعل في أنفه الخشاش - بكسر الخاء - وهو عود يجعل في عظم أنف الجمل - ويقال له بالفارسية (مهار) على زنة نهار - وهذه الاعترافات من معاوية وأشباهه - مما تعاضدها الشواهد الكثيرة، والآثار المتواترة الجمة الغفيرة مما تجعل اساس معاوية - ومن وطده وزرعه له ومن سقاه ورباه - كشفا جرف هار.
[173]
منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان، وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك في قرابته وصهره، فقطعت رحمه وقبحت محاسنه وألبت الناس عليه، وبطنت وظهرت حتى ضربت إليه، آباط الابل، وقيدت إليه الخيل العراب (6) وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله، فقتل معك في المحلة، وأنت تسمع في داره الهائعة (7) لا تردع الظن والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل، فأقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا (8) ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه، وأخرى أنت بها عند انصار عثمان ظنين (9): ايواؤك قتلة عثمان، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك، وقد ذكر لي أنك تنصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) ألبت عليه - من باب أفعل -: افسدت عليه. ويقال: (ألب - من باب ضرب ونصر - ألبا - كضربا - وألب البابا): جمع. وألب ألبا - من باب نصر - وتألب تألبا): تجمع وتحشد. و (قيدت): جرت وسيقت. و (الخيل العراب): كرائم سالمة عن الهجنة. ومثله (الابل الاعرب والخيل الاعرب) على زنة أفلس -.
(7) الهائعة: الصيحة، يقال: هاع يهاع هوعا): جزع. القوم بعضهم إلى بعض: هموا بالوثوب. و (المهوع) و (المهواع): الصياح في الحرب.
(8) يقال: (نهنهه عن الشئ - من باب فعلل نهنهة): كفه عنه وزجره بالفعل أو القول.
وهذا القول من معاوية مما أجمع على كذبه جميع المحدثين والمؤرخين حتى أنصار معاوية، فان أمير المؤمنين (ع) ذب عن عثمان مرارا الا أن اعمال عثمان ولعب بني أبيه بالدين والمسلمين جر إليه الويلات.
(9) الظنين: المتهم.
المعادي لسوء ظنه ولسوء الظن به.
[174]
من دمه (10) فان كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به ونحن أسرع الناس اليك (11) والا فانه ليس لك ولا لاصحابك الا السيف، والله الذي لا إله الا هو لنطلبن قتلة عثمان، في الجبال والرمال والبر والبحر، حتى يقتلهم الله، أو لتلحقن أرواحنا بالله، والسلام.
[فلما قرأ امير المؤمنين عليه السلام كتابه، أجابه وكتب إليه بما لفظه]: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان.
أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وما أنعم الله به (ظ) عليه من الهدى والوحي، والحمد الله الذي صدقه الوعد (12) وتمم له النصر، ومكن له في البلاد، وأظهره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) بطانة الرجل: أهله وخاصته. ويقال: (تنصل زيد إلى فلان من الجناية): خرج وتبرأ عنده منها. و (نصل - من باب نصر، ومنع، والمصدر - كفلس -: نصلا ونصولا وتنصل من كذا): خرج.
(11) لو كان امير المؤمنين (ع) يحيي عثمان بما أعطاه الله من استجابة دعواته وخوارق عاداته ومعجزاته، وعثمان وجميع البرية يدعون معاوية إلى بيعة أمير المؤمنين (ع) ما كان معاوية يبايع مع مظاهرته بطغام اهل الشام - ومنافقي اصحابه - على باطله وغيه.
(12) وفى العقد الفريد: (فالحمد لله الذي صدقه) الخ وهو اظهر. ومثله في شرح ابن ابي الحديد، الا ان فيه: (وايده بالنصر).
[175]
على أهل العداء (13) والشنآن من قومه الذين وثبوا به وشنفوا له (14) وأظهروا له التكذيب، وبارزوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه وأهله، وألبوا عليه العرب وجامعوهم على حربه (15) وجهدوا في أمره كل الجهد، وقلبوا له الامور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون (16) وكان أشد الناس عليه ألبة [تأليبا وتحريضا خ] (17) أسرته والادنى فالادنى من قومه إلا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) وفى العقد الفريد: (ومكنه في البلاد، واظهره على الاعادي من قومه الذين اظهروا له التكذيب، ونابذوه بالعداوة) الخ وفى شرح ابن أبي الحديد: (وأظهره على اهل العداوة) الخ.
(14) الشنآن - كرمضان -: الحقد. ويقال: (شنف - من باب فرح - شنفا) فلانا ولفلان: أبغضه. والمصدر على زنة الفرح.
(15) وفى العقد الفريد: (والبوا عليه العرب، وحزبوا الاحزاب حتى جاء الحق وظهر أمر الله) الخ أقول: ألبوا عليه العرب: أفسدوهم عليه، حشدوهم وجمعوهم على حربه. و (حزبوا الاحزاب): جمعوا الاحزاب.
(16) وفى شرح ابن أبي الحديد: (حتى جاء الحق وظهر أمر الله) الخ.
(17) بين المعقوفين مأخوذ من شرح ابن أبي الحديد، وهو أظهر مما في كتاب صفين: (ألبة) وكأنه مصدر من قولهم: (ألب - من باب ضرب ونصر - ألبا): تجمع وتحشد.
[176]
عصمه الله (18).
يا بن هند فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا، ولقد قدمت فأفحشت إذ طفقث تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (19) وفينا، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر، أو كداعي مسدده إلى النضال.
وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم (20) فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام، فكان أفضلهم - زعمت - في الاسلام، وأنصحهم لله ورسوله الخليفة، وخليفة الخليفة، ولعمري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) من قوله: (يا بن هند - إلى قوله - إلى النضال) غير موجود في نسخة ابن أبي الحديد، والعقد الفريد.
(19) هكذا صنيع ملقدة ابن الزبير - ومن على رأيه - في نقل الصلوات، قوله (ع): (فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا) أي لقد ادخر لنا الدهر عجبا، وبخل به عن غيرنا وستره عنه، وهو اخبارك اياي بما صنع. و (مسدد): معلم الرمي. و (النضال، كالمناضلة: المرامات.
(20) وفى العقد الفريد: (وذكرت أن الله اختار من المسلمين اعوانا ايده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام، فكان افضلهم (بزعمك - في الاسلام وانصحهم لله ولرسوله الخليفة) الخ.
[177]
إن مكانهما من الاسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لجرح في الاسلام شديد (21)، رحمهما الله وجزاهما باحسن الجزاء.
وذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا [تاليا خ] فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه (22)، وإن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره.
ولعمر الله إني لارجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الاسلام، ونصيحتهم لله ورسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الاوفر (23).
إن محمدا صلى الله عليه [وآله] (24) وسلم، لما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) أي ان الذي أصاب الناس في الاسلام بواسطتهما ومن أجلهما شديد. وفى نسخة ابن ابي الحديد: (فرحمهما الله وجزاهما بأحسن ما عملا).
(22) وفى العقد الفريد: (فان كان محسنا فسيلقى ربا شكورا يضاعف له الحسنات ويجزيه الثواب العظيم) الخ.
(23) وفى العقد الفريد: (ولعمري اني لارجو إذا الله اعطى (في) الاسلام أن يكون سهمنا اهل البيت أوفر نصيب) الخ.
(24) بين المعقفتين مأخوذ من نسخة ابن أبي الحديد، وهو الظاهر، وكذا كلمة: (له) التالية.
[178]
دعا إلى الايمان بالله والتوحيد [له] كنا أهل البيت أول من آمن به، وصدق بما جاء به (25) فلبثنا أحوالا محرمة وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا (26).
فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الافاعيل، فمنعونا الميرة وأمسكوا عنا العذب، وأحلسونا الخوف (27) وجعلوا علينا الارصاد والعيون، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب (28) وكنبوا علينا بينهم كتابا لا يواكلونا ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) وأما غير أهل البيت من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم فهم كانوا مؤمنين بالاصنام في تلك الحال، مصدقين بالاوثان في ذلك الزمان، متقربين إلى الجبت والطاغوت في هذا الاوان وأقواله (ع) في هذا المعنى كثيرة وشواهدها وفيرة.
(26) الاحوال جمع حول وهو السنة، ومحرمة: كاملة و (الربع): المحلة. الدار. والجمع: رباع وربوع وأربع وأرباع كرياح وفلوس وأفلس وارباب.
(27) الاجتياح: الاستيصال.
والميرة: - بكسر فسكون كعبرة -: الطعام الذي يدخره الانسان، والجمع مير، كعبرة وعبر.
والمراد - هنا - مطلق الطعام، كما أن المراد من (العذب) مطلق ماء الشرب.
و (احلسونا الخوف) جعلوا الخوف ملازما لنا بقيامهم جميعا على لوازم المعاداة.
(28) وهذا الكلام - إلى قوله: (كافرنا يحامي عن الاصل) رواه باختلاف طفيف، أبو جعفر الاسكافي: محمد بن عبد الله المتوفى سنة 240 - على ما قيل - في كتابه المعروف ب - نقض العثمانية) وحكم بمعروفيته، كما في شرح المختار (238) من خطب نهج البلاغة من شرح ابن أبي الحديد: 13 / 254.
ورواه مع كثير مما بعده في المختار الثامن من كتب النهج. والارصاد جمع الرصد: العين والمراقب. والوعر والوعر والوعير - كفلس وكتف وشريف -: المكان الصلب ضد السهل. يقال: (مكان وعر وطريق وعر ومطلب وعر): خشن وصعب وعسير غير سهل. ويجمع الجميع على أوعار وغيره. و (الاوعر - ككوثر - مثلها معنى).
[179]
يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا، ولا نأمن فيهم حتى ندفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقتلوه ويمثلوا به، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم، فعزم الله لنا على منعه، والذب عن حوزته، والرمي من وراء حرمته والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب، وكافرنا يحامي عن الاصل (29) فأما من أسلم من قريش بعد (30) فإنهم مما نحن فيه أخلياء، فمنهم حليف ممنوع، أوذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن فكان ما شاء الله أن يكون،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) المراد من الكافر منهم هو من اسلم بعد انقضاء أمر (شعب أبي طالب).
(30) كأبي بكر وعمر وعثمان وأقرانهم وجميع المسلمين من غير بني هاشم.
[180]
ثم أمر الله رسوله بالهجرة، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين، فكان إذا احمر الباس ودعيت نزال (31) أقام أهل بيته فاستقدموا فوقي بهم أصحابه حر الاسنة والسيوف، فقتل عبيدة (32) يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة، وأراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة إلا أن آجالهم عجلت، ومنيته أخرت، والله مولى الاحسان إليهم والمنان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات، فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله، ولا أطوع لرسوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) النجوة - كضربة -: ما ارتفع من الارض. والجمع نجاء - كبغلة وبغال - يقال: (انه من الامر بنجوة) إذا كان بعيدا منه بريئا سالما. و (إذا احمر البأس): إذا اشتد القتال واشتبك أظفار القرن بقرنه. و (دعيت نزال): دعت الدعاة كل واحد من المتحاربين أن انزلوا عن متن الخيل والابل وحاربوا راجلا، يقال: (نازله منازلة ونزالا) في الحرب: نزل في مقابلته وقاتله. و (حاربوا بالنزال): نزل الفريقان عن أبلهما إلى خيلهما فتضاربوا. ومثله (تنازل القوم) ويجئ أيضا بمعنى: نزلوا إلى ساحة القتال فتضاربوا.
(32) هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.
[181]
في طاعة ربه، ولا أصبر على اللاواء والضراء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هؤلاء النفر الذين سميت لك (33) وفى المهاجرين خير كثير نعرفه [يعرف خ] جزاهم الله بأحسن أعمالهم.
وذكرت حسدي الخلفاء، وإبطائي عنهم، و بغيي عليهم.
فأما البغي فمعاذ الله أن يكون (34) وأما الابطاء عنهم والكراهة [والكراهية خ] لامرهم فلست
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) وهذا هو القول الفصل الذي يعترف به ويراه عيانا كل من له ادنى المام بسيرة المهاجرين من بدء الاسلام إلى انقضاء آجالهم، فليشرق أبناء معاوية وابن النابغة أو يغربوا فان بضاعة سلفهم مزجاة عن الخيرات، والدليل القاطع الذي يعرفه كل أحد هو كفهم وبخلهم عن الصدقة لما نزلت: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) فأمسك الجميع الا أمير المؤمنين (ع) بأتفاق الجميع.
(34) إذ البغي هو الظلم، وعصيان الله تعالى والعدول عن الحق، وطلب حق الغير والاستيلاء عليه بلا طيب نفس صاحبه، وأمير المؤمنين لم يكن كذلك، بل من تقدم عليه أو خالفه كانوا كذلك، حيث ظلموه - بل ظلموا جميع البرية - بغصب حقه، وعصوا الله تعالى الجاعل لخلافته في علي - بحكم آية: (وأولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله) وبحكم حديث يوم الدار، والغدير، والطير، والثقلين، والمنزلة، والسفينة، وغيرها - فمخالفوه عدلوا عن الحق، وطلبوا حقه واستولوا عليه بلا رضى منه (ع).
[182]
أعتذر منه إلى الناس، لان الله جل ذكره لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم (كذا) قالت قريش: (منا أمير).
وقالت الانصار: (منا أمير).
فقالت قريش: (منا محمد رسول لله صلى الله عليه وسلم، فنحن أحق بذلك الامر) فعرفت ذلك الانصار فسلمت لهم الولاية والسلطان، فإذا استحقوها بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم دون الانصار، فإن أولى الناس بمحمد صلي الله عليه وآله وسلم أحق بها منهم، وإلا فإن الانصار أعظم العرب فيها نصيبا، فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا، أو الانصار ظلموا، بل عرفت أن حقي هو المأخوذ، وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم (35).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) ومثله معنى في المختار (28) من نهج البلاغة، وقريب منه ذكره في الفصل (12) من الفصول المختارة: ج 2 ص 75، عنه (ع) وانه أجاب كتاب معاوية وهذا المعنى متواتر عنه وعن أهل بيته (ع) وشيعته، ففي مروج الذهب: ج 2، ص 253، - قبل عنوان الثورة على عثمان -: قال المقداد بن الاسود: ما رأيت مثل ما أوذي به اهل هذا البيت بعد نبيهم، أعجب من قريش - وانما تطولهم على الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله (ص) بعده من أيديهم الخ.
وقريب منه فيه عن عمار (ره).
وقال ابن عباس (ره) في كلام دار بينه وبين عمر - كما في شرح المختار (223) من خطب نهج البلاغة من ابن أبي الحديد،: ج 12، ص 54 - حيث قال له عمر: يابن عباس بلغني انك - لا تزال تقول: أخذ هذا الامر منا (ظ) حسدا وظلما.
فقال له ابن عباس: أما قولك: (حسدا) فقد حسد ابليس آدم فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسود.
وأما قولك: (ظلما) فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ! ثم قال: ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله (ص)، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله (ص): فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.
وفى الفصل (12) من الفصول المختارة: ج 2 / 75، قال: قال الكميت:
يقولون لم يورث ولولا تراثه * لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسلول وحمير * وكندة والحيان بكر وتغلب
ولا انتشلت عضوين منها بجابر * وكان لعبد القيس عضو مورب
ولا انتقلت من خندف في سواهم * ولا اقتدحت قيس بها حين اثقبوا
ولا كانت الانصار فيها أذلة) ولا غيبا عنها إذا الناس غيبوا
هم شهدوا بدرا وخيبر بعدها * ويوم حنين والدماء تصبب
وهم رأموها غير ظئر واشبلوا * عليها يأطراف القنا وتحدبوا
فان هي لم تصلح لحي سواهم * فان ذوى القربى أحق وأوجب
[183]
وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه وتأليبي عليه، فإن عثمان عمل ما [قد] بلغك، فصنع الناس به] ما قد رأيت، وقد علمت [وإنك لتعلم خ] أني [قد خ] كنت في عزلة عنه، إلا أن تتجنى فتجن
[184]
ما بدا لك (36).
وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان، فإني نظرت في هذا الامر، وضربت أنفه وعينيه [وعينه خ] فلم أردفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك، ولا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر، ولا جبل ولا سهل.
وقد كان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر، فقال: أنت أحق بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الامر (37) وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك، أبسط يدك أبايعك.
فلم أفعل، وأنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت، لقرب عهد الناس بالكفر، مخافة الفرقة بين أهل الاسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(36) تتجنى - مضارع تجنى كتولي - يقال: (جانى مجاناة وتجنى عليه): رماه باثم لم يفعله. وقوله: (فتجن ما بدالك) من (أجنه): ستره وأخفاه. اومن (جن من باب مد - جنا وجنونا الشئ): ستره.
(37) وبما أن قول أبي سفيان لم يكن عن خلوص نية فبمجرد ما اطمعه الشيخان في رئاسة البلاد، وقيادة ابنائه على الجيوش، ووهبوا له ما عنده من الصدقات التي جمعها من العشائر، سكت ولم يعد إلى أمير المؤمنين.
[185]
فأبوك كان أعرف بحقي منك، فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك، تصب رشدك، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك، والسلام.
آخر الجزء الثاني من أصل عبد الوهاب من كتاب صفين ص 85 ط 2 بمصر، وفي ط ص 112، ورواه عنه ابن أبي الحديد، في شرح المختار التاسع من كتب نهج البلاغة: ج 15، ص 73 ط مصر، بتحقيق أبي الفضل محمد ابراهيم.
وهذا الكتاب يشترك في قطعة منه مع المختار الثامن من كتب نهج البلاغة.
وقريب منه تحت الرقم (11) من كتاب العسجدة في الخلفاء وتواريخهم، من العقد الفريد: ج 3 ط 2 سنة 1346، في المطبعة الازهرية بمصر.
وقريب منه أيضا رواه الخوارزمي في كتاب مناقب امير المؤمنين ص 175.
وقطعة منه - أو من الكتاب التالي - رواه الشيخ المفيد في الفصل 12، من العيون والمحاسن كما في الفصول المختارة: ج 2 ص 76.
وقال ابن عساكر - في ترجمة معاوية من تاريخ الشام: ج 56، ص 63، - [أخبرنا أبو عبد الله البلخي، أخبرنا احمد بن الحسن بن خيرون، اخبرنا الحسن بن احمد بن ابراهيم، اخبرنا احمد بن اسحاق الطيبي] قال: أخبرنا ابراهيم (38) أخبرنا يحيى، قال: حدثني يعلى بن عبيد الحنفي، اخبرنا أبي، قال: جاء ابو مسلم الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليا، ام انت مثله.
فقال معاوية: لا والله أني لا علم (ظ) أن عليا افضل مني، وانه لاحق بالامر مني، ولكن ألستم تعلمون ان عثمان قتل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) هذا مما استفدته سابقا، ولم يحضرني الآن تاريخ ابن عساكر لارجع إليه ثانيا.
[186]
مظلوما وأنا ابن عمه وأنا اطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له: فليدفع الي قتلة عثمان وأسلم له.
فأتوا عليا فكلموه بذلك فلم يدفعهم إليهم.
قال: وأنبأنا ابراهيم، انبأنا يحيى، انبأنا احمد بن بشير أخبرني شيخ من أهل الشام، وحدثني شيخ لنا عن الكلبي: ان معاوية دعا ابا مسلم الخولاني، لو كان من قراء اهل الشام وعبادهم، فكتب معاوية إلى علي مع أبي مسلم، وذكر الحديث .
ومن كتاب له عليه السلام أجاب به معاوية لما كتب إليه بما نذكره
قال النقيب ابو جعفر: يحيى بن أبي زيد: كان معاوية يتسقط عليا وينعى عليه (1) ما عساه يذكره من حال أبي بكر وعمر، وانهما غصباه حقه، ولا يزال يكيده بالكتاب يكتبه والرسالة يبعثها يطلب غرته، لينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر، اما مكاتبة أو مراسلة، فيجعل ذلك حجة عليه عند أهل الشام، ويضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم، فقد كان غمصه أي اتهمه عندهم بأنه قتل عثمان ومالا على قتله، وانه قتل طلحة والزبير، وأسر عائشة واراق دماء أهل البصرة، وبقيت خصلة واحدة، وهو أن يثبت عندهم انه يتبرأ من ابي بكر وعمر، وينسبهما إلى الظلم ومخالفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يتسقطه: ينتقصه. ونعى - من باب منع - على القوم ذنوبهم نعيا ونعيا ونعيانا - كدعوى ودعيا وثعبانا -: عابهم بها. أظهرها وشهرها. وانعى عليه شيئا قبيحا - من باب أفعل -: قاله تشنيعا عليه.
[187]
الرسول في أمر الخلافة، وانهما وثبا عليها غلبة، وغصباه اياها، فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه، بل وأهل العراق الذين هم جنده وبطانته وأنصاره، لانهم كانوا يعتقدون امامة الشيخين، إلا القليل الشاذ من خواص الشيعة، فلما كتب الكتاب [الذي أرسله] مع أبي مسلم الخولاني [وكان] قصده ان يغضب عليا ويحرجه ويحوجه إذا قرأ ذكر أبي بكر، وانه افضل المسلمين، إلى ان يخلط خطه في الجواب بكلمة تقتضي طعنا في أبي بكر، فكان الجواب [منه (ع)] مجمجما [أي] غير بين، ليس فيه تصريح بالتظليم لهما، ولا التصريح ببرائتهما فتارة يترحم عليهما، وتارة يقول: (أخذا حقي وقد تركته لهما) فأشار عمرو بن العاص على معاوية ان يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الاول، ليستفزا فيه عليا عليه السلام وليستخفاه، ويحمله الغضب منه [على] ان يكتب كلاما يتعلقان به في تقبيح حاله ونهجين مذهبه، وقال له عمرو: ان عليا رجل نزق تياه وما استطعمت منه الكلام بمثل تقريظ ابي بكر وعمر (2) فأكتب [إليه في ذلك كتابا].
فكتب كتابا انفذه إليه مع ابي امامة الباهلي، وهو من الصحابة، بعد ان عزم على بعثته مع ابي الدرداء، و [هذه] نسخة الكتاب: اما بعد فان الله تعالى جده اصطفي محمد عليه السلام لرسالته، واختصه بوحيه وتأدية شريعته، فأنقذ به من العماية، وهدى به من الغواية، ثم قبضه إليه رشيدا حميدا، قد بلغ الشرع، ومحق الشرك، واخمد نار الافك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) يقال: (فزه فزا - من باب مد - وأفزه واستفزه - من باب أفعل واستفعل -: أفزعه وأزعجه. واستخفه: حمله على ان يقول: ما يشينه. ونزق - من باب فرح - نزقا ونزوقا الرجل - كفرسا وفلوسا -: نشط وطاش وخف عند الغضب فهو نزق - كفرح - والمؤنث: نزقة. والتياه: كثير التيه: المتكبر.
[188]
فأحسن الله جزاءه، وضاعف عليه نعمه وآلاءه.
ثم ان الله سبحانه اختص محمدا عليه السلام بأصحاب ايدوه وآزروه ونصروه، وكانوا كما قال الله سبحانه لهم: (اشداء على الكفار رحماء بينهم) [29 / الفتح: 48] فكان افضلهم مرتبة وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة، الخليفة الاول الذي جمع الكلمة، ولم الدعوة، وقاتل أهل الردة، ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح، ومصر الامصار، وأذل رقاب المشركين، ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة، وطبق الآفاق بالكلمة الحنيفية، فلما استوثق الاسلام وضرب بجرانه، عدوت عليه فبغيته الغوائل، ونصبت له المكائد، وضربت له بطن الامر وظهره، ودسست عليه وأغريت به، وقعدت حيث استنصرك عن نصره، وسألك ان تدركه قبل ان يمزق، فما أدركته، وما يوم المسلمين منك بواحد ! لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورمت افساد أمره وقعدت في بيتك واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) قال ابن أبي الحديد - في شرح المختار (26) من خطب نهج البلاغة: ج 2 ص 47 -،: ومن كتاب معاوية المشهور إلى علي عليه السلام: وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحدا من اهل بدر والسوابق الا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامراتك، وادليت عليهم بأبنيك واستنصرتهم على صاحب رسول الله، فلم يجبك منهم الا اربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقا لاجابوك ولكنك ادعيت باطلا وقلت ما لا يعرف، ورمت ما لا يدرك، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لابي سفيان - لما حركك وهيجك -: لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم.
فما يوم المسلمين منك بواحد، ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع.
وكتب معاوية في جواب محمد بن أبي بكر: (فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل بن أبي طالب وحقه لازما لنا، مبرورا علينا، فلما أختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما عنده وأتم له ما وعده وأظهر دعوته وأبلج حجته وقبضه إليه صلوات الله عليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه وخالفه على أمره، على ذلك أتفقا، ثم انهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما فهما به الهموم، وأرادا به العظيم - إلى أن قال: - ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه الخ أخبار معاوية ونوادر أفعاله من مروج الذهب: 3 / 12، وأواخر الجزء الثاني من كتاب صفين ص 120.
[189]
ثم كرهت خلافة عمر وحسدته واستطلت مدته وسررت بقتله واظهرت الشماتة بمصابه (4) حتى انك حاولت قتل ولده لانه قتل قاتل أبيه.
ثم لم تكن اشد منك حسدا لابن عمك عثمان، نشرت مقابحه وطويت محاسنه، وطعنت في فقهه ثم في دينه ثم في سيرته ثم في عقله، وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك حتى قتلوه بمحضر منك، لا تدفع عنه بلسان ولا يد، وما من هؤلاء الا من بغيت عليه وتلكأت في بيعته حتى حملت إليه قهرا تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش (5) ثم نهضت الآن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) كأنه يشير به إلى ما رواه الطبري عن المغيرة بن شعبة انه خرج يوم وفات عمر بن الخطاب إلى علي (ع) لينظر على أي حال هو فراه قد أغتسل وخرج من منزله فإذا قد ارتفعت صيحة بنت حنتمة بقولها: (واعمراه فقد قوم الاود، وداوى العمد، وخلف الفتنة وأقام السنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب).
فقال (ع): صدقت بنت حنتمة، فقد قوم الاود، وداوى العمد الخ.
(5) يقال: (تلكأ تلكؤا عليه): اعتل. وتلكأ عن الامر: أبطأ وتوقف. و (الخزائم) جمع الخزام أو الخزامة - بكسر الخاء -: حلقة يشد فيها الزمام. و (الاقتسار) و (القسر): القهر والاكراه. و (الفحل المخشوش): الجمل الذي جعل في أنفه (الخشاش).
[190]
تطلب الخلافة، وقتلة عثمان خلصاؤك وسجراؤك والمحدقون بك (6) وتلك من أماني النفوس وضلالات الاهواء.
فدع اللجاج والعبث جانبا، وادفع الينا قتلة عثمان، واعد الامر شورى بين المسلمين ليتفقوا على من هو لله رضا، فلا بيعة لك في أعناقنا، ولا طاعة لك علينا، ولا عتبى لك عندنا، وليس لك ولاصحابك عندي الا السيف، والذي لا إله الا هو لاطلبن قتلة عثمان اين كانوا وحيث كانوا حتى اقتلهم أو تلتحق روحي بالله.
فأما مالا تزال تمن به من سابقتك وجهادك فاني وجدت الله سبحانه يقول: (يمنون عليك ان أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم صادقين) [17 / الحجرات: 49] ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشد الانفس امتنانا على الله بعملها، وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة، فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد، ويجعله كصفوان عليه التراب فأصابه وابل قتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين [263 / البقرة].
قال النقيب أبو جعفر: فلما وصل هذا الكتاب إلى علي عليه السلام مع أبي امامة، كلم أبا امامة بنحو مما كلم به أبا مسلم الخولاني وكتب معه هذا الجواب - أي الكتاب التالي -: [بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى معاوية بن أبي سفيان].
أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) السجراء: جمع السجير - على زنة كبير -: الصديق الصفي.
[191]
محمدا صلى الله عليه وآله لدينه، وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا (7) إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ونعمته علينا في نبينا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر، أو داعي مسدده إلى النضال (8).
وزعمت أن أفضل الناس في الاسلام فلان وفلان، فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله (9)، وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس، وما لطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) خبأ الشئ - من باب منع -: أخفى. أي أخفى الدهر أمرا عجيبا لنا ثم اظهره، حيث انك يا معاوية شرعت تعلمنا بنعمة الله علينا في نبينا. وعطف النعمة على البلاء عطف تفسير.
(8) هجر - كفرس -: مدينة بالبحرين كثيرة النخيل. والمسدد: الذي يعلم كيفية رمي السهام. والنضال - كنعال -: المراماة، وهو مصدر قولهم: (ناضله مناضلة ونضالا): راماه. والكلام مثل لناقل الشئ إلى معدنه، والمتعالم على معلمه.
(9) ولن يتم أبدا عند كل ذي شعور منصف مارس سيرتهم وأقوالهم ممارسة يسيرة، فضلا عمن احاط خبرا بالحقائق. والثلم - كفلس -: النقص.
[192]
المهاجرين الاولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم هيهات لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها (10).
ألا تربع أيها الانسان على ظلعك (11)، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرك القدر، فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر، فإنك لذهاب في التيه، رواغ عن القصد (12).
ألا ترى - غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدث - أن قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والانصار، ولكل فضل حتى إذا استشهد شهيدنا قيل [له]:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) حن - من باب فر -: صوت. والقدح - كحبر -: السهم، وإذا كان في كنانة الرامي سهم يخالف سهامه، كان له عند الرمي صوت يخالف سهامه، وهذا مثل يضرب لمن يفتخر بقوم ليس منهم.
(11) أي قف عند حدك، يقال: (أربع عليك، أو على نفسك، أو على ضلعك): توقف. والضلع - كفلس -: الميل والعوج. وكفرس: الاعوجاج خلقة. والذرع - كفلس أيضا -: الذراع من اليد، والمراد - هنا - معناه الكنائي أي قصور القدر وانحطاط الرتبة.
(12) الذهاب - بتشديد الهاء كشداد -: كثير الذهاب. والتيه: الضلال. والرواغ: الميال. والقصد -: كفلس -: الاعتدال.
[193]
سيد الشهداء، وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه.
أو لا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل، حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل [له] الطيار في الجنة وذو الجناحين.
ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤ منين، ولا تمجها آذان السامعين (13).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) قوله (ع): (ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء) كأنه اشارة إلى قوله تعالى في الآية (31) من سورة النجم: 53: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى). وقوله (ع): (لذكر ذاكر) المراد من (الذاكر) هو أمير المؤمنين نفسه عليه السلام. و (الجمة: الكثيرة. وعرفان قلوب المؤمنين فضائله (ع) الكثيرة، اما من باب ان الاذعان بأمامته المساوقة لكونه (ع) مستجمعا لجميع الكمالات الانسانية، جزء لايمانهم ومعتبر فيه، واما من باب ان الاعتراف بخلافته من قبل الله ورسوله ملازم لعرفانه بأنه ذو فضائل جمة ومناقب غفيرة غير موجودة في غيره ممن بعد عن ساحة الامامة والخلافة عن الله تعالى.
وقوله: (ولا تمجها) أي لا تستكرهها، لانها لكثرة بروزها وشدة ظهورها سمعها كل أذن ووعاها كل سمع فالآذان مأنوسة بذكرها، والاسماع مملوأة من سمعها فلا تستنكرها أذن ولا يستكرهها سمع.
[194]
فدع عنك من مالت به الرمية (14)، فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا (15) لم يمنعنا قديم عزنا ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الاكفاء ولستم هناك (16) وأنى يكون كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب، ومنا اسد الله ومنك اسد الاحلاف، ومنا سيد شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العالمين ومنك حمالة الحطب، في كثير مما لنا وعليكم (17)، فإسلامنا ما قد سمع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14) الرمية: الصيد يرميه الصائد، والجمع رمايا - كبغية وبغايا - و (مالت به): خالفت قصده فأتبعها. والكلام مثل يضرب لمن أعوج غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه.
(15) الصنائع جمع الصنيعة أو الصنيع: المصنوع. الاحسان، يقال: (فلان صنيعي وصنيعتي) أي أنا ربيته وخرجته واختصصته بالصنع الجميل.
وهذا الكلام الشريف مشتمل على جميع ما يعتقده الامامية في الائمة الاثنى عشر وفوقه.
(16) هذا بيان لبعض موارد صنيعهم الجميل ببني أمية، و (العادي) منسوب إلى عاد، ويعبر عن كل شي عتيق با (لعادي) كناية عن طول زمانه وقدمه، و (الطول) - بفتح فسكون -: الفضل. و (الاكفاء) جمع الكفؤ: النظير في الشرف.
(17) أي هذه الفضائل الباهرة المعدودة لنا، وأضدادها من الرذائل الشاهرة المسرودة لكم - قليل في كثير مما لنا ومما عليكم.
[195]
وجاهليتنا لا تدفع، وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا، وهو قوله سبحانه وتعالى: (وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) [75 - الانفال: 8] وقوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [68 - آل عمران: 3] فنحن مرة أولى بالقرابة، وتارة أولى بالطاعة.
ولما احتج المهاجرون على الانصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم وإن يكن بغيره فالانصار على دعواهم (18).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) الفلج - كفرس -: الغلبة والظفر.
ويوم السقيفة هو اليوم الذي مات فيه رسول الله تخلفوا عن جيش أسامة، لينحتوا لرسول الله (ص) خليفة من شاكلتهم حيث روا ان وصيه مشغول بتجهيزه (ص) فنازعهم الانصار في الامارة، فاحتجوا عليهم بأنهم من عصبة رسول الله (ص) فهم أحق بخلافته من الانصار، فغلبوهم بذلك على الرئاسة، فأمير المؤمنين (ع) يحتج على معاوية ومن أسس أصل امارته من الخلفاء، ويقول لهم: (ان كان اختصاص الخلافة وتعينه من جهة القرب برسول الله (ص) فهي لي لاني أقرب إليه من الجميع، وان كان استحقاق الخلافة واختصاصها من أجل جهة أخرى فالانصار على دعواهم، فهم ظالمون في التقمص بقميص الخلافة على التقديرين، أما على الاول فلاجل غصبهم حقي، وأما على الثاني فلاجل ردهم دعوى الانصار وغلبتهم على أمرهم بلا استحقاقهم.
وهذا الكلام مما نفث به أمير المؤمنين (ع) في مقامات كثيرة، ومثله معنى قوله عليه السلام في المختار (190) من قصار نهج البلاغة مخاطبا لابي بكر: (فوا عجبا أتكون الخلافة بالصحابة ؟ ولا تكون بالصحابة والقرابة) وقوله عليه السلام.
فان كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب ؟!
وان كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك اولى بالنبي وأقرب
قال المحمودي: وأعجب من عمل أصحاب السقيفة، تحريف أبناء النابغة، هذا الكلام الشريف، من طبعة مصر، من كتاب نهج البلاغة، ولم يلتفت المساكين ان الشرق والغرب مشحونان بنسخ نهج البلاغة مفردة ومشروحة، مطبوعة ومخطوطة، وفى جميعها ذكر هذا الكلام على نهج الصواب، ولم يدروا أن تحريف هذا لا يصلح ما أفسده الدهر من خلفائهم، لان الكلام مروي في غير نهج البلاغة أيضا، ولان شواهد هذا المعنى كثيرة، ورذائل سلفهم جمة غفيرة، ثم لو كان أصل الكلام هكذا فأي معنى لالحاق الاشعار التالية به.
وأي مورد للاستعجاب بكينونة الخلافة بالصحابة والقرابة.
[196]
وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك، فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (19)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) وأول البيت هكذا: وعيرها الواشون أني أحبها، و (شكاة) - بالفتح كزكاة -: نقيصة. و (ظاهر): بعيد.
من قولهم: (ظهر الشئ - من باب منع - ظهرا): نبذة خلف ظهره.
[197]
وقلت: أني كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ولامر تابا بيقينه، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها (20).
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأينا كان أعدي له وأهدى إلى مقاتله، أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه، أمن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) يقال: (سنح الامر - من باب منع (سنحا وسنحا وسنوحا - كقفلا وعنقا وفلوسا -: عرض. وسنح لي الشعر: تيسر.
أي ان حجتي هذه على وقوع الظلم علي في أخذي لبيعة غيري ليست متوجهة اليك يا معاوية، ولست المقصود بها إذ ما كان لك في القضية ناقة ولا جمل، والمقصود بها غيرك وهم الذين ألجأوني إلى البيعة وغصبوني حقي وانما ذكرت لك منها بقدر ما دعت الحاجة إليه، وتيسر لي أن اذكره في جوابك.
[198]
قدره عليه (21) كلا والله لقد علم الله ([يعلم الله] المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا ياتون البأس إلا قليلا) [17 - الاحزاب: 33].
وما كنت لاعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فرب ملوم لا ذنب له (22).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) قوله عليه السلام: (أعدى له): أشد عدوانا عليه.
و (المقاتل): وجوه القتل، وانما عبر عليه السلام بلفظ الجمع، لان بني أمية - كعثمان نفسه - أوجبوا بأعمالهم الجاهلية قتل عثمان من وجوه شتى. (فأستقعده): طلب منه القعود. (واستكفه): طلب منه الكف. (وبث): هيأ ونشر وفرق. و (المنون): الموت.
ومحصل مراده عليه السلام الزام معاوية بأنكم معاشر بني أمية احدثتم في الدين أحداثا، وعاملتم مع المسلمين معاملة الجبارين فشردتم الصلحاء منهم، وحبستم حقوق الضعفاء منهم، وقتلتم الاخيار منهم فأستفززتم المسلمين - بأعمالكم هذه - لقتل عثمان، فأنتم أشد عدوانا على عثمان، وأشد هداية ودلالة للثائرين على قتله، أم انا الذي بذلت نصرتي ونصحي لعثمان، وطلبت منه قعوده عن ظلم الناس وكفه عن تولية الفساق على المسلمين ويحتمل بعيدا رجوع الضمير المرفوع في (فأستقعده واستكفه) إلى عثمان، والضمير المنصوب يكون عائدا إلى امير المؤمنين عليه السلام.
و (أتى عليه قدره) أي أتى عليه ما قدر له، من قتله المسبب من سوء اختياره في رعاية الجهات الشرعية واداء حقوق الرعية.
(22) المعوقين: المتثبطين المتأخرين عن المساعدة والنصرة. و (نقم عليه - من باب ضرب نقما): عاب عليه. و (الاحداث): البدع. وهو جمع حدث.
[199]
وقد يستفيد الظنة المتنصح (23).
وما أردت إلا الاصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
وذكرت أنه ليس لي ولاصحابي عندك إلا السيف فلقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بني عبد المطلب عن الاعداء ناكلين، وبالسيف مخوفين (24).
* لبث قليلا يلحق الهيجا حمل (25) * فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والانصار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) وصدر البيت هكذا: وكم سقت في آثاركم من نصيحة. و (الظنة) - بالكسر -: التهمة. و (المتنصح) - بكصر الصاد: المبالغ في النصح لمن لا ينتصح، أي ربما تنشأ التهمة من اخلاص النصيحة عند من لا يقبلها.
(24) الاستعبار: جريان الدمع والعبرة من البكاء. الحزن. و (ألفيت): وجدت. و (ناكلين): متأخرين.
(25) لبث - فعل أمر من (لبثه) - بتشديد الباء - إذا أستزاد لبثه أي وقوفه ومكثه. و (الهيجاء): الحرب.
و (حمل) - كفرس -: حمل بن بدر، رجل من بني قشير أغير على ابله فأستنقذها وقال:
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل * لا بأس بالموت إذا الموت نزل
[200]
والتابعين لهم باحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، وقد صحبتهم ذرية بدرية وسيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك (26) (وماهي من الظالمين ببعيد) (27).
المختار (28) من كتب نهج البلاغة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) مرقل: مسرع. و (الجحفل: الجيش العظيم. و (شديد زحامهم وساطع قتامهم) سفة لجحفل. والقتام - بفتح القاف -: الغبار. و (متسربلين): لابسين ثياب الموت كأنهم متقمصين بأكفانهم.
(27) اقتباس من الآية (83) من سورة هود: 10.