[204]

- 12 -

شطر آخر من وصيته عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية (ره)

حافظ الشيعة وصدوق الشريعة: الشيخ الصدوق قدس الله نفسه، عن ابيه، عن على بن ابراهيم، عن ابيه، عن حماد بن عيسى عمن ذكره (1) عن ابي عبد الله عليه السلام قال: قال امير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: يا بني لا تقل مالا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم (2) فإن الله تبارك وتعالى قد فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة، ويسألك عنها، وذكرها ووعظها وحذرها وأدبها ولم يتركها سدى، فقال الله عزوجل: ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سجئ بعد ختام كلامه (ع) امور كلها تصلح ان تكون سندا للوصية الشريفة.

(2) نقل من هذه الوصية الى هنا معلم الامة الشيخ المفيد (ره)، في الحديث 333، من كتاب الاختصاص 231، ط 2، ورواه عنه في الحديث 64، من باب السكوت والكلام، من البحار: ج 2، من 15، 187. ورواه أيضا السيد الرضي في المختار 382 من قصار نهج البلاغة.

 

[205]

كل أولئك كان عنه مسؤلا (3).

وقال عزوجل: إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم(4) ثم استعبدها بطاعته فقال عزوجل يا أيها الذين آمنوا إركعوا وأسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (5)، فهذه فريضة جامعة واجبة على الجوارح.

وقال الله عزوجل وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (6)، يعني بالمساجد الوجه واليدين والركبتين والابهامين.

وقال عزوجل وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم (7).

يعني بالجلود الفروج.

ثم خص كل جارحة من جوارحك بفرض ونص عليها، ففرض على السمع أن لا تصغي به على المعاصي، فقال عزوجل: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3) الاية 36، من سورة الاسراء.

(4) الاية 15، من سورة النور.

(5) الاية 77، من سورة الحج.

(6) الاية 18، من سورة الجن.

(7) الاية 22، من سورة فصلت.

 

[206]

الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلكم (8). وقال الله عزوجل.

وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره (9) ثم إستثنى عزوجل موضع النسيان فقال: وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (10).

وقال عزوجل: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله، وأولئك هم أولوا الالباب (11).

وقال عزوجل وإذا مروا باللغو مروا كراما (12).

وقال عزوجل والذين إذا سمعوا اللغوا أعرضوا عنه (13)، فهذا ما فرض الله عزوجل على السمع وهو عمله.

وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عزوجل عليه، فقال عز من قائل قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) الاية 140، من سورة النساء.

(9) الاية 68، من سورة الانعام.

(10) الاية 68، من سورة الانعام.

(11) الاية 17، من سورة الزمر.

(12) الاية 72، من سورة الفرقان.

(13) الاية 55، من سورة القصص.

 

[207]

ويحفظوا فروجهم (14).

فحرم أن ينظر احد إلى فرج غيره.

وفرض على اللسان الاقرار والتعبير عن القلب بما عقد عليه، فقال عزوجل: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا (15) وقال عزوجل: وقولوا للناس حسنا (16).

وفرض على القلب وهو أمير الجوارح، الذي به تعقل وتفهم، وتصدر عن أمره ورأيه، فقال عزوجل: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان (17).

وقال تعالى حين أخبر عن قوم أعطوا الايمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم: الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم (18).

وقال عزوجل ألا بذكر الله تطمئن القلوب (19) وقال عزوجل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(14) الاية 30، من سورة النور.

(15) الاية 136، من سورة البقرة.

(16) الاية 83، من سورة البقرة.

(17) الاية 106، من سورة النحل.

(18) الاية 41، من سورة المائدة،، وأول الاية الكريمة: يا ايها الرسول لا يحزنك الدين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا، الخ.

(19) الاية 28، من سورة الرعد.

 

 

[208]

ويعذب من يشاء (20).

وفرض على اليدين أن لاتمدهما إلى ما حرم الله عزوجل عليك، وأن تستعملهما بطاعته، فقال عزوجل يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين (21).

وقال عزوجل: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب (22).

وفرض على الرجلين أن تنقلهما في طاعته، وأن لا تمشي بهما مشية عاص، فقال عزوجل: ولا تمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (23) وقال عزوجل: اليوم نختم على أفواههم ونكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (24) فأخبر عنها أنها تشهد على صاحبها يوم القيامة.

فهذا ما فرض الله تبارك وتعالى على جوارحك، فاتق الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20) الاية 284، من سورة البقرة.

(21) الاية 6، من سورة المائدة.

(22) الاية 4، من سورة محمد.

(23) الاسراء، 37.

(24) يس، 65.

 

[209]

يا بني وأستعملها بطاعته ورضوانه وإياك أن يراك الله تعالى عند معصيته (25) أو يفقدك عند طاعته فتكون من الخاسرين (26)، وعليك بقراءة القرآن، والعمل بما فيه، ولزوم فرائضه وشرائعه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه، والتهجد به وتلاوته في ليلك ونهارك، فانه عهد من الله تبارك وتعالى الى خلقه، فهو واجب (27) على كل مسلم أن ينظر كل يوم في عهده ولو خمسين آية.

واعلم أن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق، فلا يكون في الجنة بعد النبيين والصديقين أرفع درجة منه (28).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) وقال العلامة الكراجكي (ره): ولقي حكيم حكيما فقال: عظني وأوجز. قال: عليك بخصلتين: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث امرك. قال: زدني. قال: لاأجد للحالين ثالثة.

(26) من قوله (ع): واياك ان يراك الله، الى قوله: فتكون من الخاسرين - ذكره السيد (ره) في المختار 383، من قصار نهج البلاغة.

(27) كذا في النسخة، والظاهر ان لفظة هو من زيادة النساخ.

(28) قال الصدوق رحمه الله: والوصية طويلة اخذنا منها موضع الحاجة.

اقول: لم نظفر بتمام الوصية من طرفها الاول، إذ الصدوق (ره) لم يذكرها مجموعة متوالية في محل واحد، بل فرقها في كتبه على الابواب

 

[210]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المناسبة لها، وما ذكر منها في موضع معين أيضا لم يذكرها باجمعها، بل ذكر ما هو الدخيل في غرضه، نعم من قوله (ع): يا بني اياك والاتكال على الاماني فانها بضائع النوكي، (الى آخرها) - نقلها متنسقة مترتبة، الا انه اسقط منها ما لم يتعلق به غرضه، ومن قوله (ع): يا بني البغي سائق الى الحين (الى آخرها)، رواها بلا حذف، كل ذلك مما صرح به الصدوق (ره) في مواضع، فتلخص ان من اول الوصية (الى قوله: يا بني اياك والاتكال على الاماني) يحتمل فيه الحذف والتقديم والتأخير، ومن قوله: يا بني اياك والاتكال على الاماني، الى قوله: يا بني البغي سائق الى الحين - مما يتيقن فيه الترتيب والحذف والاسقاط، بتصريح الصدوق (ره) ومن قوله: يا بني البغي سائق الى الحين (الى آخرها)، مما يعلم فيه التمام وعدم النقص، وبه أيضا صرح الصدوق.

 

[211]

وهنا تعاليق تعزيزية نقلية

التعليق الاول: فيما يناسب المقام من ذكر قطعة من رسالة الحقوق للسيد السجاد، الامام زين العابدين عليه السلام، رواها الشيخ الصدوق في الفقيه والخصال مسندا، ورواها السيد ابن طاوس (ره) عن رسائل الكليني (ره) كذلك، ورواها الحسن بن علي بن شعبه (ره) في تحف العقول 183 مرسلا، ونحن نذكرها من تحف العقول.

قال عليه السلام: اعلم رحمك الله ان الله عليك حقوقا محيطة لك في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت بها، بعضها اكبر من بعض، واكبر حقوق الله عليك ما اوجبه لنفسه تبارك وتعالى، من حقه الذي هو اصل الحقوق، ومنه تفرع.

ثم ما اوجبه عليك لنفسك من قرنك الى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقا، ولسمعك عليك حقا، وللسانك عليك حقا، وليدك عليك حقا، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقا، ولفرجك عليك حقا، فهذه الجوارح السبع التي تكون بها الافعال.

ثم جعل عزوجل لافعالك عليك حقوقا، فجعل لصلاتك عليك حقا، ولصومك عليك حقا، ولصدقتك عليك حقا، ولهديك عليك حقا، ولافعالك عليك حقا.

ثم تخرج الحقوق منك الى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، وأوجبها عليك حق ائمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه

 

[212]

حقوق يتشعب منها حقوق: فحقوق ائمتك ثلاثة، اوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك، وكل سائس امام (1).

وحقوق رعيتك ثلاثة، اوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم، فان الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الازواج وما ملكت من الايمان (2).

وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، فاوجبها عليك حق امك، ثم حق ابيك، ثم حق ولدك، ثم حق اخيك، ثم الاقرب فالاقرب، والاول فالاول، ثم حق مولاك المنعم عليك، ثم حق مولاك الجاري نعمته عليك، ثم حق ذي المعروف لديك، ثم حق مؤذنك بالصلاة، ثم حق امامك في صلاتك، ثم حق جليسك، ثم حق جارك، ثم حق صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق مالك، ثم حق غريمك الذي تطالبه، ثم حق غريمك الذي يطالبك، ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي عليك، ثم حق خصمك الذي تدعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير عليك، ثم حق مستنصحك، ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو اكبر منك، ثم حق من هو اصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من سألته، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل، أو مسرة بذلك بقول أو فعل، عن تعمد منه أو غير تعمد منه، ثم حق اهل ملتك عامة، ثم حق اهل الذمة، (3) ثم الحقوق الجارية بقدر علل الاحوال وتصرف الاسباب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) السائس: القائم بالامر، والمدبر له.

(2) وفى الخصال: وما ملكت الايمان.

(3) وفى الفقيه والخصال: ثم حق اهل ملتك عليك، ثم حق أهل ذمتك، الخ.

 

[213]

فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما اوجب عليه من حقوقه، ووفقه، وسدده.

فاما حق الله الاكبر: فانك تعبده ولا تشرك به شيئا، فإذا فعلت ذلك باخلاص جعل لك على نفسه ان يكفيك أمر الدنيا والاخرة، ويحفظ لك ما تحب منها.

واما حق نفسك عليك: فان تستوفيها في طاعة الله، فتؤدي الى لسانك حقه، والى سمعك حقه، والى بصرك حقه، والى يدك حقها، والى رجلك حقها، والى بطنك حقه، والى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك.

واما حق اللسان: فاكرامه عن الخنى، (4) وتعويده على الخير (5) وحمله على الادب، وإجمامه (6) الا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا، واعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها، وبعد شاهد العقل والدليل عليه، وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه، ولاقوة الا بالله العلي العظيم.

وأما حق السمع: فتنزيهه (7) عن ان تجعله طريقا الى قلبك الا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرا، أو تكسب خلقا كريما، فانه باب الكلام الى القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر، ولاقوة إلا بالله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) الخنى: الفحش في الكلام.

(5) وفى الفقيه والخصال هكذا: وتعوديه الخير، وترك الفضول التي لا فائدة فيها، والبر بالناس، وحسن القول فيهم، الخ.

(6) قيل: وفى بعض النسخ: واجماعه. وفى بعضها: وحله بالاداب واجمامه. واجمام اللسان: امساكه.

(7) وفى محكي الفقيه والخصال: فتنزيهه عن سماع الغيبة، وسماع مالا يحل سماعه.

 

[214]

وأما حق بصرك: فغضه عما لا يحل لك (8)، وترك ابتذاله الا لموضع عبرة تستقبل بها بصرا أو تستفيد بها علما، (9) فان البصر باب الاعتبار.

وأما حق رجليك: فان لا تمشي بهما الى مالا يحل لك، (10) ولا تجعلهما مطيتك في الطريق المتسخفة بأهلها فيها، فانها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين، والسبق لك، ولاقوة الا بالله.

واما حق يدك: فان لا تبسطها الى مالا يحل لك، فتنال بما تبسطها من الله العقوبة في الاجل، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل، ولا تقبضها مما افترض الله عليها، ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها، وبسطها الى كثير مما ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل، ووجب لها حسن الثواب في الاجل.

واما حق بطنك فان لا تجعله (11) وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير، وان تقتصد له في الحلال، ولا تخرجه من حد التقوية الى حد التهوين وذهاب المروءة، وضبطه إذا هم بالجوع والظمأ، فان الشبع المنتهي بصاحبه الى التخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل بر وكرم، وان الري المنتهي بصاحبه الى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروءة.

واما حق فرجك: فحفظه مما لا يحل لك، (12) والاستعانة عليه بغض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) والمحكي عن الفقيه والخصال: ان تغضه مما لا يحل لك، وتعتبر بالنظر به.

(9) وفى المحكي عن بعض النسخ: أو تعتقد بها علما.

(10) وفى محكي الفقيه والخصال: واما حق رجليك: ان لا تمشي بهما الى مالا يحل لك، فيهما تقف على الصراط، فانظر ان لا تزال بك فتردى في النار.

(11) وفى محكى الفقيه والخصال: ان لا تجعله وعاء للحرام، ولا تزيد على الشبع.

(12) وفى المحكي عن الكتابين: وحق فرجك: ان تحصنه من الزنا، وتحفظه من ان ينظر إليه.

 

[215]

البصر، فانه من أعون الاعوان، وكثرة ذكر الموت، والتهدد لنفسك بالله، والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد ولاحول ولاقوة الا به، الخ.

وروي في الحديث 1، من الباب 18، من كتاب الايمان والكفر، من الكافي معنعنا، عن ابي عمرو الزبيري، عن الامام الصادق عليه السلام، قال: قلت له: ايها العالم اخبرني اي الاعمال افضل عند الله ؟ قال: مالا يقبل الله شيئا الا به.

قلت: وما هو ؟ قال: الايمان بالله الذي لاإله إلا هو أعلى الاعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظا.

قال قلت: ألا تخبرني عن الايمان، أقول وعمل، أم قول بلا عمل ؟ فقال: الايمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بين في كتابه، واضح نوره ثابتة حجته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه (13).

قال قلت: صفه لي جعلت فداك حتى أفهمه.

قال: الايمان (14) حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص البين نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه.

قلت: إن الايمان ليتم وينقص ويزيد ؟ قال: نعم.

قلت: كيف ذلك ؟ قال: لان الله تبارك فرض الايمان على جوارح ابن آدم، وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة الا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اختها.

فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو امير بدنه الذي لاترد الجوارح ولاتصدر الا عن أمره ونهيه.

ومنها عيناه اللتان يبصر بهما، واذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) يشهد له: اي لكونه عملا، أو للعامل به، اي بذلك الفرض.

ويدعوه إليه: اي يدعو العامل الى ذلك الفرض.

كذا قيل.

(14) وفى بعض النسخ: للايمان حالات ودرجات، الخ.

 

[216]

الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه.

فليس من هذه جارحة إلا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها، بفرض من الله تبارك اسمه، ينطق به الكتاب لها، ويشهد به عليها.

ففرض على القلب غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.

فاما ما فرض على القلب من الايمان: فالاقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لاإله إلا الله وحده لا شريك له الها واحدا لم يتخذ صاحبة ولاولدا، وان محمدا عبده ورسوله، صلوات الله عليه وآله، والاقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب، فذلك ما فرض الله على القلب من الاقرار والمعرفة، وهو عمله، وهو قول الله عزوجل: إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا.

(15) وقال: ألا بذكر الله تطمئن القلوب (16).

وقال: الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم (17) وقال: إن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء (18).

فذلك ما فرض الله عزوجل على القلب، من الاقرار والمعرفة، وهو عمله، وهو رأس الايمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(15) الاية 106، من سورة النحل.

(16) الاية 28، من سورة الرعد.

(17) الاية 40، من سورة المائدة، وتقدم ذكر الاية الشريفة في تعليق كلام امير المؤمنين (ع)، والمذكور هنا اما سهو من الرواة، أو نقل بالمعنى من المعصوم (ع) أو من الرواة.

(18) الاية 284، من سورة البقرة.

 

[217]

وفرض الله على اللسان، القول والتعبير بما عقد عليه وأقر به، قال الله تبارك وتعالى: وقولوا للناس حسنا (19).

وقال: قولوا آمنا بالله وما انزل الينا وما أنزل اليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (20).

فهذا ما فرض الله على اللسان وهو عمله.

وفرض على السمع ان يتنزه عن الاستماع الى ما حرم الله، وان يعرض عما لا يحل له، مما نهى الله عزوجل عنه، والاصغاء الى ما اسخط الله عزوجل فقال في ذلك: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره (21).

ثم استثنى الله عزوجل موضع النسيان، فقال: وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (22).

وقال: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه، اولئك الذين هديهم الله واولئك هم اولوا الالباب (23).

وقال عزوجل: قد أفلح المؤمنون، الذينهم في صلوتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذينهم للزكوة فاعلون (24).

وقال: إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا لنا اعمالنا ولكم أعمالكم (25).

وقال: وإذا مروا باللغو مروا كراما (26).

فهذا ما فرض الله على السمع من الايمان أن لا يصغى الى مالا يحل له، وهو عمله، وهو من الايمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19) الاية 83، من سورة البقرة.

(20) الاية 136، من سورة البقرة.

(21) الاية 140، من سورة النساء.

(22) الاية 68، من سورة الانعام.

(23) الاية 17، من سورة الزمر.

(24) الاية الاولى الى الرابعة، من سورة المؤمنون.

(25) الاية 55، من سورة القصص.

(26) الاية 72، من سورة الفرقان.

 

[218]

وفرض على البصران لا ينظر الى ما حرم الله عليه، وان يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له، وهو عمله، وهو من الايمان، فقال تبارك وتعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم (27) فنهاهم ان ينظروا الى عوراتهم، وان ينظر المرء الى فرج اخيه، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه، وقال: وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن، (28).

من ان تنظر أحداهن الى فرج اختها، وتحفظ فرجها من ان ينظر إليها، وقال: كل شئ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا الا هذه الاية فانها من النظر.

ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية أخرى فقال: وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم (29).

يعني بالجلود: الفروج والافخاذ.

وقال: ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا (30).

فهذا ما فرض الله على العينين من غض البصر عما حرم الله عزوجل وهو عملهما، وهو من الايمان.

وفرض الله على اليدين ان لا يبطش بهما الى ما حرم الله، وان يبطش بهما الى ما أمر الله عزوجل وفرض عليهما من الصدقة وصلد الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلاة فقال: يا ايها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق وامسحوا برؤسكم وارجلكم الى الكعبين (31).

وقال: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(27) الاية 30، من سورة النور.

(28) الاية 31، من سورة النور.

(29) الاية 22، من سورة فصلت.

(30) الاية 36، من سورة الاسراء.

(31) الاية 7، من سورة المائدة.

 

[219]

اثخنتموه فشدوا الوثاق، فإمامنا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب اوزارها (32).

فهذا ما فرض الله على اليدين لان الضرب من علاجهما (33).

وفرض على الرجلين ان لا يمشي بهما الى شئ من معاصي الله، وفرض عليهما المشي الى ما يرضي الله عزوجل فقال: ولا تمش في الارض مرحا، إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا (34).

وقال: واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن انكر الاصوات لصوت الحمير (35).

وقال فيما شهدت الايدي والارجل على أنفسهما وعلى اربابهما من تضييعهما لما أمر الله عزوجل به وفرضه عليهما: اليوم نختم على افواهم وتكلمنا ايديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (36).

فهذا أيضا مما فرض الله على اليدين وعلى الرجلين، وهو عملهما، وهو من الايمان.

وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (37).

فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين.

وقال في موضع آخر: وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (38).

وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها وذلك ان الله عزوجل لما صرف نبيه صلى الله عليه وآله الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(32) الاية 4، من سورة محمد.

(33) العلاج: المزاولة.

(34) الاية 18، من سورة لقمان.

(35) الاية 19، من سورة لقمان.

(36) الاية 65، من سورة يس.

(37) الاية 77، من سورة الحج.

(38) الاية 18، من سورة الجن.

 

[220]

عزوجل: وما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرؤف رحيم (39).

فسمى الصلاة ايمانا، فمن لقي الله عزوجل حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عزوجل عليها لقي الله عزوجل مستكملا لايمانه، وهو من أهل الجنة، ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر الله عزوجل فيها لقي الله عزوجل، ناقص الايمان.

قلت: قد فهمت نقصان الايمان وتمامه، فمن أين جاءت زيادته ؟ فقال: قول الله عزوجل: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه ايمانا، فاما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون: واما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم (40).

وقال: نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (41).

ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان، لم يكن لاحد منهم فضل على الاخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرطون النار.

وقريب منه في المقدمة الاولى من دعائم الاسلام.

وروى في الحديث السابع، من الباب، بسند آخر، عن حماد بن عمرو النصيبي قال: سأل رجل العالم عليه السلام، فقال: ايها العالم أخبرني اي الاعمال افضل عند الله ؟ قال: مالا يقبل عمل الا به.

فقال وما ذلك ؟ قال: الايمان - بالله - الذي هو اعلى الاعمال درجة، وأسناها حظا، واشرفها منزلة.

قلت: أخبرني عن الايمان، أقول وعمل، أم قول بلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) الاية 143، من سورة البقرة.

(40) الاية 126، من سورة التوبة.

(41) الاية 12، من سورة الكهف.

 

[221]

عمل ؟ قال: الايمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بينه في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد به الكتاب ويدعو إليه.

قلت: صف لي ذلك حتى افهمه.

فقال: إن الايمان (42) حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص المنتهي نقصانه، ومنه الزائد الراجح زيادته.

قلت: وإن الايمان ليتم ويزيد وينقص ؟ قال: نعم.

قلت: وكيف ذلك ؟ قال: إن الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح بني آدم، وقسمه عليها، وفرقه عليها، فليس من جوارحهم جارحة الا وهي موكلة من الايمان بغير ما وكلت به اختها.

فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه، الذي لا تورد الجوارح ولاتصدر إلا عن رأيه وأمره.

ومنها يداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به الكتاب، ويشهد به عليها، وعيناه اللتان يبصر بهما، واذناه اللتان يسمع بهما.

وفرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.

فاما ما فرض على القلب من الايمان: فالاقرار والمعرفة والتصديق والتسليم والعقد والرضا بان لا اله إلا الله وحده لا شريك له، أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة ولاولدا، وان محمذا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(42) في بعض النخس للايمان.