[165]

- 28 -

ومن وصية له عليه السلام الى السبط الاكبر الامام الحسن المجتبى عليه السلام

قال شيخ الطائفة عليه الرحمة والرضوان: اخبرنا محمد بن محمد، قال: اخبرنا أبو الطيب الحسين بن محمد التمار، قال: حدثنا محمد بن القاسم الانباري، قال: حدثنا احمد بن عبيد، قال: حدثنا عبد الرحيم بن قيس الهلالي، قال: حدثنا العمري، عن ابي حمزة السعدي، عن ابيه، قال: اوصى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، الى الحسن بن علي عليه السلام، فقال فيما اوصى به إليه (1): يا بني لا فقر أشد من الجهل، ولا عدم أشد من عدم العقل (2) ولا وحدة (ولا وحشة، في البحار) أوحش من العجب (3) ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف عن محارم الله (4) ولا عبادة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا ظاهر في ان المذكور هنا بعض الوصية، لا تمامها.

(2) العدم - كفرس وعنق وقفل -: الفقدان.

وغير خفي ان فقدان العقل بذر المسكنة، واصل الفقر، واساس الاحتياج، فمن لا عقل له فهو مجمع الافتقار، ومعدن الذلة والصغار.

(3) العجب - كقفل -: هو اعجاب المرء بنفسه بفضائله واعماله، وهو موجب للترفع على الناس والتطاول عليهم، فيصير سببا لوحشة الناس عنه ومستلزما لترك اصلاح معائبه وتدرك ما فات منه، فينقطع عنه مواد رحمة الله ولطفه وهدايته، فينفرد عن ربه وعن الخلق، فلا وحشة اوحش منه.

(4) قال العلامة المجلسي (ره): هو بالاضافة الى ورع من يتورع عن المكروهات، ولا يتورع عن المحرمات.

 

[166]

كالتفكر في صنعة الله عز وجل.

كالتفكر في صنعة الله عز وجل.

يا بني العقل خليل المرء، والحلم وزيره، والرفق والده، والصبر من خير جنوده (5).

يا بني إنه لا بد للعاقل من أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه، وليعرف أهل زمانه.

يا بني إن من البلاء الفافة وأشد من ذلك مرض البدن، وأشد من ذلك مرض القلب.

وإن من النعم سعة المال، وأفضل من ذلك صحة البدن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) ولما كان شأن العقل التحريك الى المصالح وجر المنافع، والزجر عن المضار والمفاسد وما يوجب تلويث ساحة الشخص - كما هو شأن كل خليل فهو خليل المرء.

ولما كان شأن الوزير تحمل الثقل ودفع المشكلات برزانته وصواب رأيه، وكان الحلم كذلك فهو وزير المرء، وبما ان من شأن الوالد الملاطفة ولين الجانب بأولاده، والرفق - كحبر - وهو لين الجانب ولطفه - يستلزم تواضع الناس معه ومودتهم اياه فهو والد الشخص، وكما ان الجند من اسباب الظفر والغلبة ونيل المقصد، والصبر ايضا كذلك فهو من خير جنود المرء.

ولعل وجه خيريته انه واحد، وجلب خواطر الواحد واستمالة قلبه اسهل من استمالة جماعة متخالفة الأهواء.

وأيضا الجنود الظاهرية تحتاج الى لوازم الحياة من المأكل والمشرب والملبس والمركب، بخلاف الصبر فانه قليل المؤنة =

 

[167]

وأفضل من ذلك تقوى القلوب.

يا بني للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيار به وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بين نفسه ولذتها فيما يحل ويجمل (6).

وليس للمؤمن بد من أن يكون شاخصا في ثلاث مرمة لمعاش أو حظوة لمعاد (7) أو لذة في غير محرم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= الحديث (55) من الجزء الخامس من امالي الشيخ (ره)، ورواه عنه في الحديث الثالث عشر من الباب الاول من البحار: 1، ص 30 ص، ط الكمباني، وفي الطبع الاخير، ص 88، ورواه ايضا في المختار التاسع عشر من الباب الثاني من المستدرك، ص 119، وقريب منه جدا ما رواه في الحديث (3000) من كنز العمال ج 8 ص 236 ط الهند عن الحارث الاعور عن امير المؤمنين (ع) عن رسول الله صلى الله عليه وآله.

(6) وفى نسخة البحار: (فيما يحل ويحمد).

(7) البد - كالود والمد -: المناص والمهرب. والشخوص: الذهاب من بلد الى بلد. السير في الارض. ويمكن ان يكون المراد - هنا - ما يشمل الخروج من البيت. ومرمة المعاش: اصلاحه. والحظوة - بضم الحاء وكسرها -: المكانة والقرب والمنزلة. واللذة - مثلثة اللام - معروفة. اي لا محيض للمؤمن من ان يكون شخوصه وترحاله لا حدى ثلاث: اما ترميم المعيشة واصلاحها، واما تحصيل ما يوجب المكانة والمنزلة في المعاد ويوم القيامة واما الالتذاذ النفساني بالطيبات من المآكل والمناكح والملابس والمشارب والمراكب على الوجه المرخص فيه.

[168]

ومن قوله عليه السلام: (يا بني ان من البلاء الفاقة) الى قوله: (لذة في غير محرم) رواه في المختار (388، و 390) من الباب الثالث من نهج البلاغة، وفي نسخة ابن ابي الحديد ذكرهما تحت الرقم (395 و 3906).

وههنا مقامات: (المقام الاول): انه اطبقت الكتب الالهية، واجمع اصحاب الحس والادراك من الملين وغيرهم على وجود العقل، وكونه من اجل النعم التي امتن الله بها على خلقه، وخصها لاشرف بريته، وان من حرم منها فكأنه حرم من كل شئ، ومن نالها فقد نال ما يفوق ويعلوا كل شئ.

وايضا اتفقوا على ان العقل حاكم، وان حكومته عبارة عن الحث في الخيرات، والبعث على تحصيل المصالح وجلب المنافع، وان حكومته في الشرور والمضار هو الردع عنها، والاجتناب منها، وان حكمه في الموارد الجزئية، والمواطن الشخصية، فرع ادراكه على انه مما فيه النفع أو الضرر سواء كان ترتب النفع أو الضرر على نفس الارتكاب بلا دخل شئ آخر فيه، أو كان ترتبهما - قطعا أو احتمالا - من جهة امر آمر على الارتكاب أو الاجتناب لاجل مصالح أو مفاسد اقتضت ذلك، مع كون الآمر ممن من شأنه ان يعاقب المتمرد عن امره أو نهيه.

وهذا معنى حكومة العقل، لا ان حكومته عبارة عن تشكيل جنود حسية، وسجون تكوينية، وتعذيب بدني خارجي كالضرب بالسوط وقطع الايدي والارجل، وقطع الاسنان، وجدع الانف، وفق ء العين وابانة الرأس من الجسد، وصلب الجثة، الى غير ذلك من انحاء التعذيبات الخارجية التي تتعاطاها الهيئة المسيطرة الحاكمة.

 

[169]

وما ذكرنا من معنى حكومة العقل أمر جلي لا يلتبس على احد، الا من اختلت مشاعره أو خلق من اول الامر مسلوب الشعور، أو كان ممن في قلبه مرض فينكر هذا الامر البديهي ليتوصل الى غرضه، ويزداد في مرضه.

ولا يخفى ان مقدمات حكم العقل قد تكون عقلية محضة على اختلاف انحائها من البديهية والنظرية، وقد يكون بعضها عقليا محضا، وبعضها مأخوذا ممن ثبت عند العقل صدقه وكون نظره صوابا ومطابقا للواقع.

وايضا العقل قد يخطأ في حكمه - وان كان هو حين الحكم لا يحتمل الخطأ بل قاطع بالصواب - كما قد يخطئ اللسان فيجري بقول: (لا) في مقام (نعم) وكذا العكس، وكما قد تخطئ اليد، فترمي ما يراد امساكه وتمسك ما يراد ارساله، الى غير ذلك.

وبالجملة قلة موارد حكم العقل أو خطأه احيانا غير موجب لانكار حكمه فضلا عن انكار اصل العقل.

وكيف يسوغ لعاقل متشرع ان ينكر العقل وحكمه، واني يمكن لمتدبر ان يجحد هذين الاساسين القويمين، والاصلين الوثيقين ؟ ! وليت يشعر الجاحد للعقل وحكمه ان انكاره هذا مرجعه الى انكار الضروريات، والاعتقاد بالسفسطيات، والسلام على الشرعيات، والختام على العقائد والديانات، مع وضوح كون العقل هو الاس، والشرع مبني عليه، ولم يثبت بناء ما لم يكن اس، كما انه لن يغني اس - غناء معتدا به - ما لم يكن بناء، ولنعم ما قال بعضهم: العقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن ينفع البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولم يغن شعاع ما لم يكن بصر، ولذا قال تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه) (8).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) الآية (15، 16) من سورة المائدة: 5.

 

[170]

وايضا فالعقل كالسراج، والشرع كالزيت الذي يمده، فما لم يكن زيت لم يشعل السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، ونبه الله تعالى على ذلك بقوله: (الله نور السموات والارض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم) (9).

وايضا فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما يتعاضدان، بل يتحدان، ولكون الشرع عقلا من خارج، سلب الله اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن نحو قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (10) ولكون العقل شرعا من داخل قال تعالى في صفة العقل (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون) (11) فسمى العقل دينا، ولكونهما متحدين قال: (نور على نور) اي نور العقل ونور الشرع، ثم قال: (يهدي الله لنوره من يشاء) فجعلهما نورا واحدا، فالعقل إذا فقد الشرع عجز عن اكثر الامور كما عجزت العين عند فقد النور.

واعلم ان العقل بنفسه قليل الغنى لا يكاد يتوصل الا الى معرفة كليات الشئ دون جزئياته، نحو ان يعلم جملة حسن اعتقاد الحق، وقول الصدق وتعاطي الجميل، وحسن استعمال المعدلة، وملازمة العفة ونحو ذلك، من غير ان يعرف ذلك في شئ شئ (12) والشرع يعرف كليات الشئ وجزئياته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9) الاية (35) من سورة النور: 24.

(10) الآية (171) من سورة البقرة: 2.

(11) الاية (30) من سورة الروم: 30.

(12) هذا في قبال ما يجئ من عرفان الشرع الحسن والقبح في كل شئ شئ بكليته وجزئيته، لا انه انكار لعرفان العقل بعض الجزئيات، إذ هو خلاف الواقع وذيل عبارة القائل.

 

[171]

ويبين ما الذي يجب ان يعتقد في شئ شئ، وما الذي هو معدلة في شئ شئ فلا يعرف العقل مثلا ان لحم الخنزير والدم والخمر محرمة، وانه يجب ان يتحاشى من تناول الطعام في وقت معلوم، وان لا ينكح ذوات المحارم، وان لا يجامع المرأة في حال الحيض، فان اشباه ذلك لا سبيل الى معرفتها الا بالشرع، فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة، والافعال المستقيمة، والدال على مصالح الدنيا والآخرة، من عدل عنه فقد ضل سواء السبيل.

ولأجل ان لا سبيل للعقل الى معرفة ذلك، قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (13) وقال: (ولو انا اهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل ان نذل ونخزى) (14).

والى العقل والشرع اشار بالفضل والرحمة بقوله عز وجل: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا)(15) وعنى بالقليل المصطفين الاخيار.

اقول: ان الذكر الحكيم قد حث على العقل بأنحاء التعبيرات، ومدح العقلاء بأقسام من التأكيدات، وحسبنا شاهدا لما نقول المراجعة الى مادة (عقل) و (لبب) من كشف الايات لمشاهدة نموذج من بيانات القرآن الكريم حول العقل والعقلاء، فانها تغني المتدبر عن الغور في جميع المواد والسور والآيات، وكذلك تغنيه عن تصفح الاخبار الصادرة عن أهل بيت الوحي (ع).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) الاية (15) من سورة بني اسرائيل.

(14) الاية (134) من سورة طاها.

(15) الاية (83) من سورة النساء: 4.

 

[172]

وبالجملة الامر جلي لا يحتاج الى التطويل، ولا ينبغي لذوي اللب الاصغاء الى خوار من هو عادم ذاتا لهذا الجوهر الثمين الجليل، أو الاستماع الى من فكره كليل، وادراكه عليل، فينكر العقل أو حكمه أو هما معا، إذ على التقدير الاول هذا القائل معترف بأنه لا عقل له، فمن لا عقل له فهو مجنون، وليس من شأن العقلاء الاستماع الى المجانين، وعلى التقدير الثاني أيضا لا يليق للمتأمل الاعتناء بقول هذا المدعي، لانه مقر بأن حكمه: (بأن العقل ليس بحاكم) قد صدر عن حكم غير العقل، وكل حكم صدر عن غير العقل لا بد أن يكون منشأه ومصدره الجهل، والعاقل في شغل عن الاصغاء الى قول يكون مصدره الجهل.

فالمهم - هنا - أن نبين ونشرح المقصود بالعقل، إذ هذا اللفظ - كجل الالفاظ الأخر المشتركة - يطلق على معان عديدة، وبسببه ربما يشتبه المقصود، ويلتبسى الامر على السامع والمخاطب، ولبعضهم هنا كلام لعله لا يقصر عما هو المختار، ولذا نكتفي به ولا نتكلف شيئا آخر: قال: اعلم ان الناس اختلفوا في حد العقل واقسامه وحقيقته، وذهل الاكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة، فصار ذلك سبب أختلافهم، والحق الكاشف للغطاء فيه: ان العقل اسم يطلق بالاشتراك على اربعة معان، كما يطلق اسم العين مثلا على معان عدة، وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد، بل يفرد كل قسم منه بالكشف عنه: (الاول) الوصف الذي به يفارق الانسان سائر البهائم، وهو الذي به أستعد لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده الحارث المحاسبي حيث قال في حد العقل: (انه غريزة يتهيأ بها ادراك العلوم النظرية وتدبير الصناعات، وكأنه نور يقذف في القلب،

 

[173]

به يستعد لإدراك الاشياء).

ولم ينصف من أنكر هذا ورد العقل الى مجرد العلوم الضرورية، فان الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين باعتبار هذه الغريزة، مع فقد العلوم وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والادراكات الحسية، فكذلك العقل غريزة بها يتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية.

ولو جاز أن يسوى بين الانسان والحمار في الغريزة، ويقال: لا فرق بينهما الا أن الله تعالى - بحكم اجراء العادة - يخلق في الانسان علوما وليس يخلقها في الحمار وسائر البهائم، لجاز ان يسوى بين الجماد والحمار في الحياة، ويقال أيضا: لا فرق الا أن الله تعالى يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم اجراء العادة، فانه لو قدر الحمار جمادا ميتا، لوجب القول: بأن كل حركة تشاهد منه، فالله تعالى قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد، وكما وجب أن يقال: لم تكن مفارقته للجماد في الحركة الا لغريزة اختصت به عبر عنها بالحياة، فكذلك مفارقة الانسان للبهيمة في ادراك العلوم النظرية بغريزة يعبر عنها بالعقل، وذلك كالمرآة التي تفارق غيرها من الاجسام في حكاية الصور والالوان، لصفة أختصت بها وهي الصقالة، وكذلك العين تفارق الجبهة في هيئات وصفات استعدت بها للرؤية فنسبة هذه الغريزة الى العلوم نسبة العين الى الرؤية، ونسبة القرآن والشرع الى هذا الغريزة في سياقها الى انكشاف العلوم لها كنسبة نور الشمس الى البصر، فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة.

(المعنى الثاني) الذي يطلق عليه العقل: انه عبارة عن العلوم التي تخرج الى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين اكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين، وهو الذي عناه بعض المتكلمين، حيث قال في حد العقل:

 

[174]

(انه بعض العلوم الضرورية بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات).

وهذا أيضا صحيح في نفسه، لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلا ظاهرا، وانما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة، ويقال: (لا موجود الا هذه العلوم).

(المعنى الثالث) انه علوم تستفاد من التجارب بمجاري الاحوال فان من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال له في العادة (انه عاقل) ومن لا يتصف بذلك يقال: (انه غبي غمر جاهل).

فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا.

(المعنى الرابع) ان العقل عبارة عن انتهاء هذه القوة الغريزية في الشخص الى أن يعرف عواقب الأمور، فيقمع الشهوة الداعية الى اللذة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها (عاقلا)، حيث ان اقدامه وامساكه يكونان بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة وهذه أيضا من خواص الانسان التي يتميز بها عن سائر الحيوانات.

والمعنى الاول هو الأس والمنبع، والثاني هو الفرع الاقرب إليه، والمعنى الثالث متفرع على الاول والثاني، إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب، والرابع هو الثمرة الاخيرة، وهي الغاية القصوى، فالأولان بالطبع، والاخيران بالاكتساب، ولذلك قال علي عليه السلام:

رأيت العقل عقلين * فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مسموع * إذ لم يك مطبوع

كما لا تنفع الشمس * وضوء العين ممنوع (16)

والاول هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما خلق الله خلقا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16) وفى المختار (338) من قصار نهج البلاغة: (العلم علمان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع).

 

[175]

أكرم عليه من العقل) (17) والاخير هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تقرب الناس بأبواب البر فتقرب أنت بعقلك) (18) وهو المراد بقوله صلى الله عليه وآله لأبي الدرداء: (ازدد عقلا تزدد من ربك قربا فقال: بأبي أنت وأمي وكيف لي بذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: (إجتنب محارم الله، وأد فرائض الله تكن عاقلا، واعمل بالصالحات من الاعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة، وتنل بها من ربك القرب والعز) (19).

وعن سعيد بن المسيب انه قال: ان جماعة دخلوا على النبي (ص)، فقالوا: يا رسول الله من أعلم الناس ؟ فقال: العاقل.

فقالوا: فمن أعبد الناس ؟ قال (ص): العاقل.

فقالوا: فمن أفضل الناس ؟ قال: العاقل.

قالوا: أليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته ؟ فقال النبي (ص): (ان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند ربك للمتقين، وان العاقل هو المتقي وان كان في الدنيا خسيسا دنيا) (20).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (انما العاقل من آمن بالله، وصدق رسله، وعمل بطاعته).

ويشبه أن يكون الاسم في أصل اللغة لتلك الغريزة وكذا في الاستعمال، وانما أطلق على العلوم من حيث انها ثمرتها، كما يعرف الشجر بثمرته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17) قيل: رواه الحكيم الترمذي في النوادر بسند ضعيف عن عدة من الصحابة.

وله اسانيد كثيرة من طريق أصحابنا كما سيأتي بعضها.

(18) وقريب منه حكي عن حلية الاولياء لابي نعيم، والرسالة المعراجية ص 15، والصراط المستقيم للشيخ الرئيس والمحقق الداماد.

(19) قيل: رواه ابن المحبر في (العقل) والترمذي في (النوادر).

(20) قيل: رواه مع التالي داود بن المحبر في كتاب العقل.

 

[176]

فيقال: (العلم هو الخشية، والعالم من يخشى الله تعالى).

فان الخشية ثمرة العلم، فيكون كالمجاز لغير تلك الغريزة، ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة، والمقصود ان هذه الاقسام الاربعة موجودة، والاسم يطلق على جميعها، ولا خلاف في وجود جميعها الا في القسم الاول، والصواب وجوده، بل هو الاصل، وهذه العلوم كأنها مضمنة في تلك الغريزة بالفطرة ولكن تظهر للوجود إذا جرى سبب يخرجها الى الوجود، حتى كأن هذه العلوم ليست شيئا واردا عليها من خارج، وكأنها كانت مستكنة فيها فظهرت.

ومثال ذلك الماء في الارض، فانه يظهر بحفر القناة، ويجتمع ويتميز بالحس، لا بأن يساق إليه شئ جديد، وكذلك الدهن في اللوز، وماء الورد في الورد، ولذلك قال الله تعالى: (واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (21) فالمراد به إقرار نفوسهم لا اقرار الالسنة، فانهم انقسموا في اقرار الالسنة حيث وجدت الالسنة والاشخاص، ولذلك قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) (22) ومعناه: ان اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم (فطرة الله التي فطر الناس عليها) أي كل آدمي فطر على الايمان بالله تعالى، بل على معرفة الاشياء على ما هي عليه، أعني انها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للادراك.

ثم لما كان الايمان مركوزا في النفوس بالفطرة، انقسم الناس الى من أعرض فنسي وهم الكفار، والى من أجال خاطره فتذكر، فكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها، ولذلك قال تعالى:) لعلهم يتذكرون) (23)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(21) الاية (172) من سورة الاعراف.

(22) الاية (87) من سورة الزخرف.

(23) الاية (221) من سورة البقرة، و (25) من سورة ابراهيم والاية (43، 46، 51) من سورة القصص.

 

[177]

وقال: (وليتذكر أولو الالباب) (24) وقال: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) (25) وقال: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (26).

وتسمية هذا تذكرا ليس ببعيد، وكأن التذكر ضربان: أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه ولكن غابت بعد الوجود، والآخر أن يكون عن صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة.

وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة، ثقيلة على من مستروحه السماع والتقليد، دون الكشف والعيان، ولذلك تراه يتخبط في مثل هذه الآيات، ويتشعب ويتعسف في تأويل التذكر واقرار النفوس أنواعا من التعسفات، ويتخايل إليه في الاخبار والآيات ضروب من المناقضات، وربما يغلب ذلك عليه، حتى ينظر إليها بعين الاستحقار، ويعتقد فيها التهافت، ومثاله مثال الاعمى الذي يدخل دارا فيعثر فيها بالاواني المصفوفة في الدار فيقول: ما لهذه الاواني لا ترفع من الطريق وترد الى مواضعها ؟ ! فيقال له: انها في مواضعها وانما الخلل في بصرك، فكذلك خلل البصيرة يجري هذا المجرى وأعظم منه وأطم، إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أشد من عمى الفرس.

ولمشابهة بصيرة الباطن بالبصر الظاهر قال الله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) (27) وقال تعالى: (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(24) الاية (29) من سورة صاد.

(25) الاية السابعة من سورة المائدة.

(26) الآية (17، و 22، و 32، و 40 من سورة القمر.

(27) الاية الحادية عشرة من سورة النجم.

 

[178]

والارض) (28) وسمى ضده عمى، فقال: (فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (29) وقال تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) (30).

وهذه الامور التي كشفت للأنبياء صلوات الله عليهم بعضها كان بالبصر وبعضها كان بالبصيرة، وسمي جميعها رؤية.

وبالجملة من لم يكن بصيرته الباطنة ثاقبة لم يعلق به من الدين الا قشوره، وأمثلته دون لبابه وحقائقه، فهذه أقسام ما يطلق عليه اسم العقل.

في بيان تفاوت الناس في العقل قد اختلف الناس في معنى تفاوت العقل، ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قل تحصيله، بل الاولى المبادرة الى التصريح بالحق، والحق الصريح فيه أن التفاوت يتطرق الى الاقسام الاربعة سوى القسم الثاني، وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، فان من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضا استحالة كون الشخص الواحد في مكانين، وكون الشئ الواحد قديما حادثا، وكذلك سائر النظائر، وكل من يدركه فانه يدركه ادراكا محققا من غير شك.

وأما الاقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها: أما القسم الرابع - وهو انتهاء القوة الغريزية الى حد تستولي على قمع الشهوات - فلا يخفى تفاوت الناس فيه، بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد، وهذا التفاوت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(28) الاية (75) من سورة الانعام: 6.

(29) الاية (46) من سورة الحج.

(30) الاية (72) من سورة بني اسرائيل.

 

[179]

تارة يكون لتفاوت الشهوة، إذ قد يقدر العاقل على ترك بعض الشهوات دون بعض، ولكن غير مقصور عليه، فان الشاب قد يعجز عن ترك الزنى، فإذا كبر وتم عقله قدر عليه، وشهوة الرياء والرئاسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفا، وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة، ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الاطعمة المضرة، وقد لا يقدر من يساويه في العقل إذا لم يكن طبيبا وان كان يعتقد فيها مضرة في الجملة، ولكن إذا كان علم الطبيب أتم كان خوفه أشد، فيكون الخوف جندا للعقل، وعدة في قمع الشهوة وكسرها، وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من العامي، لقوة علمه بضرر المعاصي، واعني به العالم الحقيقي دون أرباب الطيالسة وأصحاب الهذيان، فان كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع الى تفاوت العقل، وان كان من جهة العلم فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلا، فانه يقوي غريزة العقل، فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه، وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل، فانها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد.

وأما القسم الثالث - وهو علوم التجارب - فتفاوت الناس فيها لا ينكر، فانهم يتفاوتون بكثرة الاصابة وبسرعة الادراك، ويكون السبب في ذلك اما تفاوتا في الغريزة، واما تفاوتا في الممارسة، أما الاول - أعني الغريزة - فهو الاصل، فالتفاوت فيه لا سبيل الى انكاره، فانه مثل نور يشرق على النفس، ويطلع صبحه ومبادئ اشراقه عند سن التمييز، ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج الى أن يتكامل بقرب الاربعين سنة، ومثاله نور الصبح، فان أوائله تخفى خفاءا يشق ادراكه، ثم يتدرج الى الزيادة الى أن يتكامل بطلوع قرص الشمس، وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور الشمس فالفرق يدرك بين الاعمش وبين الحاد البصر، بل سنة الله جارية في جميع

 

[180]

خلقه بالتدريج في الايجاد، حتى ان غريزة الشهوة لا ترتكز في الصبي عند البلوغ دفعة وبغتة واحدة، بل تظهر شيئا فشيئا على التدريج، وكذا جميع القوى والصفات.

ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع عن ربقة العقل.

ومن ظن ان عقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل عقل آحاد السواد واجلاف البوادي فهو اخس في نفسه من آحاد السواد، وكيف ينكر تفاوت الغريزة، ولولاه لما اختلف الناس فلي فهم العلوم، ولما انقسموا الى بليد لا يفهم بالتفهيم الا بعد تعب طويل من المعلم، والى ذكي يفهم بأدنى رمز واشارة، والى كامل ينبعث من نفسه حقائق الامور من دون تعليم (يكاد) زيتها يضئ ولو لم تمسه نار، نور على نور) وذلك مثل الانبياء عليهم السلام، إذ يتضح لهم في باطنهم امور غامضة من غير تعلم وسماع، ويعبر عن ذلك بالالهام، وعن مثله عبر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (ان روح القدس نفث في روعي: احبب ما احببت فانك مفارقة، وعش ما شئت فانك ميت، واعمل ما شئت فانك تلاقيه) (31).

وهذا النمط من تعريف الملائكة للانبياء عليهم السلام يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع للصوت بحاسة الاذن، ومشاهدة الملك بحاسة البصر، ولذلك اخبر عن هذا بالنفث في الروع.

وانقسام الناس الى من يتنبه من نفسه ويفهم، والى من لا يفهم الا بتنبيه وتعليم، والى من لا ينفعه التعلم ايضا ولا التعليم، كانقسام الارض الى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(31) وفى بعض النسخ: (فانك مجزي به) وهذا الحديث مروي من طريقنا - وليس ببالي الان موضع ذكره - ومن طريق العامة حكي عن الشيرازي في الالقاب من حديث سهل بن سعد، وعن الطبراني في الاوسط والاصغر من حديث علي عليه السلام.

 

[181]

ما يجتمع فيه الماء ويقوى فينفجر بنفسه عيونا والى ما يحتاج الى الحفر ليخرج الى القنوات، والى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس، وذلك لاختلاف جواهر الارض في صفاتها، فكذلك اختلاف النفوس في غريزة العقل.

ويدل على تفاوت العقل من جهة النقل ما روي: ان ابن سلام سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل في آخره وصف عظم العرش وان الملائكة قالت: يا ربنا هل خلقت شيئا أعظم من العرش ؟ قال: نعم العقل.

قالوا: وما بلغ من قدره ؟ قال: هيهات لا يحاط بعلمه، هل لكم علم بعدد الرمل ؟ قالوا: لا.

قال: فاني خلقت العقل اصنافا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي حبة، ومنهم من اعطي حبتين، ومنهم الثلاث والاربع، ومنهم من اعطي فرقا، ومنهم من اعطي وسقا (32) ومنهم أكثر من ذلك.

فان قلت: فما بال اقوام يذمون العقل والمعقول ؟ فاعلم ان السبب في ذلك ان الناس نقلوا اسم العقل والمعقول الى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والالزامات وهي صنعة الكلام، فلم يقدروا على ان يقرروا عندهم انكم أخطأتم في التسمية، إذ كان ذلك لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الالسنة، فذموا العقل والمعقول [اعني] المسمى به عندهم، فأما نور البصيرة الباطنة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله، فكيف يتصور ذمه، وقد أثنى الله عليه، فان ذم ذلك فما الذي يحمد ؟ فان كان المحمود هو الشرع فبم علم صحة الشرع ؟ فان علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع ايضا مذموما، ولا يلتفت الى قول من يقول: (انه يدرك بعين اليقين ونور الايمان لا بالعقل)، فانا نريد بالعقل ما يريده هو بعين اليقين ونور الايمان، وهي الصفة الباطنة التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(32) الفرق: القسم من الشئ. والوسق: مكيال يكال به.

 

[182]

يتميز بها الادمي عن الهبائم حتى ادرك بها حقائق الامور، واكثر هذه التخبطات انما ثارت من جهل اقوام طلبوا الحقائق من الالفاظ، فتخبطوا تخبط اصطلاحات الناس في الالفاظ، وهذا القدر كاف في بيان العقل.

(المقام الثاني): في بيان شرف العقل وماله من القدر والمنزلة.

وليعلم ان هذا لا يحتاج الى تكلف الاستدلال، إذ العقل منبع الخيرات ومما حظي به جميع الناس في معاشهم ومعادهم، وشرفه فطري لكافة العقلاء وقدره مدرك بالضرورة، وانما المقصود هنا ايراد قبس من بيانات المعصومين صلوات الله عليهم حول عظمة العقل، ورفيع منزلته، ليزداد العقلاء ايمانا على ايمانهم، واما الذين في قلوبهم ومشاعرهم مرض فلا يزيدهم الا خسارا.

فنقول: روى في المحجة البيضاء: ج 1، ص 170، عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (يا ايها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا به ما أمركم به ونهيتم عنه، واعلموا انه مجدكم عند ربكم، واعلموا ان العاقل من اطاع الله وان كان دميم المنظر، حقير الخطر، دني المنزلة، رث الهيئة وان الجاهل من عصى الله وان كان جميل المنظر، عظيم الخطر، شريف المنزلة حسن الهيئة، فصوحا نطوقا، فالقرد والخنازير أعقل عند الله عز وجل ممن عصاه، ولا تغتروا بتعظيم اهل الدنيا اياكم فانكم من الخاسرين) (33).

وهذا الخبر - وان كان من طريق العامة - الا ان صدره موافق لروايات اصحابنا كما يعلم مما سيأتي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(33) قيل: اخرجه الخليلي في مشيخته، وابن النجار عن ابي رافع كما في الجامع الصغير باب الشين.

وقال العراقي: اخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر، وابو منصور الديلمي من حديث أبي رافع.

 

[183]

وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، ان النبي صلى الله عليه وآله قال: لكل شئ دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته، اما سمعتم قول الفجار: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير) (34).

وعنو البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله بالعقل، وجد المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم، فاعملهم بطاعة الله اوفرهم عقلا (35).

وعن ابن عباس (ره) قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لكل شئ آلة وعدة وان آلة المؤمن وعدته العقل، ولكل شئ مطية ومطية المرء العقل، ولكل شئ دعامة ودعامة الدين العقل، ولكل قوم غاية وغاية العباد العقل، ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل، ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل، ولكل أهل بيت قيم وقيم بيوت الصديقين العقل ولكل خراب عمارة وعمارة الاخرة العقل، ولكل امرئ عقب ينسب إليه ويذكر به، وعقب الصديقين الذين ينسبون إليه ويذكرون به العقل، ولكل سفر فسطاط وفسطاط المؤمنين العقل (36).

وفي الحديث (22) من الباب الاول من كتاب العقل من البحار: 1، ص 91، ط الحديث، عن البرقي في المحاسن، عن بعض اصحابنا رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وافطار العاقل افضل من صوم الجاهل، واقامة العاقل افضل من شخوض الجاهل، ولا بعث الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(34) الاية (10) من سورة الملك.

(35) قال العراقي: أخرجه داود بن المحبر، ورواه البغوي في معجم الصحابة من ابن عازب رجل من الصحابة غير البراء، وهو بالسند الذي رواه ابن المحبر.

(36) سيجئ قريب منه في روايات اصحابنا فانتظر.

 

[184]

رسولا ولانبيا حتى يستكمل العقل، ويكون عقله افضل من عقول جميع امته وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما ادى العاقل فرائض الله حتى عقل منه، وما بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، ان العقلاء هم أولو الالباب الذين قال الله عز وجل: (انما يتذكر أولوا الالباب) (37).

ورواه ايضا في الحديث الحادي عشر من الباب الاول من كتاب العقل من الكافي: ج 1، ص 13.

وفي الحديث (19) من الباب ص 94، نقلا عن روضة الواعظين قال: قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له.

وفي الحديث (34) من الباب ص 95، نقلا عن كنز الفوائد قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: لكل شئ آلة وعدة وآلة المؤمن وعدته العقل ولكل شئ مطية ومطية المرء العقل، ولكل شئ غاية وغاية العبادة العقل ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل، ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل، ولكل خراب عمارة وعمارة الاخرة العقل، ولكل سفر فسطاط يلجأون إليه وفسطاط المسلمين العقل.

وفي الحديث (41) من الباب ص 96، عنه صلى الله عليه وآله: استرشدوا العقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا.

وفي الحديث (42) عنه صلى الله عليه وآله: سيد الاعمال في الدارين العقل، ولكل شئ دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربه، وقريب من ذيله في كتاب (أدب الدنيا والدين).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(37) الاية (19) من سورة الرعد: 13. والاية التاسعة من سورة الزمر: 39. وفي معناهما آيات اخر في غير واحد من السور.

 

[185]

وفي الحديث (39) من الباب الرابع من البحار: ج 1، ص 160، نقلا عن كنز الفوائد عنه (ص) انه قال: ان العاقل من اطاع الله وان كان ذميم المنظر، حقير الخطر، وان الجاهل من عصى الله وان كان جميل المنظر عظيم الخطر افضل الناس اعقل الناس.

وفي اوائل الحديث الاول - وهو وصايا النبي لعلي عليهما السلام - من باب النوادر من كتاب من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 267، ط النجف: قال صلى الله عليه وآله العقل ما اكتسب به الجنة، وطلب به رضى الرحمان (38) يا علي ان اول خلق خلقه الله عز وجل العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: ادبر، فأدبر، فقال الله: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب الي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب - الخ.

ومن قوله: (أقبل فأقبل) الى آخره مذكور في الحديث الاول من الكافي أيضا.

وقريب منه تحت الرقم (16) من كتاب العلم والادب: (6) من العقد الفريد: 1، ص 279 ط 2.

وأيضا قريب من ذيله في الباب الرابع من الجزء الثاني من كتاب الملاحم والفتن ص 85.

وكذلك في الحديث (13) من الباب الاول من كتاب العقل من البحار: 1، ص 92، عن محاسن البرقي، في الباب الثاني من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(38) لعل تعريفه (ص) العقل بخواصه ولوازمه - دون بيان حقيقته وماهيته - اشارة الى ان العلم والعرفان بحقيقته وكنهه غير ممكن، أو اشارة الى ان المهم والمعتنى به هو العلم بحصول لوازمه وخواصه من السعي في مرضاة الله، واكتساب الجنة، ومجاورة اولياء الله، كما في قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون.

وقل ما انفقتم من خير فللوالدين والاقربين) الخ والعقل - هنا - يشمل النظري والعملي لان رضى الرحمن واكتساب الجنان يحتاج اليهما معا.

 

[186]

كتاب العقل من البحار: 1، ص 96 وما بعدها شواهد كثيرة لذلك.

وفي الحديث الثامن عشر من الباب الرابع من كتاب العقل من البحار: ج 1، ص 131، عن روضة الواعظين وغوالي اللآلي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: رأس العقل بعد الايمان بالله التحبب الى الناس.

ومثله في الحديث السابع عشر.

وفي الحديث (20) من الباب: روي انه قيل للنبي (ص): ما العقل ؟ قال: العمل بطاعة الله، وان العمال بطاعة الله هم العقلاء.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أكمل الناس عقلا أطوعهم لله واعملهم بطاعته، وأنقص الناس عقلا أطوعهم للشيطان وأعملهم بطاعته.

رواه - مع زيادة شاهدة لما تقدم أيضا - في ترجمة محمد بن وهب القرشي من تاريخ ابن عساكر: ج 53 ص 362.

وروى الماوردي في باب فضل العقل من كتاب (أدب الدنيا والدين) ص 4 انه قال (ص): ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه الى هدى، ويرده عن ردى.

وفيه ص 6 عنه صلى الله عليه وآله انه قال: العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل.

وفيه ص 9 عن أنس بن مالك، قال أثني على رجل عند رسول الله (ص) بخير، فقال: كيف عقله.

قالوا: يا رسول الله ان من عبادته، ان من خلقه ان من فضله، ان من أدبه.

فقال: كيف عقله.

قالوا: يا رسول الله نثني عليه بالعبادة وأصناف الخير، وتسألنا عن عقله.

فقال (ص): ان الاحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وانما يقرب الناس من ربهم بالزلف، على قدر عقولهم.

وفي الحديث الثامن من باب العقل من البحار: ج 1، 86، عن الصدوق (ره) في الخصال والامالي معنعنا عن أمير المؤمنين (ع) قال: هبط جبرئيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم اني أمرت ان أخيرك

 

[187]

واحدة من ثلات، فاختر واحدة ودع اثنتين.

فقال آدم: وما الثلاث يا جبرئيل ؟ فقال: العقل والحياء والدين.

قال آدم: فاني قد اخترت العقل (39) فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ودعاه.

فقالا: يا جبرئيل انا أمرنا أن نكون مع العقل حيثما كان (40).

قال فشأنكما.

ورواه في الحديث الثاني من الباب الاول من كتاب العقل من الكافي عنه (ع) معنعنا.

وفي الحديث (31) من الباب الرابع من كتاب العقل من البحار: ج 1، ص 159، نقلا عن الدرة الباهرة، قال: قال امير المؤمنين (ع): العاقل من رفض الباطل.

وفي المختار (235) من قصار نهج البلاغة: قيل له (ع): صف لنا العاقل.

فقال: هو الذي يضع الشئ مواضعه.

قيل له: فصف لنا الجاهل.

قال: قد فعلت - أي ان الجاهل هو الذي يضع الشئ في غير مواضعه.

وفي الحديث الاخير - وما قبله - من الباب الرابع من البحار: ج 1، ص 161، نقلا عن كنز الفوائد قال: قال (ع): عجبا للعاقل كيف ينظر الى شهوة يعقبه النظر إليها حسرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) قيل المراد بالعقل - هنا - لطيفة ربانية يدرك بها الانسان حقيقة الاشياء، ويميز بها بين الخير والشر، والحق والباطل، وبها يعرف ما يتعلق بالمبدأ والمعاد، وله مراتب بحصب الشدة والضعف.

والحياء غريزة مانعة من ارتكاب القبائح، ومن التقصير في حقوق الحق والخلق.

والدين: ما به صلاح الناس ورقيهم في المعاش والمعاد من غرائز خلقية، وقوانين وضعية.

(40) قيل: لعل المراد بالامر هو التكويني دون التشريعي، وهو استلزام العقل وتبعيته للحياء والدين

 

[188]

وقال (ع): همة العقل ترك الذنوب واصلاح العيوب.

وقال (ع): زينة الرجل عقله.

وفي المختار (424) من قصار النهج: الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام باتر، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك.

وفي الحديث الثالث عشر من باب العقل من الكافي: ج 1، ص 20 معنعنا عنه (ع): العقل الغطاء الستير (41) والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقك بفضلك، وقاتل هواك بعقلك، تسلم لك المودة، وتظهر لك المحبة.

وفي الحديث (34) من الباب ص 28 معنعنا عنه (ع) قال: بالعقل استخرج غور الحكمة (42)، وبالحكمة استخرج غور العقل، بحسن السياسة يكون الادب الصالح.

وفي الحديث السادس من الباب (104) من أبواب أحكام العشرة من مستدرك الوسائل ج 2 ص 92، عن كفاية الاثر معنعنا قال: مرض علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام في مرضه الذي توفي فيه، فجمع أولاده - محمدا عليه السلام، والحسن وعبد الله، وعمر، وزيد، والحسين - وأوصى الى ابنه محمد، وجعل أمرهم إليه، وكان فيما وعظه في وصيته أن قال: يا بني ان العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والعقل ترجمان العلم.

واعلم ان العلم أبقى، واللسان أكثر هذرا.

واعلم يا بني أن صلاح الدنيا بحذا فيرها في كلمتين: اصلاح شأن المعائش ملء مكيال ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل، لأن الانسان لا يتغافل الا عن شئ قد عرفه وفطن له - الخبر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) الستير فعيل بمعنى فاعل، ولعله انما عبر به (ع) للمبالغة.

(42) غور الحكمة: قعرها وغور العقل: نهاية ما في كمونه من الاستعداد.

 

[189]

وفي الحديث السادس عشر من الباب الاول من كتاب العقل والجهل من البحار: ج 1، ص 89 ط الحديث بطهران، عن الصدوق (ره) في علل الشرائع عن الامام الصادق عليه السلام، قال: ما خلق الله عز وجل شيئا أبغض إليه من الاحمق، (43) لأنه سلبه أحب الاشياء إليه، وهو عقله.

وفي الحديث السابع عشر من الباب نقلا عن العلل معنعنا عنه (ع) قال: دعامة الانسان العقل، ومن العقل الفطنة والفهم والحفظ والعلم، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما حافظا زكيا فطنا فهما، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره.

قال المجلسي الوجيه (ره): لما كان النور سببا لظهور المحسوسات يطلق على كل ما يصير سببا لظهور الاشياء على الحس أو العقل: فيطلق على العلم، وعلى أرواح الائمة عليهم السلاام، وعلى رحمة الله سبحانه وتعالى، وعلى ما يلقيه في قلوب العارفين من صفاء وجلاء به يظهر عليهم حقائق الحكم، ودقائق الامور، وعلى الرب تبارك وتعالى لانه نور الانوار ومنه يظهر جميع الاشياء في الوجود العيني والانكشاف العلمي، وهنا يحتمل الجميع.

وفي الحديث (20) من الباب ص 94، نقلا عن الاختصاص قال: قال الامام الصادق عليه السلام: إذا أراد الله أن يزيل من عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله.

وفي الحديث الثالث من ا لباب الاول من كتاب العقل من الكافي: ج 1،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(43) قال بعض الاكابر: المراد من البغض - هنا على ما يظهر من تعليله عليه السلام - هو منعه مما من شأن الانسان أن يتلبس به، وهو العقل الذي هو احب الاشياء الى الله، لنقص في خلقته، فهو بغض تكويني بمعنى التبعيد والحرمان من مزايا الخلقة، لا بعض تشريعي بمعنى تبعيده من المغفرة والجنة.

 

[190]

ص 11، - والحديث الثامن من الباب الرابع من كتاب العقل من البحار: 1، 116، عن المحاسن ومعاني الاخبار - معنعنا عن الامام الصادق (ع) قال: العقل ما عبد به الرحمان، واكتسب به الجنان.

قال السائل: فالذي في معاوية.

قال: تلك النكراء وتلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بعقل.

وفي الحديث (22) من كتاب العقل من أصول الكافي: ج 1، ص 25، معنعنا عنه (ع) قال: حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل.

وفي الحديث (24) من الباب معنعنا عنه (ع) قال: العقل دليل المؤمن.

وفي الحديث (33) من كتاب العقل من الكافي ص 28 معنعنا عنه عليه السلام قال: ليس بين الايمان والكفر الا قلة العقل - الخ.

وفي الحديث ما قبل الاخير من كتاب العقل من الكافي ص 29 معنعنا عن الحسن بن عمار، عن ابي عبد الله عليه السلام في حديث طويل: ان أول الامور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شئ الا به العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم وأنهم مخلوقون وأنه المدبر لهم وأنهم المدبرون، وانه الباقي وهم الفانون، واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه ومن سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره بأن له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظمة في الجهل، وان النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل.

قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره ؟ قال: ان العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهة، وأن له طاعة، وأن له معصية، فلم يجد

 

[191]

[الا ان ظ] عقله يدله على ذلك، وعلم انه لا يوصل إليه الا بالعلم وطلبه، وانه لا ينتفع بعقله ان لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والادب الذي لاقوام له الا به.

وأما ما ورد عن الامام الكاظم (ع) في العقل والعقلاء، فيكفي وصاياه (ع) لهشام بن الحكم (ره)، فارجع إليها فانه [ع] يمثل فيها العقل ويكبره بحيث يخيل الى القارئ والمستمع انه لا مخلوق لله الا العقل، ومن جملة ما قال (ع) فيها: (يا هشام ان لله على الناس حجتين: حجة ظارة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول) - الخ.

وفي الحديث (32) من كتاب العقل من الكافي ص 27، معنعنا عن الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: ذكر عنده أصحابنا وذكر العقل.

فقال عليه السلام: لا يعبأ بأهل الدين ممن لا عقل له.

قلت: جعلت فداك ان ممن يصف هذا الامر قوما لا بأس بهم عندنا وليست لهم تلك العقول.

فقال: ليس هؤلاء ممن خاطب الله، ان الله خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحسن منك، أو أحب الي منك، بك آخذ وبك أعطي.

ولنختم الكلام بما رواه في الحديث الثامن عشر من الباب الثاني من البحار: ج 1، ص 94، عن روضة الواعظين عن حبر الامة عبد الله بن عباس (ره) قال: أساس الدين بني على العقل، وفرضت الفرائض على العقل، وربنا يعرف بالعقل، ويتوسل إليه بالعقل، والعاقل أقرب الى ربه من جميع المجتهدين بغير عقل، ولمثقال ذرة من بر العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام.

 

[192]

(المقام الثالث): في الاخبار التي وردت على نسق قوله (ع): (يا بني لا فقر أشد من الجهل).

وفي الحديث (25) من كتاب العقل والجهل من الكافي: 1، ص 25 معنعنا عن الامام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي لا فقر أشد من الجهل، ولا مال اعود من العقل.

وفي أواخر وصايا النبي (ص) لعلي (ع) على ما رواها الصدوق (ره) في الحديث الاول من باب نوادر الفقيه ج 4 ص 269 ط النجف: يا علي لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف عن محارم الله تعالى، ولا حسن كحسن الخلق، ولا عبادة مثل التفكر - الخ.

وفي الحديث (34) من الباب الاول من كتاب العقل من البحار: ج 1، ص 32، نقلا عن الاختصاص عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: لا مال أعود من العقل، ولا مصيبة أعظم من الجهل، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا ورع كالكف من المحارم، ولا عبادة كالتفكر، ولا قائد خير من التوفيق، ولا قرين خير من حسن الخلق، ولا ميراث خير من الأدب.

وعن العلامة الكراجكي (ره) في كنز الفوائد عنه (ع): لاعدة أنفع من العقل، ولا عدو أضر من الجهل.

وفي المختار (38) من قصار نهج البلاغة، ورواه أيضا جماعة: ان أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العج، وأكرم الحسب حسن الخلق - الخ.

 

[193]

وفي المختار (54) من قصار النهج أيضا: لا غني كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالادب، ولا ظهير كالمشاورة.

وأيضا في المختار (113) من قصار النهج: لا مال أعود من العقل، ولاحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق، ولا ميراث كالادب، ولا قائد كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولاربح كالثواب، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزهد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة كأداء الفرائض، ولا ايمان كالحياء والصبر، ولا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم، ولا عز كالحلم، ولا مظاهر أوثق من المشاورة.

وفي الحديث الاخير من كتاب العقل من الكافي: ج 1، ص 29 معنعنا عن الامام الصادق عليه السلام قال: لا غناء أخصب من العقل، ولا فقر أحط من الحمق، ولا استظهار في أمر بأكثر من المشورة فيه.

وروي الشيخ المفيد (ره) في كتاب الاختصاص 246، ط 2، عنه عليه السلام انه قال: لامال أعود من العقل، ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا قائد خير من التوفيق، ولا قرين خير من حسن الخلق، ولا ميراث خير من الادب.

وروى الشيخ الطوسى (ره) في الامالي معنعنا عن أبي فرات قال: قرأت في كتاب لوهب بن منبه وإذا مكتوب في صدر الكتاب: هذا ما وضعت الحكماء في كتبها: الاجتهاد في عبادة الله اربح تجارة، ولا مال أعود من العقل، ولا فقر أشد من الجهل، وأدب تستفيده خير من ميراث وحسن الخلق خير رفيق، والتوفيق خير قائد، ولا ظهر أوثق من المشاورة ولا وحشة أوحش من العجب، ولا يطمعن صاحب الكبر في حسن الثناء عليه.

 

[194]

(المقام الرابع): في ذكر ما ورد من الاخبار على مجرى قوله (ع): (للمؤمن ثلاث ساعات) الخ.

روى الشيخ الصدوق (ره) في الباب (191): باب معنى تحية المسجد، ومن كتاب معاني الاخبار، ص 332 ط طهران معنعنا عن أبي ذر (ره) قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو في المسجد جالسا وحده، فاغتنمت خلوته، فقال لي: يا أبا ذر ان للمسجد تحية.

قلت: وما تحيته ؟ قال: ركعتان تركعهما - وساق الرواية الى أن قال -: قلت: يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب ؟ قال: مأة كتاب وأربعة كتب - الى أن قال -: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم ؟ قال: كانت أمثالا كلها: (أيها الملك المبتلى المغرور اني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فاني لا أردها وان كانت من كافر).

وعلى العاقل - ما لم يكن مغلوبا على عقله - أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيما صنع الله تعالى، وساعة يخلو فيها بحظ حقه من الحلال، وان هذه الساعة عون لتلك الساعات، واستجمام للقلوب وتفريغ لها (44).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(44) يقال: (جم القوم جموما): استراحوا. والفعل من باب فر ومد، والمصدر على زنة سرور، وايضا يقال: جم الماء: تجمع بكثرة. ويقال: أجم الفرس - بصيغة المعلوم والمجهول -: ترك ولم يركب. ويقال: (أجمم نفسك يوما أو يومين) اي أترك الحركة. ويقال: (اني لاستجم قلبي بشئ من اللهو) أي أجعل قلبي فارغا ومتفكها بشئ من اللهو. والمراد من الساعة في أمثال المقام: قطعة من الزمان: الليل أو النهار، لا الساعة المصطلحة المتعارفة في عصرنا، وهو الجزء من اربع وعشرين جزءا من اليوم والليلة.

 

[195]

وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه فانه من حسب كلامه من عمله قل كلامه الا فيما يعنيه.

وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث [لثلاثة خ]: مرمة لمعاش، وتزود لمعاد، وتلذذ في غير محرم - الى أن قال (ص) في آخر كلامه -: يا أبا ذر لاعقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق.

وفي الحديث (23) من الباب الرابع من البحار: 1، ص 43 س 7 عكسا، وفي ط ص 131، عن روضة الواعظين عن أمير المؤمنين (ع) عن النبي (ص) انه قال: ينبغي للعاقل إذا كان عاقلا أن يكون له اربع ساعات من النهار: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يأتي أهل العلم الذين ينصرونه في أمر دينه وينصحونه، وساعة يخلي بين نفسه ولذتها من امر الدنيا فيما يحل ويحمد.

وفي أوائل وصايا النبي (ص) لعلي (ع) على ما رواه الصدوق (ره) في الحديث الاول من نوادر الفقيه ج 4 ص 257 ط النجف: يا علي لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعنا الا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد أو لذة في غير محرم.

وفي الحديث الخامس من الباب (45) من البحار: 16، ص 56، ط الكمباني عن محاسن البرقي معنعنا قال قال: أمير المؤمنين (ع) لابنه الحسن (ع): ليس للعاقل أن يكون شاخصا الا في ثلاثة: مرمة لمعاش، أو حظوة لمعاد، أو لذة في غير محرم.

وقريب منه في الحديث (20) من الباب الرابع من البحار: 1، ص 43 س 9 عكسا.

ط الكمباني وفي ط ص 131، نقلا عن روضة الواعظين.

وفي الحديث الاول من الباب (45) من القسم الثاني من السادس عشر من البحار ص 56 معنعنا عن الامام الصادق (ع) قال: مكتوب في

 

[196]

حكمة آل داود عليه السلام: لا يظعن الرجل الا في ثلاث: زاد لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.

- ثم قال (ع): من أحب الحياة ذل.

ورواه الصدوق (ره) في باب الثلاث من الخصال ص 59 معنعنا.

وقريب منه بسند آخر في الحديث السادس من الباب من البحار.

في الحديث (79) من باب النوادر من الفقيه ج 4 ص 298، عن حماد بن عثمان عنه (ع) قال: في حكمة آل داود: ينبغي للعاقل أن يكون مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، عارفا بأهل زمانه.

وفي الحديث (49) من كلم الامام الرضا (ع) في البحار: 17، ص 208 ط الكمباني عن فقه الرضا عن العالم (ع): واجتهدوا أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لله لمناجاته، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الاخوان الثقات والذين يعرفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم (45)، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث الساعات، لا تحدثوا انفسكم بالفقر ولا بطول عمر ك فانه من حدث نفسه بالفقر بخل ومن حدثها بطول العمر حرص، اجعلوا لانفسكم حظا من الدنيا باعطائها ما تشتهي من الحلال وما لم يثلم المروءة ولاسرف فيه واستعينوا بذلك على امور الدنيا (46)، فانه نروي (ليس منا من ترك دنياه لدينه أو دينه لدنياه).

اقول: ورواه في المختار السابع من قصار كلم الامام الكاظم (ع) من تحف العقول ص 410، ط ايران، وص 307، ط النجف بمغايرة في بعض الالفاظ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(45) وفى تحف العقول: (وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم) الخ.

(46) وفى تحف العقول: (واستعينوا على أمور الدين، فانه روي: ليس منا من ترك) الخ.

 

[197]

(المقام الخامس): فيما ورد عن الحكماء في العقل.

قال بعض حكماء العرب: العقل امير، والعلم له نصير، والحلم له وزير.

قال بعض حكماء الهند: العقل حاكم امين، والعلم له قرين، والحلم له خدين.

وقال بعض حكماء الفرس: العقل ملك الجوارح، والعلم له اخ صالح، والحلم له اليف ناصح.

وقال بعض حكماء الروم: العقل مدبر آمر، والعلم له معاضد ناصر، والحلم له منجد مؤازر.

وفي كتاب كليلة ودمنة: من غلب عقله هواه، نال مناه واعطي رضاه.

وفي كتاب الاساس لبطليموس: العقل اصل، وقوام الاشياء بالفضل والعدل.

ورو الصولي عن بعضهم انه قال: لولا العقول المضيئة، وخلائقها الرضية لما كان التفاضل بين الحيوان، ولما فرق بين البهيمة والانسان.

كل ذلك نقله العلامة الكراجكي (ره) في كنز الفوائد ص 196.

وقال بعض حكماء الهند: ينبغي للعاقل ان يدع التماس مالا سبيل إليه والا يعد جاهلا، كرجل اراد أن يجري السفن في البر والعجل في البحر، وذلك مالا سبيل إليه.

وقال بعضهم: ظن العاقل كهانة.

وقالوا: العاقل يقي ماله بسلطانه، ونفسه بماله، ودينه بنفسه.

وقال الاحنف: أنا للعاقل المدبر، أرجى مني للأحمق المقبل.

وقال بعضم: العقل أفضل مرجو، والجهل أنكى عدو.

وقال بعض البلغاء: خير المواهب العقل، وشر المصائب الجهل.

 

[198]

ونقل ابن مسكويه (ره) في الحكمة الخالدة ص 68 وما بعدها عن بعض حكماء الفرس كلاما وفيه: (وعلى العاقل محاسبة نفسه ومخاصمتها والقضاء عليها والابانة لها ثم التنكيل بها.

(أما المحاسبة) فيحاسبها بماله، فانه لا مال له الا ايامه المعدودة التي ما ذهب منها لم يستخلف النفقة، وما جعل منها في الباطل لم يرجع في الحق، فيتنبه لهذه المحاسبة عند الحول إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك وما كسب لنفسه وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا، بحساب فيه احصاء وجد وتذكير وتبكيت النفس وتذليل لها حتى تعترف وتذعن.

(فأما الخصومة) فان من طباع النفس الامارة بالسوء أن تدعي فيما مضى العذر، وفيما بقى الاماني، فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها.

(فأما القضاء) فانه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة أنها سيئة، والسيئة فاضحة مردية موبقة، وعلى الحسنة انها زائنة وانها مربحة منجية.

(وأما الابانة والتفصيل)، فانه يسر نفسه بتذكير تلك الحسنات ويرجو عواقبها، ويأمل فضلها، ويعاتب نفسه على الحقيقة إذا تذكر السيئات فاستبشعها واقشعر منها، فحزن على ما ارتكبه منها، وعلم ان أفضل ذوي الالباب اكثرهم محاسبة لنفسه، وأقلهم فترة فيها.

(واما التنكيل بها) فانه يعاقبها إذا عصته في بعض الاوقات بالزامها ما يشق عليها من الصوم والطي والعبادات الثقيلة، والسعي الذي فيه طول ومشقة الى المواضع التي يشرفها الناس.

(وعلى العاقل) أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارا، يباشر القلب ويقدع [ويقزع خ] الطماح، فان في كثرة ذكر الموت عصمة من الاشر، وأمانا من الهلع.

 

[199]

(وعلى العاقل) ان يحصي على نفسه مساوئها في الدين وفي الرأي وفي الادب، فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يكثر عرضها على نفسه ويكلفها اصلاحه، ويوظف ذلك عليها من اصلاح الخلة أو الخلتين أو الخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما اصلح شيئا محاه، وكلما نظر الى محو استبشر، وكلما نظر الى ثابت اكتأب.

(وعلى العاقل) أن يتفقد محاسن الناس ويحصيها ويصنع في توظيفها على نفسه وتعهدها مثل الذي وصفنا في اصلاح المساوي.

(وعلى العاقل) ان لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس - ما استطاع - الا ذا فضل في الدين والعلم والاخلاق ليأخذ عنه، أو موافقا له على اصلاح ذلك فيأخذ [فيؤيد خ ل [ما عنده وان لم يكن له عليه فضل فان الخصال الصالحة في المرء لا تحيا ولا تنمى الا بالموافقين والمؤيدين، وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو اقرب إليه ممن وافقه على صالح الاعمال فزاده أوثبته، ولذلك قال بعض الاولين: (ان صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب الي من صحبة لبيب ذكي نشأ مع الجهال).

(وعلى العاقل) (ان لا يحزن على شئ من الدنيا تولى، وان ينزل ما اصاب من الدينا ثم انقطع عنه بمنزلة ما لم يصب، ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها من غير ان يبلغ به ذلك سكرا أو طغيانا، فان مع السكر طغيان، ومع الطغيان التهاون، ومن نسي وتهاون فقد خسر خسرانا مبينا.

(وعلى العاقل) ان يؤنس ذوي الالباب بنفسه، ويجعلهم خزنة وحراسا على افعاله، ثم على سمعه وبصره ورأيه، ويستنيم الى ذلك ويستريح إليه قلبه ويعلم انهم لا يغفلون عنه إذا غفل هو عن نفسه.

(وعلى العاقل) (47) ان لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(47) من هنا الى قوله: (أو لذة في غير محرم) كان المقصود الاصلى من نقل هذا الكلام، والتتمة ذكرناها استطرادا لموافقتها مع الروايات، ونفاسة مضمونها، ومناسبتها لما نحن فيه.

 

[200]

فيها حاجاته الى ربه، وساعة يقضي فيها الى اخوانه وثقاته الذين يصدقونه [يصدونه خ] عن عيوبه، وينصحونه في أمره، وساعة يصلح فيها أمر منزلته ومعاشه، وساعة يخلى فيها نفسه ولذاتها بما يحل ويجمل، فلا يعترض بينها وبينها، فان هذه الساعة عون على الساعات الأخر، واستجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بلغة.

(وعلى العاقل) ان لا ينظر الا في ثلاث خصال: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير مجرم.

(وعلى العاقل) ان يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين: فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض والحجاز وتحرز في كل كلمة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم التحرز، ويلبس لهم لباس الامنة واللطف والمفاوضة، ولا يدخل في هذه الطبقة الا واحد من الف، ليكون كلهم ذوي فضل في الرأي، وثقة في المودة، وامانة في السرور، ووفاء بالاخاء.

(وعلى العاقل) إذا استشار عقله ان لا يخالفه، ولا يستصغر شيئا من الخطأ الذي يخالفه فيها ان كان في رأي وزلل في علم، أو اغفال في امر، فان من استصغر صغيرا يوشك ان يجمع بينه وبين آخر صغير ثم صغير، فإذا الصغير قد صار كبيرا، وانما هي ثلم يثلمها الجهل والعجز والاهمال، فإذا لم تسد أو شكت ان تنفجر بما لا يطاق، ولم نر مستكثرا مستعظما الا وقد اتي من جهة الصغير المتغاوي فيه، المتهاون به، وقد رأينا الملك يؤتى من جهة المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من جهة المحتقر حتى يهجم منه على

 

[201]

اليسير المستهان به، ورأينا الحريق العظيم يكون من قبل الشرارة الصغيرة، ورأينا الاحقاد والعداوات من قبل الكلمة الحقيرة التي ربما كان سببها المزاح أو قلة التحفظ، وأقل الامور احتمالا لصغير الخطأ والتضييع الملك، لانه ليس شئ منه يضيع وان كان صغيرا الا اتصل بآخر يكون عظيما.

(وعلى العاقل) ان يجبن عن المضي على الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وان ظن انه على اليقين.

(وعلى العاقل) إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر أيهما الصواب، ان ينظر الى اقربهما الى هواه مخالفة، فان الهوى عدو العقل فيحذره.

ومن نصب نفسه اماما في الدين والحكمة، فعليه ان يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والاخوان والمعاشرين، ليكون تعليمه بسيرته ابلغ من تعليمه بلسانه، فانه كما ان كلام الحكماء يروق الاسماع فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم إذا لم يبدأ بنفسه الخ.

وقال بزرجمهر: ثلاث خصال ينبغي للعاقل ان يرغب فيهن: الدعة في غير تضييع، والنعمة في غير شين، واللذة من غير مأثم.

وقال حكيم آخر من الفرس: ثلاث خصال ينبغي للعاقل ان يصنعهن، بل يجب ان يحث عليهن نفسه واقاربه ومن اطاعه، عمل يتزوده لمعاده، وعلم طب يذب به عن جسده، وصناعة يستعين بها في معاشه.

(المقام السادس): فيما افاده الشعراء في العقل والعاقل: في الرقم (25) من حرف الباء من الديوان المنسوب الى امير المؤمنين عليه السلام الذي رتبه السيد الامين (ره):

 

[202]

وأفضل قسم الله للمرء عقله * فليس من الخيرات شئ يقاربه

إذا اكمل الرحمان للمرء عقله * فقد كملت أخلاقه ومآربه

يعيش الفتى في الناس بالعقل انه * على العقل يجري علمه وتجاربه

يزين الفتى في الناس صحة عقله * وان كان محظورا عليه مكاسبه

يشين الفتى في الناس قلة عقله * وان كرمت اعراقه ومناصبه

ومن كان غلابا بعقل ونجدة * فذو الجد في امر المعيشة غالبه

وفي ذيل البيت (20) من حرف اللام من الديوان:

إذ كنت ذا علم ولم تك عاقلا * فانت كذي نعل وليس له رجل

وان كنت ذا عقل ولم تك عالما * فانت كذي رجل وليس له نعل

ألا انما الانسان غمد لعقله ولا خير في غمد إذا لم يكن نصل

وفي ذيل المختار (26) من حرف الباء، من الديوان:

ليس اليتيم الذي قد مات والده * ان اليتيم يتيم العقل والحسب

وفي ذيل المختار (28) من حرف الباء، ص 40:

انما الفخر لعقل ثابت * وحياء وعفاف وأدب

وقال:

لولا العقول لكان أدنى ضيغم * ادنى الى شرف من الانسان

ولربما طعن الفتى اقرانه * بالرأي قبل تطاعن الاقران

حسب الف تى عقله خلا بصاحبه * إذا تحاماه اخوان وخلان

وقال آخر:

العقل حلة فخر من تسر بلها * كانت له نسبا تغني عن النسب

والعقل افضل ما في الناس كلهم * بالعقل ينجو الفتى من حومة الطلب

وقال آخر:

ألم تر ان العقل زين لاهله * وان تمام العقل طول التجارب

 

[203]

وقال:

ما وهب الله لامرئ هبة * اشرف من عقله ومن ادبه

هما حياة الفتى فان عدما * فان فقد الحياة اجمل به

وقال:

يعد رفيع القوم من كان عاقلا * وان لم يكن في قومه بحسيب

وان حل ارضا عاش فيها بعقله * وما عاقل في بلدة بغريب

وقال آخر:

ومن يك ذا مال ولم يك عاقلا * فذاك حمار حملوه من التكبر

ارى العقل مرآة الطبيعة اذبه * نرى صور الاشياء في عالم الفكر

وقال آخر:

ذو العقل في معرك الاشياء مقتدر * لكن ذا الجهل مغلوب ومغلول

وعقل ذي الحزم مرآة الامور بها * يرى الحقائق والمجهول مجهول

وقال آخر:

وعقول الانام لو تستوي لم * يك فرق بين الغبي والنبيه

محور الارض لو غدا مستقيما * لتساوي النهار والليل فيه

وقال آخر:

إذا تم عقل المرء تمت اموره * وتمت أمانيه وتم بناؤه

وقال آخر:

من لم يكن عقله مؤدبه * لم يغنه واعظ من النسب

كم من وضيع الاصول في أمم * قد سودوه بالعقل والادب

وقال آخر:

وما المرء الا الاصغران لسانه * ومعقوله والجسم خلق مصور

فان تر منه ما يروق فربما * أمر مذاق العود والعود اخضر

 

[204]

وقال آخر:

وما بقيت من اللذات الا * محادثة الرجال ذوي العقول

وقد كانوا إذا ذكروا قليلا * فقد صاروا أقل من القليل

وقال آخر:

لعمرك ما بالعقل يكتسب الغنى * ولا باكتساب المال يكتسب العقل

وكم من قليل المال يحمد فضله * وآخر ذو مال وليس له فضل

وما سبقت من جاهل قط نعمة الى احد الا اضر بها الجهل

وذو اللب ان لم يعط احمدت عقله * وان هو اعطى زانه القول والفعل

وقال آخر:

وترى الناس كثيرا فإذا * عد اهل العقل قلوا في العدد

لا يقل المرء في القصد ولا * يعدم القلة من لم يقتصد

لا تعد شرا وعد خيرا ولا * تخلف الوعد وعجل ما تعد

لا تقل شعرا ولا تهمم به * وإذا ما قلت شعرا فأجد

وقيل :

يعرف عقل المرء في اربع * مشيته اولها والحرك

ودور عينيه والفاظه * بعد عليهن يدور الفلك

وربما اخلفن الا التي * آخرها منهن سميت لك

هذي دليلات على عقله * والعقل في اركانه كالملك

ان صح صح المرء من بعده * ويهلك المرء إذا ما هلك

فانظر الى مخرج تدبيره * وعقله ليس الى ما انتهك

فربما خالط اهل الحجى * وقد يكون النوك في ذي النسك

فان امام سال عن فاضل * فادلل على العاقل لا ام لك