[235]

- 31 -

ومن وصية له عليه السلام

لا يكن همك يومك الذي إن فاتك لم يكن من أجلك فإن كل يوم تحضره يأتي الله فيه برزقك.

وأعلم أنك (1) لم تكسب شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك، يكثر في الدنيا فيه تعبك، ويحظى به وارثك (2).

ويطول معه يوم القيامة حسابك.

فأسعد بمالك في حياتك، وقدم ليوم معادك زادا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وفى عيون الاخبار: 2، 371، عنه (ع) يا ابن آدم لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي انت فيه، فان يك من أجلك يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك الا كنت فيه خازنا لغيرك.

قال النابغة:

ولست بحابس لغد طعاما * حذار غد لكل غد طعام

ومن قوله (ع): واعلم - الى قوله: الا كنت فيه خازنا لغيرك، ذكرناه في المسانيد من قصار كلمه (ع).

وذكره السيد (ره) ايضا في المختار 188، من قصار النهج.

وعن بعض الحكماء: لا ينبغي للملتمس أن يلتمس من العيش الا الكفاف الذي به يدفع الحاجة عن نفسه، وما سوى ذلك انما هو زيادة في تعبه وغمه.

(2) يقال: حظي - حظوة وحظة وحظوة، على زنة حرمة واربه وشدة، والفعل من باب علم، حظى زيد بالمال والرزق: نال حظا منه.

 

[236]

يكون لك أمامك، فإن السفر بعيد والموعد القيامة والمورد الجنة أو النار.

المختار 11، من الفصل 8، مما اختار من كلامه (ع) في الارشاد 225.

وقريب منه جدا رواه العياشي (ره) عنه (ع) في تفسيره، كما في الحديث 54، من الباب 2، من كتاب التجارة من البحار: 23، ص 11، س 9 عكسا.

ورواه عنه أيضا في الحديث 7، من الباب 11، من كتاب التجارة، من مستدرك الوسائل: 2، 420.

ورواه بمثل ما في الارشاد، في كشف اليقين 71، س 8، ط النجف.

وصدر الكلام قريب جدا من المختار 267 و 183 من قصار نهج البلاغة.

وقريب من الصدر أيضا في المختار (26) من لمع كلمه (ع) في كتاب نزهة الناظر.

قال أبو جعفر: مدار هذه الوصية على أمور ثلاثة: (الاول): عدم الاهتمام والتحزن لرزق يوم لم يأت بعد، فان عند مجيئه وحضوره يأتي الله فيه برزق الانسان، وعند عدم ادراكه ولقائه فما أغنى الشخص عن الرزق، فالهم والغم لماذا ؟ ! (الامر الثاني): ان كل ما يكتسبه الانسان من متاع الدنيا فوق قوته وما يحتاج إليه في حياته، فانما هو خازن لغيره وحمال لورثته ومن يتسلط على تركته، وحظه منه في الدنيا تعب الجمع وكلال الحفظ والادخار، وفي الآخرة طول الحساب، ونقاش الاكتساب، فليس له منه الا الوبال، وانما الحظ لوارثه، والمتمتع به لمن يستولي عليه ويتملكه.

(الأمر الثالث): الحث على تحصيل السعادة بالمال في حال الحياة بصرفه في حوائجه، وجعله جنة في شدائده، وتقديمه ذخرا ليوم المعاد،

 

[237]

باعانة الفقراء، واغاثة الملهوفين والضعفاء، وتعمير سبل الخير، وما لله فيه رضى وعناية، فان سفر الاخرة بعيد المسافة، وموعد المجازات بالاعمال هو يوم القيامة، ومورد العاملين لله الجنة، ومأوى المتمردين وتاركي أوامر الله النار.

وينبغي لنا ان نذكر شطرا من الاثار التي تعاضد الوصية الشريفة لتكون كالشرح والبيان لها.

ففي الحديث المرفوع: " أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل كسب مالا من غير حلة فدخل به النار، وورثه من عمل فيه بطاعة الله فدخل به الجنة ".

وفي الحديث الاول، من باب حب المال، من البحار: 16، 101.

ط الكمباني، عن أمالى الصدوق (ره) معنعا، قال الامام الصادق (ع): كان في بني اسرائيل مجاعة حتى نبشوا الموتى فأكلوهم فنبشوا قبرا فوجدوا فيه لوحا فيه مكتوب: " ما قدمنا وجدناه، وما أكلنا ربحناه وما خلفنا خسرناه ".

وفي شرح المختار (45) من الباب الاول من نهج البلاغة من شرح ابن أبي الحديد: 2 ص 155،: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لاخوين من الانصار: " لا تيأسا من روح الله ما تزهزهت رؤسكما، فان أحدكم يولد لاقشر عليه، ثم يكسوه الله ويرزقه ".

وفي المختار (335) من قصار النهج، عن أمير المؤمنين (ع): " لكل امرء في ماله شريكان: الوارث والحوادث ".

وفي المختار (416) من القصار انه قال (ع) للامام الحسن (ع):

 

[238]

" لا تخلفن وراءك شيئا من الدنيا، فانك تخلفه لاحد رجلين: اما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت به، وإما رجل عمل فيه بمعصية الله (فشقي بما جمعت له) فكنت عونا له على معصيته، وليس أحد هذين حقيقتا أن تؤثره على نفسك ".

وفي الجديث (22) من باب حب المال، من البحار: 16، 102، ط الكمباني، نقلا عن تفسير الامام العسكري (ع) قال: " سئل امير المؤمنين عليه السلام من أعظم الناس حسرة، قال: من رأى ماله في ميزان غيره، وأدخله الله به النار، وأدخل وارثه الجنة.

وفي الحديث (33) من مستدرك البحار: 17، ص 280، عن كفاية النصوص معنعنا عن جنادة ابن أبي امية قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام في مرضه الذي توفي فيه وبين يديه طشت يقذف عليه الدم، ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي سقاه معاوية لعنه الله، فقلت: يا مولاي مالك لا تعالج نفسك ؟ فقال: يا عبد الله بماذا أعالج الموت ؟ قلت انا الله وانا إليه راجعون، ثم التفت الي فقال: يا عبد الله بماذا أعالج الموت ؟ قلت انا لله وانا إليه راجعون.

ثم التفت الي فقال: والله انه لعهد عهده الينا رسول الله صلى الله عليه وآله " إن هذا الامر يملكه إثنا عشر اماما من ولد علي (5) وفاطمة، مامنا إلا مسموم أو مقتول " ثم رفعت الطشت، واتكى صلوات الله عليه، فقلت له: عظني يابن رسول الله.

قال: نعم، استعد لسفرك، وحصل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك، واعلم أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فانزل الدنيا بمنزلة الميتة، خذ منها ما يقيك، فان كان ذلك حلالا كنت قد زهدت فيها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) هذا من باب التغليب، وهو شائع في المحاورات.

 

[239]

وان كان حراما لم يكن فيه وزر.

وفي شرح المختار (45) من خطب النهج لابن أبي الحديد، ج 2 ص 156: قيل للحسين عليه السلام: إن ابا ذر كان يقول: الفقر أحب الي من الغني والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول من إتكل الى حسن الاختيار من الله، لم يتمن انه في غير الحال التي اختارها الله له، لعمري يابن آدم الطير لا تأكل رغدا ولا تخبئ لغد، وانت تأكل رغدا وتخبئ لغد، فالطير أحسن ظنا منك بالله غزوجل.

وروى ابن عساكر في تاريخ الشام: 64، 142، عن بعض من أسلم من أهل الكتاب، كلاما طويلا لعيسى بن مريم (ع) وفيه " يا بني اسرائيل لا تحملوا على اليوم هم غد، حسب كل يوم همه، ولا يهتم أحدكم لرزق غد، فانكم لم تخلقوا لغد، وانما خلق لكم غد، فخالق الغد يأتيكم فيه بالرزق، ولا يقولن أحدكم إذا استقبل الشتاء من اين آكل ومن اين ألبس، وإذا استقبله الصيف يقول: من أين آكل ومن أي أشرب، فان كان لك في الشتاء بقاء فلك فيه رزق، وان كان لك في الصيف بقاء فلك فيه رزق، ولا تحمل هم شتائك وصيفك على يومك، حسب هم كل يوم بما فيه، يا معشر الحواريين ان ابن آدم خلق في الدنيا في اربعة منازل، فهو في ثلاثة منها بالله واثق وطنه بالله حسن، وفي الرابعة سئ (كذا) ظنه بالل يخاف خذلان الله اياه.

أما المنزلة الاولى: فانه يخلق في بطن أمه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، يدر الله عليه رزقه في جوف ظلمة البطن، فإذا خرج من البطن وقع في اللبن، لا يسعى ياليه بقدم، ولا يتناوله بيد، ولا ينهض إليه بقوة بل يكره عليه حتى يرتفع عن اللبن ويفطم ويقع في المنزلة الثالثة بين ابويه يكسبان عليه، فإذا ماتا تركاه يتيما، فعطف عليه الناس يطعمه هذا ويكسوه هذا رحمة الله،

 

[240]

وكذلك الله تعالى لا يناول الله العباد شيئا من يده الى أيديهم، ولكن يرزقهم وينزل عليهم من خزائن ما عنده على يدي عباده بقدر ما يشاء، حتى إذا بلغ منزلته الرابعة واستوى خلقه واجتمع وكان رجلا خشي أن لا يرزقه الله اجترأ على الحرام، وعدا على الناس يقتلهم على الدنيا، فسبحان الله ما أبعد هذين الامر (كذا) بعضهما من بعض، سحسن ظنه بالله وهو صغير وإذا كبر ساء ظنه فأوثق نفسه في طلب ما كفل له به.

يا معشر الحواريين اعتبروا بالطير يطير في جو السماء، هل رأيتم طيرا قط يدخر بالامس رزق غد لم يرده (كذا) يأوي الى وكره بغير شئ ادخره، ثم يصبح غاديا مستبشرا فيعرض له رزقه ثم يرجع كذا الى وكره، وكذلك البهائم والسباع والحيتان والوحوش، وابن آدم يدخر رزق الابد في يوم لو قدر عليه، ولو فارق الدنيا وعاين الاخرة لندم ندامة لا تغني عنه شيئا الخ ".

وقال (ع): بماذا نفع امرء نفسه، باعها بجميع ما في الدنيا، ثم ترك ما باعها به ميراثا لغيره وأهلك نفسه، ولكن طوبي لامرء خلص نفسه واختارها على جميع الدنيا.

وقال (ع) في ذم المال: فيه ثلاث خصال: يكسبه المرء من غير حله.

وان هو كسبه من حله منعه من حقه، وان هو وضعه في حقه شغله اصلاحه عن عبادة ربه، وكان (ع) إذا مر بدار قد مات أهلها وخلف فيها غيرهم يقول: ويحا لاربابك الذين ورثوك كيف لم يعتبروا باخوانهم الماضين.

وروى الصدوق (ره) عن ابيه، عن سعد، عن الاصفهاني، عن المنقري عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال له: يا بني ليعتبر من قصر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(6) رواه مع التاليين مرسلا في مستدرك البحار: 17، 260 عن تنبيه الخواطر.

 

[241]

يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق، أن الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال من أمره وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، ان الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال (في حال خ ل) الرابعة، أما أول ذلك: فانه كان في رحم أمه يرزقه هناك في قرار مكين حيث لا يؤذيه حر ولا برد، ثم أخرجه من ذلك وأجرى له رزقا من لبن أمه ويربيه وينعشه من غير حول به ولا قوة، ثم فطم من ذلك فأجرى له رزقا من كسب أبويه برأفة ورحمة له من قلوبهما لا يملكان غير ذلك حتى أنهما يؤثر انه على أنفسهما في أحوال كثيرة، حتى إذا كبر وعقل واكتسب لنفسه ضاق به أمره وظن الظنون بربه، وجحد الحقوق في ماله، وقتر على نفسه وعياله، مخافة اقتار رزق وسؤ يقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل والآجل فبئس العبد يا بني هذا (7).

وروى الكليني (ره) عن علي بن ابراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يحيى بن عقبة الأزدي، عن ابي عبد الله عليه السلام قال: كان فيما وعظ به لقمان ابنه: يا بني ان الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له، وانما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه اجرا، فأوف عملك واستوف أجرك، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في أرض خضراء، فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها وتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر، أخربها ولا تعمرها فانك لم تؤمر بعمارتها، واعلم انك ستستأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن اربع: شبابك فيما أبليته، وعمرك فيما افنيته ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته، فتأهب لذلك وأعد له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا، فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه، وكثيرها لا يؤمن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(7) مستدرك البحار: 17، ص 265 نقلا عن قصص الانبياء والخصال.

 

[242]

بلاؤه، فخد حذرك، وجد في أمرك، واكشف الغطاء عن وجهك، وتعرض لمعروف ربك وجدد التوبة في قلبك، واكمش في فراغك قبل أن يقصد قصدك، ويقضى قضاؤك، ويحال بينك وبين ما تريد (8).

وفي الحديث (21) من باب حب المال من البحار: 16، 102، ط الكمباني، عن العياشي، عن عمثان بن عيسى، عمن حدثه، عن ابي عبد الله (ع) في قول: (الله كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات) قال: هو الرجل يدع المال لا ينفقه في طاعة الله بخلا، ثم يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة الله أو في معصيته، فان عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فزاده حسرة وقد كان المال له، [وإن ظ] عمل به في معصية الله، قواه بذلك المال حتى عمل به في معاصي الله.

وفي الحديث (25) من الباب عن مجالس الشيخ المفيد معنعنا، عن القاسم بن عروة، عن رجل، عن أحدهما (ع) في معنى قوله عز وجل: (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) قال: الرجل يكسب مالا فيحرم أن يعمل فيه خيرا، فيموت فيرثه غيره، فيعمل فيه عملا صالحا: فيري الرجل ما كسب حسنات في ميزان غيره.

ورواهما عنهما صاحب البرهان في تفسير الآية، وهي الآية (167) من سورة البقرة.

وفي الحديث الثاني عشر من باب نوادر الفقيه: 4، ص 281، ط النجف معنعنا عن أبان بن عثمان الأحمر: انه جاء رجل الامام الصادق عليه السلام فقال له: بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله علمني موعظة.

فقال له عليه السلام: ان كان الله تبارك وتعالى قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا ؟ وان كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا ؟ وان كان الحساب حقا فالجمع لماذا ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) الحديث (30) من مستدرك البحار: 17، 268 نقلا عن الكافي.

 

[243]

وان كان الخلف من الله عز وجل حقا فالبخل لماذا ؟ الخ.

وروى في تفسير البرهان عن الكليني، عن احمد ابن ابي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أوفي معصية الله، فان عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة وقد كان المال له، وان كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله.

وقال الطبرسي (ره) في مجمع البيان في معنى الآية: روى أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام انه قال: هو الرجل يكسب المال ولا يعمل فيه خيرا، فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا، فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره.

وقال زيد الشهيد (ع): انك تقدم على ما قدمت، ولست تقدم على ما تركت، فآثر ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا، الحكمة الخالدة لابن مسكويه (ره) ص 168، ط 1.

قيل: لما افتتح هارون الرشيد هرقلة وأباحها ثلاثة أيام، وكان بطريقها الخارج عليه فسيل الرومي فنظر إليه الرشيد مقبلا على جدار فيه كتاب باليونانية، وهو يطيل النظر فيه، فدعا به وقال له: لم تركت النظر الى الى الانتهاب والغنيمة وأقبلت على هذا الجدار تنظر فيه ؟ فقال: ان في هذا الجدار كتابا هو أحب الي من هرقلة وما فيها، قال الرشيد: وما هو ؟ قال: بسم الله الملك الحق المبين، ابن آدم غافص الفرصة عند امكانها، وكل الامور الى وليه، ولا تحمل على قلبك هم يوم لم يأت بعد، ان يكن من أجلك يأتك الله برزقك فيه، ولا تجعل سعيك في طلب المال أسوة المغرورين، فرب

 

[244]

جامع لبعل حليلته، واعلم أن تقتير المرء على نفسه هو توفير منه على غيره، فالسعيد من اتعظ بهذه الكلمات ولم يضيعها.

قال الرشيد: أعدها علي يا فسيل.

فأعادها عليه حتى حفظها.

وكتب الربيع بن خيثم الى أخ له: أما بعد فرم جهازك، وافرغ من دارك وكن وصي نفسك، ولا تجعل الناس اوصياءك، ولا تجعل الدنيا اكبر همك، فانه لا عوض من تقوى الله، ولا خلف من الله.

وفي ترجمة أبي ذر رحمه الله من تاريخ الشام: 63 ص 1248، من الجزء التاسع عشر، معنعنا عن ابي ذر انه قال: (في مالك شريكان ايهما جاء أخذ ولم يوامرك، الحدثان والقدر، كلاهما يمر على الغث والسمين والورثة ينتظرون متى تموت فيأخذون ما تحت يدك، وانت تقدم لنفسك، فان استطعت أن لا تكون أخس لليلته (كذا) نصيبا فافعل.

وقيل: ان مالك ان لم يكن لك كنت له، وان لم تفنه أفناك، فكله قبل أن يأكلك.

وقال ابن مسكويه (ره): ربما كان الفقر نوعا من أدب الله تعالى وخيرة في العواقب، والحظوط لها أوقات، فلا تعجل على ثمرة لم تكن تدرك، فانك تنالها في أوانها عذبة، والمدبر لك أعلم بالوقت الذي تصلح فيه لما تؤمل، فثق بخيرته في أمورك، ولا تجعل حوائجك طول عمرك في يومك الذي أنت فيه فيضيق عليك قلبك، ويثقلك القنوط، اجعل بينك وبين محبوباتك وقنياتك حجابا من ترقب زوالها، لئلا يفدحك فقد شئ منها إذا نقلته الحوادث، فان من لم يتقدم بالتعزية قبل المصيبة، جرح قلبه الرزء، وتفاوت أمره إذا هجم عليه، وقد قسم الزمان النعم، وجعل لها وقتا وأجلا ولم يعد الخلود بها الخ.

الحكمة الخالدة ص 86.

وفي العقد الفريد: 2، ص 139، ط 2: لما حضرت هشام بن عبد

 

[245]

الملك الوفاة نظر الى اهله يبكون عليه، فقال: جادلكم هشام بالدنيا، وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام ان لم يغفر الله له.

ودخل الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يصعد بصره في صندوق في بيته ويصوبه، ثم التفت الى الحسن فقال: أبا سعيد ! ما تقول في مأة ألف في هذا الصندوق لم أؤد منها زكاة ولم أصل بها رحما ؟ فقال له: ثكلتك أمك ! لمن كنت تجمعها ؟ قال: لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة.

ثم مات فشهد الحسن جنازته، فلما فرغ من دفنه ضرب بيده على القبر ثم قال: أنظروا الى هذا أتاه شيطانه فحذره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة عشيرته عما استودعه الله فيه وعمره فيه أنظروا إليه يخرج منها مذموما مدحورا.

ثم قال: أيها الوارث لا تخدعن كما خدع صويحبك بالامس، أتاك هذا المال حلالا، فلا يكون عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا ممن كان له جموعا منوعا.

ثم ينبغي أيضا أن نذكر شذرة من الحكم التي نظمها الشعراء في الموضوع.

في المختار (19) من باب الراء، من الديوان المنسوب الى أمير المؤمنين عليه السلام:

ما هذه الدنيا لطالبها * الا عناء وهو لا يدري

ان أقبلت شغلت ديانته * أو أدبرت شغلته بالفقر

وفي ترجمته (ع) من تاريخ ابن عساكر: ص 142.

وكذلك نقله السيد الأمين (ره) في المختار الثاني، من حرف الباء، من الديوان، عن جواهر المطالب:

حقيق بالتواضع من يموت * ويكفي المرء من دنياه قوت

فما للمرء يصبح ذا هموم * وحرص ليس تدركه النعوت

 

[246]

فيا هذا سترحل عن قريب * الى قوم كلامهم سكوت

وقال السيد الشريف الرضي رضوان الله عليه:

خذ من تراثك ما استطعت فانما * شركاؤك الأيام والوراث

المال مال المرء ما بلغت به * الشهوات أو دفعت به الأحداث

ما كان منه فاضلا عن قوته * فليوقنن بأنه ميراث

لم يقض حق المال الا معشر * نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا

مالي وللدنيا الخؤن بحاجة * فليخش ساحر كيدها النفاث

عاداتها منقوصة وعهودها * منكوثة وحبالها أنكاث

طلقتها ألفا لأحسم داءها * وطلاق من عزم الطلاق ثلاث

وقال الوراق على ما نقله عنه جمال المفسرين أبو الفتوح (ره) في تفسيره ج 3 ص 271 -.

اسعد بمالك في حياتك انما * يبقى خلافك مصلح أو مفسد

فإذا جمعت لمفسد لم يبقه * وأخو الصلاح قليله يتزيد

فان استطعت فكن لنفسك وارثا * ان المورث نفسه لمسود

وقال آخر:

يا مانع المال كم تضن به * تطمع بالله في الخلود معه

هل حمل المال ميت معه * أما تراه لغيره جمعه

وقال آخر:

ان الذي أنت فيه لست حامله الى التراب إذا ما عمرك انصر ما ان الجديدين في طول اختلافهما لا يبقيان ثراء لا ولا عدما وقال أبو حيان:

وزهدني في جمعي المال انه * إذا ما انتهى عند الفتى فارق العمرا

فلا روحه يوما أراح من العنا * ولم يكتسب حمدا ولم يدخر أجرا

 

[247]

وقال البحتري:

إذا ما كان عندي قوت يوم * طرحت الهم عني يا سعيد

ولم تخطر هموم غد ببالي * لأن غدا له رزق جديد

وقال آخر:

يفني البخيل بجمع المال مدته * وللحوادث والايام ما يدع

كدودة القز ما تبنيه يهدمها * وغيرها بالذي تبنيه ينتفع

وقال غيره:

مالي أراك الدهر تجمع دائبا * البعل عرسك لا أبالك تجمع

وقال آخر:

وما المال والأهلون الا وديعة * ولا بد يوما أن ترد الودائع

وقال آخر:

أيا جامع المال وفرته * لغيرك إذ لم تكن خالدا

فان قلت: أجمعه للبنين * فقد يسبق الولد الوالدا

وان قلت:

أخشى صروف الزمان * فكن من تصاريفه واجدا

ولبعضهم:

يا جامعا مانعا والدهر يرمقه * مدبرا أي باب عنه يغلقه

وناسيا كيف تأتيه منيته * أغاديا أم بها يسري فتطرقه

جمعت مالا فقل لي هل جمعت له * يا جامع المال أياما تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه * ما المال مالك الا يوم تنفقه

أرفه ببال فتى يغدو على ثقة * ان الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه * والوجه منه جديد ليس يخلقه

ان القناعة من يحلل بساحتها * لم يلق في ظلها هما يؤرقه

 

[248]

وقال الأضبط بن قريع:

ارض من الدهر ما أتاك به * من يرض يوما بعيشه نفعه

قد يجمع المال غير آكله * ويأكل المال غير من جمعه

وقال آخر:

زينت بيتك جاهلا وعمرته * ولعل صهرك صاحب البيت

من كانت الايام سائرة به * فكأنه قد حل بالموت

والمرء مرتهن بسوف وليتني * وهلاكه في السوف والليت

لله در فتى تدبر أمره * فغدا وراح مبادر الموت

وقال صريع الغواني:

كم رأينا من أناس هلكوا * قد بكوا أحبابهم ثم بكوا

تركوا الدنيا لمن بعدهم * ودهم لو قدموا ما تركوا

كم رأينا من ملوك سوقة * ورأينا سوقة قد ملكوا

وقال أبو العتاهية:

ستخلق جدة وتجود حال * وعند الحق تختبر الرجال

وللدنيا ودائع في قلوب * بها جرت القطيعة والوصال

تخوف ما لعلك لا تراه * وترجو ما لعلك لا تنال

وقد طلع الهلال لهدم عمري * وافرح كلما طلع الهلال

وقال آخر:

وهبني جمعت المال ثم خزنته * وجاءت وفاتي هل أزاد به عمرا

وقال آخر:

إذا خزن المال البخيل فانه * سيورثه غما ويعقبه وزرا

وقال أبو العتاهية: أخي ادخر مهما استطعت ليوم بؤسك وافتقارك

 

[249]

فلتنزلن بمنزل * تحتاج فيه الى ادخارك

وله أيضا:

أبقيت مالك ميراثا لوارثه * يا ليت شعري ما أبقى لك المال

القوم بعدك في حال تسوؤهم * فكيف دارت بهم من بعدك الحال

ملوا البكاء فما يبكيك من أحد * واستحكم القيل في الميراث والقال

وقال محمد بن حازم:

ما الفقر عار ولا الغنى شرف * ولا سخاء في طاعة سرف

ما لك الا شئ تقدمه * وكل شئ أخرته تلف

تركك مالا لوارث * يتهناه وتصلى بحره أسف

وقال آخر:

نل ما بدا لك أن تنال من الغنى * ان أنت لم تقنع فانت فقير

يا جامع المال الكثير لغيره * ان الصغير غدا يكون كبير

ونعم ما قيل:

الا يا جامع الاموال هلا * جمعت لها زمانا بافتراق

رأيتك تركب الابحار جهلا * وانت تكاد تغرق في السواقي

إذا أحرزت مال الارض طرا * فمالك فوق عيشك من تراق

أتأكل كل يوم ألف كبش * وتلبس ألف طاق فوق طاق

فضول المال ذا هبة جزافا * كماء صب في كأس دهاق

يفيض سدى وقد بسطوا عليها * فينقص ملؤها عند اندفاق

وما احسن ما أفاده آخر:

يا راكب الهول والآفات والهلكة * لا تتعبن فليس الرزق بالحركة

من غير ربك في السبع العلى ملك * ومن أقام على أرجائها ملكه

سبحانه من لطيف في مشيته * أدار فيها بما قد شا[ء]ه فلكه

 

[250]

أما ترى البحر والصياد منتصب * في ليله ونجوم الليل مشتبكة

قد شد أطرافه والليل يضربه * وعينه بين عيني كلكل الشبكة

حتى إذا صار مسرورا به فرحا * والحوت قد شق سفود الردي حنكه

غدا عليك به صفوا بلا تعب * فصرت أملك منه للذي ملكه

صنعا من الله يعطي ذا بحيلة ذا * هذا يصيد وهذا يأكل السمكة

وقال أبو يعقوب الخريمي:

هل الدهر الا صرفه ونوائبه * وسراء عيش زائل ومصائبه

يقول الفتى: ثمرت مالي وانما * لوارثه ما ثمر المال كاسبه

يحاسب فيه نفسه في حياته * ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه

فكله وأطعمه وخالسه وارثا * شحيحا ودهرا تعتريك نوائبه

 

[251]

- 32 -

ومن وصية له عليه السلام

قال ابن قتيبة: قيل لما ضرب علي (عليه السلام) دعا اولاده وقال لهم: عليكم بتقوى الله وطاعته.

وألا تأسوا على ما صرف عنكم منها، وانهضوا إلى عبادة ربكم، وشمروا عن ساق الجد ولا تثاقلوا إلى الأرض، وتقروا بالخسف وتبوؤا (1) بالذل.

اللهم اجمعنا وإياهم على الهدى، وزهدنا وإياهم في الدنيا، واجعل الآخرة خيرا لنا ولهم من الاولى، والسلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخسف - كفلس -: النقيصة. الجوع. وتبوؤا: تنصرفوا وترجعوا.