1. وردت هذه الخطبة (ليست بصورة كاملة بل بعضها) في عدة كتب قبل السيد الرضي (ره) و بعده. وكان ممن رواها قبله: 1ـ المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد 2ـ المرحوم ابن شعبة الحراني في كتاب تحف العقول. أما من نقلها بعده: 1ـ الواسطي في كتاب عيون الحكمة والمواعظ 2ـ المرحوم الطبرسي في الاحتجاج 3ـ ابن طلحة في كتاب مطالب السؤال 4ـ القاضي القضاعي في دستور معالم الحكم 5ـ الفخر الرازي في التفسير الكبير 6ـ الزمخشري في ربيع الأبرار 7ـ القطب الراوندي في منهاج البراعة 8ـ المرحوم العلامة المجلسي في ج 4، 11، 18، 57، 77، 92 و 99 من بحارالانوار. طبعاً هناك تفاوت بين العبارات التي وردت في الكتب المذكورة مع ما ورد في نهج البلاغة.

[ 42 ]

وأخيراً فالخطبة من وجهة نظر بمثابة فاتحة الكتاب، حيث تقدم صورة كلية عن المسائل التي درج عليها نهج البلاغة والتي وردت في المحاور الرئيسية لخطبه ورسائله وكلماته القصار.

وقد قسمنا هذه الخطبة إلى خمسة عشر قسماً تناولنا كل قسم منه بالبحث بصورة مستقلة لنخلص إلى النتائج الكلية التي يمكن التوصل إليها من الخطبة كوحدة كاملة.

—–

[ 43 ]

 

 

القسم الأول

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

يذكر فيها ابتداءً خلق السماء والأرض وخلق آدم وفيها ذكر الحج وتحتوي على حمد الله وخلق العالم وخلق الملائكة واختيار الأنبياء ومبعث النبي والقرآن والأحكام الشرعية:

«الْحَمْدُ للّهِ الَّذِي لا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقائِلُونَ وَلا يُحْصِي نَعْماءَهُ الْعادُّونَ وَلا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ، الَّذِي لا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَلا يَنالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلا نَعْتٌ مَوْجُودٌ، وَلا وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَلا أَجَلٌ مَمْدُودٌ، فَطَرَ الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَنَشَرَ الرِّياحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدانَ أَرْضِهِ».

—–

 

الشرح والتفسير

بعد العقول عن معرفة الذات الإلهية!

إنّ نظرة عابرة إلى مضامين هذه الخطبة تفيد إشارة الإمام علي(عليه السلام) إلى إثنتي عشرة صفة من الصفات الإلهية بتصوير فني رائع ونظم شاهق:

ففي المرحلة الاولى يشير إلى كيفية عجز العباد عن إظهار المدح والثناء وأداء حق الشكر الإلهي (أشير في هذه المرحلة إلى ثلاثة أوصاف) ويبين في المرحلة الثانية عجز البشرية من الناحية الفكرية عن إدراك عظمة الله وكنه ذاته المقدسة (إشارة إلى وصفين في هذه المرحلة) وفي المرحلة الثالثة يورد الدليل على ما أشار إليه سابقاً والذي يكمن في خروج هذه الذات

[ 44 ]

عن الحدود وعدم تناهي نعمه وآلائه; الأمر الذي يستبطن ويعلل عجزنا عن إدراك ذاته القدسية واستحالة أداء حقّه في الشكر والحمد (وهو يشير في هذه المرحلة إلى أربعة أوصاف) وأخيراً يشير(عليه السلام)في المرحلة الرابعة إلى خلق العالم والكائنات، وكأنه أراد أن يكشف النقاب عن هذه الحقيقة وهى أن معرفة الذات الإلهية إنّما تقتصر على هذا السبيل، والذي يمثل منتهى قدرتنا واستطاعتنا (ويشير في هذه المرحلة إلى ثلاث من صفاته الفعلية).

ويفيد هذا الأمر أنّ الدقة والنظام هى الأسس التي استندت إليها هذه العبارات الرفيعة التي تضمنتها الخطبة التي أوردها هذا المعلم الرباني.

الآن وبعد هذه النظرة العامة نعود إلى بحث وتفسير هذه الأوصاف الاثني عشر التي اشتملت عليها الخطبة:

فقد استهل الإمام (عليه السلام) خطبته بحمد الله والثناء عليه مع التصريح بالعجز عن أداء حق الحمد، فقال(عليه السلام): (الْحَمْدُ للّهِ الَّذِي لا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقائِلُونَ).(1)

وذلك لأنّ أوصافه «الكمالية» و«الجمالية» لا تعرف الحدود، فما يؤديه الملائكة والناس من حمد ومدح إنّما يتوقف على مقدار معرفتهم بالذات المطلقة لا بمقدار كمالاته جل وعلا. وأنى لسائر الأفراد بزعم المعرفة وهذا النبي الكريم الذي يمثل أعظم أنبياء الله يظهر عجزه عن معرفة الخالق المتعال فيصرح قائلاً: «ما عرفناك حق معرفتك»(2). فاذا عجز الإنسان عن معرفته فكيف يسعه حمده ومدحه؟ وعليه فان ذروة حمدنا، ما أورده الإمام (عليه السلام); أي إظهار العجز عن حمده وثنائه والاعتراف باستحالة بلوغ هذه الدرجة على جميع مخلوقاته سبحانه.

فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ الله أوحى إلى نبيّه موسى(عليه السلام)أن اشكرني


1. كثر الكلام بين اللغوين ومفسري القرآن ونهج البلاغة بشأن معنى الحمد والمدح والشكر، غير أنّ المشهور بينهم أنّ الحمد هو كل مدح إزاء الإعمال الحسنة الاختيارية; بينما ينطوي المدح على مفهوم أوسع يشمل الإعمال الاختيارية وغير الاختيارية، أمّا الشكر فأخص من المدح ويقتصر على إيصال أحدهم نعمة إلى آخر فيشكره على تلك النعمة. (من أراد المزيد فليراجع مجمع البحرين، لسان العرب، المفردات، شرح ابن الهيثم وشرح العلاّمة الخوئي). بينما صرّح بعض مفسري القرآن ونهج البلاغة كالزمخشري في الكشاف وابن أبي الحديد في شرحه أن «الحمد والمدح أخوان، لا فرق بينهما)، ويبدو أن التفسير الأول أصح.

2. أورد العلاّمة المجلسي ضمن توضيحه لبعض الأخبار في البحار، تعليقاً على كلام المحقق الطوسي هذا الحديث «ما عبدناك حق عبادتك وما عرفناك حق معرفتك» دون ذكر سنده. بحار الانوار 68 /23.

[ 45 ]

حق شكري. قال(عليه السلام): إلهي! كيف أؤدي حق شكرك، وشكرك نعمة تحتاج إلى شكر (وهكذا يكون التوفيق إلى الشكر نعمة اخرى تستحق الشكر). فقال: «يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك مِنِّي»(1).

وهنا لابدّ من القول بأنّ الإنسان إذا ما قال: الحمد لله، فانه أتى به كاملاً دون نقيصة، إلاّ أن يكون في حق الله، ولذلك جاء في الخبر أنّ الإمام الصادق(عليه السلام) خرج من المسجد ولم يظفر بدابته، فقال(عليه السلام)، إن أعادها لي الله شكرته حق شكره، فلم تمض مدّة حتى أتي بها إليه فقال(عليه السلام): الحمد لله. فقيل له: جعلت فداك ألم تقل أشكره حق شكره؟ فقال(عليه السلام): ألم تسمع قولي الحمدلله.(2)

أمّا في الوصف الثاني فقد قال: «ولا يحصي نعمائه العادون». وذلك لأنّ نعمه المادية والمعنوية والظاهرية والباطنية والفردية والجماعية لأكثر وأعظم من أن تعدّ وتحصى. فبدن الإنسان ـ على سبيل المثال ـ مؤلف ممّا لا يحصى من الخلايا والأنسجة (يبلغ متوسطها عشرة مليارات) التي تشكل كل وحدة منها كائناً حياً ومركباً معقداً ونعمة من نعمه سبحانه والتي يتعذر إحصاء عددها في عشرات الاَلوف من السنين، فاذا عجز الإنسان عن إحصاء نعم الله في هذا الجانب اليسير فقط، فكيف يسعه أن يحصي جميع هذه النعم والآلاء على المستويات المادية أو المعنوية؟ في الواقع ليس لدينا من علم بكافة نعمه ليتسنى لنا عدّها أو إحصائها. فأغلب نعمه قد أغرقت كياننا وأحاطت بوجودنا، وحيث لم نسلبها قط فقد غفلنا عنها ولم نحط بها (فلا يشعر بالنعمة إلاّ بعد فقدانها)، أضف إلى ذلك فان ظفر الإنسان بالنعم والآلاء إنّما يتناسب طردياً واتساع مدى علمه ومعرفته; الأمر الذي يؤدي إلى الاذعان ـ وكما قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) ـ بهذه الحقيقة «ولا يحصي نعمائه العادون». ويمكن لهذه العبارة أن تكون علة للعبارة السابقة «لا يبلغ مدحته القائلون» إذ كيف يمكن حمد الله والثناء عليه في ظل العجز عن إحصاء نعمه! ويبدون أنّ هذه النعم ما زالت لا تعرف الحدود رغم الحالة المؤسفة في قيام بعض الظلمة والفئات النفعية باحتكار أغلب النعم أو تضييعها من خلال البذخ


1. اصول الكافي 2 / 98، ح 27.

2. المصدر السابق / 97، ح 18.

[ 46 ]

والاسراف والتبذير، وتعريض طبقات المجتمع للتعب والارهاق. ويقول(عليه السلام)في الوصف الثالث: «ولا يؤدي حقّه المجتهدون». وهذه الجملة في الحقيقة استنتاج ترتب على العبارة السابقة، فاذا تعذر إحصاء النعم فكيف يمكن أداء حقها؟ بعبارة اُخرى فإن حقّه بقدر عظمة ذاته القدسية، في حين شكرنا وحمدنا بقدر قدرتنا الزهيدة، فأين هذا الحمد من ذلك الحق! ولا يقتصر هذا المدح والثناء وأداء الحق على العجز في الجانب العملي فحسب بل هو قائم حتى من الناحية الفكرية.

ولذلك أردف(عليه السلام) ـ وفي إطار بيانه لوصفين آخرين ـ قائلاً: «الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن(1)». وكأنّ التعبير ببعد الهمم وغوص الفطن إشارة إلى حقيقة مؤداها أنّ الأفكار الخارقة مهما انطلقت في قوس الصعود والفطن المتوهجة في قوس النزول فأنها تبقى عاجزة عن إدراك كنه ذاته المقدسة. ولا يترك الإمام الاقرار بهذا العجز دون تقديم الدليل، فيقول: «الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت(2) موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود».

أي أنى لنا الاحاطة بكنه ذاته، والحال أن فكرنا بل جميع كياننا محدوداً لا يحسن سوى إدراك الأشياء المحدودة، بينما لا تعرف الذات الإلهية من حدود من جميع النواحي، فليس هنالك من حد أو وصف قابل للإدراك لصفاته المطلقة من الازل إلى الأبد والتي تأبى الاولية والاخروية والبداية والنهاية. ولا يقتصر هذا الأمر على الذات، فصفاته هى الاُخرى ليس لها من حدود، فعلمه لا يعرف الحدود، وقدرته لا متناهية، ولا غرو فصفاته عين ذاته التي ليس لها حد محدود.

بعبارة اُخرى فانّ الله وجود مطلق ليس له أي قيد وشرط، ولو كان لقيد أو شرط وحد من الحدود من سبيل إلى ذاته لأصبح مركبا، في حين نعلم بأن المركب ـ كما يقول الفلاسفة ـ


1. «همم» جمع همة تعني في الأصل الذويان والجريان والحركة ولهذا يطلق الهم حيث بسبب ذويان الجسم الإنسان وروحه، ثم أطلق على كل أمر مهم أو ما يشغل فكر الإنسان (ورد شبه ذلك في المفردات).

«غوص» تعني فى الأصل الغمس في الماء، ثم أطلقت على الدخول في كل عمل مهم.

«فطن» جمع فطنة على وزن فتنة الفهم و الذكاء حسب لسان العرب.

2. «الأجل» بمعنى انتهاء الشيء كعمر الإنسان وما إلى ذلك كالعقود والعهود.

[ 47 ]

ممكن الوجود لا واجب الوجود ـ وعليه فواجب الوجود ذات مطلقة غير محدودة في كافة أبعادها، ولذلك كان سبحانه وتراً واحداً ليس له كفؤاً ولا شبيهاً، لاستحالة قيام وجودين مطلقين من جميع الجهات، وذلك لأنّ هذا التناقض إنّما يؤدي إلى محدودية الطرفين، فهذا فاقد لوجود ذلك، وذاك أيضاً فاقد لوجود هذا (تأمل هذا الموضوع).

وبعد أن تعرض الإمام (عليه السلام) لصفات الجمال والجلال (الصفات الثبوتية والسلبية)، أشار(عليه السلام)إلى جانب من صفاته الفعلية سبحانه، فقال: «فطر(1) الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد(2) بالصخور(3) ميدان(4) أرضه». لقد استوحيت هذه التعبيرات من بعض الآيات القرآنية، فالعبارة «فطر الخلائق بقدرته» مستوحاة من الآية الشريفة (فاطِرِ السَّمـواتِ وَالأَرضِ)التي وردت في عدّة سور قرآنية من قبيل: سورة يوسف / 101 وسورة إبراهيم / 100 وسورة فاطر / 35 وسائر السور المباركة.

والعبارة «نشر الرياح برحمته» من الآية الشريفة (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ).(5)

والعبارة «ووتد بالصخور ميدان أرضه» من الآية 15 من سورة النمل (وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).(6)

وبالالتفات إلى ما ذكرنا من معنى «فطر» فانه شبه الخلق بشق الحجاب الظلماني للعدم; الحجاب المتسق والمنسجم الذي لا شق فيه، غير أن قدرته المطلقة تشقه وتخرج منه المخلوقات، وليس من شأن أية قدرة سوى قدرته أن تفعل هذا. فقد اتفقت كلمة الفلاسفة والمفكرين على استحالة استحداثنا لشيء من العدم، أو تحويلنا من وجود إلى عدم، وكل


1. «فطر» من مادة «فطر» على وزن بمعنى شق الشيء من الطول ومنه الافطار في الصوم

2. «وتد» من مادة «وند» (على وزن وقت) بمعنى إثبات الشيء ولذلك يطلق الوتد على المسمار الذي يثبت في الأشياء ويمنحها الثبات أيضاً، وأحياناً يطلق «الوتد» على وزن «الوقت».

3. «الصخور» جمع «صخرة»، وقال صاحب لسان العرب تعني الحجر الكبير الصلب.

4. «ميدان» من مادة «ميد» على وزن (صيد) بمعنى الحركة والاضطراب وميدان على وزن (ضربان) بهذا المعنى أيضاً و«ميدان» على وزن (حيران) وجمعه ميادين بمعنى الفضاء الواسع.

5. سورة الأعراف /57.

6. سورة النحل / 15.

[ 48 ]

مامن شأن قدرتنا فعله هوتغيير شكل الموجودات من شكل إلى آخر ولا غير!

أمّا التعبير بالرحمة عن حركة الرياح فهو تعبير عذب رائع ينسجم ولطافة النسيم وهبوب الرياح وآثاره المختلفة من قبيل حركة السحب والغيوم نحو الأراضي القفار وتلقيح الأزهار ونمو النباتات واعتدال الجو وحركة السفن والفلك في البحر وانخفاض درجات الحرارة وسائر الخيرات والبركات المكنونة في هذه الحركة. امّا عن كيفية توتيد الأرض بهذه الجبال والصخور، فالحق لا يمكن الآن قبول النظريات والاطروحات التي أوردها قدماء العلماء بهذا الشأن إثر قولهم بسكون الأرض وعدم حركتها، حتى جاءت النظريات الحديثة التي تنسجم مع الحقائق العلمية من جهة وتتفق والآيات القرآنية والروايات الواردة بهذا الخصوص من جهة اُخرى، وذلك لأنه:

1 ـ أنّ وجود الجبال على سطح الكرة الأرضية يؤدي إلى الحد من آثار ظاهرة المد والجزر التي تشهدها اليابسة بفعل جاذبية الشمس والقمر. فلو اجتاحت الأراضي الرخوة سطح الأرض لأصبح المد والجزر كالبحار والأنهار بما يجعل من المتعذر العيش على هذه الأرض.

2 ـ أنّ جذور الجبال متصلة مع بعضها تحت القشرة الأرضية وكأنّها درع قد أحاط بالأرض، ولولاها لماجت الأرض وعاشت الحركة باستمرار وفقدت استقرارها بفعل الضغط الداخلي الذي تفرزه الغازات الداخلية والمواد المذابة. وما الزلازل التي تقع إلاّ نتيجة طبيعية لمثل هذا الضغط الذي يتجاوز الحدود المعينة، ولولا هذه الجبال لتواصلت هذه الزلزلة دون انقطاع.

وبناءً على ما تقدم فان هذه الصخور (الجبال) إنّما توتد الأرض وتحول دون فقدانها لاستقرارها، وناهيك عمّا تقدم فانّ الجبال تعدّ من أهم مصادر الحياة الجوفية للإنسان، وأنّ كافة العيون والأنهار إنّما تنبع من مصادر الجبال الجوفية وتلك التي على سطح الأرض.

ويتّضح ممّا ذكرنا سابقاً بشأن الدور الحيوي الذي تلعبه الرياح والجبال في حياة الإنسان وسائر الكائنات الحية، علة تأكيد الإمام على (عليه السلام) هذين الأمرين بعيد الإشارة إلى مسألة الخلق والخليقة.

[ 49 ]

 

 

القسم الثاني

 

«أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَكَمالُ تَوْحِيدِهِ الاِْخْلاصُ لَهُ وَكَمالُ الاِْخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفاتِ عَنْهُ لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَشَهادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللّه سُبْحانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنّاهُ وَمَنْ ثَنّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشارَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَشارَ إِلَيْهِ فَقَدْ عَدَّهُ».

—–

 

الشرح والتفسير

توحيد الذات والصفات

تمثل هذه العبارات دورة تربوية تامة في المعرفة الإلهية. فقد اعتمد أمير المؤمنين(عليه السلام)عبارات مقتضبة عميقة المعنى بحيث قدم صورة عن الحق تبارك وتعالى لا يمكن الإتيان بأحسن منها حتى ولو جمعنا كافة دروس التوحيد والمعارف إليها وجعلنا بعضها إلى جانب البعض الآخر، فانّها تعجز عن رسم مثل تلك الصورة.

فقد ذكر(عليه السلام) في هذا الجانب من خطبته خمسة مراحل لمعرفة الله يمكن ايجازها في مايلي:

1 ـ المعرفة الإجمالية والناقصة

2 ـ المعرفة التفصيلية

3 ـ توحيد الذات والصفات

4 ـ الاخلاص

5 ـ نفي التشبيه

فقد قال(عليه السلام) مبتدأ «أول الدين معرفته». لا شك أنّ الدين هنا يعني مجموعة العقائد

[ 50 ]

والواجبات والوظائف والأخلاق، ومن المعلوم أنّ دعامتها الأساسية هى «معرفة الله»، وعليه فمعرفة الله تمثل الخطوة الاولى على الطريق من جانب والمحور الرئيسي لكافة أصول الدين وفروعه، وليس لهذا الدين من حيوية دون هذه المعرفة ـ أمّا أولئك الذين يعتقدون بأنّ هناك شيئاً آخر قبل معرفة الله، إلاّ وهو النظر في طريق معرفة الله والتحقيق بشأن الدين ووجوب المطالعة، فهم على خطأ كبير. وذلك لأنّ وجوب التحقيق يمثل أول الواجبات، بينما تمثل معرفة الله أول دعامة للدين، أو بعبارة أُخرى فان التحقيق مقدمة ومعرفة الله أولى مراحل ذي المقدمة.(1)

والنقطة الاُخرى المفروغ منها هى أنّ المعرفة الإجمالية قد أودعت فطرة الإنسان ولا تتطلب أدنى تبليغ بهذا الشأن، وإنما بعث الأنبياء لاستبدال هذه المعرفة الإجمالية بتلك المعرفة التفصيلية الكاملة المتقنة وإغناء جوانبها وتطهير الفكر البشري من أدران الشرك وأرجاسه.

—–

ثم قال(عليه السلام): «وكمال معرفته التصديق به». هنالك عدّة تفاسير للفارق بين التصديق والمعرفة. بادئ ذي بدء المراد هنا بالمعرفة هى المعرفة الفطرية، والمقصود بالتصديق المعرفة العلمية والاستدلالية. أو أنّ المراد بالمعرفة هنا المعرفة الإجمالية، والمقصود بالتصديق المعرفة التفصيلية. أو أنّ المعرفة تشير إلى العلم بالله، والتصديق يشير إلى الإيمان، لأنّ العلم لا يفارق الإيمان، فالإنسان قد يوقن بشيء إلاّ أنّه لا يؤمن به قلبياً ـ بمعنى التسليم له والاذعان به قلبياً، أو بتعبير آخر الاعتقاد به ـ. وأحياناً يضرب الفضلاء مثلاً لانفصال هذين الأمرين عن بعضهما، فيقولون: إنّ أغلب الأفراد يشعرون بالهلع ولا سيما في الليلة المظلمة حين البقاء إلى جانب ميت في غرفة خالية، رغم علمهم بانه ميت، لكن كأن العلم لم ينفذ إلى أعماقهم ويتسلل إلى قلوبهم، فلم يحصل ذلك الإيمان المطلوب وبالتالي فقد تمخض عن هذا الهلع والخشية.

وبعبارة اُخرى فانّ العلم هو تلك المعرفة القطعية بالشيء، إلاّ أنّها قد تكتسب صبغة


1. لقد ذهب المرحوم العلاّمة المعروف «محمد جواد مغنية» في كتابه «في ظلال نهج البلاغة» إلى أنّ هذه المعرفة تعني الطاعة والانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهذا هو المعنى الذي اختاره من قبله الشارح الخوئي ـ رضوان الله عليه، فان كان مرادهما الطاعة بالمعنى الشامل للكلمة بما فيها الاُمور العقائدية صح ذلك، وإن اقتصر على الجوانب العملية فقط يرد عليهما ما أوردناه سابقاً.

[ 51 ]

سطحية فلا تنفذ إلى أعماق وجود الإنسان وروحه، فاذا نفذت إلى أعماقه وبلغت مرحلة اليقين بحيث أذعن الإنسان بذلك قلبياً، فان ذلك العلم يكتسب صفة الإيمان.

—–

ثم قال(عليه السلام) في المرحلة الثالثة «وكمال التصديق به توحيده». فمما لاشك فيه أنّ الإنسان لم يبلغ مرحلة التوحيد الكامل على أساس معرفته التفصيلية لله أو بتعبير آخر بالمعرفة القائمة على أساس الدليل والبرهان. فالتوحيد التام في أن ينزه الذات الإلهية عن كل شبه ومثيل ونظير. وذلك لأنّ من جعل له شبيه وصنو لم يعرفه، فالله وجود مطلق غنى بالذات عمّا سواه وليس كمثله شيء، ومن طبيعة الاشياء التي لها أشباه وأمثال أن تكون محدودة، لأنّ أي من الشبيهين منفصل عن الآخر وفاقد لكمالاته.

إذن فالإنسان لا يبلغ مرحلة الكمال إلاّ بالتصديق بذاته المنزهة في أنّه واحد; واحد لا عن عدد، بل واحد بمعنى خلوه من الشبيه والمثيل.

—–

ثم ينتقل الإمام(عليه السلام) إلى المرحلة الرابعة وهى مرحلة الاخلاص فيقول: «وكمال توحيده الاخلاص له». والاخلاص من مادة الخلوص بمعنى تصفية الشيء عن الغير، بمعنى التصفية والتنزه. وهناك خلاف بين مفسري نهج البلاغة بشأن هذا الاخلاص، وهل المراد به الاخلاص العملي أم القلبي أم العقائدي. والمراد بالاخلاص العملي هو أن يعيش الفرد ذروة التوحيد الإلهي فلا يسأل سواه ولا يرى غيره فيما يقوم به من أفعال وأعمال. وهو الأمر الذي تناوله الفقهاء في بحث الاخلاص في العبادة، وقد أورد «الشارح الخوئي»(ره) هذا التفسير بصفته أحد الأقوال دون أن يذكر من قال به.(1)

أمّا الاخلاص القلبي والذي عبر عنه «الشارح البحراني ابن ميثم» بالزهد الحقيقي فهو يعنى توجه القلب إلى الله وعدم التفكير بما سواه، والانشغال بغيره(2). إلاّ أننا نرى أنّ الاخلاص


1. منهاج البراعة 1 / 321. وقد نقل الشارح الخوئي بأنّ لصدر الدين الشيرازي مثل هذا الاعتقاد في شرح الكافي.

2. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1 / 122.

[ 52 ]

مفهوم عظيم وسامي لا ينسجم وما أورده الشرّاح في هذه العبارات، ومن المستبعد أن يكون هذا هو المراد به. أمّا المفهوم الوحيد الذي يناسبه هو تنزيه الاعتقاد بالله تبارك وتعالى; أي تنزيهه في وحدته عن كل شبيه ومثيل، إلى جانب تقديسه عن التركيب من الأجزاء.

—–

وقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى هذا المعنى في المرحلة الخامسة حين قال: «وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه». وبعبارة اخرى فان الحديث في المرحلة السابقة قد تناول الاخلاص على نحو الإجمال، فلما بلغ الاخلاص هنا مرحلة الكمال غاص في التفاصيل، ليتضح من ذلك أنّ الاخلاص في التوحيد يتطلب تنزيهه عن كافة الصفات التي يتصف بها المخلوق، سواء كانت هذه الصفات بمعنى التركب من الأجزاء أم غيرها، وذلك لأننا نعلم بأنّ جميع الممكنات بما فيها العقول والنفوس المجردة هى في الواقع مركبة (على الأقل مركبة من الوجود والماهية) وحتى المجردات; أي الموجودات الخارجة عن المادة هى الاُخرى ليست مستثناة من هذا التركب، أمّا الموجودات المادية فكلها متركبة من الأجزاء الخارجية، لكن الذات الإلهية المقدسة لا تشتمل على الأجزاء الخارجية ولا الأجزاء العقلية، لايمكن تجزأته في الخارج ولا في إدراكنا وفهمنا. وكل من غفل عن هذه الحقيقة لم يظفر بالتوحيد الخالص، ومن هنا يتضح بأنّ مراده(عليه السلام) بقوله «كمال توحيده نفي الصفات عنه» ليس الصفات الكمالية; لأنّ كافة الصفات الكمالية من قبيل العلم والقدرة والحياة وما إلى ذلك من الصفات ثابتة له، بل المراد الصفات التي ألفناها وتعرفنا عليها وهى صفات المخلوقين المشوبة بالنقص. فالمخلوقات لها حظ من علم وقدرة، غير أنّ علمها وقدرتها محدودة ناقصة مشوبة بالجهل والضعف والعجز، بينما الذات الإلهية منزهة عن مثل هذا العلم والقدرة وأفضل دليل على ذلك ما أورده الإمام(عليه السلام)في ذيل هذه الخطبة بشأن الملائكة فوصفهم بقوله: «لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين». أضف إلى ذلك فان صفات المخلوقات منفصلة دائماً عن ذواتها، أو بعبارة اُخرى فانّ صفاتها زائدة على ذواتها. فالإنسان شيء وعلمه وقدرته آخر، وبناءً على هذا فوجوده مركب من هذين الشيئين، والحال أنّ صفات الله عين ذاته وليس هنالك من سبيل لهذا التركب. والواقع أنّ أعظم عقبة تعترض مسيرة التوحيد إنّما تكمن في قضية

[ 53 ]

«القياس»; أي قياس صفات الله بصفات المخلوقات المفعمة بأنواع النقص والعيب، أو الاعتقاد بالصفات الزائدة على الذات; الورطة التي وقعت فيها الأشاعرة «فرقة من المسلمين».(1)

—–

ولذلك أردف الإمام(عليه السلام) قائلاً: «لشهادة كل صفة ـ من الممكنات ـ أنّها غير الموصوف وشهادة كل موصوف ـ من الممكنات ـ أنّه غير الصفة».

فكلامه(عليه السلام) دليل واضح وجلي في أنّ الصفات الزائدة على الذات تشهد بلسان حالها أنّها غير الموصوف، وكل موصوف يشهد بأنّه ليس من الصفات، اللّهم إلاّ أن نقول بأنّ صفاته عين ذاته، ونؤمن بأنّ الله ذات جميعها علم وجميعها قدرة وجميعها حياة وأزلية وأبدية، وإن كان إدراك مثل هذا الاعتقاد متعذر علينا نحن المخلوقات الذين أنسنا بصفات المخلوق فقط ونرى أنّ الإنسان شيء وعلمه وقدرته شيئاً مضافاً للذات زائداً عليها، لأننا نلد من أمهاتنا وليس لنا من علم وقدرة ثم نحصل عليها لاحقاً.

—–

ثم يواصل الإمام(عليه السلام) خطبته ويردفها بعبارة قصيرة إلاّ أنّها عميقة المعنى فيقول: «فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله».

فالواقع أنّ كلام الإمام(عليه السلام) يفيد أن اثبات الصفات التي تتصف بها المخلوقات لله يستلزم التركب في وجوده سبحانه; أي كما أنّ المخلوق ـ الإنسان ـ مركب من الذات والصفات فان الله مركب كذلك; بينما لا ينسجم هذا المعنى وواجب الوجود، لأنّ كل مركب يحتاج إلى أجزائه والحاجة تتناقض والغنى المطلق لواجب الوجود.


1. الأشاعرة هم أتباع «أبو الحسن الأشعري» الذين يؤمنون بالمعاني، والمراد بالمعاني هو أن مفهوم الصفات من قبيل العالمية والغالبية و... كالذات الإلهية قديمة أزلية، كما أنّها في نفس الوقت غير الذات الإلهية، وعليه فهم يعتقدون بأزلية بعض الأشياء، بعبارة اُخرى يقولون بتعدد القدماء، وهى العقيدة التي تتنافى تماماً والوحدانية الخالصة، ولذلك ينفي أتباع أهل البيت(عليهم السلام)ـ على ضوء ما تلقوه عنهم من تعاليم كالذي جاء في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة وكلمات أئمة العصمة(عليهم السلام) ـ هذه المعاني التي تمثل الصفات الزائدة على الذات، وقد أشارت العبارة «لا شريك له ولا معاني» لهذا الأمر.

[ 54 ]

وهناك تفسيران آخران ذكرا لهذه العبارة:

الأول: أننا إذا اعتبرنا صفاته سبحانه غير ذاته، فانّ ذاته ستكون مركبة، لأنّ الذات والصفات على فرض التناقض ستشتملان على جهات مشتركة ومتمايزة والذي يعبّر عنه «ما به الاشتراك» و«ما به الامتياز». لأنّ كليهما مشترك في الوجود وفي نفس الوقت متمايزان عن بعضهما، وفي هذه الحالة لابدّ أن نعتبر ذاته مركبة من جهتين مختلفتين أيضاً.

الثاني: أن نؤمن بوحدة الذات الإلهية، ولا نعني بها الوحدة العددية، بل يعني مفهوم الوحدة بالنسبة للذات الإلهية أنّها منزهة عن الشبيه والمثيل والنظير. وبشكل عام فانّ الوجود المطلق من كل الجهات يأبى أن يكون له شبيه ومثيل، فان قلنا بأنّ صفات الله كذاته أزلية وأبدية ومطلقة، نكون قد حددناه سبحانه من جانب وقلنا بشبيه له من جانب آخر (لابدّ من التأمل في هذا الكلام) وهذا هو المعنى الذي كشف عنه الإمام(عليه السلام) في إطار توضيحه للاخلاص، فقال «فمن وصف الله سبحانه» أي وصفه بصفات المخلوقين «فقد قرنه» بالأشياء الاُخرى «ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاه ومن جزاه فقد جهله» لأنّه حين جزاه بمعنى جعل ذاته متركبة من أجزاء وحقاً لم يعرف الله من اعتقد بتركب ذاته; وذلك لأنّه تصور كائناً على شاكلته ـ من حيث التركيب والمحدودية ـ وأسماه الله.

—–

ثم يقول(عليه السلام): «ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده». ويوجد احتمالان بشأن قوله(عليه السلام): «ومن أشار إليه» الأول أن يكون المراد بها الإشارة العقلية، والثاني أن يكون المراد بها الإشارة العقلية والحسية. وتوضيح ذلك أنّ الإنسان إذا لم يعرف الله بتلك الحقيقة المطلقة اللامتناهية فانّه سيمتلك في ذهنه مفهوماً محدوداً وخاصاً عنه سبحانه، أو بتعبير آخر فانّه سيشير إليه بالإشارة العقلية، وبالطبع سيكون محدوداً في هذه الحالة تصوراً، وذلك لتعذر إدراك وتصور اللامحدود واللامتناهي على الإنسان المحدود والمتناهي. فالإنسان إنّما يدرك ما يحيط به من أشياء يسعه تجسيمها في فكره المحدود، وبالطبع فان مثل هذه الموجودات محدودة. وعلى هذا الضوء فان الله سيكون في مصاف المعدودات والأشياء القابلة للعدد، لأنّ من لوازم المحدود هو إمكان تصور موجود آخر في موضع آخر مثله.

[ 55 ]

والأول الوحيد الذي ليس له ثان من كان غير محدود من جميع الجهات ولا يسعه العدد. وعلى هذا الأساس فان مولى الموحدين ـ علي بن أبي طالب(عليه السلام) ـ قد عكس حقيقة التوحيد في هذه العبارة القصيرة ذات المعنى العميق، فوصف البارئ سبحانه بما يفوق الخيال والقياس والظن والوهم. وهى ذات الحقيقة التي كشف النقاب عنها الإمام الباقر(عليه السلام) حين قال: «كل ما ميزتموه باوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم»(1).

والاحتمال الآخر مازال قائماً بأن يكون المراد «بالإشارة» الإشارة العقلية والإشارة الحسية أيضاً; وذلك لأنّ الله ليس بجسم ولا عرض والاعتقاد بجسمية الله جهل محض، ونتيجة ذلك كون الذات الإلهية محدودة لأنّ كل مشار إليه فهو محدود، فالمشار إليه لابدّ أن يكون في جهة مخصوصة، وكل ما هو في جهة فله حد وحدود.

سؤال

هنا يبرز سؤال يطرح نفسه: إذا تعذرت حتى الإشارة العقلانية لله، فانّ معنى ذلك تعطيل معرفة الله وإغلاق أبواب المعرفة بوجه الإنسان وبالتالي سوف لن يكون هناك من مفهوم لمعرفة الله. وذلك لأننا كلما حاولنا التوجه إلى تلك الذات المقدسة ارتطمنا بمخلوق من نسج أفكارنا، كلما أردنا الاقتراب منه لم نزدد إلاّ بعداً عنه، فما أحرانا والحالة هذه الا نقتحم ميدان المعرفة بغية عدم الابتلاء بالشرك.

الجواب

إنّ الجواب على هذا السؤال يتضح من خلال الإلتفات إلى نقطة مهمّة ـ من شأنها أن تحل المشكلة هنا وفي سائر الموارد ـ وهى أنّ المعرفة على نوعين: معرفة إجمالية ومعرفة تفصيلية، أو بتعبير آخر معرفة كنه الذات ومعرفة مبدأ الأفعال. فاننا حين نتأمل عالم الوجود بما يضم من العجائب والغرائب والكائنات بتلك الروعة والجمال والعظمة، بما في ذلك وجودنا نحن الأفراد لنشعر بأنّ هنالك خالقاً ومدبراً لهذا الكون وهذا هو العلم الإجمالي الذي يمثل ذروة معرفة الإنسان بالله (غاية مافي الأمر أننا كلما تعرفنا أكثر على أسرار الوجود وقفنا بصورة


1. بحار الأنوار 66 / 293.

[ 56 ]

أعمق على عظمته وتعززت به معرفتنا الإجمالية أكثر فأكثر) إلاّ أننا حين نعود بالسؤال لأنفسنا عن ماهيته وكيفيته ونحاول الاقتراب من حقيقة ذاته المقدسة لا نحظى سوى بالحيرة والغموض; الأمر الذي يجعلنا نقول بأنّ السبيل إليه مفتوح على مصراعيه وفي نفس الوقت مؤصد ومغلق تماماً.