[ 57 ]

 

 

القسم الثالث

 

«وَ مَنْ قالَ «فِيمَ» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قالَ «عَلامَ»؟ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ. كائِنٌ لا عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لا عَنْ عَدَم، مَعَ كُلِّ شيء لا بِمُقارَنَة، وَغَيْرُ كُلِّ شَيْء لا بِمُزايَلَة، فاعِلٌ لا بِمَعْنَى الْحَرَكاتِ وَالاْلَةِ، بَصِيرٌ إِذْ لا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إِذْ لا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَلا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ».

—–

 

الشرح والتفسير

ليس كمثله شيء

لقد تعرض الإمام(عليه السلام) في هذا القسم من الخطبة إلى عدّة نقاط حساسة ودقيقة بشأن مباحث التوحيد بكلمات قليلة ومعان عميقة يمكن إيجازها في خمس:

1 ـ كون الذات الإلهية المطلقة منزهة عن المكان، فقد قال(عليه السلام): «ومن قال فيم؟ فقد ضمنه». فالكلمة (في) إنّما تستعمل بشأن المكان الذي يحوي الشيء ويحيط به، من قبيل قولنا فلان في الدار، والورد في البستان وما إلى ذلك، ونتيجة ما تقدم هو محدودية ذاته سبحانه، بينما أشرنا سابقاً إلى أنّ كافة أدلة التوحيد تفيد كون الذات المقدسة مطلقة من جميع الجهات.

وهكذا من سأل «علام» بشأن الله؟ (على العرش، على الكرسي، على السموات) فقد حده لأنه أخلى منه سائر المواضع «ومن قال علام؟ فقد أخلى منه). فمثل هذه الأسئلة تستلزم كون الذات القدسية محدودة، وهذا مالا ينسجم وكونه واجب الوجود. وبناءً على هذا فكل من تصوره على العرش أو على السموات أو أي مكان آخر فقد جرد نفسه من التوحيد الخالص، وفي الواقع فانّه يعبد مخلوقاً من نسج خياله الفكري ويسميه الله. فقد ذهب بعض الجهال إلى

[ 58 ]

أنّ الشريفة (الرَّحْمـنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)(1) دليل على جسمية الله وأنّه على العرش، بينما تفيد كلمة «استوى» معنى السيطرة على الشيء ولا تقتصر على معنى التربع على الشيء أو الاستقرار عليه، بل هناك تعبير كنائي معروف ومتداول بشأن تزعم الاُمور والأخذ بزمامها في مقابل اعتزال السلطة وانفلات القدرة، فيقال (اسْتَوى عَلى العَرْشِ)في مقابل «ثل عرشه» ولا يراد كسر عرش السلطة أو التربع عليه. وعليه فالذي تفيده الآية الكريمة (اسْتَوى عَلى العَرْشِ) هو استقرار حكومته وسلطته سبحانه على العرش. على كل حال يبدو من السذاجة والسخرية الاستدلال بهذه الآية على جسميته سبحانه.

2 ـ يشرح الإمام(عليه السلام) في هذه العبارة «كائن لا عن حدث» أزليته سبحانه وكون ذاته غنية عن الحدود من ناحية الزمان، ثم يقول(عليه السلام): «موجود لا عن عدم» وهذا هو الفارق بينه وبين جميع المخلوقات المسبوقة بالعدم والحدوث، بينما لم تسبق الذات الإلهية بمثل ذلك العدم والحدوث. بل لا يمكن وصفه بصفتي «الكائن» و«الموجود» دون تنقية مفهومها من صفات المخلوقات المسبوقة بالعدم.(2)

3 ـ العبارة الاُخرى تضمنت إشارة رائعة إلى كيفية الرابطة السائدة بين المخلوقات والخالق والممكنات بواجب الوجود، حيث قال(عليه السلام): «مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة». لقد ذهب أغلب الناس وحتى أغلب الفلاسفة والعلماء إلى أنّ الرابطة التي تسود المخلوقات بالله، هى رابطة بين وجودين مستقلين في أنّ أحدهما مخلوق للآخر، كوجود الشعلة العظيمة والشمعة الصغيرة التي نوقدها من تلك الشعلة، في حين الحقيقة شيء آخر


1. سورة طه / 5.

2. لقد ذهب بعض شرّاح النهج إلى أنّ العبارتين المذكورتين إنّما تبينان موضوعاً واحداً، بينما اعتبر البعض الآخر ـ مثل ابن أبي الحديد ـ أن قوله(عليه السلام): «كائن لا عن حدث» إشارة إلى الحدوث الزماني في العبارة الاولى، ولم ينف حدوثه الذاتي الا في كلمته الثانية بغض النظر عن الزمان لأنّه واجب الوجود. (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 79). في حين ذهب آخرون إلى عكس ذلك ففسروا العبارة الاولى بنفي الحدوث الذاتي أو الذاتي والزماني، والعبارة الثانية بنفي الحدوث الزماني. (شرح نهج البلاغة لابن ميثم، 1 / 127). ولكن لم يقم دليل واضح على أي من هذا التفاوت، لأن مفردة الحدوث عادة ما تطلق على الحدوث الزماني، كما يمكن حملها على الحدوث الذاتي أيضاً، وهكذا يمكن إطلاق نقطة العدم على العدم الذاتي والتي غالباً ما تطلق على العدم الزماني. وعليه تبدو هاتان العبارتان متأكدتان في معناهما وهو نفي الحدوث الزماني والذاتي; على أنّهما تنفيان أي حدوث وعدم عن الذات الإلهية سواءً بالنسبة للذات والزمان.

[ 59 ]

تماماً. فالفارق بين المخلوق والخالق هو ليس من قبيل الفارق بين وجود ضعيف وقوي قط، بل الفارق هو فارق بين وجود مستقل من جميع الجهات ووجود تابع. فعالم الوجود برمته تابع له ويتغذى في كل آن من نور وجوده عليه. فالله سبحانه ليس منفصلاً عن عالم الوجودكما أنّه ليس عين الموجودات (كما ذهب إلى ذلك الصوفية التي تقول بوحدة الوجود والموجود)، وأنّ التوحيد الواقعي إنّما يتوقف على إدراك هذه الحقيقة. ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بهذا المثال (رغم النقص الذي يشوب مثل هذه الأمثلة). فشعاع الشمس رغم وجوده وكونه غير قرص الشمس، إلاّ أنّه متصل بها تابع لها، هو غيرها لكن لا على نحو المغايرة وبمعنى الانفصال والاستقلال، ومعها ولكن ليس بمعنى الالتحام والاتحاد. وهما لاشك فيه أن ارتباط موجودات هذا العالم بالذات الإلهية المقدسة أكثر قرباً وتبعية ممّا صدره هذا المثال، والحق لا يمكن العثور على مثال دقيق في هذا العالم لتصوير عمق هذه التبعية والوحدة وفي نفس الوقت الثنائية (أي الوحدة في الكثرة). رغم أنّ الأمثلة ومنها المثال المذكور ـ أو كالتصورات الذهنية للإنسان التابعة من روحه وغير المنفصلة عنها وفي نفس الوقت تابعة لها وليس لها من مفهوم دونها ـ يمكنها أن توضح إلى حد ما هذا الموضوع.

4 ـ تناول الإمام(عليه السلام) صفة اُخرى من صفات الذات الإلهية المقدسة، فقد قال(عليه السلام): «فاعل لا بمعنى الحركات والآلة». لقد جرت المحاورات اليومية عادة على الاصطلاح بالفاعل على الفرد الذي يقوم ببعض الأعمال من خلال حركات اليد والرجل أو الرأس والرقبة وسائر الأعضاء، ولما كانت قدرة الإنسان وسائر الكائنات محدودة وتعذر الإتيان بكافة الأفعال والأعمال على هذه الأعضاء، فانّه يستعين ببعض الوسائل والأدوات ليسد بها ذلك النقص الذي يشوب قدرته، فهو يستعين بالمطرقة لدق المسمار، وبالمنشار لنشر الخشب وبالمكائن والآلات الضخمة لنقل الأحمال الثقلية من مكان إلى آخر، وكل هذه الاُمور هى من آثار الأجسام والجسمانيات.

ولما كان الله منزهاً عن الجسمية، وقدرته غنية مطلقة خارجة عن الحد والحدود فان فاعليته لا تعني القيام بالحركات أبداً، كما أنّ قدرته المطلقة أغنته عن الاستعانة بالأدوات والآلات. فالله سبحانه فاعل قبل أن تخلق الآلة ولو كان محتاجاً للآلة لعجز عن خلقه لاولى

[ 60 ]

الأشياء، وبعبارة اُخرى فان فعله إبداع. نعم فهو قادر على خلق عالم الوجود أو اعدامه في طرفة عين أو أقرب بإرادته وقوله (كن)، كما له خلقه تدريجياً أو في أية مدّة نبتغيها إرادته. والذي يجدر الالتفات إليه هنا هو أننا حين نصفه سبحانه بأنّه فاعل فلا ينبغي أن نقارن فاعليته بذواتنا وأنّها تستعين بالادوات والآلات. وبالطبع فانّ هذا الكلام لا يعني أن ليس لله من ملائكة تتولى تدبير الأمر والتي وصفها القرآن (...فَالْـمُدَبِّراتِ أَمْراً).

فقد جرت عادته على ايجاد الحوادث عن طريق الأسباب، لان إرادته شاءت ذلك لامحتاج لها.

5 ـ ثم قال الإمام(عليه السلام): «بصير إذ لا منظور إليه من خلقه».

صحيح أن مفردة بصير مشتقة من مادة البصر، إلاّ أنّها تطلق بالمعنى المجازي على الله سبحانه لا الحقيقي. فكونه بصيراً يعني عليماً بجميع الأشياء القابلة للرؤية وحتى الأشياء التي ترى ولم تخلق بعد. وبناءً على هذا فان بصيرته تعود إلى علمه اللامتناهي، حيث نعلم جميعاً بأنّ علمه أزلي. وأخيراً فقد تحدث الإمام(عليه السلام) عن وحدانيته سبحانه في غناه عن الأنيس فقال: «متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده»(1)

وتوضيح ذلك هو أنّ الناس وسائر الكائنات الحية وبحكم كون قدرتها محدودة في نيل المنافع ودفع الاضرار فانّها مضطرة للاستعانة ببني جنسها ومن غيرها لتشعر بالأمن تجاه بعض الأخطار التي تهددها. وهنا يتفاقم شعور الإنسان بالاستيحاش لوحدته، بينما يأنس بوجود سائر الأفراد إلى جانبه ولاسيما أثناء تعرضه للأخطار والآفات والبلايا والأمراض والأوبئة. وأحياناً يندفع الإنسان الضيق النظر ليقارن الله بنفسه فيشعر بالدهشة والذهول كيف يكون الله وحيداً قبل ايجاده لهذه المخلوقات، وكيف لا يكون له من أنيس يسكن إليه، وأخيراً كيف يشعر بالاستئناس بهذه الوحدة؟! غافلاً عن أنّه وجود مطلق لا يحتاج الاستعانة


1. هناك احتمالان بشأن «إذ» الواردة في العبارة; الاحتمال الأول: هل هى ظرفية تشير إلى عدم وجود شيء خلق في الأزل ولم تكن سوى ذاته المقدسة ليأنس بها ويستوحش لفقدها؟ أم إن «إذ» هنا بمقام التعليل، يعني كان وما زال واحداً لأنّه لم يكن هناك من وجود، حيث لا يحتاج إلى أحد؟

يبدو أنّ الاحتمال الثاني هو الأقوى. كما إن «لا» في قوله «لا يستوحش» زائدة وردت للتأكيد، بينما ذهب البعض إلى أنّها جملة استئنافية.

[ 61 ]

بأحد، وليس له من خشية لعدو ليستعين عليه بظهير، كما ليس له من صنو يستأنس به. ولذلك كان وسيكون متوحداً.

ويتضح ممّا ذكرنا سابقاً أن لمفردة «المتوحد» مفهوم يختلف عن مفهوم «الواحد» و«الأحد».

 

تأمّلات

لقد تضمنت هذه العبارات العميقة المعاني والعظيمة المضامين عدّة معطيات ودروس قيمة من شأنها حل أغلب المشاكل العقائدية على مستوى «معرفة الله وأسمائه وصفاته» ومنها:

 

1 ـ علاقة الخلق بالخالق ومسألة «وحدة الوجود»!

لقد كثر الكلام في أوساط الفلاسفة والعلماء بشأن كيفية الرابطة بين الخالق والمخلوق، فقد أفرط البعض منهم حتى اعتقد بأنّ الخالق هو عين المخلوق إثر رؤيتهم القائمة على أساس وحدة الوجود والموجود. فهم يقولون ليس هنالك أثر من وجود شخصي واحد في عالم الوجود وكل ماسواه ترشحات من ذاته، أو بتعبير آخر: هناك شيء واحد فقط أمّا الكثرة والتعدد فهى خيالات وظنون وسراب يحسبه الظمآن ماء. أحياناً يستعيضون عن الوحدة والاتحاد بقولهم بالحلول على أنّه ذات حلت في كافة الأشياء وتتخذ لها شكلاً في كل وقت بينما يشعر الجهال بالازدواج والحال ليس الكل إلاّ شيء واحد لا غير.(1) وزبدة القول أنّهم يرون عالم الوجود بمثابة بحر وقطراته سائر الموجودات. وبعبارة اُخرى فان أي ازدواجية في هذا العالم ليست سوى ضرباً من الخيال والوهم. بل يعتقد البعض منهم أنّ الفرد لا يعدّ صوفياً


1. هذه هى عقيدة أغلب المتصوفة، وشاهد ذلك العبارة المشهورة التي يطلقها زعماء هذه الفرقة «إني أنا الله» وأعظم من ذلك ما يرددوه من قولهم «سبحاني ما أعظم شأني»، امّا البعض الآخر فقد نظم أبياتاً من الشعر وصرح فيها بقوله «أن الصنمية والوثنية هى ذات العبودية»! كما ورد في الأشعار الطائشة للمولوي التي تصور الله بشكل صنم عيّار (وهو عبارة عن موجود مشكوك) يتلبس يوماً بهيئة آدم! ويوماً بهيئة نوح وآخر موسى وعيسى! وأخيراً بشكل محمد(صلى الله عليه وآله) كما يتلبس بهيئة علي وسيفه ذو الفقار! وبالتالي بشكل منصور الذي اعتلى أعواد المشنقة! (نقلاً بتلخيص عن العارف الصوفي وماذا يقولان / 117).

[ 62 ]

حقيقياً مالم يؤمن بوحدة الوجود والموجود، وذلك لأنّ وحدة الوجود تشكل الركيزة الأصلية لقضية التصوف!

وبالطبع فانّ بعض كلماتهم يمكن حملها على المعاني الصحيحة والصائبة من قبيل أنّ الوجود الحقيقي القائم بالذات في العالم واحد وكل ما سواه تابع له مستمد وجوده منه (كما أوردنا ذلك سابقاً في التشبيه بالمعاني الأسمية والحرفية) أو كل ما عدا الذات الإلهية المقدسة ـ الوجود المطلق من جميع الجهات ـ يمثل موجودات صغيرة ضئيلة ليس لها شأناً يذكر ولكن لا يعني ذلك أنّها لا تمتلك وجوداً واقعياً حقيقياً. ولكن الذي لا شك فيه هو أنّ بعض أقوالهم وعقائدهم لا يمكن تبريرها والتماس التفسير الصائب لها، فهم يصرحون بأن ليس في عالم الوجود أكثر من وجود واحد وكل ما سواه سراب وخيال، وأبعد من ذلك تصريحهم بأنّ الوثنية وعبادة الأصنام لو خرجت عن شكلها المحدود فهى عين عبادة الله، لأنّ كل العالم هو، وهو كل العالم. فهذا الكلام يستتبع لوازم فاسدة ليست بخافية على أحد على ضوء العقائد والتعاليم الإسلامية، ناهيك عن تعارضها والوجدان بل البديهيات وانكارها للعلة والمعلول والخالق والمخلوق والعابد والمعبود، وذلك لأنّه لم يعدّ هناك من مفهوم للفارق بين المعبود والعبد والشارع والمكلف، بل حتى الجنّة والنار وأهلهما، فكلها واحدة وكلها عين ذاته وما هذه الكثرة والتعدد الا وهم وخيال ولو أزيلت هذه الغشاوة عن أبصارنا فسوف لا نرى إلاّ وجوده سبحانه! إلى جانب ذلك فان من لوازم ذلك القول بجسمية الله والحلول وما إلى ذلك. وعليه فعقائدهم لا تنسجم مع الوجدانيات والأدلة العقلية ولا تتفق مع العقائد الإسلامية وتعاليم القرآن الكريم، ومن هنا انبرى المرحوم المحقق اليزدي(ره) ـ الفقيه المعروف ـ ليكتب في عروته الوثقى في مبحث الكفار: «لا إشكال في نجاسة الغلاة(1) والخوارج والنواصب وأمّا المجسِّمة والمجبِّرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذهبهم من المفاسد»(2).


1. «الغلاة» هم المغالون في الأئمة(عليهم السلام) ولا سيما علي(عليه السلام) فعدوه هو الله أو أنّه اتحد به. و«الخوارج» هم أصحاب النهروان الذين أسماهم النبي(صلى الله عليه وآله)بالمارقين وقد قتلهم الإمام شر قتلة في النهروان. وأمّا «النواصب» فهم أعداء أهل البيت(عليهم السلام).

2. العروة الوثقى، بحث نجاسة الكافر، المسألة 2.

[ 63 ]

وتتضمن المسألة أمرين مهمين يجدر الإلتفات إليهما: أحدهما عطف أصحاب عقيدة وحدة الوجود على المجبرة والمجسمة وجعل الجميع بمنزلة واحدة، والآخر بان عقائدهم تنطوي على مفاسد دينية إذا التزموا بها خرجوا من ربقة الإسلام وإن لم يلتزموا بها فهم مسلمون. فالكلام يفيد بما لا يقبل الشك أنّ مذهب هؤلاء يتصف ببعض المفاسد التي يؤدي الالتزام بها إلى الخروج عن صف المسلمين. أمّا الجدير بالذكر هو أنّ كافة العلماء الذين كتبوا حاشية على العروة الوثقى ـ حيث جرت عادة العلماء الكشف عن اجتهادهم وقدرة استنباطهم للأحكام الشرعية من مصادرها المقررة على كتابة تعليقة على العروة الوثقى ـ قد أقروا بما أورده صاحب العروة أو أضافوا لما ذكره بعض القيود (من قبيل قولهم بما لا يوجب إنكار التوحيد والرسالة)(1).

وللوقوف على عمق المفاسد التي انطوت عليها هذه المسألة، نرى من الضروري هنا الإشارة إلى نموذج ورد في الدفتر الرابع للشاعر المثنوي حين نقل قصة طويلة بشأن قول «بايزيد» سبحاني ما أعظم شأني، فقد واجه اعتراضاً من صحبه، فقال لهم: «لا إله إلاّ أنا فاعبدون» فقالوا له ما تقول؟! قال: سأقول ذلك ثانية فاحملوا السكاكين واطعنوني بها. فشهر صحبه سكاكينهم وجعلوا يطعنونه، إلاّ أنّهم شعروا بأن كل طعنة كانت تمزق أجسادهم لا جسده. فهذه الاسطورة الخرافية من شأنها الإشارة إلى مدى الاندفاع والتيه الذي بلغه أصحاب هذا المسلك.

وأخيراً نختتم هذا الموضوع بما أورده أحد المعاصرين من شرّاح نهج البلاغة إذ قال بهذا الخصوص: انّ هذا المذهب (القائل بوحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود) إنّما يتنكر لكافة القوانين العقلية والاُسس الوجدانية وروح الأديان الإلهية، ويرفع من شأن عالم الوجود ليبلغ به المرتبة الوجودية الإلهية أو ينزل بالوجود الإلهي إلى الحضيض فيسويه بسائر مخلوقاته، ويبدو أن مثل هذا المذهب إلى الأذهان والأذواق والهروب من الإشكالات أقرب منه إلى التعقل والالمام بالواقعيات.(2)


1. للوقوف على المزيد راجع كتاب مصباح الهدى 1 / 410 للمرحوم آية الله الشيخ محمد تقي الآملي (الفقيه والفيلسوف المعروف) وكذلك تقريرات المرحوم آية الله الخوئي 3 / 81 ـ 82 .

2. ترجمة وتفسير نهج البلاغة، الاستاذ الجعفري 2 / 64.

[ 64 ]

2 ـ انحراف الجهال عن حقيقة صفات الله

لو تأملنا بدقّة وأجلنا الفكر في كلماته(عليه السلام) لاكتشفنا مدى قطعه الطريق أمام أي انحراف عن مبدأ التوحيد وحقيقة صفات الله، واتضح لدينا المفهوم الحقيقي لقوله سبحانه وتعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)(1) و(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ)(2) و(وَما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَة إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ)(3) و(اللّهُ نُورُ السَّمـواتِ وَالأَرْضِ)(4) و(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ)(5) وما إلى ذلك من المضامين القرآنية الشريفة.

فهذه المسألة وإضافة لاكمالها الأبحاث المتعلقة بوحدة الوجود ـ بمعناها الصحيح ـ من شأنها أن تقف حائلاً أمام أي انحراف في فهم الصفات الإلهية. إلاّ أنّ أصحاب الضلالة قد وطأوا وادياً لا يجر عليهم سوى الخجل والخيبة، ومنهم طائفة «المجسمة» التي أضفت صفات الممكنات على الله تبارك وتعالى فصوروه كجسم من الأجسام وقد انطوى على بعض الأعضاء من قبيل الجسم واليد والرجل والشعر المجعد ومن باب أولى أن يحدوه بالمكان والزمان فذهب البعض إلى إمكانية رؤيته سبحانه في الدنيا، بينما اقتصر بها البعض الآخر على الآخرة.

فقد قال المحقق الدواني ـ من مشاهير الفلاسفة ـ طبق نقل بحار الأنوار ـ أنّ: «المشبهة منهم من قال: إنّه جسم حقيقة، ثم افترقوا فقال بعضهم: إنّه مركب من لحم ودم وقال بعضهم: هو نور متلألىء كالسبيكة البيضاء، طوله سبعة أشبار بشبر نفسه، ومنهم من قال: إنّه على صورة إنسان، فمنهم من يقول: إنّه شاب أمرد جعد قطط، ومنهم من قال: إنّه شيخ أشمط الرأس».(6)

والأدهى من ذلك أنّهم قالوا ببعض الصفات الجسمية لله سبحانه من خلال ما نقلوه من


1. سورة ق / 16.

2. سورة الحديد / 4.

3. سورة المجادلة / 7.

4. سورة النور / 36.

5. سورة الانفال / 24.

6. بحارالأنوار 3/289.

[ 65 ]

روايات عن النبي(صلى الله عليه وآله) ـ وهى روايات موضوعة بالطبع ـ وصحيحه. ومن ذلك أنّه سئل ابن عباس: هل رأى محمد(صلى الله عليه وآله) ربّه؟ قال: بلى، فسئل: كيف رآه؟ قال: رآه على كرسي ذهبي مفروش بالذهب ويحمله أربعة من الملائكة في حديقة خضراء(1).

وبغض النظر عمّا سبق فقد شحن «صحيح البخاري» و«سنن ابن ماجة» وغيرها بالروايات التي صرّحت بأنّ الله سيرى في يوم القيامة(2)، حتى أنّ بعض الروايات صرّحت بأنّ أهل الجنّة سيرونه كما يرى القمر بدراً(3) والحق أنّ مثل هذه الروايات دفعت بالكثير من علماء العامة للاعتقاد برؤية الله يوم القيامة والاستماتة في الدفاع عن هذه العقيدة. بينما هذا القرآن يهتف آناء الليل والنهار (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ)(4) وقد خاطب سبحانه كليمه موسى(عليه السلام)قائلاً (لَنْ تَرانِي)(5) ونعلم بأن «لن» نافيه أبدية. وقد تصدى الإمام علي(عليه السلام)لبيان هذه المسألة في خطبة الأشباح، فقال(عليه السلام): «والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه أو تبصره»(6). كما قال(عليه السلام) في خطبة اُخرى ببلاغته وفصاحته الجلية: «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر»(7). وناهيك عمّا تقدم فان هذه العقائد تمثل مخالفة صريحة لما يحكم به العقل; وذلك لأنّ الرؤية لو كانت جائزة على الله لكان جسماً له مكان وجهة، الأمر الذي يعنى محدويته وتغيره وبالتالي سلبه وجوب الوجود وجعله من ممكناته. وهنا يأتي دور عبارات أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)ومنها العبارة السابقة لتكون كالشمس في رابعة النهار فتميط اللثام عن الحقائق وتسحق العقائد الباطلة والخرافية وتستعرض الدروس القيمة في التوحيد ومعرفة الصفات الإلهية. ولما جرت العادة أن يقابل


1. توحيد ابن خزيمة / 217 (طبق نقل بحوث في الملل والنحل) 1 / 145.

2. صحيح البخاري 6 / 56. تفسير سورة النساء; سنن ابن ماجة ج 1 مقدمة الباب 13 ح 177.

3. للوقوف على هذه الروايات الموضوعة يقيناً وكذلك تفنيد هذه الروايات واستعراض الأدلة التي تضمنتها الآيات والروايات المعتبرة التي صرّحت باستحالة رؤية الله في الدنيا والآخرة، راجع من التفسير الموضوعي للقرآن نفحات القرآن 4/241 ـ 251.

4. سورة الانعام / 103.

5. سورة الاعراف / 143.

6. نهج البلاغة، الخطبة 91.

7. نهج البلاغة، الخطبة 185.

[ 66 ]

كل إفراط بتفريط فقد انبرت طائفة بوجه المجسمة التي نزلت بالله سبحانه إلى مرتبة الجسم فاعتمدت عقيدة التعطيل لتقول باستحالة معرفة الله لا على مستوى كنه ذاته ولا أوصافه، ولا تحسن سوى المفاهيم السلبية من صفات الله، فكل ما نفهمه من قولنا أنّه عالم هو أنّه ليس بجاهل، امّا عالميته المطلقة فهى خافية علينا تماماً، وعليه فمن مواضع فخر الإنسان أن يودع مسألة معرفة الله بوتقة النسيان ولا يقترب من هذا الوادي الذي ينطوي على ظلمات دامسة ويتناقض والتعاليم القرآنية المسلمة التي تقودنا إلى معرفة الله.

ونختتم بحثنا بعبارات اُخرى أوردها الإمام(عليه السلام) في نهج البلاغة بهذا الخصوص فقال: «لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود تعالى الله عمّا يقول المشبهون به والجاحدون له علواً كبيراً»(1).

فالحق أنّ هذا التعبير هو الخط المعتدل الفاصل بين الإفراط والتفريط (المشبهة والمعطلة) في معرفة الله. هذا وقد شحن نهج البلاغة بالكلمات البليغة الرائعة التي تضمنتها خطبه(عليه السلام)بشأن صفات الله والسبيل الصحيح لتوحيده سبحانه، وسنتعرض في أبحاثنا القادمة لخطبه(عليه السلام)بهذا الخصوص.

—–

 

3 ـ نفي الحدوث الذاتي والزماني للذات القدسية

تفيد عباراته(عليه السلام) بهذا الشأن أنّ الذات الإلهية منزهة عن الحدوث الذاتي والحدوث الزماني. والمراد بالحدوث الزماني هو وجود الشيء في الزمان، أو بتعبير آخر مرور المدّة الزمانية على شيء لم يكن موجوداً ثم يوجد. وهذا هو المعنى المتصور بعد خلقه عالم المادة; لانّ الزمان انبثق من خلال خلقة العالم المادي بحيث أصبح هناك مفهوم للحدوث والعدم الزماني. أمّا الحدوث الذاتي فالمراد به الشيء الحادث في ذاته بغض النظر عن ظهور عالم المادة، أو


1. نهج البلاغة، الخطبة 49.

[ 67 ]

بتعبير آخر لا يترشح وجوده من باطن ذاته، بل يكون تابعاً ومعلولاً لوجود آخر، ومن المسلم به أن ليس من سبيل لهذين الحدوثين إلى الذات المقدسة الواجبة الوجود في الماضي والمستقبل، بل وجوده هو الوجود الاصلي (عليك بالدقة والتأمل).

—–

 

4 ـ هل يصح اطلاق لفظ «الموجود» على الله؟

هل يمكن اطلاق لفظ «الموجود» على الله؟ يبدو من تعبيره(عليه السلام): «موجود لا عن عدم» إمكانية اطلاق هذا اللفظ على الذات الإلهية المقدسة، ولكن من المسلم به أن المفهوم الأصلي لهذا اللفظ الذي ورد بصيغة اسم المفعول والذي يعني أن الآخر هو الذي منحه الوجود، لا يصدق على ذاته المقدسة، فالموجود هنا يشتمل على مفهوم آخر وهو يتضمن معنى ذي الوجود; وهو المعنى الذي صرّح به في بعض شروح نهج البلاغة، بحيث يطلق الموجود تارة على الماهيات الممكنة التي اتصفت بالوجود، كما يطلق تارة اُخرى ويراد به أصل الوجود(1). وقد ورد هذا التعبير (الموجود) في بعض روايات أصول الكافي أيضاً.(2)

—–


1. مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة 1 / 139.

2. أصول الكافي /1 باب أدنى المعرفة، ح 1; أيضا 1، باب النهي عن الصفة، ح 1; أيضاً 1، باب جوامع التوحيد، ح 4.

[ 68 ]

[ 69 ]

 

 

القسم الرابع

 

«أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلا رَوِيَّة أَجَالَهَا وَلا تَجْرِبَة اسْتَفادَها وَلا حَرَكَة أَحْدَثَها وَلا هَمامَةِ نَفْس اضْطَرَبَ فِيها أَحالَ الاَْشْياءَ لاَِوْقاتِها وَلاََمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدائِها مُحِيطاً بِحُدُودِها وَانْتِهائِها عارِفاً بِقَرائِنِها وَأَحْنائِها».

—–

 

الشرح والتفسير

تصدر الكلام بشأن خلق العالم

لقد تضمنت بداية هذه الخطبة المهمة إشارات دقيقة عميقة المعاني إلى معرفة الله وصفاته والتي تمثل أولى مراحل المعرفة الإنسانية ، ثم طرق(عليه السلام) بعد ذلك إلى خلق العالم وكيفية ابتداء الخلق والعجائب التي انطوت عليها السماء والأرض، وإن كانت مكملة للأبحاث السابقة بشأن صفات الله. فقد قال(عليه السلام): «أنشأ(1) الخلق إنشاءً وابتدأه ابتداءً بلا روية(2) أجالها(3) ولا تجربة استفادها ولا حركة أحدثه ولا همامة(4) نفس اضطرب فيها.


1. «أنشأ» من مادة «إنشاء» بمعنى الايجاد وان ذكروا لها عدّة معان.

2. «روية» بمعنى الري من الماء كما ورد في مقاييس اللغة، الا انّها تستعمل بمعنى التفكير المصحوب بالدقة. وكأنه يروي فكره بشأن تلك المسألة، أو ري تلك المسألة بفكره واداء حق التفكير.

3. «أجال» من مادة جولان بمعنى الحركة والتجوال.

4. «همامة»: لقد ذكر شرّاح ومفسروا نهج البلاغة لهذه المفردة عدّة معان. فقد عناها البعض بالرغبة القطعية الباطنية بالشيء بحيث ينزعج لفقدانها (شرح ابن ميثم البحراني 1 / 132). بينما ذهب البعض الآخر إلى أنها تعني الترديد في القيام بعمل (منهاج البراعة 1 / 51). وقال آخرون انّها تعني الاهتمام بالشيء (شرح مغنية1/27).

وقال ابن أبي الحديد في شرحه المعروف لنهج البلاغة: وقوله(عليه السلام): «ولا همامة نفس اضطرب فيها» فيه رد على المجوس والثنوية القائلين بالهمامة الذين يعتقدون بأنّ النورالأعظم حين هم بمجابهة الظلمة بدا عليه الشك والترديد فخرج من ذاته بشيء يسمى بالهمامة.

أمّا في اللغة ـ كما ورد في لسان العرب ـ فالهمامة تعني الضعف والوهن والفتور ولذلك يطلق على كل رجل أو امرأة عجوز اسم «هِم» و«هِمة».

ويبدو ممّا ذكر أن «الهمامة» الواردة في العبارة إنّما تعني الضعف والعجز في العزم والإرادة بحيث يتعذر على الشخص اتخاذ القرار، أو أنّه يتخذ القرار بصعوبة.

[ 70 ]

فالإمام(عليه السلام) يبين البون الشاسع بين الخلق الإلهي والأعمال والأفعال التي تصدر عن المخلوقات. فالإنسان مثلاً إذا أراد أن يقوم بعمل ولم يكن لهذا العمل من سابقة وظن فكره وتأمله لينطلق إليه، وإن كان له سابقة احتذى بتجربته وتجارب الآخرين كما يعمد إلى خزينه الذهني والفكري بشأن ترتيب مقدمات العمل بغية التوصل إلى نتائجه وكيفية أدائه، وأحياناً يتيه في ترديده وحيرته بحيث يحكم رأيه ويقوم بالعمل على أساسه. وليس هنالك من سبيل لأي من هذه الحالات والاحتمالات للذات الإلهية المقدسة، فما من حاجة إلى الفكر والتأمل ولا إلى التجارب السابقة ولا الحركة الفكرية استناداً إلى ترتيب المقدمات والحصول على النتائج ولا الترديد والاضطراب في الأعمال والقرارات. فليس وجود الشيء إلاّ إرادته (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(1). بعبارة اخرى فان هذه الاحتمالات الأربع إنّما تتعلق بحصيلة أعمال الأفراد الذين له حظ محدود من العلم والقدرة، ولازمة ذلك الحاجة وأفكار الآخرين وتجاربهم والشعور بالاضطراب والقلق. ولا سبيل لهذه الحالات إلى من خرج علمه وقدرته عن الحدود حين الخلق.

ويتّضح بجلاء ممّا قيل أنّ المراد بالحركة في العبارة المذكورة إنّما هى حركة الفكر في باطن النفس. ولكن هناك معنى آخر ساقه بعض المفسرون للحركة على أنّ المراد بها الحركة الجسمية الخارجية التي تعدّ من لوازم الأجسام والله أعظم وأجل وأسمى من الجسم والجسمانيات. ويبدو أن المعنى الأول أنسب من الثاني; لأنّ الحالات الثلاث الاُخرى التي وردت قبل وبعد العبارة المذكورة كلها مرتبطة باتخاذ القرار والتفكر والتأمل قبل الإتيان بالعمل.

وزبدة الكلام أنّ أفعال الله ليست من جنس أفعال العباد وتختلف عنها تماماً، وذلك لأنّ


1. سورة يس / 82 .

[ 71 ]

أفعاله سبحانه تستند إلى علمه المطلق بمصالح الأشياء ومفاسدها ومعرفته الكاملة بالنظام الأحسن للخلقة والقدرة التامة على جميع الأشياء، وإرادته قاطعة تامة لا لبس فيها ولا ترديد ولا تأمل وتفكير في إفاضة الوجود على الموجودات، وإرادته كانت وما زالت نافذة في الخلق.

—–

ثم أشار(عليه السلام) إلى كيفية خلق الموجودات والتدبير الإلهي في ظهور الأشياء طبق الخطط والبرامج المنظمة فقال(عليه السلام): «أحال الأشياء لأوقاتها» أي أنّ الله جعل لخلق كل موجود وقتاً معيناً (وذلك لأنّ خلقه قائم على أساس التدريج والتخطيط الزماني بغية إيضاح عظمة تدبيره وقدرته الفريدة الفائقة). فلما فرغ من الإشارة إلى التصنيف الزماني لخلقه الموجودات، تطرق(عليه السلام) إلى نظامها الخاص الداخلي والتركيبي فقال(عليه السلام): «ولام(1) بين مختلفاتها». وهذا من عجائب عالم الخلقة، فقد ألف الله سبحانه بين مختلف الموجودات لتبدو متسقة وكأنّها شيء واحد، فقد لائم بين البارد والحار والظلمة والنور والموت والحياة والماء والنار. لقد خلق النار من الشجر الأخضر وخلق الإنسان والحيوان والنبات مركباً من مواد تامة الاختلاف ذات طبائع متنوعة.

وأبعد من ذلك فقد أوجد رابطة عميقة محكمة بين الروح والجسم وهما ينتميان إلى عالمين مختلفين تماماً; أحدهما مجرّد ونوراني وشفاف للغاية والآخر مادي وظلماني وخشن للغاية. ثم قال(عليه السلام): «وغرز(2) غرائزها».