![]() |
![]() |
1. «لام» و«لائم» من مادة «لأم» بمعنى الجمع والإصلاح وضم شيء إلى شيء آخر والملائمة بينهما، ومن هنا اطلق على الدرع اسم «لأمة» على وزن «رحمة» لالتحام حلقاتها وتداخلها مع بعضها.
2. «غرّز» من مادة «غرز» على وزن «قرص» تعني في الأصل غرس الاُبرة أو الجعل والادخال، ثم اطلقت فيما بعد على الطبائع التي أودعت الإنسان أو سائر الكائنات الحية، وكأنّ هذه الطبائع بمثابة البذور التي غرست في أرض الوجود الإنساني.
الأشياء ولسادها الاضطراب والفوضى. وهناك اليوم تعبيران مختلفان بشأن هذه الدوافع الذاتية في الإنسان أو سائر الموجودات، فأحياناً يطلق عليها اسم الفطرة وأنّ معرفة الله مودعة في الفطرة الإنسانية .. وأحياناً اُخرى يعبر عنها بالغريزة. فمثلاً يقولون أنّ للإنسان غريزة جنسية، أو يقولون بأن لحركات الحيوانات عموماً صبغة غريزية. وهذا في الواقع اصطلاح استعمله العلماء بهذا الشأن. أحدهما بشأن الدوافع التي تتسم بالبعد الفكري (الفطرة) والآخر بخصوص تلك التي ليس لها بعداً فكرياً أو لها بعد عاطفي (الغريزة). إلاّ أنّ كليهما يعنى الخلقة على أساس المعنى اللغوي.
—–
ثم قال(عليه السلام): «والزمها(1) أشباحها». وقد تضاربت أقوال المفسرين ـ لنهج البلاغة ـ بشأن هذه العبارة، فذهب البعض ومنهم ابن أبي الحديد الذي قال ان الضمير المنصوب في «الزمها» عائد إلى الغرائز; أي ألزم الغرائز أشباحها، أي أشخاصها لأنّ كلا مطبوع على غريزة لازمة، وبالنتيجة فان العبارة تأكيد على ثبوت غرائز الموجودات. بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد بالعبارة وجود التشخصات الخاصة لكل موجود، أي أنّ الله سبحانه قد وهب كل موجود بعض الخصائص والمميزات، وبعد أن كان لها بعداً كلياً في علم الله فقد تبلورت في الخارج على هيئة جزئيات وأشخاص وعلى ضوء هذا التفسير فان الضمير في ألزمها يعود إلى (الإشياء) كما ذكر البعض كلا التفسيرين على نحو الاحتمال. ولكن لما كان التفسير الأول لا يتضمن انسجام الضمير وما ذهب إليه، إضافة إلى كون العبارة تتخذ طابع التأكيد لا بيان موضوع جديد، فانّ الذي يبدو أنّ التفسير الثاني أصح وأصوب من التفسير الأول. وتوضيح ذلك أن الله تبارك وتعالى قد وهب كل موجود نوعين من الخصائص. الخصائص التي أودعت باطن ذاتها والتي عبر عنها الإمام(عليه السلام) بالغرائز، والخصائص في الجوانب الظاهرية من قبيل الزمان والمكان وسائر الجزئيات والتي عبر عنها الإمام(عليه السلام)بقوله «ألزمها أشباحها» وعلى هذا
1. «أشباح» جمع «شبح» طبق ما أورده أغلب أرباب اللغة بمعنى الشخص في الأصل، كما وردت بمعنى ظهور الشيء واتضاحه، ومن هنا يطلق الشبح اليوم على الموجود الذي يتراءى ظله ثم يظهر فجأة.
الأساس يكون الحق واستناداً لحكمته البالغة في افاضته للخصائص الباطنية والظاهرية لكل
موجود ليقوم بوظائفه الخاصة به على ما يرام ويتميز عن سائر الموجودات.
لقد تضمنت عبارته(عليه السلام) إشارة لنقطة مهمّة طالما ورد التأكيد عليها كراراً في القرآن: وهى أنّ لكافة موجودات عالم الخلقة والمادة تصنيف زماني خاص وفي نفس الوقت الذي يحكمها التضاد والاختلاف إلاّ أنّها منسجمة مع بعضها البعض ومكملة لها وأنّها مهدية على الدوام طبق نظمها الذاتي الباطني والظاهري وأنّها تنطلق كقافلة منتظمة ومنسجمة نحو هدفها النهائي دون أي تعثر وانحراف، بل تسير إليه على نحو الدقة دون أن تخطأه. فتفتح الزهور وتحمل أوراق الأشجار للفاكهة والثمار في فصلي الربيع، ذبولهاوجفافها وتساقطها في فصلي الخريف والشتاء، حركة الشمس في الابراج الاثني عشر، تعاقب الليل والنهار، دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وما اودع الإنسان من قوى باطنية وظاهرية كلها شواهد على الهداية التكوينية الإلهية، والتي صرّح بها القرآن على لسان موسى(عليه السلام):(رَبُّنا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(1) وقال: (فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها)(2) و(وَ إِنْ مِنْ شَيء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَـزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم).(3)
وهذا في الحقيقة يمثل آية من آياته سبحانه في عالم الوجود التي تجعل الإنسان أكثر معرفة بالهداية التكوينية والنظم والتصنيف الزماني والتأليف بين الاضداد والمختلفات كلما تعمق في التفكير بهذا العالم.
—–
1. سورة طه / 50.
2. سورة الروم / 30.
3. سورة الحجر / 21.
ثم قال(عليه السلام): «عالماً بها قبل ابتدائها محيطاً بحدودها وانتهائها عارفاً بقرائنها(1)وأحنائها(2)»(3).
والواقع أنّ هذه العبارات الثلاث قد جاءت بمثابة دليل أو إيضاح للعبارات السابقة، وذلك لأنّ من أراد أن يخلق موجوداً في وقته المناسب ويلائم بين الأشياء المختلفة ويودعها غرائزها الباطنية ولوازمها الظاهرية فانه يحتاج إلى علم جامع كامل من جانب وإلى إحاطة وقدرة تامة وشاملة من جانب آخر. ولذلك قال(عليه السلام): «عالماً بها قبل ابتدائها...» ولا يقتصر علمه على ابتدائها وانتهائها فحسب، بل هو عالم محيط بلوازمها وعللها وآثارها أيضاً. ومن المفروغ منه أن من كان عالماً بهذه الاُمور قادراً على الإتيان بها، فان له أن يضع كل شيء في موضعه ومكانه ويفيض على كل منها لوازمه ويسوقه في مسيرته الوجودية إلى كماله المنشود.
—–
لقد تحفظ بعض مفسري نهج البلاغة على وصف الله سبحانه بالعارف. ويبدو أنّ هذا الترديد ينبع من أمرين: الأول ما أورده «الراغب» في «المفردات» من أنّ المعرفة والعرفان تعني إدراك الشيء من خلال التفكر والتأمل والتدبر في آثاره، أو بتعبير آخر إنّما يطلق اسم المعرفة على العلم المحدود الذي يتأتى عن طريق التفكير، ومن المسلم به أنّ العلم الإلهي ليس
1. «قرائن» جمع «قرينة» بمعنى المصاحب والرفيق، ولذلك يقال لزوجة الرجل قرينته (الصحاح والقاموس وسائر الكتب اللغوية)، بينما ذهب بعض شراح نهج البلاغة كابن أبي الحديد إلى أنّ القرائن جمع قرونة (على وزن معونة) وهي النفس ولكن يبدو المعنى الأول أنسب بالاستناد إلى التعبيرات التي وردت في الجملة.
2. «أحناء» جمع «حِنْو» على وزن فعل «وحنو» على وزن حرف وتطلق على كل شيء فيه اعوجاج وانحناء ـ على ضوء ماورد في المقاييس ولسان العرب ـ كعظم الفك والاضلاع. ثم وردت بمعنى الجوانب أيضاً (وذلك لأن جوانب وأطراف الأشياء غالباً ما تشتمل على انحناءات).
3. لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ الضمائر التي وردت في هذه العبارات إنّما تعود إلى الأشياء لا الغرائز كما صرح بذلك بعض شرّاح نهج البلاغة; وذلك لعدم وجود الانسجام بين الاحتمال الثاني ومضمون الجملة.
كذلك. والثاني الحديث الذي روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «أنّ له (تعالى) تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» حيث يجمع العلماء على أنّ اسم العارف لم تكن واردة ضمن هذه التسعة والتسعين إسماً(1) إلاّ أن الدراسة الإجمالية تفيد أنّ هذا الوصف قد اطلق كراراً على الله في الروايات الإسلامية، وبالاضافة إلى نهج البلاغة الذي تعرض هنا لهذا الأمر بصورة وصفية وفي موضع آخر بصورة فعلية، فقد ورد هذا الوصف كثيراً في الروايات التي نقلها أصول الكافي.(2)
ويشير هذا الأمر إلى أنّ مفردة المعرفة وان كانت في الأصل تعني المحدودية أو الحاجة إلى التفكر والتدبر، غير أنّها اتسعت أثر كثرة الاستعمال حتى صارت تطلق على كل نوع من العلم والمعرفة، وإن لم تكن وليدة الفكر والتدبر.
أمّا بشأن الروايات المرتبطة بالتسع وتسعين اسماً لله، فينبغي القول أنّ هذه الرواية لا تقصر الأسماء على تسعة وتسعين أبداً، بل هى تشير في الحقيقة إلى صفات الله وأسمائه الحسنى، ولذلك صرّحت بعض الروايات بألف اسم للبارئ سبحانه، وأخيراً أي دليل أعظم من أن يستفيد الإمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة من هذا الاسم أو مشتقاته بالنسبة لله وهو الأعرف والأعلم أكثر من غيره بخصوص أسماء الله وصفاته.
إنّ أحد أعقد المباحث الفلسفية والعقائدية هو بحث «علم الله بالموجودات قبل ايجادها». فاننا نعلم بأنّ الله سبحانه عالم بالحوادث التي ستقع، وهذا ما ورد التأكيد عليه في الآيات القرآنية الشريفة، وهو ما ورد في العبارة المذكورة، ومن جانب آخر فان علم الله ليس من قبيل «العلم الحصولي»; أي ليس هنالك من انعكاس للصورة الذهنية للأشياء في ذاته; وذلك
1. لقد أورد ابن ميثم هذا الموضوع بصيغة اشكال ثم أجاب عنه بان أسماء الله أكثر من هذا العدد وقد ذكر عدّة شواهد على مدعاه (شرح نهج البلاغة، لابن ميثم 1 / 137). جدير بالذكر ان هذا الحديث قد ورد في الدر المنثور عن صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد وسنن الترمذي وسائر المصادر الروائية 3 / 147 (نفحات القرآن 4 / 46).
2. أصول الكافي 1 / 91، باب النسبة، ح 2 وص 113، باب حدوث الأسماء، ح 2.
لأنّه ليس له من «ذهن» كالمخلوقات، فعلمه لا يتأتى من خلال انعكاس صور الموجودات، بل علمه «علم حضوري»; أي أنّ المخلوقات حاضرة عنده، ونعلم أن ليس هناك من معنى للعلم الحضوري بشأن الأشياء التي لم تظهر للوجود; بل هذا الإشكال وارد حتى بخصوص الموجودات التي زالت وانعدمت في الماضي; فان كان لنا من علم بها بفضل صورها الذهنية التي تبلورت في أعماقنا وأفكارنا. ولكن كيف لمن ليس له ذهن وصور باطنية وليس من سبيل للحوادث إلى ذاته المقدسة أن يحيط بها؟! على سبيل المثال: لقد زالت صورة فرعون ورهطه وانقطع تأريخهم، وليس لنا سوى استحضار صورتهم في أذهاننا، ولكن ما كيفية علم الله به وهو ليس من قبيل علمنا؟ فهل يمكن القول بأنّه ليس عالماً بالماضي؟ أم ليس له من علم بالمستقبل؟ أبداً لا يمكن ذلك! إذن إن كان عليماً فما كيفية هذا العلم؟
لقد أثارت هذه المسألة الجدل في أوساط الفلاسفة والعلماء فقدموا عدّة أجوبة بهذا الشأن، سنقتصر هنا على الإشارة إلى بعضها:
1 ـ إنّ الله كان ومازال عالماً بكافة الأشياء بذاته التي تعتبر علة لجميعها، وبعبارة اُخرى فانّ لذاته أعظم الحضور لدى لذاته، وهذا العلم بذاته هو علم إجمالي بكافة حوادث العالم وموجوداته قبل الايجاد وبعده. وتوضيح ذلك أننا لو علمنا على نحو الدقة بعلة الأشياء فان مثل هذا العلم سيقود بالنتيجة إلى العلم بنتائجها ومعلولاتها; وذلك لأنّ كل علة تشتمل على كافة كمالات المعلول وزيادة، ولما كان الله علة جميع الأشياء ويعلمها بذاته ويحيط بها، وفي الواقع فان هذا نوع من الكشف التفصيلي تجاه جميع الأشياء من خلال العلم الاجمالي. ويمكن توضيح هذا الكلام بالقول: إنّ الحوادث الماضية لم تنعدم بالمرة أبداً وإنما لها وجود وحضور في عمق حادث الحاضر. كما أنّ الحوادث المستقبلية ليست معزولة عن الحوادث الحاضرة فهى مرتبطة بها ونابعة منها. وعلى هذا الأساس فانّ الماضي والحاضر والمستقبل إنّما يوجد سلسلة من العلل والمعاليل بحيث أنّ العلم باحدى حلقاتها انّما يعني العلم بما قبلها وما بعدها من حلقات. على سبيل المثال لو علمنا بدقّة الأوضاع الجوية للكرة الأرضية والعوامل المؤدية لظهور الأجواء الفعلية وأحطنا بكافة جزئيات وروابط عللها ومعاليلها، فاننا سنستطيع التعرف بدقة على أوضاع الأجواء لما قبل أو بعد آلاف السنين; وذلك لأنّ ملف
حوادث الماضي والمستقبل موجودة في الحاضر. فاليوم يحمل انعكاساً دقيقاً عن الأمس، والغد عن اليوم والعلم التام بجزئيات اليوم بمعنى العلم التام بالحوادث الماضية والمستقبلية. فاذا التفتنا إلى هذه الحقيقة وهو أنّ الله سبحاه المصدر الأصلي لجميع حوادث الأمس واليوم والغد وأنّ له العلم بذاته المقدسة، فان علينا أن نقر بأنّه عالم أيضاً بحوادث المستقبل والحاضر والماضي. وبالطبع فانّ آثار كل موجود مهما كان إنّما تتبع إرادة الله وأمره، إلاّ أنّ سنته جرت في منح الموجودات القدرة على القيام بفعاليتها، فاذا شاء جردها منها.(1)
2 ـ الإجابة الثانية التي يمكن إيرادها في هذا المجال أنّه يمكن لعلمنا تصور الأمس واليوم والغد، وذلك لأننا موجودات محدودة. أمّا بالنسبة لله الذي لا حدد لذاته فليس هنالك من مفهوم للأمس واليوم والغد لديه، بل إنّ كافة الأشياء والحوادث حاضرة عنده بجميع جزئياتها وخصوصياتها.
ويمكننا الاستشهاد بمثال على هذا الكلام:
افرض أنّ هناك فرداً في زنزانة مظلمة ليس لها سوى نافذة صغيرة على الخارج. فاذا مرت قافلة من الجمال من هذه النافذة فانه سيشاهد في بداية الأمر رأس وعنق جمل واحد ثم يرى رجليه وذنبه ومن ثم سائر الجمال في هذه القافلة. فصغر النافذة هو الذي يشكل السبب الذي يجعله يعيش حالة من الماضي والحاضر والمستقبل، بينما يختلف هذا الموضوع تماماً بالنسبة لذلك الفرد الواقف على سطح في محيط مكشوف خارج تلك الزنزانة وينظر إلى الصحراء، فهو يرى قافلة الجمال معاً خلال حركتها.
—–
1. إنّ من أورد هذا الجواب لحل الإشكال المذكور قد واجه هذا السؤال: وهو أنّ لازمة هذا الكلام أنّ ليس لله من علم بكثرة الموجودات بوصف الكثرة قبل وجودها، لأنّه ليس هنالك من كثرة في ذاته، أو بتعبير آخر، أنّ علمه متفاوت بالموجودات قبل وجودها وبعده: فقد كان سابقاً على نحو العلم الإجمالي، ولاحقاً على نحو العلم التفصيلي، والعجيب أنّ بعضهم قد اعترف بهذا التفاوت.
«ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الاَْجْوَاءِ وَشَقَّ الاَْرْجَاءِ وَسَكَائِك الْهَوَاءِ».
—–
الشرح والتفسير
لقد تناول الإمام(عليه السلام) بداية انبثاق الخلق فقال(عليه السلام): «ثم أنشأ سبحانه فتق(1) الأجواء(2)» وهو يشير إلى شق الطبقات الجوية، ثم فتح جوانبها وأطرافها «وشق(3) الأرجاء(4)» وأوجد الفضاء والهواء «وسكائك(5) الهواء(6)». فقد أشير إلى فتق الأجواء ثم ايجاد أطرافها وجوانبها
1. «فتق» على وزن مشق بمعنى الشق والضجوة بين شيئين وهى ضد الرتق (كما أورد ذلك الراغب في مفرداته). ويقال للصبح «فتيق»، لأنّه يشق الافق ويظهر، وقال صاحب لسان العرب انّه يطلق «فتيق اللسان» على الفرد الخطيب والفصيح اللسان، لأنّه يتحلى بلسان طلق ذرب.
2. «أجواء» جمع «جو» بمعنى ـ حسب قول المفردات ولسان العرب ـ الفضاء الحاصل بين السماء والأرض.
3. «شق» بمعنى الفتحة في الشيء، ومن هنا اطلق الشقاق على الاختلاف الذي يحدث بين الناس ويفصلهم عن بعضهم البعض الآخر.
4. «أرجاء» جمع «رجا» (دون همزة» تعني حسب «مقاييس اللغة» أطراف البئر أو أطراف أي شيء آخر،الرجاء بالهمزة فيعني الأمل. بينما يعتقد البعض من قبيل كاتب «التحقيق» أنّ معناها الأصلي الشيء الذي يرجى وقوعه في الجوانب الأطراف، ولذلك يطلق على هذه الجوانب والأطراف المرجوة «رجا» دون همزة.
5. «سكائك» جمع «سكاكة» على وزن خلاصة، قال صاحب لسان العرب أنّها تعني الفضاء الواقع بين السماء الأرض، وقال ابن أبي الحديد هى أعلى الفضاء.
6. «الهواء» بمعنى الخالي والساقط، ولذلك يطلق لفظ الهواء على كل شيء خال، ومن ذلك الفضاء بين السماء والأرض. وأمّا سبب إطلاق لفظة «الهوى» على الشهوات والنزوات النفسية فهى أنّها تشكل مصدر سقوط الإنسان في الدنيا والآخرة (مقاييس اللغة، مفردات الراغب، لسان العرب). ويبدو ان اطلاق هذه المفردة على الغاز اللامرئي المركب من الاوكسجين والاوزون إنّما هو من الاستعمالات الجديدة والذي يناسب أيضاً المعنى الأصلي، لأنّه يبدو موضعاً خالياً (و إن ورد بهذا المعنى في بعض الروايات أيضاً).
ومن ثم طبقاتها. وتشير العبارة بأجمعها إلى أنّ الخلق الأول في عالم المادة كان خلق فضاء العالم، الفضاء الذي يسعه استيعاب الكرات السماوية والمنظومات وما إلى ذلك، بالضبط كالصفحة الورقية التي يعدها الرسام الماهر مسبقاً لرسم ما يشاء. ومن هنا يتضح أنّ كلمة «ثم» في العبارة لا تفيد معنى الترتيب التكويني، بل تفيد الترتيب والتأخير البياني; لأنّه قد أشير في العبارات السابقة إلى خلق أنواع الموجودات والكائنات، ومن المتيقن ألا تكون قد أعقبت بخلق الفضاء ثم كريات السماء والأرض. وفي الواقع فقد تضمنت العبارات السابقة أبحاثاً بشأن خلق الموجودات بينما تكفلت هذه العبارة شرح تلك الأبحاث وتفصيلها. على كل حال فانّ ظاهر هذه العبارة تفيد أن الفضاء أول مخلوق في عالم المادة، غير أنّ هناك ترديد لدى بعض الفلاسفة والمتكلمين بشأن الفضاء في أنّه أمر وجودي أم عدمي؟ فهناك من يعتقد كما أنّ الزمان قد ظهر بعد انبثاق الموجودات وحركتها (لأنّ الزمان هو وحدة الحركة) فان المكان هوالآخر قد حصل بعد ظهور الأجسام المختلفة ومقارنتها مع بعضها. والحال يتعذر علينا تصور عدم وجود مكان مطلق إثر ظهور أول جسم إلى الوجود. فلو أردنا أن نبني عمارة ذات عدّة طبقات فاننا نحتاج إلى فضاء تشغله تلك العمارة كحاجتنا إلى مكان على الأرض نبنيها عليه، وإذا أردنا أن نبني عمارة أكبر فانّها ستحتاج إلى فضاء أوسع. والخلاصة فاننا نؤمن بما أورده الإمام(عليه السلام)بقوله «ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء» ونوكل الاستغراق في هذا البحث إلى محله.
هناك كلام كثير يدور بين الفلاسفة والعلماء بشأن العالم فهل العالم المادي حادث أم قديم أزلي؟ فالبعض يرى أنّه قديم وأزلي بينما يعتقد الأعم الأغلب أنّه حادث. امّا دليل القائلين بالأزلية والقدم فانما يستند إلى الذات الإلهية المقدسة القديمة وكل ما سواها فهو حادث ومخلوق وتابع لذاته المقدسة. وأمّا أنصار عقيدة حدوث العالم فأحياناً يستدلون بالأدلة الفلسفية على مدعاهم وأحياناً اُخرى بالادلة العلمية. فبرهان الحركة والسكون من الأدلة
الفلسفية المعروفة التي تقول بأن عالم المادة دائماً في حالة حركة وسكون، والحركة والسكون من «الاُمور الحادثة» وما كان معروضاً للحركة والسكون فهو حادث أيضاً. ويمكن ايراد هذا الدليل بتعبير أوسع وأشمل وهو أنّ عالم المادة دائماً في حالة تغيير، والتغيير والتبدل علامة على الحدوث، لأنّه لو كان أزلياً وهو مسرح على الدوام للتغير والتبدل فان ذلك سيكون جمع بين الحدوث والقدم، أي لابدّ أن نرى التغييرات وهى من الاُمور الحادثة أزلية، وهذا تناقض صريح. ويتضح هنا أكثر فأكثر اقرار هذا الدليل للحركة الجوهرية التي تقول بأنّ الحركة كامنة في ذات الأشياء، بل هى عين ذاتها; لأنّ وجود الحركة هذا الأمر الحادث في الأزل لا معنى له. ونترك دراسة وتحليل هذا الدليل إلى الأبحاث الفلسفية الواردة بهذا الشأن.الدليل العلمي فهو الدليل الذي يقول بأنّ العالم في حالة تآكل دائمية وقد قامت الأدلة والبراهين العلمية التي تثبت ذلك، ويصدق هذا الأمر على التيارات والثوابت والأرض وما كان على سطحها. فالتآكل المستمر دليل على أن هناك نهاية وخاتمة لعالم المادة. لأنّ التآكل لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، فاذا قبلنا أنّ للعالم المادي نهاية، يجب أن نذعن بأن له بداية. لأن الشيء لا يكون أزلياً مالم يكن أبدياً. فالأبدية تعني اللانهاية، والشيء اللامنتهي ليس بمحدود، وإذا كان ليس بمحدود فلا بداية له، وعليه فالشيء إذا لم يكن أبدياً سوف لن يكون أزلياً. ويمكن ايراد هذه الكلمة بصيغة اُخرى وهى أنّ العالم لو كان أزلياً وفي حالة تآكل، فلابدّ أن يكون هذا التآكل قد أنهى عمر العالم لأنّ تناهى التآكل يساوي العدم. وبتعبير آخر على ضوء آخر النظريات العلمية أنّ العالم المادي يسير نحو الروتينية. فالذرات تتلاشى تدريجياً وتتحول إلى طاقة، والطاقة تسير نحو الروتينية (بالضبط كشعلة النار التي توقدها في غرفة فتتحول مادة النار إلى حرارة فتنتشر هذه الحرارة تدريجياً في وسط الغرفة حتى تكون بالتالي شيئاً روتينياً لا أثر له). وكلما مرت لا نهاية الزمان على العالم ستحصل هذه الحالة; أي تحول كافة المواد إلى طاقة وبالتالي تتحول هذه الطاقة الفعالة إلى طاقة روتينية وباهتة.
لكن لا يعني هذا الكلام أنّ زماناً قد مرّ ولم يكن لله من خلق وأنّ ذاته الفياضة قد توقفت عن هذا الفيض، بل بالعكس فان عملية الخلق مستمرة، إلاّ أنّ المخلوقات كانت دائماً تشهد حالة التغير والتبدل وأنّ جميع هذه المخلوقات تابعة لذاته المقدسة، أو بتعبير آخر كان له
حدوثاً ذاتياً لا زمانياً. وذلك لعدم إمكانية تصور الحدوث الزماني للجميع. وما ورد في الرواية التي قالت: «كان الله ولا شيء معه»(1) إنّما يراد بها أنّه لم يكن شيء مصاحباً لذاته بل مخلوقاً لها (لابدّ من التأمل).
—–
1. توحيد الصدوق / 66، كما ورد شبيه هذا المضمون في / 145 ـ 226.
«فَأَجْرَى فِيهَا ماءً مُتَلاطِماً تَيّارُهُ مُتَراكِماً زَخّارُهُ، حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعاصِفَةِ وَالزَّعْزَعِ الْقاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ، الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ وَالْماءُ مِنْ فَوْقِها دَفِيقٌ».
—–
الشرح والتفسير
ما يستفاد من كلمات أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ولاسيما في هذه العبارات وما سيتبعها في توضيح كيفية خلق العالم هو أنّ الله سبحانه قد خلق ابتداءً الماء ـ أو بتعبير آخر ـ مائعاً يشبه الماء ثم حمله على ريح عاتية شديدة، وقد أمرت هذه الريح أن تحفظ هذا المائع وتحول دون تشتته وتفرقه. ثم هبت ريح شديدة اُخرى بهدف ايجاد أمواج في ذلك المائع العظيم والواسع فجعلت الريح تلك الأمواج أعظم وأشد ثم دكتها على بعضها، ثم تموج ذلك المائع تمويجاً شديداً حتى ارتفع في الفضاء، فخلق منه السموات السبع. جدير بالذكر أنّ الماء والريح والعاصفة وما شابه ذلك ـ في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه ماء ولا ريح ولا عاصفة ـ كناية عن موجودات شبيهة بما نراه اليوم من ماء وريح وهواء، وذلك لأنّ واضعي المفردات قد جعلوا هذه الكلمات لمثل هذه الاُمور، فلم يضعوا أية مفردة لما حدث أوائل خلقة العالم. وان أدنى تأمل يجعل من الممكن تفسير ما ورد من عباراته(عليه السلام) على ضوء آخر الفرضيات والنظريات التي طرحها العلماء المعاصرون بهذا الشأن، ولا نقول إنّ هذا هو مراد الإمام(عليه السلام) على سبيل القطع، بل نحتمل أن يكون تفسيره كذلك.
فآخر الفرضيات التي توصل إليها العلماء بشأن بداية ظهور العالم، هو أنّ العالم برمته في
البداية كان بهيئة كتلة غازية عظيمة شبيهة بالمائع، كما يمكن الاصطلاح عليها باسم «الدخان»، أو بتعبير آخر كانت الطبقات العليا من العالم دخاناً، وكان هذا الدخان يتخذ شكل المائع بفعل حالة الضغط كلما إقترب من مركز العالم.
أمّا الشيء الذي تكفل بحفظ تلك الكتلة العظيمة للغاية إنّما تمثل بالجاذبية التي تحكم جميع ذرات العالم، وقد سلطت هذه الجاذبية على ذلك الغاز المائع فشدته وحالت دون خروجه من حدوده. ثم ابتدأت هذه الكتلة العظيمة بالدوران حول نفسها (أو أنّها كانت تدور حول نفسها منذ البداية) وهنا ظهرت قوة الطرد المركزية.(1) وقد أدت قوة الطرد المركزية هذه بتلك الكتلة العظيمة من ذلك الغاز المضغوط أن تقذف في الفضاء الخالي، وعلى حد تعبير نهج البلاغة كما سيأتي في العبارات التالية من هذه الخطبة «فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء وعصفت به عصفها بالفضاء» ثم ظهرت منها المنظومات والكواكب والكرات الصغيرة والكبيرة للعالم; الأمر الذي نعته القرآن ونهج البلاغة بالسموات السبع. طبعاً كل ما نريد أن نقوله ـ دون الاصرار على هذا الموضوع ـ هو الانسجام القائم بين عبارته(عليه السلام) والفرضيات والنظريات العلمية الواردة بذات الشأن، حيث يمكن استيعاب كلام الإمام علي(عليه السلام) على ضوء النظريات والاطروحات العلمية المعاصرة بخصوص ظهور السموات والارضين والكواكب والاجرام السماوية وسائر الكرات. وننتقل الآن إلى أصل عبارته، فقد قال الإمام(عليه السلام): «فاجرى فيها ماء متلاطماً(2) تياره(3)».
«التلاطم» بمعنى اصدام الأمواج ببعضها، والتيار يعني الموج، ولا سيما الأمواج التي يقذفها الماء خارجاً، أفليس هذا الماء المتلاطم والمتدفق هو تلك الغازات الأولية المضغوطة التي تمثل المادة الأولية للعالم على ضوء نظريات العلماء واطروحاتهم؟ ثم أكد الإمام علي(عليه السلام) على شدة
1. كل شيء يدور حول نفسه انّما يتعرض إلى قوة تحاول طرده من المركز، كالشعلة التي ندورها بايدينا فاذا تركناها فجأة قذفت إلى نقطة بعيدة، وما هذا إلاّ لوجود قوة الطرد المركزية، وكلما تضاعفت هذه القوة فان شدة القذف خارجاً تتناسب طردياً وازدياد تلك القوة.
2. «متلاطم» من مادة «لطم» على وزن ختم بمعنى صفع الوجه باليد، ثم استخدمت هذه المفردة لاحقاً بمعنى اصطدام الأمواج مع بعضها.
3. «التيار» بمعنى أمواج البحر التي يقذف بها الماء، وقد أطلقها البعض (مقاييس اللغة ولسان العرب) على كل نوع من الأمواج .
تدفق ذلك الماء وعظم تلاطمه فقال: «متراكم(1) زخاره(2)».
ثم أضاف(عليه السلام): «حمله على متن الريح العاصفة(3) والزعزعة(4) القاصفة(5)».
فالعاصف بمعنى الضاربة والكاسرة والزعزع بمعنى الضطربة والشديدة الهبوب وكذلك القاصفة التي تهلك الناس بشدة هبوبها، وكأنّ كل هذه المفردات تأكيدات متتالية لبيان قوة تلك الريح وسعتها وشموليتها. ثم اُمرت هذه العاصفة العظيمة المرعبة بحفظ أجزاء الماء مع بعضها البعض ضمن حدودها «فأمرها برده، وسلطها على شدة(6)، وقرنا إلى حده». أو ليست هذه العاصفة العظيمة والشديدة إشارة إلى أمواج الجاذبية التي سلطها الله على جميع ذرات عالم المادة والتي كانت سبباً لتماسك أجزائها وعدم تشتتها وتناثرها، وتقييدها بالحركة في إطار حدودها؟ فهل هناك من تعبير أروع وأدق من الريح العاصفة القاصفة لتبيين الأمواج العظيمة للجاذبية في ظل تلك الأجواء.
وقد حصلت كل هذه الاُمور و«الهواء من تحتها فتيق(7) والماء من فوقها دفيق(8)» والفتيق من مادة فتق بمعنى المفتوق; المفتوح، ودفيق من مادة دفق بمعنى الحركة السريعة.
1. «متراكم» من مادة «ركم» على وزن رزم بمعنى تراكم شيء والقاء بعضه على بعض، وتطلق على الغيوم والرمال والمياه وحتى الجموع الغفيرة من الناس التي تتجمع في موضع (المفردات، لسان العرب ومقاييس اللغة).
2. «زخار» من مادة «زخر» و«زخور» بمعنى الامتداد والارتفاع، كما يطلق على امتلاء البحر وتلاطمه.
3. «عاصفة» من مادة «عصف» على وزن عصر بمعنى الخفة والسرعة، ومن هنا يطلق العصف على قشور الحبوب التي تكسر بسرعة، كما يقال «عاصف» و«معصف» للشيء الذي يحطم سائر الأشياء وينعمها (المفردات، لسان العرب ومقاييس اللغة).
4. «زعزع» على وزن زمزم بمعنى الحركة والاضطراب والاهتزاز، كما تستعمل بمعنى الشديد (مقاييس اللغة ولسان العرب).
5. «قاصفة» من مادة «قصف» على وزن حذف بمعنى كسر الشيء، ومن هنا يطلق القاصف على العواصف الشديدة التي تكسر السفن في البحار وكذلك الرعد والبرق الشديد الكاسر (المفردات، لسان العرب ومقاييس اللغة).
6. «شدّ» على وزن مدّ بمعنى قوة الشيء وقدرته، ولذلك يصطلح بالشديد على الفرد القوي (ولا سيما القوي في الحرب). كما تستعمل هذه المفردة بمعنى ربط العقدة وأحكام وثاقها (سواء كانت في البدن أو في القوى الباطنية والروحية أو في المصيبة والعذاب). (لسان العرب، المفردات ومقاييس اللغة).
7. «فتيق» من مادة «فتق» ذكرناها سابقاً.
8. «دفيق» من مادة «دفق» على وزن دفن بمعنى دفع الشيء إلى الإمام، كما تستعمل بمعنى السرعة. ولذلك يطلق «الادفق» على الناقة السريعة.
نعم إنّ هذه الأمواج المتدفقة انّما تحد بواسطة تلك الريح العاصفة، فتحول دنها ودون تجاوزها لحدودها ـ وهنا يبرز هذا السؤال: كيف تظهر تلك الأمواج المتدفقة على سطح الماء رغم وجود تلك الريح العاصفة الحائلة والمانعة، فالمعروف أنّ تلك الأمواج عادة ما تظهر بفعل حركة الرياح والعواصف، رغم أنّ الرياح هنا تلعب دور المانع والحائل لتلك الأمواج ، إذن ما العامل الذي يقف وراء حركة الأمواج.
يبدو أنّ العامل الذي يقف وراء ظهور هذه الأمواج هو شيء كامن في باطنها بحيث يجعله يتلاطم على الدوام. ولكن ليست لدينا رؤية واضحة لماهية هذا العامل، إلاّ أنّه ينسجم تماماً والنظريات التي أوردها العلماء المعاصرون بهذا الشأن، فهم يقولون أن انفجارات نووية متواصلة وقعت في جوف الغازات الاولى ذات الطبيعة المائعية، وهى هذه الانفجارات التي تحدث اليوم في الشمس. فهذه الانفجارات العظيمة قضت على سكون واستقرار هذه الغازات المائعية وأوجدت تلك التلاطمات في أمواجها المتدفقة.
ولابد لنا من متابعة المقطع الآخر لاكمال هذا القسم فنقف على الصورة الدقيقة التي رسمها الإمام(عليه السلام) لإنبثاق الخليقة.
—–
«ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّها وَأَدامَ مُرَبَّها وَأَعْصَفَ مَجْراها وَأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْماءِ الزَّخّارِ وَإِثارَةِ مَوْجِ الْبِحارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقاءِ وعَصَفَتْ بِهِ عَصْفَها بِالْفَضاءِ. تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَى آخِرِهِ وَساجِيَهُ إِلَى مائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبابُهُ ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَواء مُنْفَتِق وَجَوّ مُنْفَهِق فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوات جَعَلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وعُلْياهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَسَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَد يَدْعَمُها وَلا دِسار يَنْظِمُها ثُمَّ زَيَّنَها بِزِينَةِ الْكَواكِبِ وضِياءِ الثَّواقِبِ وَأَجْرَى فِيها سِراجاً مُسْتَطِيراً وَقَمَراً مُنِيراً فِي فَلَك دائِر وَسَقْف سائِر وَرَقِيم مائِر».
—–
الشرح والتفسير
كما أوردنا فانّ هذه الكلمات امتداد لعباراته السابقة ونتجه بادئ ذي بدء إلى فهم التعبيرات الدقيقة والعميقة في كلام الإمام(عليه السلام) دون اصدار حكم بشأنها، ثم نتحدث بعد ذلك عن مدى انسجامها مع آراء ونظريات العلماء المعاصرين بخصوص مسألة خلق العالم. فالإمام يشير في كلامه إلى عدّة مراحل. فقال(عليه السلام): «ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم(1) مهبها(2)».
فالريح العقيم هى الريح الخالية من السحب التي تؤدي إلى نزول المطر، وبالتالي فهى لا
1. «اعتقم» من مادة «عُقم» على وزن قفل بمعنى الجفاف المانع من قبول الأثر، ويطلق العقيم على المرأة التي لا تتقبل نطفة الرجل، كما تأتي بمعنى الضيق أيضاً كما ورد في المفردات ولسان العرب ومقاييس اللغة.
2. مهبها من الهبوب على وزن السجود الحركة بالنسبة للسيف والاضطراب ومن هنا تطلق على هبوب الرياح.
![]() |
![]() |