![]() |
![]() |
فالواقع تشير مثل هذه الأحداث وما شابهها أنّ العهد المكي كان يعيش حالة الحرب رغم عدم نشوبها بصورة فعلية حيث كان المسلمون يشهدون أذى الكفار باستمرار، الأمر الذي كان يتطلب بعض التدبير والتفكير من أجل كسب المعركة.
ولعل قوله (عليه السلام): «نهضت فيها وما بلغت العشرين» ـ الذي ورد في الخطبة ـ إشارة إلى التأهب للحرب لا لنشوب الحرب.
ذكر بعض شراح نهج البلاغة أن علياً(عليه السلام) حين اُخبر عن غارة أهل الشام وقتلهم لعامله فخطب الناس.
ثم سكت عنهم رَجَاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم، فلم ينبِس أحدٌ منهم بكلمة، فلما رأى صَْتَهم نزل، وخرج يمشى راجلاً حتى أتى النُّخَيْلة، والناس يمشون خَلْفَه حتى أحاط به قوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أميرَالمؤمنين ونحن نكفيك، فقال: ما تَكْفونني ولا تَْفُون
1. بحار الأنوار 41 / 62.
أنفسكم. فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، فرجع وهو اجم كئيب، ودعا سعيدبن قيس الهمْدانىّ، فبعثه من النُخَيلة في ثمانية آلاف، وذلك أنّه أخبر أنّ القوم جاءوا في جمع كثيف.
فخرج سعيدبن قيس على شاطئ الفُرات في طلب سفيان بن عوف; حتى إذا بلغ. عانات، سرّح أمامه هانئ بن الخطاب الهْمدانيّ، فاتبع آثارهم حتى دخل أدانِىَ أرض قِنّسرين وقد فاتوه، فانصرف.
وأتاه قوم يعتذرون، فقام حُجْربن عديّ الكنديّ وسعيدبن قيس الهَمْدَانيّ، فقالا: لا يسوءك اللّه يا أميرالمؤمنين، مُرْنَا بأمرك نتبعه، فواللّه ما نَعظم جَزَعاً على أموالنا إن نفدت، ولا على عشائرنا إن قُتِلتْ في طاعتك. فقال: تجهَّزوا للمسير إلى عدوّنا.
فلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه، قال لهم: أشيروا عليّ برجل صَلِيب ناصح، يحشر الناس من السواد. فقال له: سعيدبن قيس: يا أميرالمؤمنين، أشير عليك بالناصح الأريب الشجاع الصليب، معقِل بن قيس التميمي، قال: نعم.
ثم دعاه فوجهه، فسار فلم يقدم حتى أصيب أميرالمؤمنين عليه السلام(1).
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 88 ـ 90 .
ومن خطبة له(عليه السلام)
وهو فصل من الخطبة التى «الحمد لله غير مقنوط من رحمة»
وفيه احد عشر تنبيها
هذه من الخطب المعروفة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وهى كما ذهب الشيخ المفيد في الإرشاد من خطبه الخالدة التي حفظها أرباب الفهم والعقل، أو كما قال السيد الرضي: إنّه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا ويضطر إلى عمل الآخرة، لكان هذا الكلام وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال وقادحاً زناد الاتعاظ والازدجار. فقد أشار الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة القصيرة ـ والتي يراها بعض المحققين جزءاً من الخطبة الخامسة والعشرين ـ إلى عشرة جوانب مهمّة بشأن الآخرة والزهد في الدنيا وعدم الاغترار بنعم الدنيا وزبرجها والاستعداد والتأهب للدار الآخرة، والتحذير من الأخطار التي تهدد سعادة الإنسان ـ فالحق أنّ الخطبة من الخطب العظيمة التي تسوق الإنسان إلى الزهد في الدنيا وعدم الإكتراث لزخرفها والانتباه إلى الآخرة، وقد انطوت على عبارات واضحة صريحة توقظ الإنسان من غفلته ورقدته.
1. تعتبر هذه الخطبة من الخطب المهمة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) التي رواها كبار علماء الفريقين في كتبهم ومؤلفاتهم، ومنهم 1 ـ الجاحظ في كتاب البيان والتبيين 1 / 171 ; 2 ـ الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن / 222 ; 3 ـ الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول ; 4 ـ ابن عبد ربة في العقد الفريد 2 / 365 ; 5 ـ ابن قتيبة في عيون الأخبار 2 ـ 235 ; 6 ـ المسعودي في مروج الذهب 3 / 365 ; كما رواها المرحوم العلاّمة المجلسي في البحار عن كتاب مطالب السئول لمحمد بن طلحة الشافعي وكتاب الإرشاد للمفيد مع بعض الاختلاف.
«أَمّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ بِوَدَاع وَإِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاع، أَلا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمارَ وَغَداً السِّباقَ وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَالْغايَةُ النّارُ; أَ فَلا تائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ أَلا عامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ! أَلا وَإِنَّكُمْ فِي أَيّامِ أَمَل مِنْ وَرائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ. فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَلَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ. وَمَنْ قَصَّرَ فِي أَيّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَضَرَّهُ أَجَلُهُ».
—–
الشرح والتفسير
أشرنا سابقاً إلى أنّ الإمام (عليه السلام) تطرق إلى عشرة اُمور مهمّة في هذه الخطبة الغرّاء لدفع الناس باتجاه الزهد وعدم الاغترار بزخارف الدنيا ; فقد ورد في الأخبار ـ كما أثبتت ذلك التجربة طيلة التأريخ ـ أنّ حبّ الدنيا رأس كل خطيئة، وعليه فانّ عدم الإكتراث لهذه الدنيا والزهد فيها يمثل الخطوة الاولى المهمة لإصلاح النفوس ومواجهة الفساد الفردي والاجتماعي.
فقد استهل الإمام (عليه السلام) كلامه بتصدر الدنيا ووداعها لأهلها «أما بعد فان الدنيا قد أدبرت، وآذنت(1) بوداع». وهنا يطرح هذا السؤال: كيف آذنت الدنيا بالأدبار والوداع؟ هناك الشواهد والأدلة الحيّة على هذا الأمر ومن ذلك قبور الماضين التي تضم بقايا رفات وعظام الملوك والسلاطين والحكام والأمراء والكهول والفتيان والصبيان، والأظهر المحدودبة للكهول
1. «آذنت» من مادة «اذن» بمعنى الاعلان، ومنه الاذان الذي يعلن وقت دخول الصلاة.
واشتعال الرأس شيباً والأمراض الفتاكة التي تودي بحياة الأفراد، حقاً لقد أصيبت الدنيا بالصمت والسكوت، إلاّ أنّه مازالت تتحدث بلسان العبرة! وهذا ما أشار إليه الإمام (عليه السلام) في احدى خطبه «فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم، حملوا إلى قبورهم غير راكبين وانزلوا فيها غير نازلين، فكأنهم لم يكونوا للدنيا عماراً وكأن الآخرة لم تزل لهم داراً».(1)
ثم أشار (عليه السلام) في النقطة الثانية إلى موضوع إقبال الآخرة «وإن الآخرة قد أقبلت، وأشرفت باطلاع»(2). إنّ الموت يعد المنزل الأول من منازل الآخرة والذي يبتلع أبناء الدنيا، وهذا بدوره من علامات إقبال الآخرة. ومن هنا فقد أوصى الإمام (عليه السلام)الجميع بالاستعداد إلى الآخرة ومغادرة الدنيا والتزود لتلك الدار المحفوفة بالخطر قبل فوات الأوان. وذكر (عليه السلام) في النقطة الثالثة بالرابطة القائمة بين داري الدنيا والآخرة فقال «ألا وإن اليوم المضمار(3) وغدا السباق(4) والسبقة الجنّة والغاية النار» فقد شبه (عليه السلام) بهذه العبارة الرائعة الإنسان بالخيال الذي يخوض السباق، فمن الواضح أنّ مثل هذا الإنسان وعلى غرار الخيال يحتاج إلى التمارين والتدريبات المسبقة، حيث تصطلح العرب بالمضمار على الموضع أو الزمان الذي يضمر فيه الحيوان، بل يطلق على الحيوان الذي ينحف إثر التمارين لا على كل حيوان كما صرح الراغب في المفردات. آنذاك يبدأ السباق الذي يتضمن الفوز والخسارة وتسلم الجوائز من قبل الفائزين. فالإمام (عليه السلام) يرى الدنيا ميدان التأهب والاستعداد والآخرة ميدان السباق والجوائز، وسوف تكون جائزة الفائزين الجنّة ونصيب الخاسرين النار. ومن البديهي أنّ أحداً لا يسعه التمرين في ميدان السباق، بل عليه أن يتمرن ويعد نفسه قبل السباق ; وهكذا الحال في المحشر،
1. نهج البلاغة، الخطبة 188.
2. «اطلاع» من مادة «طلع» بمعنى الظهور، وطلوع الشمس بمعنى ظهورها، ويرى البعض أنّها تطلق على العلم المفاجئ، وأشرفت باطلاع، أقبلت بغتة.
3. «المضمار»: الموضع والزمن الذي تضمر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علقها وماؤها حتى تسمن، ثم يقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل، ثم ترد إلى القوت، والمدة أربعون يوماً، وقد يطلق التضمير على العمل الأول أو الثاني، واطلاقه على الأول لأنّه مقدمة للثاني وإلاّ فحقيقة التضمير احداث الضمور وهو الهزل وخفة اللحم، وإنّما يفعل ذلك بالخيل لتخف في الجري يوم السباق.
4. «السباق» من مادة «سبق» ومسابقة من باب مفاعلة ولسباق نفس المعنى. وسبقة بمعنى الهدف المطلوب الذي يتسابق من أجله أو بمعنى الجائزة.
فليس هنالك من مجال للحسنات والتوبة من السيئات وتهذيب النفوس وتطهيرها، ولابدّ من إعداد هذه الاُمور في الحياة الدنيا. وعليه فلا ينبغي أن ينسى الأفراد هذه الحقيقة وهى إن عدم التزود في الدار الدنيا والتأهب الروحي والمعنوي فانّ النتيجة النهائية للسباق في الآخرة لن تكون سوى الفشل والخيبة والخسران التي تعني هناك نار جهنم. والجدير بالذكر هنا أنّ الفائزين هناك يتفاوتون في الدرجات، فهناك الفائز الأول والثاني والثالث وهكذا ; الأمر الذي يتجسد بوضوح في عالم الآخرة ودرجاتها. فيتضح ممّا تقدم أنّ السباق بمعنى المسابقة والسبقة بمعنى الهدف والغاية التي ينبغي للمتسابق أن يصل إليها، والسبقة على وزن لقمة بمعنى الجائزة وقد علق المرحوم السيد الرضي(ره) ـ في ذيل هذه الخطبة كما سيأتي ـ على تعبير الإمام (عليه السلام): «والسبقة الجنّة والغاية النار» فقال: لم يقل (عليه السلام)السبقة النار كما قال السبقة الجنّة ; لأنّ الاستباق إنّما يكون إلى أمر محبوب، وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنّة وليس هذا العنى موجوداً في النار، فخالف الإمام (عليه السلام)بين اللفظين لاختلاف المعنيين. ولا يبدو هنالك من تعارض بين كلامه (عليه السلام) والآية الشريفة (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ)(1) ; لأنّ «سابقوا» لا تعني السباق في هذا العالم، بل تعني التأهب من أجل سباق الآخرة، والدليل على ذلك أنّها جعلت الجنّة هى الهدف النهائي لهذه المسابقة، بعبارة اُخرى فان السباق هنا نحو الخيرات والصالحات، أمّا السباق هناك نحو الجنّة التي تمثل حصيلة الأعمال. ثم أشار (عليه السلام) في النقطة الرابعة إلى واحدة من أهم أمتعة السفر الأخروي الخطير وهى التوبة فقال: «أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته(2)، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه» فهذه التعبيرات ـ التي تهدف إلى إثارة العارفين والعمل على تشجيعهم إلى جانب تنبيه الغافلين وإيقاظهم ـ هى في الواقع تمثل النتيجة المنطقية للعبارات السابقة، وذلك إذا كانت الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإنّ اليوم المضمار وغداً السباق والسبقة الجنّة والغاية النار فلم لا يتوب أهل الحجى والعقل وينيبوا إلى
1. سورة الحديد / 21.
2. «منية» من مادة «منى» على وزن نقى، قال صاحب مقاييس اللغة بمعنى تقدير الشيء، ثم اُطلقت على الموت والأجل، لأنّ الموت أمر مقدر، وتطلق المنى على الأماني التي تدور في خلد الإنسان.
الله ويغتنموا الفرصة بالأعمال الصالحة ويستعدوا لسفر الآخرة؟ ولعل هذا هو الذي أشار له الإمام (عليه السلام)في خطبة اُخرى «فاعملوا وأنتم في نفس البقاء، والصحف منشورة والتوبة مبسوطة»(1).
أما تعبيره (عليه السلام) عن يوم القيامة بيوم البؤس فلما يكتنفه من أحداث مهولة وعذاب شديد وهلع وخوف عظيم. وقد أشارت أغب الآيات القرآنية لذلك العذاب لتحذر الإنسان وتحثه على اغتنام الفرصة والتزود لذلك اليوم العصيب المليء بالمخاطر التي لا ينجي منها سوى العمل الصالح. أمّا في النقطة الخامسة فقد أشار (عليه السلام) إلى الفرص التي تمر مرّ السحاب والتي يقود عدم اغتنامها إلى الندم «ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله ولم يضرره أجله» ويخسر بالمقابل من يقصر في العمل، كما أنّ أجله يصبح عليه وبال «ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أجله». وتعبيره عن الحياة الدنيا بأيّام الأمل لهو تعبير لطيف يشير إلى قصر وإيجابية عالم الدنيا ; لأنّ دقائق عمر الإنسان تمثل أعظم فرصة من أجل بلوغ السعادة والفوز بالفلاح الاُخروي الخالد.
فلعل التوبة في لحظة من اللحظات تطفئ بحاراً من نيران جهنم كانت تتربص بهذا الإنسان، ولعل العمل الصالح الخالص في ساعة من عمره ينتهي به إلى جنان الخلود والرضوان.
يرى الدين الإسلامي الحنيف وجميع الأديان السماوية أنّ الدنيا دار طارئة متبدلة جعلت ليتزود منها الإنسان ويكسب فيها السمو والكمال والمعرفة التي تحلق بها إلى عالم الخلود، ومن هنا فإنّ الله يبتلي العباد فيها بأنواع البلاء والامتحان من خلال العبادات والطاعات وترك الشهوات وتحمل المصائب والمشكلات التي من شأنها تربية الإنسان وصقل شخصيته
1. نهج البلاغة، الخطبة 237.
وتهيئته لعالم الآخرة المفعم بالخير والبركة. وقد تظافرت الروايات التي تعرضت لبيان حقيقة الدنيا بعدة تعبيرات مختلفة رائعة، ومن ذلك الخطبة التي نحن بصددها والتي شبّه فيها الإمام (عليه السلام) الدنيا بالدورة التدريبية التي يستعد فيها الإنسان لسباق الآخرة، الذي يحصل فيه الغالب على الجنّة والخاسر النار. وقد جاء في الحديث أن «الدنيا مزرعة الآخرة»(1) ومن الواضح أنّ المزرعة ليست مكاناً للحياة والاستقرار بل هى مكان للتزود من أجل مكان آخر، وقد عبّر عنها بالمتجر ودار الموعظة والمصلى، كما أورد ذلك الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة فقال «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها... ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله»(2). وروي عن الإمام السجاد (عليه السلام)أنّ المسيح (عليه السلام) قال للحواريين: «إنّما الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها»(3). كما عبر عنها الإمام علي (عليه السلام)بأنّها «دار ممر»(4) و«دار مجاز»(5). وأخيراً فقد وصفها الإمام الهادي (عليه السلام)بالسوق الذي يتضمن الربح والخسارة «الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون»(6). والخلاصة فانّ كل هذه العبارة ترشد إلى عدم النظر إلى الدنيا على أنّها هى الهدف النهائي، بل هى وسيلة لادخار العمل الصالح وكسب المعارف من أجل الظفر بالدار الآخرة. ولعل البعض يرى أنّ هذا الموضوع ساذج، إلاّ أنّ الواقع هو أنّ أهم مسألة مصيرية في حياة الإنسان في أنّه كيف يتعامل مع الإمكانات المادية التي زود بها في هذه الحياة وكيف ينظر إلى هذه الدار، هل يراها وسيلة وأداة من أجل الوصول إلى هدف معيّن، أم يراها هى الهدف النهائي وليس وراءها شيء. والواقع أنّ تأكيد الإمام(عليه السلام) في بداية الخطبة على أن الدنيا ميدان الإستعداد لسباق الآخرة إنما يشكل الدعامة الأساسية الراسخة لسائر المواعظ المهمة التي وردت في هذه الخطبة.
1. ورد هذا الحديث النبوي في غوالي اللئالي 1 / 267.
2. نهج البلاغة، الكلمات القصار / 131.
3. بحار الأنوار 14 / 319 ح 21.
4. نهج البلاغة، الكلمات القصار / 133.
5. نهج البلاغة، الخطبة 203.
6. بحار الأنوار 75 / 366، مواعظ الإمام الهادي (عليه السلام)
النقطة التي تعرضت لها الخطبة والتي ينبغي الالتفات إليها، إنّما تكمن في عدم إمكانية تدارك الخسران الذي يطيل الإنسان في هذه الحياة وفقدانه للفرص التي كان من شأنها أن تجعله يفوز بالدار الآخرة، والواقع إنّ السباق الذي ينتظر الإنسان إنّما يقام لمرة واحدة فقط، فهناك ميدان للتمرين وآخر للسياق ليس للتكرار إليه من سبيل، ومن خسر فليس أمامه من فرصة لتدارك خسارته، ومن هنا قال الإمام (عليه السلام): «ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أجله». أمّا الندم فلا يداوي جرحاً ولا يصلح فاسداً هناك فليصرخ الصارخون: (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِـيما تَرَكْتُ)(1)فيأتي الجواب (كَـلاّ).
—–
1. سورة المؤمنون / 100.
«أَلا فاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَما تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ! أَلا وَإِنِّي لَمْ أَرَ كالْجَنَّةِ نامَ طالِبُها، وَلا كالنّارِ نامَ هارِبُها، أَلا وَإِنَّهُ مَنْ لا يَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ الْباطِلُ، وَمَنْ لا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى، يَجُرُّ بِهِ الضَّلالُ إِلَى الرَّدَى. أَلا وَإِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَدُلِلْتُمْ عَلَى الزّادِ وَإِنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتانِ: اتِّباعُ الْهَوَى، وَطُولُ الاَْمَلِ، فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيا مِنَ الدُّنْيا ما تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام (عليه السلام) إلى مسألة مهمّة ربّما غفل عنها أغلب الناس: «ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة» فعبادة الله وطاعته لا تعني الفزع إليه في الشدة والبلاء والتولي عنه في اليسر والرخاء ; ولو كان الأمر كذلك لكان مشركوا الجاهلية من خلص العباد، فقد وصفهم القرآن الكريم بالقول:(فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَـوُا اللّهَ مُـخْلِصِـينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلى البَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ)(1) ثم خاطبهم في آية اُخرى (وَ إِذا مَسَّـكُمُ الضُّـرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلى البَـرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الإِنْسانُ كَفُوراً)(2). والواقع أنّ العبرة ليست في الاقبال على الله عند الفزع، بل العبرة أن يقبل العبد عليه حين الرخاء والرفاه والشعور بالقوة والاقتدار، فما كان مع الله في هذه الظروف كان الله معه في الظروف العصيبة. فعلامة الإيمان الخالص أن يتوجه العبد إلى الله ويذكره على كل حال في العافية والسقم والفتوة
1. سورة العنكبوت / 65.
2. سورة الاسراء / 67.
والكهولة والفقر والغنى والهزيمة والانتصار والحرية والسجن وما إلى ذلك. ومن هنا نرى الأنبياء والأوصياء والأولياء لا ينفكون في حال من الأحوال عن التضرع إلى الله والتوجه إليه. فالمتتبع لسيرة الإمام علي (عليه السلام) لا يرى في عبادته من تفاوت بين جلوسه في البيت حين زحزحت عنه الخلافة ونهوضه بالأمر وإدارته لشؤون البلاد الإسلامية، فالزهد والتهجد وإعانة الضعفاء والفقراء وطلاق الدنيا إلى غير رجعة كان من المعاني الواضحة في عبادة الإمام (عليه السلام): ثم قال (عليه السلام): «ألا وإنّي لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها». لقد رأينا عدّة أفراد من الذين يعيشون الأرق ليالي حين يهمون ببعض الأسفار القريبة التي تدر عليهم بعض الأرباح والفوائد، فكيف ينام طالب الجنّة الباقية ـ النعمة التي لا تفوقها نعمة أو الخائف من نار جهنم التي لا يتصور عذابها وأن رؤيته غير سماعه ـ ولا يكترث لهذه الاُمور؟! ولعل ذلك يعزى إلى ضعف ايمان الفرد بالعالم الآخر، أو إلى سكر النعم والمنافع التي يتمتع بها في حياته، ومهما كان السبب فانّ الغفلة عن الآخرة لمن الظواهر المأساوية الاليمة التي ينبغي للإنسان التوقف عندها ومعالجتها. ولاشك أنّ من وظائف أئمة الدين وزعماء المسلمين ايقاظ الناس من غفلتهم وترسيخ دعائم ايمانهم ولفت أنظارهم إلى الدار الآخرة وتحذيرهم من الاغترار بالدنيا والذوبان فيها. وفي النقطة الثامنة يشير الإمام (عليه السلام)إلى مسألة ذات صلة بهذا الموضوع فيقول: «ألا وإنّه من لا ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى، يجر به الضلال إلى الردى». طبعاً لا يتضح عمق هذا الكلام مالم نقف على التعريف الصحيح للحق والباطل. فالحق عبارة عن الواقعيات، سواء كان هذا الحق تكوينياً أم تشريعياً. ويراد بالحق التكويني واقعيات عالم الوجود، ويقابل ذلك الباطل المتمثل بالخيال والسراب الذي لا واقع له ولا وجود سوى في عالم التصور والوهم. أما الحق التشريعي فيتمثل بالقوانين والتعاليم الإلهية التي شرعت من أجل الفرد أو مجموعة الأفراد على ضوء المصالح والكفاءات الذاتية أو الاكتسابية، ويقابله الباطل الذي يتجسد بعرقلة القوانين والتمرد عليها باسم القانون وتضييع العدالة وسلب الحريات وذبحها بمرأى ومسمع من الناس. ومن البديهي أنّ من يولي ظهره للحق سواء على مستوى التشريع أو التكوين فانّه يقع في حبائل الباطل من قبل الوهم والخيال والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ; الأمر الذي لا يرتقي بالإنسان إلى الشيء،
والواقعيات هى التي تبلغ بالإنسان الهدف لا الوهم والخيال الذي لا يجر على الإنسان سوى الخذلان والخسران. ولعل الإنسان يستطيع عن طريق الباطل اغفال الآخرين مدّة من الزمان، إلاّ أنّ مصيره المحتوم إنّما يؤول إلى البؤس والشقاء لا محالة في خاتمة المطاف وعليه فان قوله (عليه السلام): «ألا وإنّه من لا ينفعه الحق، يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى، يجر به الضلال إلى الردى» إنّما يمثل حقيقة واقعية واضحة. طبعاً صحيح أن الاقرار بالحق واقتفاء آثاره إنّما يقترن غالباً بتحمل الشدائد المريرة، إلاّ أنّ هذه المرارة تبدو كمرارة الدواء التي تجعل السقيم يتماثل للشفاء، ولا يجني من تلك المرارة سوى السلامة والصحة والعافية من المرض الذي ربّما يؤدي بصاحبه إلى الموت. ويتضح ممّا تقدم أنّ الحق والباطل ليسا من قبيل الوجودات الاصطناعية والاُمور الاعتبارية ; فالحق في عالم التكوين هو ذلك الوجود العيني وفي عالم التشريع هو عبارة عن الواجبات والمحظورات التي تستند إلى المصالح والمفاسد والتي تمثل بدورها واقعيات عينية، وسنتناول هذا الموضوع بالشرح في الأبحاث القادمة.
على كل حال فانّ الإمام (عليه السلام) هدف بهذه العبارة إلى إفهام الآخرين ـ علاوة على تنبيههم إلى أصل كلي له بالغ الأثر في مصير الناس ـ بأنّهم اذا لم يلتزموا بوصاياه المنسجمة والحق والعدل فانّهم سيقعون في مخالب الظلم والجور والاضطهاد وإن أضرار الباطل ستجتاح حياتهم ; الأمر الذي شهدوه في حياتهم ومسيرتهم. ثم تعرض الإمام (عليه السلام)ـ في النقطة التاسعة ـ إلى موضوع مهم يحكم حياة البشرية شاءت أم أبت «ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن(1) ودللتم على الزاد». والأمر بالظعن هو قانون الموت الذي يحكم حياة الناس، فالأطفال يسيرون نحو الشباب، والشباب يتجهون نحو الكهولة وهذه الأخيرة إنّما تنتهي بالموت. فهو قانون شامل جاري لا يعرف الاستثناء والشواذ، كما أنّه قانون لا يقوى أحد على تجاوزه مهما كانت قوته وقدرته وعلمه ومعرفته فهو القانون الذي شرعته يد القدرة الإلهية لسمو الإنسانية وتكاملها وقد تعرضت أغلب آيات كتاب التشريع.
1. «ظعن» على وزن «طعن» بمعنى الرحيل من مكان إلى آخر ومن هنا اطلقت الظعينة على الهودج لأنّه من وسائل السفر، وتستخدم أحياناً كنايةً عن النساء، لأنّهم غالباً مايركبن الهودج.
لهذا الأمر التكويني كالآية:(كُلُّ نَفْس ذائِقَةُ المَوْتِ)(1) والآية: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة)(2). وقد خوطب بهذا الأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)الذي يمثل أشرف كائنات عالم الخلقة (إِنـَّكَ مَـيِّتٌ وَ إِنَّـهُمْ مَيِّـتُونَ)(3) والآية: (كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ)(4).
كما يحتمل أن يكون المراد بقوله (عليه السلام) «أمرتم بالظعن» الأمر بالاستعداد للرحيل من الدنيا، كما ورد ذلك في الخطبة 204 «تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل»(5). وأمّا الأمر بالتجهز والتزود فانّه يمثل رسالة جميع الأنبياء إلى البشرية وتنبيهها إلى الطريق الخطير الذي ينتظرها ; وهو طريق طويل يشمل الفاصلة بين الدنيا والآخرة ولا يمكن السير عليه دون حمل الزاد، ولا معنى للزاد هنا سوى الإيمان والتقوى والورع والعمل الصالح (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى)(6) ولا ينفع في الآخرة سوى القلب السليم المفعم بالإيمان وحبّ الله (يَوْمَ لا يَـنْفَعُ مالٌ وَلا بَـنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْب سَلِيم)(7).
وعليه فلا ينبغي أن يلتفت سالكوا هذا الطريق إلى الدنيا وما فيها وينخدعوا بزخارفها، بل عليهم الهم بالعمل الصالح الذي لا يبلغ بهم الهدف المنشود سواه (المالُ وَالبَـنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدَّنْيا وَالباقِـياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(8).
وأخيراً بعد أن لفت انتباه الأمة إلى الآخرة وزهدها في الدنيا وأوصاها بالتزود لتلك الدار وحذرها من ذلك الطريق الخطير الذي ينتهي سالكه إلى السعادة والقرب الإلهي إذا سار عليه بعمله الصالح وورعه وتقواه، عاد (عليه السلام) ليحذر من عقبتين خطيرتين تصدان الإنسان عن
1. سورة آل عمران / 185.
2. سورة النساء / 78.
3. سورة الزمر / 30.
4. سورة القصص / 88 .
5. على ضوء المعنى الأول فانّ الأمر في قوله «أمرتم بالظعن» هو أمر تكويني وأجل الهي ولكن ليس في الجملة من تقدير، وهو أمر تشريعي على ضوء المعنى الثاني وفي العبارة تقدير هو التجهز والاستعداد، أو الظعن بالمعنى المجازي.
6. سورة البقرة / 197.
7. سورة الشعراء / 88 ـ 89 .
8. سورة الكهف / 46.
السعادة والفلاح «وإن أخوف ما أخاف عليكم إثنتان: إتباع الهوى، وطول الأمل» وهو المعنى الذي ورد في الخطبة 42 بعد أن تناوله الإمام (عليه السلام)بشيء من التوضيح فقال: «أيّها الناس وإن أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتباع الهوى وطول الأمل، فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة». وتفيد الإحاديث النبوية والأخبار والروايات أنّ هذه التعاليم قد احتذاها أمير المؤمنين (عليه السلام) من معلمه الأول الأكرم(صلى الله عليه وآله) ; فقد وردت هذه المعاني في بحار الأنوار نقلاً عن النبي(صلى الله عليه وآله)(1).
والواقع هو أنّ هذين المرضين يعدان من أعظم عوامل الذنوب والمعاصي، لأنّ اتباع الهوى لا يعرف معنى للحدود والقيود، فاذا سيطر على الإنسان أعمى بصره وبصيرته وأصم سمعه بحيث لا يطيق سماع الحق من النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام) ولا تعد لديه القدرة على رؤية الحقائق التي تحيط به، وعليه فهو يعيش حياته الدنيا كالصم البكم العمي الذين لا يفقهون ; الأمر الذي يجعله عرضة للسقوط في الهاوية. أمّا طول الأمل فانّه يزين الدنيا بما ينسي الآخرة ويقتصر بهمة الإنسان على الدنيا التي يرى فيها مقامه الأخير وهدفه النهائي. ثم يختتم الإمام (عليه السلام) خطتبه بقوله «تزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون(2) به أنفسكم غداً» نعم فهناك سفر طويل على الأبواب، سفر يتطلب المتاع والزاد الكثير، وعليه فينبغي للعاقل أن يلتفت إلى نفسه ويجهزها بما يجعلها تجتاز ذلك السفر الطويل قبل فوات الأوان، ويبتعد عن الأخطار والمطبات التي يمكنها عرقلة هذه السفر، فيطويه بكل إيمان وثبات ليصل إلى هدفه المنشود.
لا نرانا نبالغ إذا شبهنا الناس بالمسافرين الذين يغادرون منطقة صغيرة ملوثة نحو عالم
1. بحار الأنوار 70 / 91. فقد روى هذه الحديث جابر بن عبدالله الأنصاري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)في باب حب الدنيا.
2. «تحرزون» من مادة «حرز» بمعنى الحفظ، و«الحرز» على وزن الحرص بمعنى الموضع الآمن لحفظ الأشياء.
![]() |
![]() |