![]() |
![]() |
وأخيرا فالقسمان يوضحان بجلاء أن الإمام(عليه السلام) رجل الصلح والسلام في ظروف الأمن والاستقرار، فاذا نشبت الحرب كان بطلها المجرب وليثها الغاضب.
ونتجه بعد هذه المقدمة إلى شرح الخطبة.
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 70 ـ 118 بتلخيص.
«إِنَّ اسْتِعْدادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشّامِ وَجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ، إِغْلاقٌ لِلشّامِ وَصَرْفٌ لاَِهْلِهِ عَنْ خَيْر إِنْ أَرادُوهُ. وَلَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِير وَقْتاً لا يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عاصِياً. وَالرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ الاَْناةِ فَأَرْوِدُوا وَلا أَكْرَهُ لَكُمُ الاِْعْدادَ».
—–
كما أوردنا سالفاً فانّ الخطبة بشأن قضية جريربن عبداللّه حين كان عاملاً لعثمان على همدان، ثم قدم الكوفة فوجهه الإمام(عليه السلام) إلى الشام لأخذ البيعة من معاوية، إلاّ أنّ فجاج مهمّة جرير كان يبدو ضيعفاً، ومن هنا رأى أصحاب الإمام(عليه السلام)قتالهم. فأجابهم الإمام(عليه السلام)قائلاً «إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم، إغلاق(1) للشام وصرف لأهله عن خير إن أرادوه» فالعبارة تفيد أنّ الإمام(عليه السلام) بصفته زعيم الدولة الإسلامية لايرى في الحرب والقتال من وسيلة صحيحة لحل الاختلافات، ولابدّ من إبقاء باب السلام مفتوحاً لاتمام الحجة، فان لم تجد نفعاً، آنذاك تكون الحرب هى العلاج. والطريف في الأمر أنّ الإمام(عليه السلام)لايأبه بمعاوية وإنّما يفكر بأهل الشام، فقال «إغلاق للشام»، ثم أضاف قائلا «وصرف لأهله عن خير إن أرادوه» في إشارة إلى عبثية جر أهل الشام للقتال وصدهم عن الصلح والسلام وإن كانت لكبيرة على بعض الأفراد المتحمسين، إلاّ أنّ الزعيم العالم لاينبغي أن تستميله العواطف والأحاسيس، فلا يتصرف إلاّ من خلال ضبط النفس والعقل والمنطق بما يرتضيه الحق
1. إغلاق مصدر من باب إفعال يستعمل عادة في الأبواب.
سبحانه وتعالى. ثم أزال الإمام(عليه السلام) الإبهام الذي قد يتسرب إلى عقول هؤلاء الأفراد باستمرار هذه الحالة القلقة فقال «ولكن قد وقت لجرير وقتاً لايقيم بعده إلاّ مخدوعاً أو عاصياً» فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) عين مدة بغية الحفاظ على مصالح المسلمين وعدم فوات الآوان ومرور الفرصة، فقد كان يعلم أنّ معاوية قد يماطل في الوقت ويشغل جرير، وأقصى ذلك هو الاهبة والاستعداد للقتال، ثم يرد بالسلب على دعوة الإمام(عليه السلام)بالبيعة في الوقت الذي تسلب الفرصة والمبادرة من الإمام(عليه السلام) وصحبه. إما لماذا حصر الإمام(عليه السلام) بقاء جرير عند معاوية باحتمالين; الخداع أو العصيان، بينما يمكن أن تكون عرضت له بعض الوقائع من قبيل المرض وما شاكل ذلك، وذلك لأنّ سائر الاحتمالات تبدو ضعيفة لا يكترث بها إزاء هذين الاحتمالين، أو على حد تعبير علماء الاصول أنّ الاصل في مثل هذه الاُمور السلامة، فلا ينبغي ترتيب الأثر على سائر الاحتمالات. ثم حاول تهدأة خواطر صحبه والتسكين من روعهم فقال «والرأي عندي مع الأناة(1) فأرودوا(2)». من جانب آخر فانّ الإمام(عليه السلام)بغية عدم غفلة أصحابه في ظل تلك الظروف الحساسة المصيرية، وضرورة الابقاء على عزمهم الشديد والراسخ في مجابهة العدو وعدم إطفاء جذوة الحماس للقتال فقال(عليه السلام): «ولا أكره لكم الإعداد»; أي أني لا أعلن حالة التأهب فهذا الأمر يتعارض والصلح والسلام. وفى نفس الوقت لا أحول دون وظيفتكم في التعبئة الطواعية، والحق أنّ هذا لأعظم وأنجع اسلوب منطقي وعقلائي في مثل تلك الظروف العصيبة؟ أي لا تغلق أبواب السلام، ولا يعيش الجميع حالة الانفعال والغضب، ولا ينبغي أن تقع بعض الأعمال التي تفرزها طبيعة النفاق، وأخيراً لا ينبغي فوات الفرص دون جدوى!
إن الإمام(عليه السلام) وخلافاً لما يعتقده البعض لم يقاتل معاوية، إلاّ حين أتم الحجة عليه من كافة الجهات، بحيث لم يكن يلجأ إلى القتال إلاّ حين يكون السبيل الأخير الذي اُغلقت جميع السبل
1. «اناة» بمعين التثبت والتأني والصبر.
2. «أرودوا» من مادة «رود» على وزن فوت بمعنى طلب الشيئ بالرفق والمداراة، ومنه الإرادة.
دونه. تفيد هذه الخطبة أنّ علياً(عليه السلام) لم يستجب للضغوط التي مارسها أصحابه من أجل شروع القتال، وأنّه بذل قصارى جهده بهدف إرساء الصلح والسلام. والرسالة التي بعثها الإمام(عليه السلام)إلى معاوية بواسطة جرير لتؤكد هذا المعنى. فقد جاء فيها: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فان إجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك للّه رضى، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فان أبي قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه اللّه ما تولى. ولعمري يا معاوية، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبر الناس من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلاّ أن تتجنى، فتجن ما بدا لك». (1) والواقع كان معاوية يعتمد ذريعتين لترك البيعة، الاولى أنّه كان غائباً حين تمت البيعة لعلي(عليه السلام)، والثانية أن الإمام(عليه السلام)مطالب بدم عثمان، فلا يمكن مبايعته، إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام) فند هاتين الذريعتين بالدليل والبرهان في الرسالة المذكورة، فلم يستجب معاوية بغية تحقيق أهدافه وأطماعه. على كل حال وكما ذكرنا أنفاً فانّ جرير عامل عثمان على همدان أعلن بيعته للإمام(عليه السلام)ومعه الناس إثر وصول كتاب الإمام(عليه السلام). ثم ورد الكوفة وطلب من الإمام(عليه السلام)أن يوجهه إلى الشام لأخذ بيعة معاوية، لأنّ جل أهل الشام كانوا من قومه وأهل بلده ويطمع إلاّ يعصون أمره. فاعترض الأشتر وقال للإمام(عليه السلام): لا تبعثه ولا تصدقه، فواللّه إنّي لأظن هواه هواهم، ونيّته نيّتهم. إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام)إختاره لقول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فيه: «إنك من خير ذى يمن» كما لم يبدر منه خلافاً حتى ذلك الحين، ولعله لم يكن هناك من هو أفضل منه. فدفع إليه الإمام(عليه السلام)كتابه، وقال له: «إئت معاوية بكتابي، فان دخل في ما دخل فيه المسلمون، وإلاّ فانبذ إليه واعلمه أنّي لا أرضى به أمراً، وأنّ العامة لا ترضى به خليفة». فانطلق جرير حتى أتى الشام، ونزل بمعاوية وأخبره باجتماع مسلمي أهل الحرمين وأهل المصرين والحجاز واليمن ومصر وأهل العروض على بيعة الإمام(عليه السلام) ثم قال: فلم يبق إلاّ هذه الحصون التي أنت فيها فبايع لعلي(عليه السلام). ثم سلمه كتاب الإمام(عليه السلام). فلم يستجب معاوية الذي كان شغفاً بالحكومة
1. نهج البلاغة، الرسالة 6.
فقام فخطب الناس مطالباً بدم عثمان وأخذ البيعة من أهل الشام للقيام والمطالبة بدم عثمان. فاستحثه جرير بالبيعة. فقال: يا جرير، إنّها ليست بخلسة، وإنه أمر له ما بعده فابلعني ريقي. فأشار عليه أخوه بعمرو ابن العاص. وقد وعده النصيحة بعد أن اشترط عليه ولاية مصر. ثم دخل شرحبيل ـ رئيس اليمينية وشيخها والمقدم عليها ـ فتحدث إلى جرير، فأقنعه جرير باتباع علىّ(عليه السلام). إلاّ أنّ معاوية كتب له كتاباً ودس إليه الرجال يغرونه بعلي(عليه السلام)ويشهدون عنده أنّه قتل عثمان، حتى ملئوا صدره وقلبه حقداً وترة وإحنة على علي(عليه السلام)وأصحابه، ثم دعاه في الكتاب لمطالبة بدم عثمان. فتاهب شرحبيل للطلب بدم عثمان، ثم وجهه معاوية إلى الشام لدعوة الناس للمطالبة بدم عثمان وجعل لايأتي على قوم إلاّ قبلوا ما أتاهم به وهنا شعر جرير باليأس من معاوية، ثم إلتفت معاوية إلى جرير فقال له: إنّي قد رأيت رأياً، قال: هاته، قال: اُكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فاذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي بيعة، وأسلم له هذا الأمر، واُكتب إليه بالخلافة. فقال جرير: اكتب ما أردت اُكتب معك. فكتب الإمام(عليه السلام)إلى جرير: إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، ثم خيره وخذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية «ولم يكن اللّه ليراني اتخذ المضلين عضداً» فتأخر جرير مدّة ولعله كان يطمع في عودة معاوية إلى رشده، فكثر فيه الكلام. (1)
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 70 ـ 91 بتصرف وتلخيص.
«وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذا الاَْمْرِ وَعَيْنَهُ، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ، فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلاَّ الْقِتالَ أَوِ الْكُفْرَ بِما جاءَ مُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله). إِنَّهُ قَدْ كانَ عَلَى الاُْمَّةِ وال أَحْدَثَ أَحْداثاً، وَأَوْجَدَ النّاسَ مَقالاً، فَقالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا».
—–
يقابل هذا القسم من الخطبة القسم المذكور تماما، أو بعبارة اُخرى يمثل المرحلة الثانية من مراحل المجابهة. فقد كان الإمام(عليه السلام) يؤكد في القسم المذكور على ضرورة ضبط النفس واجتناب القتال، واللجوء إلى منطق السلام والصبر والتحمل. بينما يتحدث هذا القسم بصورة قاطعة حادة عن القتال واللجوء إلى القوة; ولا غرو فقد أغلقت جميع السبل والأساليب، وثبت بالضرس القاطع أنّ معاوية لا يستسيغ أي منطق واستدلال، ولا يفهم سوى تحقيق مطامعه في الحكومة التي يضحي من أجلها بالغالي والنفيس. ومن الطبيعي ألا يكون هنالك من سبيل لمواجهة هذا الشخص سوى الاستسلام وتفويض المقدّرات الإسلامية إليه، أو شهر السلاح بوجهه وقتاله. ومن هنا قال الإمام(عليه السلام): «ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم أر لي إلاّ القتال أو الكفر بما جاء محمد(صلى الله عليه وآله)». العبارة «ضربت أنف هذا الأمر وعينه» مثل تقوله العرب في الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر. والعبارة «وقلبت ظهره وبطنه» هى الاُخرى كناية عن دراسة كافة جوانب الموضوع: لأنّ الإنسان إذا أراد أن يشترى بضاعة قلب ظهرها وبطنها ليتعرف على كافة مميزاتها. أما قوله(عليه السلام) «فلم أر لي إلاّ القتال أو الكفر بماء جاء محمد(صلى الله عليه وآله)» فذلك لأنّ الإمام(عليه السلام)إذا سكت وترك الاُمّة لحالها لقاد ذلك إلى انحراف الناس عن الإسلام واستتباب الحكومة الجاهلية الأموية والسفيانية وإحياء
مبادئ الشرك والوثنية، وهذا يعني تجاهل كافة القيم والمثل التي جهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)مدة ثلاث وعشرين سنة في إرسائها وتحمل صنوف العذاب من أجل ترسيخها، وأصبح علي(عليه السلام)خمسة وعشرين عاماً جليس البيت من أجل الحفاظ عليها، وعليه فلم يبق من سبيل أمام الإمام(عليه السلام)سوى القتال بصفته الأمين على الإسلام وقيمه، وهذا هو الرد الصريح على كافة من يشكك في قتاله(عليه السلام)لمعاوية. ثم أشار(عليه السلام) إلى مسئلة قتل عثمان واستغلالها من قبل معاوية وزبانيته بغية الوصول إلى أغراضه ومآربه، فقال «إنّه قد كان على الأمّة وال أحدث أحداثاً، وأوجد الناس مقالا، فقالوا ثم نقموا فغيروا» فمراد الإمام(عليه السلام)أن العامل الرئيسي لقتل عثمان هو نفس عثمان، الذي أتى بالأعمال المخالفة للعدل والسنة النبوبة، والتي أججت غضب الناس فحاصروه ثم قتلوه، ولذلك لم يتحرك أي من صحابة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) للدفاع عنه، حتى قتل وبقي ثلاثاً على الأرض لم يدفنه أحد من المسلمين(1) وهذا بدوره يكشف عن مدى غضب الاُمّة ونقمتها عليه. وعليه فقتل عثمان لم يكن ذريعة تدعو للخروج على أميرالمؤمنين(عليه السلام). وبالطبع فان أصحاب تلك الذريعة كانوا يعلمون هذا الأمر أكثر من غيرهم، إلاّ أنّهم لم يروا أفضل من هذه الذريعة لتعبئة أهل الشام ضد أميرالمؤمنين(عليه السلام).
ذهب أغلب شراح نهج البلاغة إلى أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه وأهم هذه الأحداث:
1ـ تأمير بني أمية ولا سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين ومنهم الوليد الفاسق وشارب الخمر الذي ولاه الكوفة.(2) وقرب الحكم بن أبي العاص عمه الذي طرده رسول الله(صلى الله عليه وآله) فألبسه جبة من الخز وأعطاه زكاة قبيلة قضاعة التي بلغت ثلاثمئة درهم ـ وذكر إبن قتيبة وابن عبد ربه والذهبي ـ من مشاهير علماء العامة ـ أن من الأحداث التي نقمها الناس
1. الكامل لابن أثير 3 / 180.
2. يتفق الفريقان على نزول الآية «وإن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا» «الاية 6 من سورة الحجرات» كان في الوليد.بل نقل العلامة المجلسي في الغدير 8/276 الإجماع على ذلك.
على عثمان تقريبه للحكم بن أبي العاص الذي لم يقربه أبوبكر ولا عمر في خلافتهما.(1) كما عين ابن عمه مروان بن الحكم مستشارا له وأعطاه غنائم أفريقيا التي بلغت خمسمئة ألف درهم.
2ـ أذاه لكبار صحابة النبي(صلى الله عليه وآله) كأبي ذر الذي نفاه للربذة حين كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعترض على أعماله.(2) وضربه الشديد للصحابي الجليل عمار بن ياسر ولم يكن ذنبه سوى مواجهة عثمان باعتراضات الناس.(3) وما فعله بالصحابي عبدالله بن مسعود بسبب إعتراضه على التطاول على بيت المال فجعل يضربه حتى كسر رباعيته.(4)
سئل الصحابي زيد بن أرقم كيف حكمت بكفر عثمان؟ قال: لثلاث: تقسيمه لأموال بيت المال بين الأغنياء ومحاربته لصحابة النبي(صلى الله عليه وآله) وعمله بغير كتاب الله.(5)
3ـ توزيعه لأموال بيت المال على بطانته وقرابته دون حساب وحرمان المؤمنين منها. وللمؤرخين والمحدثين شروحا وافية بالنسبة لهذه الأمور لايسعها المقام. كل ذلك أرى إلى نقمة الأنصار والمهاجرين ولا سيما صحابة النبي(صلى الله عليه وآله) على عثمان فلم يروه خليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله)كما قدم الناقمون من مصر والكوفة والبصرة، وحيث لم يكترث لهم، بينما لم ينصره أهل المدينة وهذا يدل على نقمتهم عليه أيضا. أما معاوية الذي كان واقفا على كل هذه الأمور فقد إستغلها ليحرض أهل الشام ضد أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بحجة المطالبة بدم عثمان.
—–
1. الغدير 8/241.
2. الغدير 8/241.
3. نقل هذه القصة أغلب المؤرخين ومنهم البلاذري في أنساب الأشراف 5/29.
4. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/43 وتأريخ اليعقوبي 2/170.
5. شرح نهج البلاغة طبق نهج الحق /297.
ومن كلام له (عليه السلام)
لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية، وكان قد إبتاع سبي بني ناجية من عامل أميرالمؤمنين(عليه السلام)وأعتقهم، فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام.
كما ورد سابقا فالكلام يرتبط بقصة قبيلة بني ناجية: كان الخِرِّيت بن راشد النّاجِيّ، أحد بني ناجِيَة، قد شهد مع علي عليه السلام صِفّين، فجاء إلى عليّ عليه السلام بعد انقضاء صِفّين، وبعد تحكِيم الحَكَمين في ثلاثين في أصحابه، يمشى بينهم حتى قام بين يديه، فقال: لا واللّه لا أطِيعُ أمرَك، ولا أصلّي خَلْفَك، وإني غداً لمفارق لك; فقال له: ثَكِلَتْك أمّك! إذاً تنقض عهدَك، وتَعْصِي رَبّك، ولا تضرّ إلاّ نفسَك، أخبرْنِي لم تفعلُ ذلك! قال: لأنّك حكّمت في الكتاب، وضعُفْت عن الحق إذ جَدّ الجدّ، وركنت إلى القوم الّذين ظلموا أنفسَهم، فأنا عليك رادّ، وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين.
فقال له عليّ عليه السلام: وَيْحَك! هلّم إلىّ أدارِسْك وأناظرْك في السُّنن، وأفاتحْك أموراً من
1. سند الخطبة: أوردها عدد من المؤرخين ممن عاشوا قبل السيد الرضي في كتبهم ورووا قصة بني ناجية، ومنهم الطبري في تأريخه المعروف في وقائع عام 38 هـ وابراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات والبلاذري في أنساب الاشراف والمسعودي في كتاب مروج الذهب. مصادر نهج البلاغة، 1 / 451.
الحق أنا أعلم بها منك; فلعلك تعرف ما أنت الآن له منكر، وتُبْصر ما أنت الآن عنه عَم وبه جاهل، فقال الخريت: فإنّي غاد عليك غداً. فقال عليّ عليه السلام: اغْدُ ولا يستهوينّك الشيطان، ولا يتقحمَنَّ بك رأيُ السوء، ولا يستخفّنّك الجهلاء الذين لا يعلمون; فواللّه إن استرشدتَني واستنصحتني وقبلت مِنّي لأهديّنك سبيل الرشاد.
فخرج الخرِّيت من عنده مُنْصرفاً إلى أهله.
قال عبداللّه بن قُعَين: فعجلت في أثره مُسْرِعاً، وكان لي من بني عَمّه صديق، فأردت أن أَلْقَى ابنَ عمه في ذلك، فأعلمه بما كان من قوله لأميرالمؤمنين، وآمر ابنَ عمه أن يشتدّ بلسانه عليه، وأنْ يأمرَه بطاعة أميرالمؤمنين ومُناصحته، ويخبره أنّ ذك خير له في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. ثم بعث(عليه السلام) بمعقل بن قيس فقاتل الخريت حتى قتل وأسر أصحابه، فأطلق من كان منهم مسلما وبقى غير المسلمين، وحين ورد الأسرى الكوفة إشترى مصقلة الأسرى بخمسمئة درهم من معقل وأعتقهم. فدفع مئتي درهم وعجز عن دفع الباقي فخاف وهرب. فخطب الإمام(عليه السلام) بهذه الخطبة.(1)
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/128 بتصرف.
«قَبَّحَ اللّهُ مَصْقَلَةَ! فَعَلَ فِعْلَ السّادَةِ، وَفَرَّ فِرارَ الْعَبِيدِ! فَما أَنْطَقَ مادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَلا صَدَّقَ واصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ، وَلَوْ أَقامَ لاَخَذْنَا مَيْسُورَهُ وَانْتَظَرْنا بِمالِهِ وُفُورَهُ».
—–
قال الإمام(عليه السلام) بعد أن سمع خبر فرار مصقلة ـ عامل الإمام على منطقة أردشير حرّة من مناطق فارس ـ «قبح اللّه مصقلة فعل فعل السادة، وفر فرار العبيد». لقد قام مصقلة بعمل إنساني كبير وذلك حين إشترى أسرى بني ناجية وأعتقهم فلما طولب بالمال وإعادته إلى بيت مال المسلمين وبدلاً من سؤال المهلة للتسديد هرب بالمال إلى الشام حيث معاوية الذي عرف بخداعه للناس واستعبادهم وظاهر القضية أن مصقلة وخشية دينه لبيت المال هرب إلى الشام، بينما يبدو أنّه كان مستعد مسبقاً لهذه الخيانة العظمى، فلعله كان يخشى الفضيحة من بعض الأعمال الاُخرى التي قارفها، ولعل شدة علي(عليه السلام)في العدل والاصرار على إسترداد حقوق بيت المال قد شقت عليه كما شقت على الآخرين. ويؤيد ذلك ما قاله صاحب مصقلة ذهل بن حارث أنّ مصقلة قال لم أكن لأغتم لو كنت مديناً لعثمان أو معاوية، فهما يتسامحان في بيت المال، وقد فعلا ذلك بحق الالاف المؤلفة، الا أن عليا(عليه السلام) شديد التعامل مع بيت المال. مع ذلك فليس هنالك من مبرر لفعل مصقلة، ولا سيما إثر ذلك التناقض الواضح، فقد تكرم من جانب ليقوم بذلك العمل الإنساني، ومن جانب آخر قام بتلك الخيانة وهرب! لذلك قال(عليه السلام):
«فما أنطلق مادحه حتى أسكته، ولا صدق واصفه حتى بكته»(1) فقد فعل ما يدعو إلى مدحه من قبل كل من يسمعه، إلاّ أنّ خبر عتقه لسبايا بني ناجية لم يكد ينتشر بين الناس حتى إنتشر قبله نبأ فراراه إلى الشام، فاصاب الجميع بالدهشة والذهول، فكيف يلجأ إلى معاوية من يقوم بهذا العمل النجيب، فيؤثر مجاورة معاوية والوقوف إلى جانبه على علي(عليه السلام)؟ نعم لايسع الجميع تحمل العدل! ثم إختتم كلامه بالقول «ولو أقام لأخذنا ميسوره، وانتظرنا بماله وفوره» أجل هذا منطق القرآن الكريم (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَة)(2). ليس هنالك من يعتقد بأنّ علياً(عليه السلام)سيعامله على خلاف القرآن وأحكامه، وعليه فلا يقبل عذره في خشيته من الإمام(عليه السلام)في تسديد ما بذمته لبيت المال. وهنا يبرز هذا السؤال لم لم يهبه الإمام(عليه السلام) ذلك المال تقديراً لعمله الإنساني، فمصقلة لم يكن ليتحمل بذلك الدين لمصالحه الشخصية بل كان نتيجة طبيعة لذلك العمل الجبار الذي قام به؟ ونقول في الجواب على هذا السؤال أنّ الإمام(عليه السلام) لو فعل ذلك لأصبحت سنة في المستقبل، بحيث يقوم كل عامل وآمر بالطلاق سراح الاُسرى; الأمر الذي يفرز بعض المخاطر التي تهدد كيان المجتمع الإسلامي بينما يحظي الأمر بمدح الناس وثنائهم. أضف إلى ذلك فانّ مثل هذا البذل يزعزع أسس ودعائم بيت المال ويعيد إلى الاذهان سياسة البذخ والاسراف التي إتبعها عثمان تجاهه، بينما كان الإمام(عليه السلام) قد وعد الاُمّة بأنّه سيتسرجع كل ما أخذ من بيت المال بغير حق وإن تزوج به النساء.
أو ليس بني ناجية مسلمين، فكيف يسبون ويفادون؟ ويبدو أنّ الجواب قد ورد في قصة سبيهم، حيث خرج الخريت بن راشد الناجي ضد أميرالمؤمنين(عليه السلام)واجتمع مع عدد من
1. «بكته» من مادة «بكت» على وزن بخت بمعنى الضرب بالعصا، كما تعني التوبيخ والغلبة على الآخرين عن طريق الاستدلال.
2. سورة البقرة / 280.
الأفراد، فلما بلغ الخبر الإمام(عليه السلام). فوجه الإمام(عليه السلام) أحد أصحابه «معقل بن قيس» لقتال الخريت بن راشد فقتله وقتل جمعاً من أصحابه وأسر آخرين من مسلمين وغير مسلمين من النصارى ومانعي الصدقة، فجعل مسلميهم يمنة والنصارى ومانعي الصدقة يسرة، ثم خلى سبيل من كان مسلماً وأخذ بيعته، ومن كان إردتد عرض عليه الرجوع إلى الإسلام أو القتل. فلما أتي بالاُسرى إلى الإمام(عليه السلام) في منطقة أردشير حرّة التي كان مصقلة عاملها، فبكى إليه النساء والصبيان وتصايح الرجال. فقال مصقلة: أقسم باللّه لأتصدقن عليهم، فاشتراهم بخمسمائة ألف درهم فاعتقهم. فبعث مصقلة بمقدار من المال وبقي آخر. وانتظر علي(عليه السلام)مصقلة أن يبعث المال فابطأ به فبعث إليه الإمام، فقدم الكوفة، فسأله الإمام(عليه السلام)المال، فأدى إليه مائتي ألف درهم وعجز عن الباقي، على أن يهبه الإمام(عليه السلام) ذلك، فلم يقبل الإمام(عليه السلام)، ولو وافقه الإمام(عليه السلام) لكان ذلك الأمر بدعة بحيث يشتري الآخرون الأسرى ثم يعتقونهم ولا يؤدون المال إلى بيت مال المسلمين، إلى جانب كون تلك الموافقة تثيير تداعيات سياسة عثمان إزاء بيت المال بحيث يساء الظن بحزم الإمام(عليه السلام) بالنسبة لبيت مال المسلمين. والعجيب أنّ أحد أصحابه قال له: لو شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال، فقال: ما كنت لأحملها قومي، ولا أطلب فيها إلى أحد. ثم قال: واللّه لو أنّ ابن هند مطالبي بها، أو ابن عفان، لتركها لي. فهذه الاُمور تشير إلى أنّه قد يكون منذ البداية قد عزم على عدم أدائها، كما تفيد الرسالة الثالثة والأربعون من نهج البلاغة أنّه كان عثمانياً، ولذلك كان قد بذل بعض أموال بيت المال لبطانته وقومه، وخلاصة القول فان بنيته الفكرية والعملية كانت قائمة على نهج معاوية لا أميرالمؤمنين(عليه السلام). ولعله كان رجلاً صالحاً قبل وصوله إلى الحكومة إلاّ أنّ حب الدنيا والاغترار بالجاه قد غلب عليه. ومن هنا شقت عليه عدالة الإمام(عليه السلام)حتى إلتحق في خاتمة المطاف بمعاوية. فخطب الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة واختتمها بقوله «ولو أقام لأخذنا ميسوره، وانتظرنا بماله وفوره».(1)
ويتضح ممّا ذكرنا أنّ الاسرى المذكورين لم يكونوا من المسلمين.
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 128 ـ 150 بتصرف.
السؤال الآخر الذي يمكن طرحه هنا: ما علة كل هذا الحزم من الإمام(عليه السلام)في هذه الحالات؟
ونقول في الجواب أنّ الإمام(عليه السلام) لم يتشدد في هذا الأمر، بل كان قد أمهله لتسديد الدين عند المقدرة أولاً، وثانياً لم يكن ذلك حقاً للإمام(عليه السلام) بحيث يهبه أموال بيت المال، بل هو حق المسلمين الذي لايفرط فيه أميرالمؤمنين(عليه السلام) قط. ورغم حزمه في هذا الأمر إلاّ أنّه أبقى باب الرفق مفتوحاً، ومن ذلك إقترح البعض على الإمام(عليه السلام) بعد فرار مصقلة إعادة السبايا والأسرى، فلم يوافق الإمام(عليه السلام) على أنّ مصقلة قد إبتاعهم واعتقهم، فالمدين مصقلة لا هؤلاء.(1)
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/128 ـ 150 بتصرف.
ومن خطبة له(عليه السلام)
وهو بعض خطبة طويلة خطبها يوم الفطر، وفيها يحمداللّه ويذم الدنيا
تشتمل الخطبة على فصلين من كلام أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): أحدهما حمداللّه والثناء عليه، والآخر ذم الدنيا وحث الناس على التزود للآخرة. ويبدو أنّ الرضي (ره) لم يذكر الخطبة كلها فهى طويلة جداً، ومن هنا لا يرى هناك من إرتباط بين هذين الفصلين، إلاّ أنّها رغم قصرهما يشيران إلى معان ضخمة مهمّة.
—–
1. سند الخطبة: قال أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ هذه الخطبة والخطبة رقم 28 كلاهما فصل من خطبة طويلة روى السيد الرضي قسما منها هنا وآخر في الخطبة المذكورة (كما ترك القسم الثالث) ويفيد هذا الأمر مرة اُخرى أنّ السيد الرضي (ره) لم يرد نقل كافة خطب الإمام(عليه السلام)في نهج البلاغة، بل كان يلتقط كلامه(عليه السلام)إلتقاط لأنّ غرضه ذكر فصاحته(عليه السلام) لا غير. على كل حال نقل هذه الخطبة قبل السيد الرضي (ره) المرحوم الصدوق في كتاب من لايحضره الفقيه، والمرحوم الشيخ الطوسي (بعد الرضي) في مصباح المتهجد. (مصادر نهج البلاغة، 2/10 ـ 11).
«الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَقْنُوط مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلا مَخْلُوّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَلا مَأْيُوس مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَلا مُسْتَنْكَف عَنْ عِبادَتِهِ، الَّذِي لا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَلا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ».
—–
تناول هذا الفصل حمداللّه والثناء عليه، ثم أشار إلى ست من النعم الإلهية التي تستحق الحمد والشكر، فقال(عليه السلام) «الحمد للّه غير مقنوط(1) من رحمته». كيف اليأس من رحمة اللّه الواسعة وهو القائل سبحانه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء)(2) كما قال على لسان نبيه يعقوب(عليه السلام)(لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ)(3) وعلى لسان خليله إبراهيم(عليه السلام)(وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاّ الضّالُّونَ)(4) وعليه فلابد للإنسان من الانابة إلى اللّه مهما كانت ذنوبه ومعاصيه، ولا ينبغي له اليأس من رحمة اللّه، بل إنّ هذا اليأس كفر وضلالة وهو من أعظم الذنوب ثم قال(عليه السلام)«ولا مخلو من نعمته». كما ورد في القرآن الكريم (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَـخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّمـواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَأَسْبَـغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَـهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)(5) وأضاف(عليه السلام)«ولا مأيوس من مغفرته» كيف لا وهو القائل (قُـلْ يا عِـبادِىَ الَّـذِينَ أَسْـرَفُوا عَلـى
1. «مقنوط» من مادة «قنوط» على وزن قنوت بمعنى اليأس من الخير والرحمة، والقنوط على وزن بلوط صيغة مبالغة.
2. سورة الاعراف / 156.
3. سورة يوسف / 87 .
4. سورة الحجر / 56.
5. سورة لقمان / 20.
![]() |
![]() |