![]() |
![]() |
الروحي يفيد أنّ الأمر كذلك، فالوفاء يعني الالتزام بالعهد، وهو في الواقع نوع من الصدق، كما أنّ الصدق نوع من الوفاء. والصدق ذو معنى واسع وشامل لايقتصر على الحديث، بل يشمل العمل أيضا، ومن هنا صرح القرآن قائلا: (مِنَ المُـؤْمِنِـينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَـدُوا اللّهَ عَلَيْهِ)(1) فمن الواضح أنّ المراد بصدق العهد في الآية هو الصدق في العمل، ولذلك أردفت بالقول (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ). ومن هنا تتضح عمق الرابطة بين الوفاء والصدق، فلو أبرم شخص عهداً ونقض عهده فقد كذب، ومن هنا يمكن اعتبار ناقض العهد كاذباً، ولما كان حسن الصدق وقبح الكذب ظاهر لكافة الناس، فانّ الإمام(عليه السلام) قرن بهما الوفاء بالعهد ونقضه ليتضح حسنهما وقبحهما. ثم تطرق الإمام إلى الآثار الايجابية للوفاء بالعهد فقال: «ولا أعلم جنة(2) أوقى منه»، فهذه في الواقع من أهم آثار الوفاء بالعهد وبركاته الدنيوية في أنّه جنّة وثيقة; لأنّ أساس الحياة الاجتماعة يتمثل بالتعاون والتكافل والثقة المتبادلة والالتزام بالعهود والمواثيق الفردية والاجتماعية، بعبارة اُخرى فانّ الثقة المتبادلة تذلل كثيراً من المصاعب، بينما يتعذر حل هذه المصاعب إذا ما انعدمت الثقة وسلب الاعتماد بين الناس، ولذلك كانت الدعامة الأصلية للدين تتجسد في الوفاء بالعهود والمواثيق، حتى ورد في الحديث النبوي المعروف «لادين لمن لاعهد له» (3)كما ورد أيضاً «إذا نقضوا العهد سلط اللّه عليهم عدوهم» (4) جدير بالذكر أن الجنّة بمعنى الدرع الذي يقي أخطار العدو في ميدان القتال. تشبيه الوفاء بهذا الدرع يفيد كونه يشكل الوسيلة الدفاعية تجاه الأخطار الاجتماعية التي تفرزها حالة الفوضى وعرقلة القوانين والمقررات. ثم أشار(عليه السلام)إلى أبعاده المعنوية والاُخروية فقال «وما يغدر من علم كيف المرجع»; الأمر الذي أشار إليه الإمام(عليه السلام)في نهج البلاغة بقوله «لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة ولكل
1. سورة الأحزاب / 23.
2. «جنة» على وزن «غصة» بمعنى الدرع واشتقت في الأصل من مادة جن على وزن فن بمعنى الستر ومنه المجنون، كما تطلق الجنة على البستان كأنه تغطى بالأشجار، ومنه الجنين المغطى برحم الأم وإطلاق الجن على تلك الجماعة لخفائها.
3. نوادر الرواندي / 5.
4. بحارالأنوار 97 / 46.
غادر لواء يعرف به يوم القيامة»(1). ولما كان انحراف المجتمع عن المبادئ الأخلاقية يقود إلى تنكر القيم وتبدلها، حتى يعد العهد والمكر والخداع كياسة والالتزام بالعهود سذاجة وبلاهة فقد قال الإمام(عليه السلام)«ولقد أصبحنا في زمان قد إتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحلية»! نعم فانّ قيم المجتمع إذا تنكرت بفضلها المعيار والمحك للحسن من القبيح فانّ ظهور مثل هذا الخلط لايبدو مستغرباً، فمن الطبيعي أن يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والملك شيطاناً والشيطان ملكاً وقديساً. وممّا يؤسف له أنّ هذه الظاهرة قد تفشت وبشكل واسع في عالمنا المعاصر فقد ينظر إلى الثعالب المكرة في السياسة العالمية على أنهم الساسة المهرة، بينها يرمون بالسذاجة وانعدام التجربة من يلتزم بالعهود والمواثيق ويراعون القيم الإنسانية والإلهية في سياستهم، وما أصعب العيش في مثل هذا العالم، وبالطبع فانّ نقض العهود واعتماد الكذب والخداع قد يجر على صاحبه بعض المنافع على المدى القريب ويحظى بمديح هذا وثناء ذاك، إلاّ أنّ المفروغ منه أن عرى المجتمع إنّما تؤول إلى التصدع والانهيار على المدى البعيد. ومن هنا فان الأفراد من أهل الإيمان والوفاء إنّما يسعون لتحصين أموالهم وحفظ ثرواتهم من خلال الامانة وإحترام العهد في المعاملة، والدولة هى الاُخرى مدعوة لرعاية هذا الأمر من أجل كسب ثقة سائر البلدان واستقطابها لضمان مصالح البلاد الاقتصادية. ومن هنا صرحت الرواية «الأمانة تجلب الغنى والخيانة تجلب الفقر».(2) ولا شك أنّ هناك رابطة حميمة بين الأمانة والوفاء، رغم كونهما مفهومين منفصلين، ولذلك قال أميرالمؤمنين علي(عليه السلام):«الأمانة والوفاء صدق الأفعال» (3). قال أحد أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام)ويدعى عبدالرحمن بن سبابه: ساءت حالي بعد وفاة أبي فلما حججت البيت رأيت الإمام الصادق(عليه السلام)فقال لي: أعظك؟ قلت بلى جعلت فداك، قال: «عليك بصدق الحديث وأداء الامانة تشرك الناس في أموالهم هكذا ـ وجمع بين أصابعه ـ قال فحفظت ذلك عنه، فزكيت ثلاثمأة ألف درهم».(4)
1. نهج البلاغة، الخطبة 200.
2. بحارالانوار 72 / 114.
3. غرر الحكم ح 83 ـ 2.
4. فروع الكافي 5 / 124.
ثم رد(عليه السلام) على من إتهمه بعدم العلم بالسياسة فقال: «ما لهم قاتلهم اللّه قد يرى الحول(1)القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللّه ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها» أمّا ذلك الذي لايتورع عن الذنب والمعصية وعدم الإكتراث للدين فانّه ينتهز الفرصة ليفعل ما يشاء فيراه البلهاء سياسيا ناجحا «وينتهز(2) فرصتها من لاحريجة(3) له في الدين» فالإمام(عليه السلام)يقول إنّ عدم استغلالي للفرص الغدرة من أجل التفوق على العدو لايعني عدم علمي بالاُمور، بل ذلك يعني أني أخاف اللّه، وإنّي لا عتمد الورع والتقوى والعدل حتى مع أعدى أعدائي، ولا أرى الغاية تبرر الوسيلة، بل لا أومن بالنصر كيفما كانت قيمته وثمنه، إلاّ أنّ أعدائي لا يراعون أي من هذه المبادئ، فهم يقارفون كل جناية ولا يتورعون عن أية جريمة، فلا يقيمون وزناً لدماء الأبرياء، ولا يتحرجون من الظلم والعدوان، ولا يلتزمون بالعهود والمواثيق، نعم ليس لهم من هم سوى تحقيق أهدافهم اللامشروعة بأية وسيلة. فاذا رأى الناس تصرفاتهم وتحرجي عدوهم ساسة أكفاء، والحال ما هم ساسة وأنّهم لحفنة من الظلمة الذين يفتقرون إلى الورع والتقوى.
إن الاختلاف في الاساليب السياسية إنّما تفرزه الرؤى بشأن الحكومة، فالسياسة التي ينتهجها اُولئك الذين ينشدون الحكومة من أجل ضمان مصالحهم الشخصية أو الفئوية، تختلف عن السياسة التي يتبعها اُولئك الذين لايرون في الحكومة سوى وسيلة لحفظ القيم والمثل. فالحكومات السابقة كانت تتصف بالدكتاتورية المقيتة التي تتكرس في فرد واحد مستبد غاشم يسعى جاهداً لتحقيق مآربه وإشباع رغباته وضمان مصالح بطانته معتمداً منطق القوة والعنف من أجل ترسيخ دعائم حكومته فلا يرى من حرمة لقيم ومثل سوى تلك التي تخدم مصالحه أمّا اليوم فالحكومات وإن تغيّرت شكلاً، إلاّ أنّ جوهرها وماهيتها لم تختلف كثيراً عن
1. ـ الحول القلب بضم الاول وتشديد الثاني هو البصير بتحويل الاُمور وتقليبها .
2. «ينتهز» من مادة «إنتهاز» بمعنى الإقدام على عمل، كما يعني الاستفادة التامة من الفرصة.
3. «حريجة» من مادة «حرج» بمعنى التحرج والتحرز من الآثام، ويأتى الحرج أحياناً بمعنى الذنب.
تلك التي كانت سائدة في الماضي، وان كان المعروف عن هذه الحكومات إقتحامها الميدان كفئات وأحزاب. على سبيل المثال فانّ الأحزاب هى التي تمسك بزمام الاُمور في البلدان الصناعية المعاصرة، بحيث يسعى كل حزب لضمان مصالحِ فئة معينة، ثم يعتمد كافة الوسائل من أجل الحصول على أكثر عدد من الآراء بغية الوصول إلى الحكومة، فاذا تسلموا الحكومة، أتوا بالأفراد الذين يعملون على ترسيخ دعائم حكومته وبالطبع فانّ مثل هذه الحكومات قد تتبنى بعض الشعارات من قبيل حقوق الإنسان وحرية المرأة وأحياناً يطرحون بعض المسائل الأخلاقية، إلاّ أنّهم يعلمون كما يعلم الاخرون أنّهم ليسوا جادين في ما يقولون، فاصواتهم عادة ما تتعالى بحجة أن البلد الفلاني ـ إذا كان من أعدائهم ـ قد إنتهك حقوق الإنسان، وان كان من أصدقائهم فقد يحظى بتأييدهم ودعمهم وإن انتهك تلك الحقوق الف مرة كل يوم ـ وفى مقابل هذه الحكومات، هنالك حكومة الأنبياء والأولياء التي لا تعرف المصالح الفردية ولا الفئوية، وهى قائمة على أساس القيم والمثل. فالحكومات السابقة تصرح علنا بتعذر الجمع بين السياسة والأخلاق، وعليه فالحاكم الذي يراعي المبادئ الاخلاقية إنّما يفتقر في الواقع حسب ظنهم إلى العقل السياسي; وسوف لن يكتب لحكومته الدوام والاستمرار، فالغاية تبرر الوسيلة، وكل ما يقرب من الهدف فهو حسن ومطلوب. بينما ترى الحكومة الأخيرة ان شعارها يتكرس في «إنّما بعثت لاُتمم مكارم الأخلاق»(1) أو «لو لا... ما أخذ اللّه على العلماء أن لايقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم...»(2) أو «وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدي(صلى الله عليه وآله)»(3) ومن الطبيعي أن يكون هناك بوناً شاسعاً بين سياسة الحكومات بالمعنى الأول والحكومات الإلهية، بل هناك تعارض وتضارب بينهما فالطائفة الاولى تضحي بكل القيم وتذبحها من أجل الوصول إلى دفة الحكم، بينما تخلت الطائفة الثانية بشهادة التأريخ عن الحكومة من أجل الحفاظ على القيم والمثل. وهذا ما وضحه الإمام(عليه السلام)في الخطبة «واللّه ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من
1. كنز العمال 3 / 16 ح 5217.
2. نهج البلاغة، الخطبة 3.
3. بحارالانوار 44 / 329.
أدهى الناس»(1) وقال(عليه السلام): «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه; واللّه لا
أطور به، ما سمر سمير، وما أم نجم في السماء نجماً» (2) والاختلاف بين هاتين الرؤيتين في السياسة الإلهية والسياسة الشيطانية هو الذي يجعل بعض الأفراد يشكلون أحياناً على الساسة الربانيين ويحملون أعمالهم على السذاجة وعدم المعرفة بفنون السياسة، بينما يغفلون عن حقيقة كبرى وهى أنّ هؤلاء الأفراد إنّما يحثون السير إلى عالم آخر لا تجيز مبادئه وضوابطه التشبث بأي أسلوب وطريقة. فمثلاً لما غلب معاوية أهل العراق على الماء منعهم منه، فلما حمل أهل العراق إنكشف أهل الشام عن الماء، وملك أهل العراق المشرعة ـ فقال أصحاب علي(عليه السلام): أمنعهم الماء يا أميرالمؤمنين كما منعوك ـ فقال: «لا، خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون. (3) والاّ عجب من ذلك عدم إلتفات رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى أصحابه الذين أشاروا عليه بمنع اليهود الماء حين محاصرة قلاع خيبر فلم يجبهم(صلى الله عليه وآله)»(4) ويتعجب أولئك الغافلون حين يسمعون مسلم بن عقيل وقد إمتنع عن قتل إبن زياد غيلة في دار هانئ بن عروة قائلاً: «الإيمان قيد الفتك» (5). أضف إلى ذلك فانّ علياً(عليه السلام) إمتنع عن قتل عمرو بن العاص في صفين حين كشف عن عورته. فكل هذه الاُمور لايرونها تنسجم والسياسة، بل السياسي الفذ في نظرهم من يدافع عن العهدو والمواثيق ويلتزم بالمبادئ إذا كانت تجري لصالحه ،وإلاّ فلابدّ أن يضربها جميعا عرض الحائط. فالسياسي الورع والمتقي يرى النصر على الأعداء إنّما يحتل الدرجة الثانية، والدرجة الاولى تتمثل بحفظ المبادئ ورعاية القيم والمثل. والجدير بالذكر ما أورده ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة حين تحدث عن مروءة ووفاء أحد أحفاد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)هو إبراهيم بن عبداللّه فقال: «وكان لغير إبراهيم عليه السلام من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة، وكان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل، وإنّما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالامرة فيها، فلم يستقم لهم، والدنيا إلى أهلها أميل».
1. نهج البلاغة، الخطبة 200، وروي عنه(عليه السلام) أنّه قال: «لولا التقى ـ أو لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب». شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 28.
2. نهج البلاغة ، الخطبة 126.
3. تأريخ الطبري 3 / 569.
4. سيد المرسلين 2 / 408 تقلاً عن السيرة الحلبية 3 / 40.
5. بحارالانوار 44 / 344.
ومن كلام له (عليه السلام)
وفيه يحذر من اتباع الهوى وطول الأمل في الدنيا.
أورد الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة على ضوء نقل نصربن مزاحم في كتاب صفين بعد موقعة الجمل حين ورد(عليه السلام)الكوفة، وهى تعالج غرور الأفراد وطمعهم بعد تحقيق النصر ولا سيما إن كانت هناك غنائم; الأمر الذي يثير حفيظة البعض للتكالب على الدنيا وبالتبع يتطلع إلى المزيد من كان له دور أكبر في المعركة والحصول على الغنائم. فهدف الإمام(عليه السلام)تحذير الناس وتذكيرهم بالأهداف المعنوية التي قاتلوا من أجلها، كما يحذرهم من رذيلتي إتباع الهوى وطول الأمل الذان يصدان عن الحق وينسيان الآخرة. ثم يؤكد الإمام(عليه السلام) على قصر عمر الدينا وضرورة إغتنام الفرص فيها من أجل العمل الصالح والتزود للآخرة، حيث يوجز هذا الأمر الحيوي بعبارات قصيرة بليغة المعنى.
—–
1. سند الخطبة: وردت هذه الخطبة بعدة أسناد. رواها قبل السيد الرضي(ره) نصر بن مزاحم في كتاب صفين والشيخ المفيد في المجالس والمسعودي في مروج الذهب. وقال نصر بن مزاحم دخل الإمام(عليه السلام) الكوفة بعد معركة الجمل فأسرع قرّاء الكوفة وأشرافها لإستقباله. فدخل المسجد وصلى ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم خطب الخطبة.
«أَيُّها النّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيْكُمُ اثْنانِ: اتِّباعُ الْهَوَى وَطُولُ الاَْمَلِ، فَأَمّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمّا طُولُ الاَْمَلِ فَيُنْسِي الاْخِرَةَ».
—–
أوردنا سابقاً أنّ الإمام(عليه السلام) خطبها بعد الجمل حين ورد الكوفة، بهدف الحد من الغرور الذي تفرزه طبيعة النصر والتنافس على غنائم المعركة، فقال(عليه السلام): «أيّها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتباع الهوى وطول الأمل، فأمّا إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة». والعبارة الآخيرة مهمّة ذات أثر بالغ في مصير الاُمّة، بحيث ورد التأكيد عليها في أحاديث النبي(صلى الله عليه وآله)، كما أشار إليه الإمام(عليه السلام) سابقاً في الخطبة الثامنة والعشرين».(1) ويتضِح من معنى مفردة الهوى التي تشير إلى أهواء ورغبات النفس الأمارة باللذات الدنيوية دون الحدود والقيود مدى صدها الإنسان عن الحق ومنعه من بلوغه، لأنّ الهوى حجاب على العقل يحول دون إدراك الحقائق ومشاهدتها، بينهما يزين له هذا الهوى الباطل ليبديه له أنصع من الحق، في حين يشوه له الحق ويظهره له كابشع صورة للباطل، وقد لمست هذه الحقيقة كثيراً خلال تجربتي ومطالعتي لسيرة الماضين في كيفية تبرير أتباع الهوى لبعض صور الحق والباطل وتغيير هويتهما. وأما طول الأمل فيستقطب جميع طاقات الإنسان وقواه حتى ينسيه الآخرة، ولما كانت قوى الإنسان محدودة فانّه يستهلكها في الآمال الكاذبة اللامتناهية بحيث لا يبقى لنفسه من قوة يدخرها للآخرة، ولا سيما أنّ الامال لا تعرف للنهاية
1. بحارالانوار 74 / 188 (مع اختلاف طفيف) وبحارالانوار 70 / 90 ـ 91 مع فارق ضئيل جداً.
من معنى، وتقتضي طبيعتها أن يتجه الإنسان إلى الاُخرى فور ظفره بالاولى حتى يجند نفسه على الدوام بغية الظفر بها جميعا، بل إن تحقيقه لأمل ربما يدفعه لآخر، لأنّ الآمال عادة مترابطة مع بعضها البعض، وعلى هذا الضوء فسوف لن يبقى لديه من وقت كما لا تبقى له من قوة، وبالتالي سوف لن يمتلك الدفاع نحو الآخرة. وبالطبع فانّه لن يفيق من غفلته حتى يصفعه الموت، وقد ولى العمر وتصرمت أيامه وفرصه فلم يظفر بأماله ولم يدرك آخرته. وما أروع ما قال أبو العتاهية حين دعي لإ نشاد الشعر بحضرة هارون حين أراد أن يفتتح له قصراً جديداً في مصر:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور يهدي إليك بما اشتهيت لدى الرواح وفى الكبور حتى إذا تزعزعت النفوس ودحرجت فهناك تعلم موقناً ما كنت إلاّ في غرور.(1)
فشعر من حول هارون بالامتعاظ من هذه الأبيات على أنها لا تنسجم والمناسبة، إلاّ أنّ هارون مدحه وأثنى عليه.
وقد علق بعض شرّاح نهج البلاغة على أنّ طول الأمل ينسي الآخرة وذلك لأنّ هذا الفرد يغتر بمظاهر الدنيا ويرى في الموت الوسيلة التي تقطعه عن هذه الدنيا، فينسى المعاد ويوم القيامة جدير بالذكر أنّ للأمل دور إيجابي في حياة الإنسان والذي عبر عنه القرآن بالرجاء، ولاسيما إذا كان مقرونا بالتوكل على اللّه.
—–
1. الأنوار النعمانية 3 / 114.
«أَلا وَإِنَّ الدُّنْيا قَدْ وَلَّتْ حَذّاءَ; فَلَمْ يَبْقَ مِنْها إِلاَّ صُبابَةٌ كَصُبابَةِ الاِْناءِ اصْطَبَّها صابُّها. أَلا وَإِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِكُلّ مِنْهُما بَنُونَ. فَكُونُوا مِنْ أَبْناءِ الاْخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْناءِ الدُّنْيا. فَإِنَّ كُلَّ وَلَد سَيُلْحَقُ بِأَبِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسابَ، وَغَداً حِسابٌ وَلا عَمَلَ».
—–
واصل(عليه السلام) خطبته التي ابتدأها بذم إتباع الهوى وطول الأمل الذان يصدان عن الحق وينسيان الآخرة، وبالتالي يحولان دون سعادة الإنسان وفلاحه، ليقدم تحليلاً رائعاً عن أوضاع الدنيا والآخرة فقال «ألا وإنّ الدنيا قد ولت حذاء(1)، فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة(2) الاناء إصطبها صابها».
فقد شبهت الدنيا هنا بالكائن الذي يعود بسرعة إلى مسيرته، الأمر الذي يفيد حقيقة الحركة السريعة لعمر الإنسان، الحركة الخارجة عن إرادة الإنسان وتشمل كافة الكائنات الحية سوى الذات الإلهية المطلقة، ولا يستثنى من تلك الحركة الكواكب والمجرات والسموات والارضين لتنتهي إلى الفناء والزوال الدنيوي ليكون نافذة على عالم الخلود والبقاء. فالطفولة تتحرك نحو الفتوة والشباب، والفتوة تنطلق نحو الكهولة التي تنتهي بالموت، هذا إذا جرت الاُمور وفق القانون الطبيعي والاقد يتساقط بعض الاطفال والشباب من هذه القافلة لتنتهي
1. «حذاء» كما ورد في تفسير السيد الرضي (ره) وشرّاح نهج البلاغة بمعنى السريع، من مادة حذ على وزن حظ بمعنى القطع، أو القطع السريع، ثم اطلقت على كل حركة سريعة، وحذا مؤنث إحذاً.
2. «صبابة» بالضم البقية من الماء واللبن في الإناء، والضمير في اصطبها وصابها يعود اِلى الصبابة، لأنّ الإناء مذكر والضمير المؤنث لا يعود اِليه.
أعمارهم دون بلوغ الكهولة. فالإمام(عليه السلام) يقول أنّ عمر الإنسان قصير قليل كبقية الماء واللبن في الإناء التي تعلق به عند قلبه، أو بعبارة اُخرى فانّ الإنسان حين يقلب إناءاً مملوءاً بسائل ثم يعيد الإناء إلى وضعه الأصلي إنّما يتبقى فيه مقدار من الماء يطلق عليه الصبابة وهذه في الحقيقة هى عمر الإنسان ثم قال(عليه السلام)«ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت» فكلما قصر عمر الدنيا اقتربت الآخرة، فالواقع إننا نركب قطار الزمان الذي يسير بسرعة نحو الآخرة، والدقائق والساعات والأيّام والأسابيع والأشهر والسنوات إنّما تكشف عن سرعة مسيرة قطار الإنسانية بأجمعها، ثم أوضح(عليه السلام)وظيفة الناس «ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فانّ كل ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة» نعم هناك خطان: خط عبدة الدنيا وخط عشاق الآخرة، وإن كانت هنالك بعض الجماعات المتذبذبة بين الخطين. ولا يعرف أبناء الدنيا سوى النوم والأكل والشرب والشهوة والطرب والعيش والملذات، فهم متعلقون بظاهر الدنيا دون أن يكفوا أنفسهم عناء التفكير في الآخرة، بل هم عنها عمون (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُـمْ غافِلُون) (1). فكأنّهم مخلدون في الدنيا وليس هنا لك من آخرة، فوثقوا بأموالهم وثرواتهم على أنّها تخلدهم في دنياهم (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ). أما أبناء الآخرة فقد نظروا بعين العقل والبصيرة إلى الدنيا وأدركوا أنهم مفارقوها ومرتحلون عنها فلم يطمأنوا إليها. لقد طلقوها كما طلقها الإمام(عليه السلام)ثلاثة لارجعة فيها. فقد إتعظوا بالقرآن الذي أوقفهم على طبيعة خسرانها (وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ). أمّا التعبير عن عبدة الدنيا بأبناء الدنيا وعن المؤمنين الصالحين بأبناء الآخرة، وذلك لأن الابناء إنّما يشبهون إلى حد كبير آبائهم واُمهاتهم بفعل الصفات الوراثية التي تنتقل إليهم عن طريق الجينات، وهو الشبه الذي يدعو إلى المحبة والإرتباط. نعم عبدة الدنيا أبنائها، ومن هنا أحاط حبّ الدنيا بقلوبهم بحيث أصبحوا لايرون سوى الدنيا ولايجنون سواها، وشعارهم فيها (إِنْ هِىَ إِلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا)(2) وإن كانوا ظاهرا يحملون الإسلام. أما أبناء الآخرة فقد سيطر حب اللّه على
1. سورة الروم / 7.
2. سورة الجاثية / 24.
قلوبهم، فهم يتزودون من الدنيا إلى الآخرة دون أن يغرقوا فيها.
وقال بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد بالعبارة هو أن المؤمنين سيكونون في الآخرة بمثابة الأبناء الذين يرتمون بأحضان آبائهم، بينما سيكون أبناء الدنيا كاليتامى. إلاّ أنّ هذا التفسير لاينسجم والعبارة «إن كل ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة»، بل يفيد هذا التعبير أن الحياة الدنيا المادية ليست سوى الجحيم الذي يرتمي فيه أبناء الدنيا إذا افتقرت إلى الإيمان والتقوى، وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله (فَأُمُّهُ هاوِيَهٌ).(1)
أمّا إن كانت هذه الحياة مقرونة بالايمان والتقوى والصبغة الآخروية فتتجسم يوم القيامة على هيئة جنّة سيرتمي في أحضانها المؤمنون. ثم إختتم الإمام(عليه السلام)خطبته قائلا: «وإنّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل» فالعبارة تفيد من جهة وجود الفرصة من أجل إستزادة العمل الصالح، وإذا ما شوهد المحسنون والمسيئون، والصالحون والطالحون، واولياء اللّه وأعداء اللّه، وحزب اللّه وحزب الشيطان إلى جانب بعضهم البعض الآخر في هذه الحياة الدنيا فذلك لأنّ الدنيا دار عمل لاحساب فيها ولاجزاء وعقاب. ومن جهة اُخرى تحذير بأنّ نهاية العمر في الدنيا تعني إغلاق صحيفة الأعمال وليس هنالك من سبيل للعودة والعمل وتدارك ما فرط، كما ليس للندم من أثر أو فائدة، فقد قال علي(عليه السلام) «لا عن قبيح يستطيعون إنتقالاً ولا في حسن يستطيعون إزدياداً» (2)كما ليس هناك من جدوى لصراخهم (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) (3) كما لا تفيدهم الآمال والأماني (فَـلَوْ أَنَّ لَـنا كَـرَّةً فَنَـكُونَ مِنَ المُـؤْمِنِـينَ).(4)
ما ورد في الخطبة بهذا الخصوص ممّا أكدته الآيات القرآنية، حتى صرحت بعض الآيات أنّ أبواب التوبة تغلق حين نزول عذاب الاستئصال (من قبيل العذاب الذي إستهدف
1. سورة القارعة / 9.
2. نهج البلاغة، الخطبة 188.
3. سورة المؤمنون / 99 ـ 100.
4. سورة الشعراء / 102.
إجتثاث جذور الأقوام السابقة حين طغت في الأرض) بحيث لم يعد هناك من مجال لتدراك الأعمال، لأنّ الإنسان في ظل هذه الظروف إنّما يودع الدنيا وينتقل إلى الآخرة مروراً بالبرزخ، ومن ذلك قوله سبحانه: (فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِـينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّةَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِـبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ).(1). كما نعلم بأنّ فرعون لما أدركه الغرق وشعر بالموت أظهر الإيمان ولكن أغلقت بوجهه كافة أبواب التوبه فاتاه النداء (آ لآ نَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ)(2). ونستتج من هذه الآيات وسائر الايات الواردة بهذا الشأن أنّ هناك سنة إلهية تفيد إغلاق صحيفة الإنسان وانقطاع أعماله حين يكون على أبواب الموت المحتم، فليس هنالك من سبيل للعودة والإصلاح. وهنا يبرز هذا السؤال وهو أنّ أغلب الروايات صرحت بأنّ آثار الأعمال الحسنة والسيئة تصل الإنسان بعد موته بحيث تثقل صحيفة أعماله خيرا أم شرا، فقد ورد في الحديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «سبعة أسباباً يكتب للعبد ثوابها بعد وفاته، رجل غرس نخلاً أو حفر بئرا أو أجرى نهراً أو بني مسجداً أو كتب مصحفاً أو ورث علماً أو خلف ولداً صالحاً يستغفر له بعد وفاته» (3) ومن الواضح أنّ ما جاء في هذا الحديث نموذج باراز لأعمال الخير، أفلا يتنافى هذا الأمر وما ذكر سابقاً؟ والجواب على هذا السؤال واضح فليس هنالك من عمل جديد يقوم به الإنسان بعد الموت، لا إنّ آثار الأعمال السابقة لا تصل إليه. نعم صحيفة الأعمال الجديدة مغلقة ولا يضاف إليها شيئا، أما صحيفة أعماله السابقة قبل الموت فهى مفتوحة دائما وإن الإنسان يقطف ثمار عمله الصالح في البرزخ ويوم القيامة، وتصله حتى الأعمال الصالحة فيما إذا خلف ولداً صالحاً يدعو له ويستغفر له.
—–
1. سورة المؤمنون / 84 ـ 85 .
2. سورة يونس / 91.
3. «تنبيه الخواطر»، (طبق نقل ميزان الحكمة، 3 / 23 ـ 24 مادة عمل).
من كلام له (عليه السلام)
وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جريربن عبداللّه البجلي إلى معاوية ولم ينزل معاوية على بيعته.
تشتمل الخطبة على قسمين يختلف كل منهما عن الآخر، ويبدو أنّ كل منهما قد ورد مستقلاً في موضعه، الا أنّ السيد الرضي (ره) جمعهما لمناسبة ـ فالقسم الأول يتعلق يقضية جريربن عبداللّه البجلي الذي كان عاملاً لعثمان على ثغر همدان. فأمّا خبر جرير بن عبداللّه البجلي وبعث أميرالمؤمنين(عليه السلام) إيّاه إلى معاوية، فقد ورد في الأخبار: لما قدم(عليه السلام)الكوفة بعد إنقضاء أمر الجمل، كاتب العمال، فكتب إلى جرير بن عبداللّه البجلي. فلما قرأ جرير الكتاب، قام فقال: أيّها الناس، هذا كتاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد بايعه الناس الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين باحسان، ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقه بها. فقال الناس سمعاً وطاعة. فكتب جرير إلى علي(عليه السلام)جواب كتابه بالطاعة وكتب علي(عليه السلام)إلى الاشعث وكان عامل عثمان على أذربيجان يدعوه إلى البيعة والطاعة. وكتب جرير بن عبداللّه البجلي إلى الاشعث يحضه على طاعة أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)وقبول كتابه. فقبل
1. وردت هذه الخطبة في كتابين قبل نهج البلاغة، الأول كتاب صفين لنصربن مزاحم والآخر كتاب الإمامة والسياسة مع فارق طفيف. أما القسم الثاني فقد رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد. مصادر نهج البلاغة، 1 / 446.
الأشعث البيعة وسمع وأطاع، وأقبل جرير سائراً من ثغر همدان حتى ورد علي(عليه السلام) الكوفة فبايعه. ولما أراد علي(عليه السلام) أن يبعث إلى معاوية رسولاً، قال له جرير: إبعثني يا أميرالمؤمنين إليه; وأدعوا أهل الشام إلى طاعتك وولايتك فجلهم قومي وأهل بلادي وقد رجوت ألا يعصوني. فبعثه علي(عليه السلام). فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية ودفع إليه كتاب علي(عليه السلام). فقال معاوية أنظر وتنظر; واستطلع رأي أهل الشام. فكتب له الإمام(عليه السلام): إنّما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة، وأراد أن يريثك ويبطئك، فان بايعك الرجل، والاّ فاقبل. قيل ولما أبطأ جرير عند معاوية إتهمه الناس، فلما سمع جرير ذلك فارق علياً(عليه السلام) فلحق بقرقيسياء (بلد بالخابور عند مصبه» ولحق به ناس من قسر من قومه، واقام فيها حتى توفى. (1) على كل حال مكث جرير عدّة شهور في الشام، حتى اقترح أصحاب الإمام(عليه السلام) عليه قتال أهل الشام، إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام) لم يجبهم إلى ذلك وجرير هناك، وأنّه قد وقت وقتاً لجرير، فلابدّ من إنتهاء، ذلك الوقت ومعرفة النتيجة.
![]() |
![]() |