![]() |
![]() |
«دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ(1) الْجَمَلِ الاَْسَرِّ(2) وَتَثاقَلْتُمْ تَثاقُلَ النِّضْوِ(3) الاَْدْبَرِ(4) ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ(5) مُتَذائِبٌ(6) ضَعِيفٌ «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ».
—–
واصل الإمام(عليه السلام) ذمه لأهل الكوفة على ما أبدوه من ضعف وعجز تجاه الهجمات المبرمجة للعدو فقال(عليه السلام): «دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الادبر» أي أنّكم أعريتم عن عجزكم في الكلام كما فعلتم ما يفشلكم في الدنيا والآخرة ويمكن العدو من تكبيدكم الخسائر في أموالكم وأرواحكم، فقد دعوتكم لنصر أخوانكم (مالك بن كعب وصحبه ممن تعرضوا لغارات اهل الشام في منطقة عين التمر) فكانت حركتكم كحركة الجمل وتثاقل النضو الادبر «دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم
1. «جرجرة» صوت يردده البعير في حنجرته عند عسفه، وقيل من مادة «الجرر» بمعنى الجر، واطلق الجرر لتكراره.
2. «أسر» من مادة «سرر» المصاب بداء السرر، وهو مرض في كركرة البعير أي زوره ينشأ من الدبرة والقرحة.
3. «النضو» المهزول من الابل، والأدبر المدبور، أي المجروح المصاب بالدبرة، وهى العقر والجرح من القتب ونحوه.
4. «أدبر» من مادة «دبر» بمعنى الجرح الذي يتعرض له الحيوان إثر ضغط السراج.
5. جنيد مصغر جند.
6. «متذائب» بمعنى مضطرب، من قولهم تذاءبت الريح أي إضطرب هبوها ومنه سمي الذئب ذئباً لاضطراب مشيته.
جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر» ولعل تشبيههم بالحيوانات المريضة إشارة إلى ضعفهم الفكري وعجزهم في إتخاذ القرار، لأنّ الإنسان العاقل لايدع العدو يهجم عليه بهذه الطريقة بحيث يضرب أينما شاء دون وازع أو رادع. ثم أشار(عليه السلام)إلى تلك الفئة القليلة التي لبت دعوته، بينما كان الخوف والهلع يسيطر عليهم «ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون». وقد أورد السيد الرضي (ره) في آخر الخطبة قائلاً: قوله(عليه السلام) متذائب; أي مضطرب، من قولهم: تذائبت الريح، أي اضطراب هبوبها. ومنه سمى الذئب ذئباً، لاضطراب مشيته. ومن هنا فانّ هذه الفئة القليلة لم تكن مصداقاً لقوله سبحانه «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة» بل كانت فئة ضعيفة قلقلة مضطربة كأنّهم يساقون إلى المذبح وهم ينظرون إلى موتهم، فهى فئة عدمها خير من وجودها والوثوق بها مخجل، فما أعظم محنته الإمام(عليه السلام) وابتلائه بهؤلاء القوم طبعاً قوله(عليه السلام)كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. إنّما اقتبسه(عليه السلام) من الآية السادسة من سورة الانفال التي وردت بشأن بعض المؤمنين الضعفاء على عهد النبي(صلى الله عليه وآله) الذين كانوا يتشبثون بمختلف الذرائع والحجج للفرار من الجهاد إلى جانب جدالهم للنبي(صلى الله عليه وآله) حول موقعة بدر، غير أنّ حوادث بدر أثبتت لا حقاً مدى خطأهم وتزايد خوفهم عبثاً حتى إنتهت الموقعة بالنصر المؤزر للمسلمين، والعجيب أنّ هؤلاء كانوا من المعترضين على كيفية توزيع الغنائم بعد انتهاء المعركة. ولعل المراد بالعبارة أن هذه الفئة القليلة لو كانت تمتلك العزم الراسخ والقوة والصلابة من شأنها الانتصار على العدو، غير أن المؤسف...
رغم أن التعاليم الإسلامية تستند إلى ارساء قواعد السلام مع كافة الاُمم والشعوب ـ باستثناء تلك الحالات التي يشهر فيها السلاح ضد الإسلام والمسلمين ـ إلاّ أنها توصي بالشدة والصلابة في بعض الحالات الطارئة، ونموذج ذلك ما ورد في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة بشأن العتاة المردة من أهل الشام من جيش معاوية. فقد كان معاوية يستغل الفرص من أجل إضعاف أهل العراق وزعزعة روحياتهم، فقد كان يجهز بعض الجماعات
ويعبئها لشن غاراتها على بعض المناطق الإسلامية فتنشر فيها الذعر والخراب والدمار وتذبح من فيها دون الإكتراث للشيوخ والنساء والصبيان إلى جانب نهب الأموال والثروات وقد تكررت مثل هذه الحادثة لأكثر من مرّة على عهد الإمام(عليه السلام)، فكان الإمام(عليه السلام)يستصرخ أهل الكوفة لمواجهة هذه الأخطار فكانوا يردون عليه بكل ضعف وفتور وكأنّهم لم يعلموا بما يجري حولهم وقد غطوا في نوم عميق: الأمر الذي جعل إعتداءات أهل شام تتصاعد يوماً بعد آخر، حتى أصبح العراق بعيد شهادة الإمام(عليه السلام) لقمة سائغة لمعاوية ورهطهَ بحيث لم يتمكن الإمام الحسن(عليه السلام)من الوقوف بوجه ذلك الظالم، ولا عجب في الأمر فلم تكن لديه القوة الكافية من الأفراد التي يستطيع بواسطتها قتال معاوية. ونلمس اليوم هذه الحقيقة بوضوح في عالمنا المعاصر، وإذا لم نلتفت إلى تحرشات العدو وتقبرها في المهد فانّها ستتسع شيئاً فشيئاً، آنذاك لم يمكن المواجهة والصمود. وعليه فلابد من الانتباه إلى أدنى حركة عسكرية أو إعلامية أو إقتصادية والتعامل معها فوراً بمنتهى الصلابة ليضطر العدو للدفاع بدلاً من الهجوم. فعادة ما تحاول العناصر الضعيفة التي تميل إلى الدعة والراحه لحمل مثل هذه الحركات على البراءة بعيد عن حملها محمل الجد وإساءة الظن بها، والحال أنّها إنّما تبدر من العدو الذي لاينبغي الغفلة عن إتهامه ريثما تتكشف الحقائق. ونختتم البحث بالعبارات الواردة في خطبة الجهاد حيث قال(عليه السلام): «ألا وإنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وأعلاناً وقلت لكم: إغزوهم قبل أن يغزوكم: فواللّه ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلاّ ذلوا». (1)
لعل هنالك من يتساءل لم كل هذه الشدّة من الإمام(عليه السلام) مع أصحابه ومخاطبتهم بهذه اللكمات وتحقيرهم إلى هذا الحد، أفليس من الأفضل أن يرفق بهم ويتلطف معهم؟
الجواب: بينا الإجابة على ذلك كراراً في الخطب السابقة، وقلنا أنّ ذلك يمثل آخر الدواء، وكأنّه عملية لاستئصال مرض عضال.
1. نهج البلاغة، الخطبة 27.
ومن كلام له(عليه السلام)
في الخوارج لما سمع قولهم: «لا حكم الا اللّه»
خطبها(عليه السلام) بعد موقعة صفين حين إعترض عليه الخوارج بقبول التحكيم وانتخاب ممثلين أحدهما من أصحاب الإمام والآخر من أصحاب معاوية لهذا الأمر ليحكما بشأن عاقبة موقعة صفين وخلافة المسلمين، بينما يصرح القران «إِنِ الحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ» (1) فاقتبسوا من الآية قولهم «لاحكم إلاّ للّه» ليحتجوا بها على الإمام(عليه السلام)، وبالطبع فان هنالك مغالطة كبرى وقعوا فيها ولم يدركوا حقيقة الامر. فلما سمع الإمام(عليه السلام)هذا الشعار، رد بهذه الخطبة وأشار فيها إلى أربعة أمور:
الأول: كشف النقاب عن مغالطتهم في هذا الشعار، وأنّ القول «لا حكم إلاّ للّه»كلمة حق يريدون بها باطلاً.
الثاني: حاجة الاُمّة إلى الحاكم، وبعبارة اُخرى ضرورة الحكومة.
الثالث: شرح وظائف الحاكم العادل وايجازها في سبع.
الرابع: نتيجة وجود الحكومة العادلة.
وقد نقل المرحوم السيد الرضي (ره) آخر هذه الخطبة نفس هذا المضمون طبق رواية أخرى بعبارات أقصر.
—–
1. سورة الانعام / 57; سورة يوسف / 40 و67.
«قالَ(عليه السلام): كَلِمَةُ حَقّ يُرادُ بِها باطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ: لا إِمْرَةَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَإِنَّهُ لا بُدَّ لِلنّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فاجِر يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيها الْكافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللّهُ فِيها الاَْجَلَ وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيْءُ، وَيُقاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ; حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَراحَ مِنْ فاجِر.
فِي رِوايَة أُخْرَى أَنَّهُ(عليه السلام) لَمّا سَمِعَ تَحْكِيمَهُمْ قالَ: حُكْمَ اللّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ. وَقالَ: أَمّا الاِْمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيها التَّقِيُّ، وَأَمّا الاِْمْرَةُ الْفاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيها الشَّقِيُّ، إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَتُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ».
—–
أشار الإمام(عليه السلام) إلى الشعار الذي رفعه الخوارج «لاحكم إلاّ للّه» بقوله «كلمة حق يراد بها باطل» ثم بين(عليه السلام)بطلان ما أراده الخوارج من تحريفهم لهذا الكلام الحق بقوله «نعم إنّه لاحكم إلاّ للّه ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلاّ للّه» خطأ الخوارج في هذا الشعار الحق الذي إقتبسوه من القرآن أنّهم أرادوا به أن الحكومة بين الناس للّه، ومن هنا فقد إعترضوا على مسألة التحكيم ورأوها نوعاً من الشرك، وذلك لأنّها منحت الحكومة لغير اللّه من الأفراد! فمن البديهي أن يكون الحاكم بين الناس هو اللّه إذا كان الحكم مقتصراً على اللّه، وعليه لابدّ من إزالة أصل الحكومة، لَما وعليه من إزالة القضاء والمحاكم بالتبع فهى من قبيل الحكومة التي يمارسها الأفراد. لقد خيل لتلك الفئة أنّها تريد أن تعيش توحيد اللّه على مستوى الحاكمية والتخلص من الشرك في هذا المجال، إلاّ أنّهم إثر جهلهم وتعصبهم سقطوا في مستنقع الفوضى والهرج والمرج ورفض الحكومة في أوساط المجتمعات البشرية، واصيبوا بالهلوسة التي
جعلتهم يعتقدون بأنّ رعاية التوحيد تتطلب نفي كافة ألوان الحكومة والامرة، غير أنّهم سرعان ما وقفوا على بطلان مذهبهم في الحكومة لما شعروا بحاجتهم إلى من يتزعمهم ويحكم بينهم، رغم عنادهم الذي أفرزه جهلهم والذي لم يدعهم يفيقون إلى أنفسهم. مع ذلك فقد قضت كلمات الإمام(عليه السلام)مضاجعهم واستطاعت أن تفعل فعلها في ميدان القتال فجعلت الكثير منهم يعودون إلى رشدهم فيعلنوا توبتهم بعد أن وقفوا على عمق إنحرافهم، على كل حال فانّ الإمام(عليه السلام)يؤكد في هذه الخطبة أنّ الحاكم وا لمشرع الاصلي هو اللّه سبحانه; حتى الحكم بين الناس لابدّ أن يستند إلى تخويل منه، إلاّ أنّ هذا لايعني أن اللّه ينبغي أن يحضر بنفسه في المحاكم ليقضي ويحكم بين الناس، أو أن يأخذ بزمام الاُمور فيمارس وظيفته كرئيس للبلاد أو والياً وعاملاً على منطقة، أو أن يوكل هذه المهمة إلى الملائكة فيبعثهم إلى الأرض. فهذا كلام عبثي ولغو فارغ لا يرتضيه من كان له أدنى فهم وإدراك، إلاّ أنّ المؤسف هو أن هذه الفكرة كانت متأصلة في أفكار الخوارج، ومن هنا خالفوا أميرالمؤمنين(عليه السلام)واعترضوا عليه: لم قبلت التحكيم؟! وصرح بعض شرّاح نهج البلاغة بأنّ الخوارج يزعمون أن الحكم يتطلب الاذن الإلهي ولابدّ أن يصرح القرآن بهذا الأمر، بينما لم يأذن القرآن لأحد. ولعل هذا هو الذي دفع بعض الاعلام(1) لأن يستدلون على نفي عقيدة الخوارج بالآية القرآنية الشريفة الواردة بشأن الحكم في الاختلافات العائلية (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِـيماً خَبِـيراً)(2). فاذا كانت هذه المسألة الصغيرة تحتاج إلى الحكم فما ظنك بالمسائل المهمة التي يدعو الاختلاف فيها إلى تفشي الهرج والمرج في صفوف المجتمع، أفلا ينبغي فصل هذه الاختلافات وحلها عن طريق الحكم؟! ومن هنا يرى البعض أنّ الإمام(عليه السلام)لم يكن مخالفاً لمسألة التحكيم في بعض الحالات، إلاّ أنّه لم يكن يوافق شخص الحكمين وكان يعترض عليهما بشدة.
ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه في ضرورة تشكيل الحكومة، لأنّ لخوارج. كما أشرنا سابقا ـ لم
1. العلاّمة الخوئي 4 / 183 من شرح نهج البلاغة قد أشار إلى هذا المعنى، ويستفاد من التأريخ الكامل لابن أثير أن ابن عباس احتج على الخوارج بهذه الآية (الكامل 3 / 327).
2. سورة النساء / 35.
يخالفوا مسألة التحكيم في صفين فحسب، بل شككوا في أصل الحكومة وزعموا عدم الحاجة إلى الحاكم، إلاّ أنّهم رجعوا عن ذلك لما أمروا عليهم عبداللّه بن وهب الراسبي(1). ثم علل الإمام(عليه السلام) ضرورة تشكيل الحكومة والحاكم «وإنّه لابدّ للناس من أمير بر أو فاجر» ليذكر سبعة فوائد تترتب على قيام الحكومة بعضها يتصل بالجانب المعنوي والبعض الآخر بالجانب المادي وهى: أولاً: «يعمل في إمرته(2) المؤمن».(3)
ثانياً: «ويستمتع فيها الكافر»، ثالثاً: «ويبلغ اللّه فيها الاجل»، رابعاً: «ويجمع به الفيئ»، خامساً: «ويقاتل به العدو» سادساً: «وتأمن به السبل» سابعاً: «ويؤخذ به للضعيف من القوي». ثم تفضي هذه الوظائف السبع إلى هذه النتيجة النهائية المترتبة على الحكومة «حتى يستريح بر ويستراح من فاجر». ويدل التأريخ السياسي أنّ فئة قليلة جداً في الماضي وحتى في الوقت الراهن هى التي لاترى ضرورة تشكيل الحكومة ـ مستدلة ببعض الأدلة الجوفاء التي سنشير لها في البحث القادم ـ والخوارج مصداق لهذه الفئة. وقد رد التأريخ بصراحة على هذه الفكرة الساذحِة فقد رأينا بأم أعيننا وسمعنا بملئ آذاننا مدى الأخطار الجسام التي يواجهها المجتمع إبان إنهيار الحكومة ولو لساعات من قبيل قتل الأنفس وإراقة الدماء وعمليات السرقة والسلب والنهب التي تتعرض لها المؤسسات بل حتى بيوت الناس وانتهاك الاعراض والنواميس وانعدام الامن والاستقرار وسيادة الفوضى والهرج والمرج الاضطراب وشل حركة كافة النشاطات الاجتماعية; كما تصبح البلاد لقمة سائغة للاعداء الذين يعيثون في الأرض فساداً فلا يسلم المؤمن من شرهم ولا الكافر فتهضم جميع الحقوق ويعيش الناس الخوف والذعر فمما لاشك فيه أن الف باء الحياة إنّما يكمن في إستتباب الأمن والنظام، ثم وجود العناصر المقتدرة التي تقف كالطود الشامخ بوجه العدو الخارجي وعملائه في الداخل، ولا يتيسر مثل هذا الأمر إلاّ في ظل الحكومة. وهنا يبرز هذا السؤال: هل يسع الحاكم الفاجر أن يقوم بالوظائف السبع المارة الذكر التي يقوم بها الحاكم البر والعادل؟ فقد
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 308.
2. «إمرة» على وزن عبرة مصدر أو إسم مصدر من مادة «أمر»، و«الامرة» هنا بمعنى الحكومة.
3. واضح ان الضمير في إمرته يعود إلى مطلق الامير سواء البر أو الفاجر وكذلك ضمير فيها، وليس صحيح ما اورده بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ الأول يعود إلى البر والثاني إلى الفاجر، أو كلاهما للفاجر.
ذكرها الإمام(عليه السلام)لكليهما، بحيث يقوم كل منهما بهذه الوظائف. وللإجابة على هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلى هذه النقطة وهى أنّ الحاكم البر إنّما يقوم قطعا بمثل هذه الوظائف، إلاّ أنّها ليست كذلك بالنسبة للفاجر بصورة مطلقة نعم يمارسها بصورة نسبية، فهو مضطر لاستمرار حكومته أن يراعي النظام، ويقف بوجه العدو الخارجي ويحول نسبيا دون ظلم الظلمة، وان كان في حد ذاته ظالماً; والاّ فان الناس ستخرج عليه وتتزلزل دعائم حكومته فيطيح به الأعداء، ومن هنا فانّ أغلب الحكومات مهما كان تتسعى فهى جاهدة للقيام بتلك الوظائف المذكورة. ونخلص ممّا سبق أنّ أية حكومة تتساهل في الوظائف المذكورة إنّما تكون قد مهدت السبيل إلى تصدع كيانها وإنهيارها. السؤال الآخر هو أنّ الإمام(عليه السلام) قد فرق بين المؤمن والكافر. فقال(عليه السلام) بشأن المؤمن «يعمل» والكافر (يستمتع) فما علة ذلك؟ والجواب هو أنّ المؤمن لايهدف في حياته إلى الاستفادة من الامكانات المتاحة من أجل التمتع العابر، بل هدفه الأصلي الفوز برضى اللّه، وما إستفادته من متع الدنيا إلاّ بالتبع وكونها مطلوباً ثانوياً، وليس الحال كذلك بالنسبة للكافر، فهو ليس فقط لا ينشد رضى اللّه، بل يقصر همه على هذه الحياة الدنيا ليتمتع فيها وإن كان ذلك من خلال الحرام والطرق اللامشروعة، ومن هنا صرح الإمام(عليه السلام)بأنّ الحكومة ضرورة للطرفين المؤمن والكافر، يعمل فيها هذا ويتمتع فيها ذاك، ولولا الحكومة لما وسع المؤمن العمل ولا الكافر الاستقرار والتمتع.
—–
قال السيد الرضي (ره) في ذيل هذه الخطبة، وفى رواية أخرى أنّ الإمام(عليه السلام)لما سمع تحكيمهم قال: «حكم اللّه أنتظر فيكم» فالعبارة يمكن أن تكون إقتباساً من كلامهم للرد عليهم فأنتم تقولون الحكم للّه، وأنا أنتظر هذا الحكم فيكم، فانّه سيحكم فيكم بالعقاب الشديد لهذه اللجاجة والجهل وتفريق صفوف المؤمنين. أو أني انتظر اتمام الحجة عليكم فمن بقي على جهله وتعصبه أجريت عليه حكم اللّه. ثم أضاف السيد الرضي (ره) ـ على ضوء هذه الرواية ـ وقال(عليه السلام)«أما الامرة البرة فيعمل فيها التقي، وأما الامرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي، إلى أن تنقطع مدته وتدركه منيته». ولكن بالاستناد إلى مفهوم هذه العبارة في أن الفجار يحرمون من التمتع المباح في حكومة البر، ولا يستشعر المؤمنون الاستقرار والسكنية في
ظل حكومة الفاجر (وهذا يتناقض وهدف الخطبة في أنّ الحكومة ضرورة برة كانت أم فاجرة) يبدو أنّ الرواية الاولى أصح وأنسب وأدق.
هذا وقد ورد في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ما يوضح العبارة المذكورة «حكم اللّه أنتظر فيكم»: لما رجع علي(عليه السلام) من صفين إلى الكوفة، أقام الخوارج حتى جموا (جموا بمعنى إستراحوا وكثروا) ثم خرجوا إلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء، فنادوا: لا حكم إلاّ للّه ولو كره المشركون: ألا أنّ علياً ومعاوية أشركا في حكم اللّه. فدخل واحد منهم على علي(عليه السلام)بالمسجد، والناس حوله، فصاح: لاحكم إلاّ للّه ولو كره المشركون، فتلفت الناس فنادى: لا حكم إلاّ للّه ولو كره المتلفتون، فرفع علي(عليه السلام) رأسه إليه. فقال: لا حكم إلاّ للّه ولو كره أبوحسن. فقال علي(عليه السلام): إنّ أبالحسن لايكره أن يكون الحكم للّه، ثم قال: حكم اللّه أنتظر فيكم. فقال له الناس: هلا ملت يا أميرالمؤمنين على هؤلاء فأفنيتهم! فقال: إنّهم لايفنون، إنّهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة. (1)
لم يقتصر تأويل الحقائق وتحريف الآيات القرآنية على الخوارج بغية الوصول إلى مآربهم وأهدافهم المشبوهة، بل إذا تصفحنا تأريخ البشرية لوجدنا قضية تحريف الحقائق من الحراب والوسائل الفعاله التي إعتمدها الظلمة والطواغيت على مر العصور. فقد مارس هؤلاء أبشع تحريف لكلام اللّه وكلام الأنبياء والأولياء وفسروها حسب أهوائهم وهم ينشدون هدفين: الهدف الأول خداع الناس والآخر خداع أنفسهم. وما قضية النمرود مع نبي اللّه إبراهيم(عليه السلام)وفرعون مع موسى(عليه السلام)والتي تطرقت لها أغلب الآيات القرآنية في سورة البقرة وطه وسائر السور منك ببعيد فقد كانوا يقولون كلمات حق ولا يريدون بها سوى الباطل من أجل خداع من حولهم والتغرير بهم. ونشاهد اليوم أبشع صور هذا التحريف وكلمات الحق التي يراد بها
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 310.
الباطل من قبيل كلماتهم في الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان والثقافة والحضارة والمدنية ومكافحة الارهاب وما إلى ذلك من الشعارات التي تلقلق بها ألسنة الطواغيت والجبابرة، ولا يريدون بها سوى الباطل، بل هنالك منافسة كبرى بين هؤلاء الطغاة في إنتخاب الشعارات البراقة الأكثر تأثيراً وخداعاً من أجل نيل أهدافهم المشؤومة. ومن هنا تشتد وظيفة العلماء الاعلام في ضرورة تنبيه الاُمّة إلى عظم الأخطار المحدقة وضرورة التحلي باليقظة والوعي وعدم الانزلاق وراء هذه الشعارات الزائفة ليرفعوا من مستوى الاُمّة الثقافي فلا تنطلي عليها خدع الاستكبار وألاعيبه.
إنّ مسألة تشكيل الحكومة تعد من المسائل التي كثر الحديث فيها الأوساط العملية على المستوى النظري دون أن يتسرب الشك إليها على المستوى العملي قط. فقد شهدت البشرية طيلة التأريخ قيام الحكومة سواء كانت قبيلة يتزعمها رئيس القبيلة أو هذه الحكومات الطبيعة التي يترأسها الملك والسلطان والحاكم، حتى تجلت اليوم بهذا الشكل الجماهيري فأصبح يقودها رئيس الجمهورية، ولا يحتاج قيامها إلى دليل فالمجتمع مهما كان حجمه إنّما يحتاج إلى الأمن والاستقرار ورعاية الحقوق والحيلولة دون نشوب النزاعات والخلافات، ولا تتيسر مثل هذه الاُمور إلاّ في ظل الحكومة ووجود الحاكم. وقد أتضحت هذه المسألة اليوم أكثر في المجتمعات المعاصرة، فهنالك الفعاليات والأنشطة الثقافية والاقتصادية والسياسية التي لا يكتب لها النجاح لولا الاشراف المباشر من قبل الحكومة، بل الحكومة هى تبلور هذه الأنشطة أن تركت ممارستها وتنفيذها لأبناء المجتمع، إلاّ أن هنالك بعض الأفراد والنزعات في الماضي والحاضر التي تتبنى شعار غياب الحكومة وعدم الحاجة إليها وأنّ الشعب قادر على إدارة شؤونه دون قيام الدولة، بل ذهب الماركسيون أبعد من ذلك ليصرحوا بانّ فلسفة قيام الدولة إنّما تنبع من فكرة حفظ المصالح الطبقية! والرأسماليون هم الذين ينهضون بهذه المهمة، فاذا ما أزيلت الفوارق الطبقة فانّ فلسفة تشكيل الحكومة ستنتفي ولا تعد هناك ضرورة لقيامها، إلاّ أنّ الماركسية وسائر النزعات عجزت حتى الآن عن طرح
نموذجها العملي في الميدان; الأمر الذي يؤكد خواء هذه النزعات وإقتصارها على الجوانب النظرية، لقد تناسى أصحاب هذه النظريات أنّ وظيفة الدولة والحكومة ـ ولو سلنا لما ذكروه ـ لاتقتصر على حفظ المصالح الطبقية، بل هنا لك سلسلة من البرامج الاجتماعية والمشاريع والمخططات المرتبطة بكافة الأفراد في جميع المجالات والتي تنهض بعبئها الدولة. فالتربية والتعليم ضرورية لجميع الطبقات، فهل يمكن القيام بهذه الوظيفة دون برمجة وإختيار من ينهض بمسؤولية هذا العمل؟ الاُمور الاقتصادية في المجتمع في القطاع الزراعي والصناعي والتجاري والتي يتطلب كل حقل منها تخطيط شامل وكامل وتحتاج إلى إدارة صحيحة ووزير، قطاع الصحة المرتبط بكافة أبناء الشعب والذي يحتاج بدوره إلى مشاريع وبرامج تخصصية وإشراف تام، فهل يمكن قيام مثل هذه الاُمور في حالة غياب الدولة ناهيك عن النزاعات والخصومات والحاجه إلى البت في الدعاوى من قبيل الجهاز القضائي والمحاكم، وكل هذه الاُمور هى الاخرى لا تحقق إلاّ في ظل تشكيل الحكومة، والتي تتقوم برئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية وما شابه ذلك. ومن هنا كانت الاُمم والشعوب رغم اختلاف أفكارها وعقائدها، إلاّ أنّها تتبنى نوعاً من أنواع الحكومة. وهذا هو الأمر الذي أشار إليه الإمام(عليه السلام) في الخطبة كما تطرق إلى ذكر الوظائف الملقاة على عاتق الحاكم، كما قال في موضع آخر بهذا الشأن «سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم»(1) حيث أشرنا سابقاً إلى أنّ الحكومات مهما كانت ظالمة متجبرة الا أنّها تسعى لأن تراعي جانب الأمن والعدل وما إلى ذلك، مع العلم أنّها قد تظلم إلاّ أنّها على الأقل لا تدع الآخرين يمارسون الظلم، فالحكومة عادلة كانت أم ظالمة لن تدوم في ظل الفوضى والاضطراب، وأنّها تؤول لا محالة إلى السقوط الانهيار، ومن هنا فانّ كافة الحكومات تسعى للحيولة دون الهرج والمرج وتقدم مشاريعها من أجل البناء والعمران، ولعل هذا المعنى يتجسد في ما أشار إليه الحديث المعروف «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم».
—–
1. ميزان الحكمة 1 / 98.
قال ابن أبي الحديد في تعليقه على هذه الخطبة: هذا نص صريح منه(عليه السلام) بانّ الإمامة واجبة وقد إختلف الناس في هذه المسألة فقال المتكلّمون: كلمة الإمامة واجبة; إلاّ ما يحكَى عن أبي بكر الأصَمّ من قدماء أصحابنا أنّها غيرُ واجبة; إذا تناصفت الأمّة; ولم تتظالم.
وقال المتأخّرون من أصحابنا: إنّ هذا القول منه غيرُ مخالف لما عليه الأمّة; لأنه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمورُ الناس من دون رئيس يحكم بينهم; فقد قال بوجود الرئاسة على كلّ حال; اللّهم إلاّ أن يقول: إنّه يجوز أن تَستَقيم أمورُ الناس من دون رئيس; وهذا بعيد أن يقوله: فأما طريق وجوب الإمامة ما هى؟ فإن مشايخَنا البصرييّن رحمهم اللّه يقولون طريق وجوبها الشرع، وليس في العقل ما يدلّ على وجوبها.
وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين، وشيخنا أبو الحسين رحمه اللّه تعالى: إنّ العقلَ يدلّ على وجوب الرياسة; وهو قول الإمامية، إلاّ أنّ الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب الإمامية منه الرئاسة، وذاك أنّ أصحابنا يوجبون الرئاسة عَلَى المكلّفين، من حيث كان في الرياسة مصالح دنيوية، ودفع مضارّ دنيوية. والإمامية يُوجبون الرئاسة عَلَى اللّه تعالى، من حيث كان في الرئاسة لُطْف وبعدٌ للمكلّفين عن مواقعة القبائح العقلية.
والظاهر من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام يطابِق ما يقوله أصحابنا، ألاَ تراه كيف علّل قوله: «لا بدَّ للناس من أمير»، فقال في تعليله: يُجَمع به الفىء، ويقاتَل به العدوّ وتؤمَن به السُّبل، ويؤخذ للضعيف من القوىّ! وهذه كلّها من مصالح الدنيا.
فإنْ قيل: ذكرتم أنّ الناس كافّة قالوا بوجوب الإمام، فكيفَ بقول أميرالمؤمنين عليه السلام عن الخوارج إنّهم يقولون: «لا إمرة».
قيل: إنّهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك، ويذهبون إلى أنّه لا حاجةَ إلى الإمام، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمّروا عليهم عبدَاللّه بن وهب الرّاسبيّ.
ويبدو أن خطأ إبن ابي لاحديد نابع من حصره الوظائف السبع التي ذكرها أميرالمؤمنين(عليه السلام)كهدف للحكومة بالمصالح المادية، والحال أنّ العبارة «يعمل في إمرته الؤمن»
إنّما تعالج المسائل المعنوية، لأنّ عمل المؤمن يهدف الآخرة ـ على كل حال وعلى فرض أنّ لكافة هذه الاُمور صبغة مادية، فانّ كلام الإمام(عليه السلام) يدور حول محور إمارة الناس وحكومتهم التي تشكل أحد الأبعاد الوجودية للإمام المعصوم، لأنّ عقيدة علماء الإمامية ومتكلميهم في الإمام إنّه الحاكم في اُمور الدين والدنيا والهادي إلى اللّه ومفسّر القرآن ومبين أحكامه وأعماله حجة على الناس، ومن هنا لابدّ أن يكون معصوماً، ومعلوم أن المعصوم لا يعرف سوى اللّه، ولذلك يعتقدون أن الإمام ينصب من جانب اللّه وقد أجاب بعض شرّاح نهج البلاغة على كلام إبن أبي الحديد بأنّ الخطبة تعالج قضية نصب الأمير وليست لها صلة بنصب الإمام من اللّه ولذلك قال(عليه السلام) «لابدّ للناس من أمير بر أو فاجر» ونعلم أن الامير الفاجر لايمكن أن يكون إماماً. الا ان ما أوردناه هو الجواب في أن الامارة جزء من مسؤوليات الإمام (لابدّ من الدقة في الأمر،) والشاهد على ذلك أن متكلمينا ذكروا في كتبهم العقائدية المصالح الدنيوية وما ورد في هذه الخطبة حين ذكرهم لأدلة وجوب نصب الإمام. بعبارة اُخرى فان الشيعة لاترى الامرة منفصلة عن الإمامة، أما الاذعان لامرة الفاجر فليست على أساس أنّها هدف نهائي، بل يدفع إليها الاضطرار حين تتعذر حكومة الإمام المعصوم.
—–
ومن خطبة له (عليه السلام)
وفيها ينهى عن الغدر ويحذر منه
أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى ثلاثة أمور مهمّة: الأول: أهمية الوفاء وصدق الحديث، وذم ناقضي العهد، الثاني: أنّ الخداع والغدر والخيانة ليست من العقل والذكاء كما يظن ذلك الغدرة الفجرة. والعقل والفطنة في الصدق والوفاء بالعهد.
الثالث: ضرورة إغتنام الفرص من أجل المبادرة إلى الآخرة والوفاء بالعهود والالتزام بالمواثيق.
—–
1. رواها ابن طلحة الشافعي في مطالب السئوال، صحيح أنّ ابن طلحة الشافعي عاش بعد السيد الرضي إلاّ أنّ رواية أبن طلحة تفيد أنّه عثر عليها في مصدر غير نهج البلاغة. ورواها الجاحظ في رسالة المعاش والمعاد وقال في مطلع الخطبة «الصدق والوفاء تؤامان» وهذا يدل على أنّه رأها في المصادر التي صنفت قبل الرضي (لأن الجاحظ عاش أوائل القرن الثالث بينما يعتبر السيد الرضي من كبار علماء أواخر القرن الرابع) مصادر نهج البلاغة 1 / 440.
«أَيُّها النّاسُ، إِنَّ الْوَفاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَلا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ وَما يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ. وَلَقَدْ أَصْبَحْنا فِي زَمان قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ. ما لَهُمْ قاتَلَهُمُ اللّهُ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَها مانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللّهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُها رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ».
—–
لم يذكر شرّاح نهج البلاغة ـ حسب علمنا ـ سبب إيراد هذه الخطبة، إلاّ أنّ الرابطة المعنوية بين هذه الخطبة والخطبة رقم 35 وسائر القرائن تشير إلى انّ هذه الخطبة ناظرة لمعركة صفين وقضية التحكيم، لأنّ مسألة التحكيم المأساوية إتخذت أبعاداً واسعة في البحث والنقاش بين صفوف المسلمين ـ ولعل بعض الجهال نسب مكر عمرو بن العاص وخيانته وغدره إلى الكياسة والفطنة; الأمر الذي قد يشجع الآخرين لممارسة مثل هذه الأعمال الشائنة البعيدة عن الإسلام وتعاليمه الحقة، ومن هنا خطب الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة ليقبر هذه الأفكار المنحرفة ويحد من شياعها بين الناس، ثم عرض بالذم إلى المكرو والخديعة ونقض الميثاق وأشار إلى العواقب الوخيمة التي تفضي إليها هذه الأعمال ثم أثنى على الوفاء والصدق فقد إستهل الخطبة بخطاب الجميع «أيها الناس إن الوفاء توأم(1) الصدق». التوأم بمعنى الذي يولد مع الآخر في حمل واحد، ويستعمل بشأن كل شيئين يرتبطان معا برابطة وثيقة، ومن هنا فقد شبه الإمام(عليه السلام)فضيلتي الوفاء والصدق بالتوأم ولعل التمعن في مفهوم هاتين الصفتين ومصدرهما الفكري
![]() |
![]() |