—–

[ 394 ]

[ 395 ]

 

 

الخطبة(1) 56

 

 

 

ومن كلام له(عليه السلام)

 

يصف أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وذلك يوم صفين حين أمر الناس بالصلح

 

نظرة إلى الخطبة

هناك رأيان بشأن زمان الخطبة: فالبعض يعتقد أنّه ورد بشأن فتنة ابن الحضرمي بعد أن استشهد محمد بن أبي بكر على يد عمرو بن العاص فقد البصرة من قبل معاوية ليخرجها من حكومة الإمام علي(عليه السلام) حيث استولى عليها بمعونة جماعة من المنافقين. فلما بلغ الإمام(عليه السلام)ذلك من قبل ابن عباس يعزيه بمحمد بن أبي بكر خطب الخطبة، ثم بعث بجارية ابن قلامة السعدي المعروف بشجاعته فحاصر ابن الحضرمي مع سبعين من صحبه وقضى عليهم جمعياً. والرأي الآخر أنّ الإمام(عليه السلام)خطبها في صفين، حين اقترح على الإمام(عليه السلام)الصلح وقد ضغطوا على الإمام(عليه السلام)لقبوله. على كل حال فان الإمام(عليه السلام) خطب الناس لا متثال أوامره، ثم تطرق لا خلاص المسلمين في صدر الإسلام وأنّ سبب النصر يكمن في الانضباط والتسليم لأوامر النبي(صلى الله عليه وآله)، في إشارة إلى النصر سيكون حليفهم لو إستنّوا بهذه السنة وطاعوا الأوامر، والاّ ليس إمامهم سوى الفشل والهزيمة إذا عاشوا الفرقة والتشتت وعدم طاعة الاوامر.

—–


1. سند الخطبة: نقل ابن أبي الحديد هذا الكلام عن الواقدي ابن هلال قبل المرحوم السيد الرضي (ره) ورواها الزمخشري في ربيع الأبرار في الجزء الرابع من باب القتل والشهادة. وأضاف صاحب مصادر نهج البلاغة بعد ما اورد هذا الكلام انه من كلامه المعروف في مصادر العلماء السابقين وبعد السيد الرضي (مصادر نهج البلاغة 2 / 29).

[ 396 ]

[ 397 ]

 

 

 

 

«وَلَقَدْ كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ(صلى الله عليه وآله) نَقْتُلُ آباءَنا وَأَبْناءَنا وَإِخْوانَنا وَأَعْمامَنا، ما يَزِيدُنا ذَلِكَ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الاَْلَمِ وَجِدّاً فِي جِهادِ الْعَدُوِّ; وَلَقَدْ كانَ الرَّجُلُ مِنّا وَالاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا يَتَصاوَلانِ تَصاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخالَسانِ أَنْفُسَهُما أَيُّهُما يَسْقِي صاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنّا، فَلَمّا رَأَى اللّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الاِْسْلامُ مُلْقِياً جِرانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطانَهُ. وَلَعَمْرِي لَوْ كُنّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلا اخْضَرَّ لِلاِْيمانِ عُودٌ. وَايْمُ اللّهِ لَتَحْتَلِبُنَّها دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّها نَدَماً!»

—–

 

الشرح والتفسير

الوقوف المشرف إلى جانب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)

أشار إبن ميثم البحراني في شرحه إلى بعض الخطبة الذي لم يرد في كلام السيد الرضي (ره) والذي له تأثير على فهم مضمون هذه الخطبة، فقال: روى البعض أنّ الإمام(عليه السلام)خطب هذه الخطبة حين أراد الناس الصلح مع جيش معاوية (بينما كان الإمام(عليه السلام)مخالف ذلك ولو لا اصرار البعضى منهم لما وافق) فقد إستهل الإمام(عليه السلام)كلامه قائلاً: «إن هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ولا ليجيبوا إلى كلمة سواء حتى يرموا بالمناشر تتبعها العساكر، وحتى يرجموا بالكتاب تقفوها الجلائب، وحتى يجر ببلاده الخميس يتلوه الخميس، وحتى تدعق الخيول في نواحي أراضيهم، وبأعناء مشاربهم ومسارحهم، حتى تشن عليهم الغارات من كل فج عميق، وحتى يلقاهم قوم صدق صبر، ولا يزيدهم هلاك من هلك من

[ 398 ]

قتلاهم وموتاهم في سبيل اللّه إلا جدا في طاعة اللّه وحرصاً على لقاء اللّه. ولقد كنا مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) الفصل»(1) وعليه فانّ مصالحة هؤلاء القوم الجفاة لا تنطوي سوى على الاحباط والفشل، وذلك لأنّهم لايفهون منطق الصلح ولا يمكنهم التعايش مع الآخرين بسلام ولا يدركون سوى منطق القوة، وهذا ما كشفت عنه أحداث صفين. على كل حال واصل الإمام(عليه السلام)خطبته ليتحدث عن مقومات النصر وعوامل الفشل والهزيمة فقال(عليه السلام):«ولقد كنّا مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)نقتل آباءنا وابناءنا واخوننا واعمامنا» في إشارة إلى ضرورة عدم الالتفات إلى قرابة كائن من كان إذا وقف كعقبة أمام المسيرة، الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُ كُمْ وَأَبْناؤُ كُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِىَ اللّهُ بِأَمْرِهِ)(2) ثم قال(عليه السلام): «ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم»(3) وصبرا على مضض(4) الالم وجدا على جهاد العدو» فما أشار إليه الإمام(عليه السلام)بهذه العبارة إنّما يمثل واقعة تأريخية، فقد مثل أمام المسلمين في أغلب المعارك ولا سيما معركة بدر قرابتهم وعشيرتهم، فما كان من المسلمين إلاّ أن قاتلوهم بكل بسالة دون أن يكترثوا لتلك القرابة رغم احترام العرب المنقطع النظير للروابط القبلية. ثم قال(عليه السلام): «ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان(5) تصاول الفحلين يتخالسان(6) أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا» في إشارة إلى أنّه ليس من الضرروي أن ينتصر الحق على الباطل في كافة المعارك وطيلة المجابهة، فقد يتغلب الباطل على الحق أحياناً إلاّ أنّ الحق وعلى ضوء الوعد الإلهي منتصر في خاتمة المطاف ـ وعليه فلا تتوقعوا عدم بروز المشاكل خلال مجابهة أهل الشام، كما أنّ هذه المشاكل لا ينبغي أن تقود إلى


1. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2 / 146.

2. سورة التوبة / 24.

3. «لقم»: قال بعض أرباب اللغة وشرّاح نهج البلاغة تعني معظم الطريق أو جادته، واصلها من اللقم على وزن العفو بمعنى السرعة في الأكل.

4. «مضض» على وزن «مرض» بمعنى تجذر الهم في القلب مع الحرقة.

5. التصاول من صول على وزن قول أن يحمل كل واحد من الندين على الآخر.

6. «تخالس» من مادة «خلس» على وزن درس كل واحد منها يطلب اختلاس روح الآخر.

[ 399 ]

التمرد على أوامر الإمام(عليه السلام)، ما سيرة النبي(صلى الله عليه وآله)وصحبه إلاّ دليل واضح على هذا الأمر، ومن هنا قال(عليه السلام):«فلما رأى اللّه صدقنا أنزل بعدونا الكبت(1) وأنزل علينا النصر، حتى إستقر الإسلام ملقيا جرانه(2) ومتوئاً أوطانه» فالإمام(عليه السلام) أشار هنا إلى العامل الرئيسي لانتصار المسلمين الأوائل ويلوح إلى عناصر فشل أهل الكوفة، فقد نسب العامل الرئيسي للانتصار إلى صدق النية التي تمثل الدافع الأصلي للصمود والمقاومة أمام العدو والطاعة التامة للزعامة الربانية. ولو تلوثت هذ النية وسيطرت الأنانية على الإنسان، آنذاك ستكون إرادته وقراره مستنداً لاهوائه وطيشه وغروره; الأمر الذي يقود إلى الهزيمة والفشل. ومن الطبيعي ألا تشمل عنايات اللّه وألطافه ونصره مثل هؤلاء الأفراد، ثم خلص الإمام(عليه السلام)لهذه النتيجة: «ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ، ما قام للدين عمود ولا إخضر للايمان عود» فهل تعلمون من قوم في أي عصر ومصر إنتصروا يفرقتهم واختلافاتهم، فاذا رجعتم قليلا إلى الوراء لرأيتم أنّ النصر الخاطف الذي حققه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) خلال تلك المدة القصيرة حتى ترسخت دعائم الدين واتسع نطاق الإسلام ليشع بنوره على ظلمات الشرق والغرب فانّ ذلك كان بفضل الإيمان والطاعة والجهاد، بينما تمارسون الآن عكس ذلك وتحلمون بالنصر. وأخيراً يحذرهم(عليه السلام)بالقول: «وأيم اللّه لتحتلبنها دماً، ولتتبعنها ندماً».

فقد تضمنت العبارات الاخيرة للإمام(عليه السلام) ثلاثة تشبيهات: الأول: تشبيه الإسلام بالخيمة واعمدته الجهاد. حيث نعلم بأنّ الخيمة موضع الأمن والراحة من الحرارة المحرقة والبرودة القارسة، الإسلام هو الآخر موضع أمن البشرية ووسيلة نجاتها من العواصف القاتلة. الثاني: تشبيه الإيمان بالشجرة التي إخضرت غصونها بدماء المؤمنين في صدر الإسلام. والثالث: تشبيه الحكومة بالناقة التي تحتلب الدم بدلاً من اللبن بسبب تعفن ضرعها أو العبث والإفراط في إحتلابها، أي أنّها، أعطت نتيجة معكوسة، فاللبن من أفضل طعام الإنسان ومواده الغذائية، أمّا الدم فهو ليس بغذاء، بل مادة سامة مفسدة. وأخيراً فقد تحققت نبوءات الإمام(عليه السلام) بشأن تلك الطائفة الطاغية، حيث تسلط عليهم الظلمة الذين ساموهم سوء العذاب.


1. «كبت» على وزن ثبت بمعنى الاذلال.

2. جران البعير مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره، القاء الجران كناية عن التمكن، فالعبارة كناية عن إتساع رقعة الإسلام ونصر المسلمين واستقرار الإسلام في مختلف بقاع العالم.

[ 400 ]

تأمّلان

1 ـ ثاني فتن البصرة

كانت البصرة أحد المراكز الإسلامية المهمة والبوابة إلى العالم الخارجي ومن هنا كانت السيطرة عليها قضية مهمة. ولذلك كان يسعى معاوية للسيطرة عليها كما ورد في ورود الخطبة. ويرى البعض أن الإمام (عليه السلام) خطبها لإخماد فتنة أخرى في البصرة. فقد طمع معاوية بالبصرة بعد قتل عامل علي(عليه السلام) فيها محمد بن أبي بكر، فكتب كتابا إلى أنصاره في البصرة وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم وقد إنتخب «ابن الحضرمي» واليا على البصرة فحث الناس للقيام على خليفة عامل الإمام(عليه السلام) عليها «زياد بن عبيد» فاستجاب له البعض ومنهم الخوارج فسيطروا على أجزاء من البصرة وقتلوا سفير الإمام(عليه السلام) «أعين بن صبيعه» فلما بلغ ذلك الإمام(عليه السلام) بعث بجارية بن قدامه إلى البصرة ليقرأ عليهم كتاب الإمام(عليه السلام).

سلام عليكم: أمّا بعد فإنّ اللّه حَليم ذو أنَاة، لا يَعْجَلُ بالعقوبة قَبْل البيّنة، ولا يأخذ المذنب عند أول وَهْلة، ولكنه يقبل التوبة، ويستديم الأناة، ويرضى بالإنابة; ليكون أعظمَ للحجّة، وأبلغ في المعذرة، وقد كان من شقاق جُلّكم أيّها الناس ما استحققتم أن ْ تعاقَبوا عليه، فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السَّيْف عن مُدْبركم، وقبلت من مُقْبلكم، وأخذت بيعتَكم، فإن تَفُوا ببْيعتي، وتقبلُوا نصيحتي، وتستقيموا على طاعتي، أعملْ فيكم بالكتاب والسنة وقَصْد الحق، وأُقِمْ فيكم سبيل الهدى، فواللّه ما أعلم أنّ والياً بعد محمد صلى اللّه عليه وآله أعلمُ بذلك منِّي، ولا أعمل بقولي. أقول قولي هذا صادقاً، غيرَ ذامّ لمن مَضى، ولا منتقصاً لأعمالهم، وإن خَبَطَتْ بكم الأهواء المُرْدِية، وسَفَهُ الرأي الجائر إلى منابذتي، تريدون خِلافي! فها أنا ذا قَرَّبْتُ جيادي، وَرَحَلْت ركابي، وايمُ اللّه لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأُوِقَعنّ بكم وَقْعَةً، لا يكون الجمل عندها إلاّ كلَعْقَة لاعق، وإنى لظانّ ألاّ تجعلوا ـ إن شاء اللّه ـ على أنفسكم سبيلاً. وقد قدمّت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم، ولنْ أكتبَ إليكم من بعده كتاباً، إن أنتم استغششتم نصيحتي، ونابذْتُم رسولي، حتى أكونَ أنا الشَّاخص نحوكم، إن شاء اللّه تعالى. والسلام.

فلما قرأها عليهم تأثروا تأثرا شديدا، بينما واصل البعض منهم عناده، فواجهوا ابن

[ 401 ]

الحضرمي وهزموه، فلاذ مع سبعين من صحبه بدار ولم يكن أمام جارية من سبيل سوى إحراق الدار فقتلوا فيها جميعا.(1)

—–

قال: وروى كعب بن قعين أنّ عليّاً عليه السلام كتب مع جارية كتاباً، وقال: اقرأه عَلَى أصحابك، قال: فمضينا معه، فلما دخْلنا البصرة، بدأ بزياد، فرحّب به وأجلَسه إلى جانبه، وناجاه ساعة وساءلَهُ، ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أنْ قال: احذَرْ على نفسك، واتَّقِ أن تَلْقَى ما لِقَي صاحبُك القادمُ قَبْلك.

وخرج جارية من عنده، فقام في الأزد، فقال: جزاكم اللّه من حَىّ خيراً! ما أعظَم غَناءكم، وأحسنَ بلاءكم، أطوَعكم لأميركم! لقد عرفتم الحقَّ إذ ضَيّعه مَنْ أنكره، ودَعَوْتم إلى الهدى إذ تركه مَنْ لم يعرفه. ثم قرأ عليهم على مَنْ كان معه من شيعة عليّ عليه السلام وغيرهم ـ كتابَ عليّ عليه السلام، فإذا فيه:

من عبداللّه عليّ أميرالمؤمنين إلى مَنْ قرئ عليه كتابي هذا من ساكِني البصرة من المؤمنين والمسلمين:

قال: فلما قرئ الكتاب على الناس قام صَبْرة بن شَيْمان، فقال: سمعنا وأطعنا ونحن لمنْ حارب أميرالمؤمنين حَرْب، ولمن سالم سِلْم; إن كَفَيْتَ يا جارية قومَك بقومك فذاك، وإن أحببت أنْ ننصرك نصرناك.

وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك ونحوه، فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه، ومضى نحو بني تميم.

فقام زياد في الأزد، فقال:

يا معشر الأزْد، إنّ هؤلاء كانوا أمس سِلماً، فأصبحوا اليوم حرباً، إنكم كنتم حَرْباً فأصبحتم سلماً، وإني واللّه ما اخترتكم إلاّ على التجربة، ولا أقمت فيكم إلاّ على الأمل، فما رضيتم أن أجرتموني، حتى نصبتم لي منبراً وسريراً، وجعلتم لى شُرَطاً وأعواناً، منادياً وجمعة،


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/34 باختصار شديد.

[ 402 ]

فما فقدت بحضرتكم شيئاً إلاّ هذا الدرهم، لا أجْبيه اليوم، فإن لم أجْبه اليوم أجْبِه غدا إن شاءاللّه. واعلموا أنّ حربكم اليومَ معاوية أيسر عليكم في الدنيا والدين من حربكم أمس عليّاً، وقد قدم عليكم جارية بن قدامة، وإنّما أرسله عليّ ليصدَع أمرَ قومه، واللّه ما هو بالأمير المطاع، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أميرالمؤمنين أو لكان لي تبعاً، وأنتم الهامةُ العظمى، والجزمرة الحامية، فقدِّموه إلى قومه، فإ اضطر إلى نصركم فسيروا إليه، إن رأيتم ذلك.

فقام أبو صبرة شَيْمان فقال: يا زياد، إني واللّه لو شهدتُ قومي يومَ الجمل، رجوتُ ألاّ يقاتلوا علياً، وقد مضى الأمرُ با فيه. وهو يوم بيوم، أمْر بأمر، واللّهُ إلى الجزاء بالإحسان أسرعُ منه إلى الجزاء بالسيّيء، والتوبة مع الحقّ، والعفْو مع الندم، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء، واستئناف الاُمور، ولكنها جماعة دماؤها حرام، وجرُوحها قصاص، ونحن معك نحبّ ما أحببتَ.

فعجب زياد من كلامه، وقال: ما أظنُّ في الناس مثل هذا.

ثم قام صبرة ابنه، فقال: إنا واللّه ما أصِبْنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصِبْنا أمس يوم الجمل، وانا لنرجوا اليوم أن نُمَحّص ذلك بطاعة اللّه وطاعة أميرالمؤمنين، وأمّا أنْتَ يا زياد، فواللّه ما أدركت أَمَلك فينا، ولا أدركْنَا أَملنا فيك دُون رَدّك إلى دارك، ونحن رادّوك إليها غداً إن شاءاللّه تعالى، فإذا فعلنا فلايكن أحدٌ أَوْلَى بك مِنّا، فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك، وإِنا واللّه نخاف من حرب عليّ في الآخرة، مالا نخاف من حرب معاوية في الدنيا، فقدّم هواك وأخِّر هوانا، فنحن معك وطوعك.

ثم قام خنقُر الحمانيّ، فقال: أيُّها الأمير، إنّك لو رضيت مِنّا بما ترضى به من غيرنا، لم نرض ذلك لأنفسنا، سِرْبنا إِلى القوم إن شئت، وايمُ اللّه مالقينا قوماً قطّ إِلا اكتفينا بعفونا دون جَهْدنا; إلاّ ما كان أمس.

قال إبراهيم: فأمّا جارية، فإنّه كلم قومه فلم يجيبوه، وخرج إليه منهم أوباشٌ فناوشوه بعد أنْ شتمه أسمعوه، فأرسل إلى زياد والأزْد، يستصرِخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه، فسارت الأزْد بزياد، وخرج إليهم ابنُ الحضرمىّ، على خيله عبداللّه بن خازم السُّلميّ، فاقتتلوا ساعة، أقبل شريك بن الأعور الحارثىّ ـ وكان من شيعة عليّ عليه السلام، وصديقا لجارية بن

[ 403 ]

قدامة ـ فقال: ألا أقاتل معك عدوّك؟ فقال: بلى; فما لبثت بنو تميم أنْ هزموهم واضطروهم إلى دار سنبيل السعدي; فحصروا ابنَ الحضرمىّ وحدُّوه، فأتى رجل من بنى تميم، ومعه عبداللّه بن خازم السلميّ، فجاءت أمى وهى سوداء جشية اسمها عجلي، فنادته، فأشرف عليها، فقالت: يا بُنّي، انزل إليّ، فأبى فكشفت رأسها وأبدت قِناعها، وسألته النزول فأبى، فقالت: واللّه لتنزلنّ أو لأتعرّينّ، وأهوت بيدها إلى ثيابها، فلما رأى ذلك نَزَل، فذهبت به، وأحاط جارية وزياد بالدّار، وقال جارية: عليَّ بالنار، فقالت الأزد: لسنا من الحريق بالنار في شيء; وهم قومُك وأنت أعلم، فحرّق جارية الدَّار عليهم، فهلك ابنُ الحضرمىّ في سبعين رجلاً; أحدهم عبدالرحمن بن عميربن عثمان القرشي التّيميّ; وسُمِّىَ جارية منذ ذلك اليم محرِّقاً; وسارت الأزْد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة; ومعه بيت المال، وقالت له: هل بقى علينا مِنْ جوارك شيء؟ قال: لا، قالوا: فبرّئنا منه؟ فقال: نعم; فانصرفوا عنه. وكتب زياد إلى أميرالمؤمنين عليه السلام:

أما بعد، فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قَدِم من عندك، فناهَضَ جَمْع ابن الحضرمىّ بمن نصره وأعانه من الأزد، ففضّه واضطره إلى دار مِنْ دور البصرة في عدد كثير من أصحابه، فلم يخرج حتى حكم اللّه تعالى بينهما، فقتِل ابنُ الحضرمى وأصحابه، منهم من أحرق بالنار; ومنهم من أُلْقى عليه جدار; ومنهم من هُدِم عليه البيت من أعلاه; ومنهم من قُتِل بالسيف، وسلم منهم نفر أنابوا وتابوا، فصفح عنهم، وبعداً لمن عصى وغوى! والسلام على أميرالمؤمنين ورحمة اللّه وبركاته.

 

2 ـ خصائص المسلمين الاوائل

أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى خصائص مسلمي صدر الإسلام في أنّهم كانوا مطيعين لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ولم يأبهوا بابائهم واخوانهم وابناءهم في ميادين القتال، فكانوا يصاولونهم ليجرعوهم القتل من أجل تحقيق الاهداف الإسلامية المقدسة. كانوا يتحلون بالاخلاص وصدق النية; الأمر الذي جعل اللّه يؤيدهم بنصره ويفيض عليهم من لطفه وفضله حتى إنتشر الدين واضاء نور الحق واليقين في أنحاء العالم. والحق لو أنّ المسلمين الأوائل كانوا على

[ 404 ]

غرار أهل الكوفة لما تنفس الإسلام وتنهنه حتى في مكة والمدينة، ولو كانت إرادتهم الفردية هى الحاكمة وتمردوا على أوامر قيادتهم الربانية لما اخضر عود شجرة الإسلام ولانهارت أعمدة خيمة الإيمان. وبالطبع فانّ كثيراً من اُولئك كانوا ممن أدرك عصر النبي(صلى الله عليه وآله)أو رأى أصحابه، إلاّ أنّ إرادتهم ضعفت ووهنت إثر تلك الأحداث التي أعقبت رحيل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، ولا سيما على عهد الخليفة الثالث واقبال الناس على الدنيا والاغترار بزخارفها والخلود إلى الراحة والدعة بعد تنامي الأموال والثروات بفعل الفتوحات الإسلامية، إلى جانب الدعاية الواسعة التي كان يمارسها المنافقون وأعداء الدين.

—–

[ 405 ]

 

 

الخطبة(1) 57

 

 

 

ومن كلام له(عليه السلام)

 

في صفة رجل مذموم، ثم في فضله هو(عليه السلام)

 

نظرة إلى الخطبة

هناك أبحاث بين شرّاح نهج البلاغة بشأن المقصود بكلام الإمام(عليه السلام) إلاّ أن المشهور أنّ المراد به معاوية. فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه: وكثير من الناس يذهب إلى أنّه(عليه السلام)عنى زياداً، وكثيراً منهم يقول إنّه عنى الحجاج أو المغيرة، والأشبه عندي أنه عنى معاوية، لأنّه كان موصوفا بالنهم وكثرة الأكل، وكان بطيناً، يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه. (2)

وروى أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية أنّ أباذر قال لمعاوية: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)قال: «إذا ولي الاُمّة الاعين الواسع البلعوم الذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الاُمّة حذرها منه»، كما أورد عدة روايات من المصادر المعروفة من قبيل تأريخ الطبري وتأريخ الخطيب وكتاب صفين عن أبي سعيد الخدري وعبداللّه بن مسعود أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، أو فاضربوا عنقه»(3) فالعبارات الواردة في الرواية والتي تشبه


1. سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة لقد روي هذا الكلام عن أميرَالمؤمنين(عليه السلام)كراراً من المحدثين قبل السيد الرضي (ره). وروى إبراهيم الثقفى في كتاب الغارات عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّ الإمام(عليه السلام)صعد منبر الكوفة فقال: «سيعرض عليكم سبّي...» كما روى هذا الكلام الكليني في الكافي والبلاذري في أنساب الاشراف والحاكم في المستدرك وشيخ الطائفة الطوسي في الامالي (مصادر نهج البلاغة 2 / 33).

2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 54.

3. مصادر نهج البلاغة، ذيل الخطبة.

[ 406 ]

عبارات الخطبة تفيد أنّها بشأن معاوية. والشاهد الآخر موضوع السب الذي ورد أخر الخطبة، حيث نعلم جميعاً بان معاوية كان يحرض الناس على سب أميرالمؤمنين(عليه السلام) من على المنابر، فهل من داع للتحري عن فرد آخر وردت بشأنه الخطبة سوى التعصب والعناد؟! على كل حال فانّ الإمام(عليه السلام) تحدث في هذه الخطبة عن حاكم نهم أكول مندحق البطن يأمر الناس بسبه والبراءة منه. ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى وظيفة الاُمّة حيال ذلك. وقد أثبت التأريخ صحة نبوءة الإمام(عليه السلام)التي تحققت في عهد معاوية.

وأخيرا أشار الإمام(عليه السلام) إلى بعض فضائله في آخر الخطبة.

—–

[ 407 ]

 

 

 

«أَمّا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ، يَأْكُلُ مَا يَجِدُ وَيَطْلُبُ مَا لا يَجِدُ، فَاقْتُلُوهُ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ أَلا وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَراءَةِ مِنِّي، فَأَمّا السَّبُّ فَسُبُّونِي، فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ، وَلَكُمْ نَجَاةٌ وَأَمّا الْبَراءَةُ فَلا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي، فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الاِْيمَانِ وَالْهِجْرَةِ».

—–

 

الشرح والتفسير

إحذروا العدو

كما أوردنا سابقا على ضوء الأحاديث والروايات أن الإمام(عليه السلام)تنبىء بحكومة معاوية وما تفضي إليه هذه الحكومة من مفاسد فقال: «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب، البلعوم(1)، مندحق(2) البطن، ياكل ما يجد ويطلب ما لايجد». يمكن أن تكون العبارة إشارة إلى وضعه الظاهري، حيث تفيد بعض الروايات أنّه كان بهذه الصفات، ومن هنا كان أكول، ويمكن أن تكون كناية عن حالته الروحية والنفسية في ظل الحكومة، في أنّه حريص وتوسعي ولا يشعبه شيئا من الحكومة، ولا يبعد أن يكون المراد كلا المعنيين الروحي والجسمي أو الحقيقي والكنائي، وذلك لانه جمع النوعين من هذه الصفات.

ثم قال(عليه السلام): «فاقتلوه ولن تقتلوه» قطعاً أنّ مخاطب الإمام(عليه السلام) بهذه العبارة هم أهل العراق، وكان يعلم الإمام(عليه السلام) بعدم قدرتهم على ذلك بسبب ضعفهم ووهن ارادتهم في إتخذا القرار، أو أنّهم قد يستطيعون قتله إلاّ أنّهم لايمتلكون الشجاعة والإرادة التي ترفعهم إلى ذلك. أمّا لماذا


1. «بلعوم» على وزن «حلقوم» موضع مرور الطعام، ورحب البلعوم واسعه، أو كناية لكثرة أكله.

2. «مندحق» من مادة «دحق» على وزن قطع بمعنى الدفع والابعاد وطرح الشي بعيداً، ولما كان كبر البطن يؤدي اِلى بروزها وكأنّها تطرح بعضها خارجا اِطلق على الشخص البطين مندحق البطن.

[ 408 ]

حكم الإمام(عليه السلام) بقتله، فأوضح بسبب هو ذلك الفساد الذي أشاعه بين المسلمين ليكون مصداقا بارزاً للمفسد في الأرض إلى جانب سلبه لأمن البلاد الإسلامية وأخيراً إثارته المعارك التي سفكت فيها دماء المسلمين. وناهيك عما سبق فقد ابتدع تلك البدع العظيمة التي غيرت معالم الدين إضافة إلى أمره بسبب أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)الذي قال بحقه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)«من سب عليا فقد سبني»(1). ثم تنبئ الإمام(عليه السلام)بهذه المسألة فقال: «إلاّ وإنّه سيأمركم بسبي والبراءة مني» وهذا بدوره يكشف عن مدى الحقد والضغينة التي كان يكنها معاوية لعلي(عليه السلام)رغم علمه بفضائله التي صرح بها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وسمعها القاصي والداني والتي تثبت بطلان حكومته، ومن هنا سعى جاهداً ليحول دون اطلاع أهل الشام على هذه الاحاديث تمهيدا إلى منعها بالمرة وتحريفها. ثم أصدر أوامره بسب علي(عليه السلام) من على المنابر وفى خطب صلاة الجمعة، حتى كان ينبرى أحدهم ليقول خير ما نختتم به خطبتنا سب أبي تراب، وبالطبع فانّ إشاعة السب تعني عدم إمكانية التحدث بالفضائل، وهذه أسوأ بدعة ابتدعها معاوية يتعذر تبريرها على أي متعصب حقود، وما أروع ما قال الشاعر بهذا الشأن:

أعلى المنابر تعلنون بسبه *** وبسيفه نصبت لكم أعوادها(2)

الجدير بالذكر أنّ بعض بطانة معاوية أذعن إلى أنّ السب بدعة ظالمة لترسيخ دعائم حكومة معاوية، ومنهم مروان بن الحكم، إلاّ أنّه لما سئل عن علة السب، أجاب: «إنّه لا يستقيم لنا الأمر ألا بذلك»(3). ثم أوصى الإمام(عليه السلام) بكيفية التعامل مع هذه البدعة فقال «فامّا السب فسبوني، فانه لي زكاة ولكم نجاة وأما البراءة فلا تتبرأ وامني، فاني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة». ويبدو من هذه العبارة أنّ السب أمر واجب الزامي لا إباحي لأنّه يتضمن حفظ دماء الشيعة وايصال مبادئ مدرسة أهل البيت(عليهم السلام). إلاّ ان هذا الأمر قد يكتسب صفة الاباحة كما عبر عن ذلك علماء الاصول حيث أمر الوجوب يقتصر على احتمال المنع لتوهم الخطر، ومن هنا فان بعض تلامذه الإمام(عليه السلام)كرشيد الهجري وميثم


1. رواه الحاكم في كتاب مستدرك الصحيحن 1 / 121 طبعة حيدر آباد.

2. بحارالانوار 45 / 137.

3. الغدير 10 / 264.

[ 409 ]

التمار وقنبر وسعيد بن الجبير الذين صمدوا وأبوا سبوا علي حتى قتلوا فأنّهم لم يرتكبو أي خلاف، بل أتوا بعمل عظيم أهلهم للشهادة. ويتضح ممّا سبق بأنّ المؤمن إذا عرض للاساءة من قبل العدو أو دفع الناس لانتهاك حرمته فانّ ذلك ليس فقط لا يحط من قدره فحسب، بل يزيده عزة وكرامة. وهنا يبرز هذا السؤال: ما الفرق بين السب والبراءة بحيث أذن الإمام(عليه السلام)بالسبب ولم يأذن بالبراءة لثلاث: أولاً: أنّه ولد على فطرة الإسلام والإيمان، ثانيا: أنّه كان من السابقين للإسلام والتصديق بالنبي(صلى الله عليه وآله)، والثالث: سبقه إلى الهجرة من مكة إلى المدينة؟ فقد كثر الكلام بين المفسرين بشأن الفارق بين السب والبراءة، لا يخلو بعضه من التكلف وعدم الاقناع، ويبدو أنّ الاقرب في الفارق بينهما أحد أمرين: الأول أنّ سب الإنسان قد يكون إشارة إلى سوءه ولا يعطي مفهوم الكفر والشرك، أمّا البراءة فتعني التبري من دينه ومعتقداته كما ورد ذلك في الآية الاولى من سورة التوبة: (بَرآءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَـدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِـينَ)وعليه فمفهوم البراءة من الإمام(عليه السلام) هو البراءة من الدين والإسلام، ومن هنا منع الإمام(عليه السلام) حتى من البراءة منه باللسان، فالواقع أنّ الإمام(عليه السلام) أذن بالإساءة إلى شخصه لكنه لم يأذن بالاساءة إلى دينه ولو لفظياً ـ والآخر أنّ أغلب الناس يتصورون أنّهم إذا إجبروا على كلام لا يمكنهم الاقتناع بالألفاظ ولابدّ من أن ترافقه النيّة، ومن هنا فمن اُجبر على إجراء صيغة الطلاق فانه لابدّ أن يقصد اللفظ والمعنى حين الصيغة، ان كان طلاق المكره باطلاً إلاّ أنّه يتضمن قصد الانشاء ولذلك لايستدل الفقهاء على بطلان هذا الطلاق بعدم قصد المعنى، بل يستندون في بطلانه على الاكراه، ويصدق هذا الأمر على السب، فقصد السب سيئ، الا أنّ قصد البراءة أسوأ، لأنّ الأول يهدف نفي حرمة الإنسان، أمّا الثاني فيهدف البراءة من دينه ومعتقده; أي إسلامه وليس هنالك من مسلم مستعد لهذا العمل. والدليل على ذلك الاُمور الثلاث التي ذكرها الإمام(عليه السلام) في نهيه عن البراءة:

الأمر الأول: «فانّي ولدت على الفطرة». أما كيف عَلّل نهيَه لهم على البراءة منه عليه السلام، بقوله: «فإنّي ولدْت على الفطرة»; فإن هذا التعليل لايختص به عليه السلام، لأن كلّ أحد يولَد على الفطرة; فقد قال النبي صلى اللّه عليه وآله: «كلّ مولد يولد على الفطرة; وإنّما أبواه يهودّانه وينصرانه».

[ 410 ]

والجواب، أنّه عليه السلام عَلّل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع اُمور وعلل; وهى كونه ولد على الفطرة، وكونه سبق إلى الإيمان والهجرة; ولم يعلل بآحاد هذا المجموع، ومراده ها هنا بالولادة على الفطرة أنّه لم يولَدْ في الجاهلية; لأنّه ولد عليه السلام لثلاثين عاماً مضت من عام الفيل; والنبي صلى اللّه عليه وآله أرسِل لأربعين سنة مضت من عام الفيل; وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنّه صلى اللّه عليه وآله مكَث قبل الرسالة سنين عشراً يسمع الصوت ويرى الضوء، ولا يخاطبه أحد; وكان ذلك إرهاصاً لرسالته عليه السلام فحُكْم تلك السنين العَشْر حكم أيّام رسالته صلى اللّه عليه وآله; فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولّى لتربيته مولود في أيام كأيام النبوّة، وليس بمولود في جاهلية محضة، ففارقت حالُه حال مَنْ يدعى له من الصحابة ممّاثلته في الفضل. وقد روى أنّ السَّنَة التى ولد فيها علىٌّ عليه السلام هى السنة التي بدئ فيها برسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فأُسمِع الهُتاف من الأحجار والأشجار، وكشف عن بصره، فشاهد أنواراً وأشخاصاً; ولم يخاطَب فيها بشيء. وهذه السَّنَة هى السنة التي ابتدأ فيها بالتبتّل والانقطاع والعزلة في جبل حراء، فلم يزل به حتى كُوشِف بالرسالة، وأنزل عليه الوحي، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يتيّمن بتلك السنة وبولادة عَليّ عليه السلام فيها، ويسِّميها سنَة الخَير وسنة البركة; وقال لأهله ليلة ولادته، وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية، ولم يكن مِنْ قبِلها شاهد من ذلك شيئاً: «لقد وُلد لنا الليلة مولود يَفْتَحُ اللّه علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة»، وكان كما قال صلوات اللّه عليه، فإنّه عليه السلام كان ناصره والمحامىَ عنه وكاشف الغّماء عن وجهه; وبسيفه ثبتَ دينُ الإسلام، ورست دعائمه، وتمهّدت قواعده عليه السلام.