باتوا على قلل الاجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنزلوا بعد عزمن معاقلهم *** واسكنوا حفرا يابئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الاساور والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الاستار والكلل

فافصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا دهراً وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد اُكلوا(1)

—–


1. بحارالانوار، 50 / 211.

[ 377 ]

 

 

القسم الثاني

 

«فَواللّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجالِ وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمامِ وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللّهِ مِنَ الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلادِ الْتِماسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفاعِ دَرَجَة عِنْدَهُ أَوْ غُفْرانِ سَيِّئَة أَحْصَتْها كُتُبُهُ وَحَفِظَتْها رُسُلُهُ لَكانَ قَلِيلاً فِيما أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوابِهِ وَأَخافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقابِهِ».

 

—–

 

الشرح والتفسير

السعي القليل وإن كثر

ما أن فرغ الإمام(عليه السلام) من تصوير حقيقة الدنيا وسرعة زوالها حتى تطرق إلى الثواب والعقاب في الآخرة ومصير الإنسان هناك على أنّها تمثل الهدف لهذه الدنيا. وبعبارة اُخرى كان القسم الأول من كلامه مقدمة لهذا القسم الذي يشير فيه إلى الهدف الغائي وهو القرب من اللّه ونيل ثوابه واجتناب عقابه فقال(عليه السلام): «فو اللّه لو حننتم(1) حنين الوله(2) العجال(3) ودعوتم


1. «حنين» بمعنى الشفقة والرأفة والرحمة وتقال عادة مقترنة بالأنين والألم، و «اُستن حنانة» تطلق على العمود الخشبي الذي ورد في الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستند إليه ويخطب الناس، ثم استبدل بالمنبر فكان ذلك العمود يتأوه لفراق النبي(صلى الله عليه وآله).

2. «وله» جمع «واله» و«والهة» من مادة «وله» على وزن ولع بمعنى شدة الهم الذي يذهب بالعقل ويفقد التمييز.

3. «عجال» جمع «عجول» من مادة «عجلة» بمعنى السرعة في العمل ، كما تطلق على المرأة التي تثكل بولدها.

[ 378 ]

بهديل(1) الحمام وجأرتم جؤار(2) متبتلي(3) الرهبان(4) وخرجتم إلى اللّه من الأموال والاولاد إلتماس القربة إليه في إرتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبه وحفظتها رسله لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه وأخاف عليكم من عقابه» فقد إستعار الإمام(عليه السلام) ثلاثة تشبيهات للتضرع إلى اللّه واستفراغ الجهد في الانقطاع إليه، التشبيه الأول: الصوت الذي تخرجه النوق الوالهة الفاقدة لأولادها، وهو الصوت الحزين الذي يرق له القلب حين سماعه، التشبيه الثاني: هديل الحمام حين إجتماعها، والهديل يطلق على فرخ الحمام كما يطلق على صوتها، وتعتقد العرب أنّ الهديل حمامة على عهد نوح(عليه السلام) بقيت وحدها وماتت عطشاً، ومنذ ذلك اليوم والحمام ينوح عليها، التشبيه الثالث: بكاء الرهبان المنقطعين عن الدينا القابعين في صومعاتهم، والذين ينوحون عند الطقوس الدينية وقد إشتد نياحهم بفعل إنقطاعهم عن الدنيا. ولم يكتف الإمام(عليه السلام) بهذا التضرع والنوح والبكاء فقال: «وخرجتم إلى اللّه من الأموال والاولاد» أي ولو تركتم أموالكم وأولادكم من أجل القرب إلى اللّه كان قليلاً. والدليل واضح على ذلك فالدنيا وما فيها لاتعدل جناح بعوضة من الآخرة، وهى ليست سوى قطرة إلى بحر، ومن الطبيعي أنّ الإنسان لايخرج من ماله وولده ما لم يقف على هذا المعنى. وقد وردت هذه المقارنة بين الدنيا والآخرة في خطبة المتقين بقوله(عليه السلام):«صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة»(5).

—–


1. «هديل» يطلق على الحمام كما يطلق أحياناً على نوحه وهو من الهدل على وزن العدل بمعنى الصوت العذب.

2. جؤار له معنى مصدري وهو الصوت المرتفع المشوب بالتضرع والنجدة.

3. متبتل من مادة تبتل بمعنى الإنفصال والإعتزال وتطلق على الرهبان الذين يعتزلون المجتمع وينهمكون بالعبادة. ومن ألقاب الزهراء(عليها السلام) البتول لإنقطاعها إلى الله وأفضليتها على سائر النساء في الفضل والعلم والمعرفة. وورد في بعض الروايات أن التبتل هو رفع اليد بالدعا.

4. «رهبان» جمع «راهب» من مادة «رهب» على وزن رحم بمعنى الخوف، الخوف مع ضبط النفس والرهبانية تعني شدة العبودية وترك الدنيا، وهى بدعة ابتدعها طائفة من النصارى، حيث يقاطع الفتى اَوالفتاة الزواج ويقبع في زاوية من الدير وينهمك بالعبادة، وقد ورد النهي عنها في الاسلام، فقد قال(صلى الله عليه وآله): «لا رهبانية في الاسلام».

5. نهج البلاغة، الخطبة 193.

[ 379 ]

 

 

القسم الثالث

 

«وَتاللّهِ لَوِ انْماثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِياثاً، وَسالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَة إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَة مِنْهُ دَماً، ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيا ما الدُّنْيا باقِيَةٌ، ما جَزَتْ أَعْمالُكُمْ عَنْكُمْ ـ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ ـ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظامَ، وَهُداهُ إِيّاكُمْ لِلاِْيمانِ».

—–

 

الشرح والتفسير

عظمة وسعة النعم الإلهية

يختتم الإمام(عليه السلام) خطبته بالحديث عن عظمة النعم الإلهية التي أفاضها اللّه على البشرية لإثارة حس الشكر لديه والتوجه إلى ربّه بما يقوده إلى السمو والرفعة والكمال والقرب من اللّه. فقال(عليه السلام): « وتاللّه لو إنّماثت قلوبكم انمياثاً(1)، وسالت عيونكم من رغبة إليه ورهبة منه دماً، ثم عمرتم في الدنيا، ما الدنيا باقية، ما جزت أعمالكم عنكم ـ ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم ـ أنعمه عليكم العظام، وهداه إياكم للايمان» فقد شرح الإمام(عليه السلام)بهذه العبارات البليغة أقصى جهود الإنسان كما وكيفا في طاعة اللّه، فمن ناحية الكيفية أنّه لو ذاب في طاعة اللّه واصطرخت كافة ذرات جسمه وحلقت روحه في سماء العبودية، ومن الناحية الكمية لو دام هذا العمل طيلة حياة ابن آدم، فمع ذلك لايسعه أن يؤدي حق شكر النعم الإلهية، بل شكر نعمة واحدة، حيث صرحت بعض الروايات بان ذات الشكر نعمة ينبغي للإنسان الشكر عليها. وما أروع ما قال الشاعر:


1. «انمياث» من مادة «موث» على وزن موت بمعنى الذوبان، وانمياث من باب الانفعال، ويعني في العبارة بذل قصارى الجهد في سبيل اللّه.

[ 380 ]

شكر الاله نعمته موجبة لشكره *** وكيف شكري بره وشكره من بره(1)

فالواقع أنّ الإمام(عليه السلام) أشار بتلك العبارة إلى عدم محدودية النعم الإلهية. وهو كالتعبير القرآني في الآية 27 من سورة لقمان بشأن علم اللّه: (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُـدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ) . نعم ليس للعبد سوى الاعراب عن ضعفه وعجزه أمام النعم الإلهية. الجدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام)يؤكد على نعمة الإيمان «وهداه إيّاكم للإيمان» من قبيل ذكر الخاص بعد العام. فقد أشار في العبارة السابقة إلى الأنعم الإلهية ثم خص هنا منها نعمة الإيمان على غرار ما جاء في القرآن الكريم: (بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاِْيمانِ)(2). ولا تتأتى أهمية الإيمان من كونها مفتاح سعادة البشر وجواز سفره إلى الجنّة فحسب، بل لأنّها الدافع لكافة الفضائل والأعمال الصحالة والرادع من الرذائل والأعمال السيئة، فالواقع هى أساس الدين والملفت للنظر في العبارة أنّه(عليه السلام)نسب الهداية للّه، وان حصل عليها الإنسان باختياره وإرادته; وذلك لتعذرها على الإنسان بمفرده ما لم تشمله العناية الإلهية ويرشده الأنبياء والأولياء والكتب الإلهية إليها، ومن هنا نسأل اللّه في صلواتنا اليومية ليل نهار الهداية.

ويبدو من الأهمية في نهاية الخطبة الإلتفات إلى هذه النقطة وهى أن القسم الأول لها بعد المقدمة حيث يعد القلوب من خلال تنبيهها إلى تقلب أحوال الدنيا وزوالها، بينما يوجهها في القسم الثاني والثالث إلى طاعة الله وكسب الفضائل ودفع الرذائل. مع هذا الفارق في تأكيد القسم الثاني على أهمية القرب من الله ومطلوبية كل سعي وجهد للوصول إلى هذا الهدف، أما القسم الثالث فيرد ساحة القدس الربوبي صاحب الفضل عن طريق مسألة شكر المنعم، فالوجدان هو الذي يشهد بضرورة هذا الشكر.

—–


1. بيت الشعر إقتباس من حديث عن الإمام السجاد والصادق(عليهما السلام)، بحارالانوار، 13 / 351 المناجاة الخمسة عشر مناجاة الشاكرين.

2. سورة الحجرات / 17.

[ 381 ]

 

 

الخطبة(1) 53

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

«فى ذكرى يوم النحر وصفة الاُضحية»

 

«وَمِنْ تَمامِ الاُْضْحِيَّةِ اسْتِشْرافُ أُذُنِها، وَسَلامَةُ عَيْنِها، فَإِذَا سَلِمَتِ الاُْذُنُ وَالْعَيْنُ سَلِمَتِ الاُْضْحِيَّةُ وَتَمَّتْ، وَلَوْ كانَتْ عَضْباءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَها إِلَى الْمَنْسَكِ».

—–

 

الشرح والتفسير

تمام الاُضحية

أشار الإمام(عليه السلام) في هذا الفصل من الخطبة إلى تفاصيل وجزئيات الاُضحية، وقال: «ومن تمام الاُضحية(2) استشراف(3) أذنها وسلامة عينها، فاذا سلمت الاذان والعين سلمت


1. سند الخطبة: ورد في كتاب مصادر نهج البلاغة أنّ هذه ليست خطبة مستقلة (بل هى جزء من الخطبة السابقة التي خطبها في الأضحى) ومن هنا عدتها نسخة إبن أبي الحديد التي تعتبر أصح النسخ جزءاً من الخطبة السابقة، اما أنّها وردت مستقلة في سائر النسخ فهذا من خطأ الرواة، والشاهد على ذلك أنّها وردت جزءا من الخطبة في كتاب من لا يحضره الفقيه (1 / 461) ومصباح المتهجد / 429. جدير ذكره أن العبارة التي وردت في كتاب من لايحضره الفقيه بعد «تجر رجلها إلى المنسك» «فلا تجزي» الذي يغير العبارة تماماً. ولايبدو ذلك مستبعداً، وان درجنا على السير في نهج البلاغة حسب تصنيف صبحي الصالح. مصادر نهج البلاغة، 2 / 23.

2. «الاُضحية»: الشاة التي طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عيد الأضحى.

3. «إستشراف» من مادة «شرف» بمعنى علو المقام، والمراد باستشراف الاذان تفقدها حتى لاتكون مجدوعة أو مشقوقة غير سالمة.

[ 382 ]

الاُضحية وتمت» ثم أضاف(عليه السلام): «ولو كانت عضباء(1) القرن تجر رجلها إلى المنسك» ولا يتتافى هذا الكلام مع ما تعارف بين الفقهاء وما ورد في سائر روايات المعصومين(عليهم السلام)من أنّ الاُضحية يجب أن تكون سالمة الرأس، لأنّ عضب قرنها الداخلي يضر بسلامتها لا قرنها الخارجي، كما لا يضر العرج البسيط الذي لا يعيقها عن الحركة. وجاء في بعض النسخ قوله: «فلا تجزي» بعد العبارة «تجر رجلها إلى المنسك» وعليه يصبح مفهوم العبارة عدم إجزاء الاُضحية إن كسر قرنها وكانت تجر رجلها على الأرض(2). قال السيد الرضي (ره) في ذيل الخطبة: «والمنسك هاهنا المذبح».

 

عِليّة سلامة الاُضحية من النقص والعيب

رغم أنّ الهدف من الضحبية هو إستفادة بعض المحتاجين منها كما صرح بذلك القرآن الكريم: (فَإِذا وَجَبَتْ جُـنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا القانِـعَ وَالْـمُعْتَرَّ كَذ لِـكَ سَـخَّرْناها لَكُمْ لَعَـلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(3) ومن المسلم به عدم وجود أي تأثير على هذا المعنى سواء كان قرنها سالماً أم لا، ولكن الاُضحية شعيرة إسلامية وعبادة، ولا يليق بالساحة القدسية للربّ سبحانه إختيار الشاة المعيبة والمريضة، ولابدّ من تقديم الخالصة فانّ ذلك نوع من الادب والاحترام; الأمر الذي نلمسه بوضوح في صلاة المرأة بكامل الحجاب، وارتداء الثياب النظيفة حين الصلاة، والتعطر عند العبادة وغسل الميت وتكفينه وتحنيطه وما إلى ذلك من الاُمور.

—–


1. «عضباء» من مادة «عضب» على وزن عزم بمعنى القطع أو الكسر، وعضباء القرن بمعنى مكسورة القرن، كما يطلق على الناقة إذا شقوا اذنها ناقة عضباء.

2. وردت العبارة «فلا تجزي» في كتاب من لا يحضره الفقيه 1 / 168 باب صلاة العيدين، ح 1487.

3. سورة الحج / 36.

[ 383 ]

 

 

الخطبة(1) 54

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

وفيها يصف أصحابه بصفين حين طال منعهم له من قتال أهل الشام.

 

نظرة إلى الخطبة

هناك خلاف بين الشرّاح بشأن زمان الخطبة، فقد ذكر صاحب مصارد نهج البلاغة أنّ جماعة سألوا الإمام(عليه السلام)عن رأيه بمن سبقوه بالخلافة لما غلب عمرو بن العاص على مصر وقتل عامل الإمام(عليه السلام)عليها محمد بن أبي بكر. فأجابهم(عليه السلام) وهل خمدت فتنة ابن العاص لتسألوا هذا السؤال وقد غلبكم على مصر وقتلوا صحبي، ثم قال: سأكتب كتاباً واُجيب على أسئلتكم. بينما ذهب البعض إلى أن بداية الخطبة مرتبط بزمان البيعة وذيلها بواقعة صفين. كما احتمل أن تكون في البيعة وموقعة الجمل إلاّ أنّ كل هذه الاحتمالات بعيدة، والظاهر أنّ الخطبة واردة بشأن صفين حين هم صحبه بالقتال، ويؤيد ذلك ما أورده المرحوم البحراني والشارح الخوئي من أنّها ناظرة إلى حال أصحاب الإمام(عليه السلام) في صفين حين منعهم من قتال أهل الشام.(2) وزبدة الكلام فانّ الإمام(عليه السلام)قال لما استبطأ اصحابه القتال: «وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى


1. سند الخطبة: يرى صاحب مصادر نهج البلاغة أنّ هذا الكلام جزء من الخطبة 26 و30 و54 و78، خطبها(عليه السلام)في بيته بحضور الناس ليدونوها وينقلوها إلى الآخرين. وقال في ذيل الخطبة 26 رواها قبل السيد الرضي (ره) الثقفي في الغارات والطبري في المسترشد والمرحوم الكليني في الرسائل نقلاً عن كشف المحجة للسيد ابن طاووس وابن قتيبة في الإمامة والسياسة (مصادر نهج البلاغة 1 / 390).

2. منهاج البراعة 4 / 326; شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2 / 144.

[ 384 ]

منعني النوم، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد(صلى الله عليه وآله)، فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة».

[ 385 ]

 

 

 

«فَتَداكُّوا عَلَيَّ تَداكَّ الاِْبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِها وَقَدْ أَرْسَلَها راعِيها، وَخُلِعَتْ مَثانِيها; حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قاتِلُ بَعْض لَدَيَّ، وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذا الاَْمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ، فَما وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلاَّ قِتالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله)فَكانَتْ مُعالَجَةُ الْقِتالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعالَجَةِ الْعِقابِ وَمَوْتاتُ الدُّنْيا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتاتِ الاْخِرَةِ».

—–

 

الشرح والتفسير

ليس هنالك سوى القتال

بغض النظر عن كون الخطبة بشأن بيعة الناس للإمام(عليه السلام) أو المسائل المرتبطة بصفين، فانّه استهلها(عليه السلام)بعدم انطلاقه نحو الناس بل الناس هم الذين إندفعوا إلىّ: «فتداكوا(1) عليّ تداك الابل إلهيم(2) يوم وردها(3) وقد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها»(4).

ثم أضاف(عليه السلام): «حتى ظننت أنهم قاتليّ أو بعضهم قاتل بعض لدي» تتضمن هذه العبارة عدّة اُمور:


1. «تداكوا» من مادة «دك» على وزن فك، قال الراغب في المفردات أنّها تعني الأرض المستوية الرخوة، بينما صرحت سائر كتب اللغة بعكس ذلك وان الدك يعني الضرب. ومعنى العبارة في الخطبة أنّهم تزاحموا عليه ليبايعوه رغبة فيه.

2. «هيم» جمع «أهيم» و«هيماء» صفة مشبهة بمعنى شدة العطش التي تجعل الحيوان أو الإنسان يروح ويجيئ، ويقال الهيمان للعاشق. والهيم العطاش من الابل.

3. «ورد» اسم مصدر بمعنى الورود، وقيل مصد كتأكيد لمعنى الفاعلية، وتعني الجمع أيضاً. يوم وردها يوم سشربها للماء.

4. «مثاني» جمع مثناة بالفتح ومثناة بالكسر وهو حبل من صوف أو شعر يعقل به البعير. وهى في الأصل من مادة ثنى بمعنى التكرار واعادة جزء من الشي إلى الآخر.

[ 386 ]

1 ـ كيفية هجوم الناس عليه من أجل البيعة أو حين الاصرار على شروع موقعة صفين إنّما تفيد تغير الناس آنذاك، وهنا لابدّ من الالتفات إلى أن معنى المفردة تداكوا هو الضرب وقد أشارت في العبارة إلى شدة عطش الابل التي تضرب بعضها بعضا لتبلغ أسرع من غيرها الماء، والهيم شدة العطش التي تجعل الإنسان أو الحيوان مضطرباً. فلو تركت هذه الابل العطاش لحالها دون الراعي فما عساها تفعل. أجل هكذا كانت حال الناس في تلك اللحظات الحساسة حتى كان يخشى عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً. نعم هذا هو حال الناس حين يعشقون شيئاً ويعبرون عنه بعواطقهم، إلاّ أنّه من المؤسف أنّ هؤلاء الناس سرعان ما يتخلون عن موقفهم إذا واجهتهم بعض المصاعب.

2 ـ يمكن أن تكون حالة إندفاعهم نابعة من عدم عمق مشاعرهم وقلّة علمهم ومعرفتهم.

3 ـ تشتمل هذه العبارات على بعض الكنايات التي تفيد صعوبة السيطرة عليهم حين تأخذهم الحرارة والحماس، كما يصعب إثارتهم حين تلفهم البرودة والانتكاس.

ثم قال(عليه السلام): «وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّد(صلى الله عليه وآله) فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة».

فتفيد هذه العبارات:

أولاً: أنّ الإمام(عليه السلام) لا يرضخ لضغوط الناس، فلا يتحذ القرار حتى يدرس جميع جوانب الموضوع، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه سياسة الزعماء الربانيين بعيدة عن العواطف والأحاسيس مستندة إلى مصالح لاُمّة الواقعية.

ثانياً: عادة ما يصل الإنسان في حياته الفردية أو القادة في حياتهم الاجتماعية إلى مفترق طرق، فلابدّ هنا من الشجاعة والاقدام على إنتخاب الاصلح، فان كان القتال هو الأصلح لا ينبغي للدعة والراحة أن تحول دون خوضه بحجة حفظ دماء المسلمين دون الإكتراث إلى المصالح العليا.

ثالثاً: المهم بالنسبة للإمام(عليه السلام) رضى اللّه وإداء التكليف ومن هنا آثر رضى اللّه سواءاً تضمن رضى الناس أم لا.

[ 387 ]

رابعاً: واضح أنّ قتال الإمام(عليه السلام) كان قتال الإيمان للكفر والإسلام للجاهلية. بناءاً على ما تقدم فقد كان(عليه السلام)يرى رضى اللّه قبل الاستجابة لرغبات الناس، وبالطبع قد يمكن الجمع بين الاثنين إذا كانت رغبات الاُمّة وتطلعاتها مشروعة تهدف نشر القيم والمبادئ السماوية.

 

تأمّلان

1 ـ البيعة الفريدة للإمام(عليه السلام)

تفيد خطب نهج البلاغة الواردة بهذا الشأن، أنّ البيعة كانت من الحواداث العجيبة التي شهدتها خلافة الإمام(عليه السلام) بحيث خرجت عن المتعارف في البيعات العادية، وقد بلغ الزحام درجة كان يخشى معها وقوع البعض وانحساره بين تلك الجماعات العظيمة. وهنا يطرح هذا السؤال: ما سبب ذلك الهجوم العظيم على الإمام(عليه السلام) من أجل البيعة؟ يبدو أنّ غضب الناس بلغ ذروته إبان من سبق الإمام(عليه السلام)من الخلفاء ولا سيما على عهد الخليفة الثالث الذي شهد غياب العدل وضياع القيم والمثل والتطاول على بيت المال والاساءة إلى الشخصيات الإسلامية وتسليط عصابة من البطانة على رقاب الناس، بحيث لم يكن أمام الناس سوى اللجوء إلى ذلك الفرد العادل الذي من شأنه اعادة الإسلام إلى مسيرته الأصلية. نعم كانوا متعطشين للعدالة، للإسلام الأصيل والمعارف القرآنية الحقة الخالية من الخرافات والأساطير; الاُمور التي جمعت في أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام)، فما حيلة العطشان إذا رأى الماء الزلال سوى الهجوم عليه والتزود منه، فالهجوم المذكور يفيد عظمة مقام الإمام(عليه السلام) من جانب ومدى إستياء الناس من الاوضاع السابقة من جانب آخر، والأمران يحتاجان إلى ابحاث تأريخية مسهبة.(1)

 

2 ـ الحرب والسلام، والكفر والإيمان

رأينا في آخر الخطبة أنّ الإمام(عليه السلام) وقف أمام سبيلين لا ثالث لهما; إما الحرب أو الكفر بما جاء به النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله). وما ذاك إلاّ أنّ الحرب ورغم ما يكتنفها من خراب ودمار وويلات،


1. من أراد المزيد يمكنه مراجعة الخطبة الشقشقية.

[ 388 ]

غير أنّها قد تكون السبيل الوحيد لمجابهة الظلم والاضطهاد وعدم العدل كما تشكل الوسيلة الناجعة لاستئصال جذور الفساد والانحراف ومن هنا كانت إحدى غايات القتال، كما صرح بذلك القرآن القضاء على الفتنة واخماد نيرانها واعادة الاُمور إلى مجاريها الطبيعية (وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(1) وقال (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ)(2) وهنا يغلق أولياء اللّه أبواب الراحة والدعة ويهبوا لخوض القتال وتحمل عنائه وشدائده، ولا عجب فالتضحية بحطام الدنيا لا يؤثر على سعادة الاخرى.

—–


1. سورة الانفال / 39.

2. سورة الحجرات / 9.

[ 389 ]

 

 

الخطبة(1) 55

 

 

 

ومن كلام له(عليه السلام)

 

وقد استبطأ اصحابه إذنه لهم في القتال بصفين

 

نظرة إلى الخطبة

يبدو من تناسب مضمون هذه الخطبة مع الخطبة السابقة أنّها خطبة واحدة، أو خطبتان وردتا في زمان متقارب قال ابن أبي الحديد في ذيل هذه الخطبة: لما ملك أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام الماء بصفين ثم سَمَح لأهلِ الشام بالمشاركة فيه والمساهمة، رجاء أن يطفوا إليه، واستمالةً لقلوبهم وإظهارا للعدالة وحسن السيرة فيهم، مكث أياماً لا يُرسِل إلى معاوية، ولا يأتيه مِنْ عند معاويةَ أحدٌ، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال، وقالوا: يا أميرَالمؤمنين، خَلَّفْنا ذراريّنا ونساءنا بالكوفة، وجئنا إلى أطراف الشام لنتّخذها وطناً، ائذن لنا في القتال، فإنّ الناس قد قالوا. قال لهم عليه السلام: ما قالوا؟ فقال منهم قائل: إنّ الناس يظنون أنّك تكرهُ الحرب كراهيةً للموت، وإنّ من الناس من يظن أنّك في شكّ مِنْ قتال أهلِ الشام. فقال عليه السلام: ومَتَى كنتُ كارها للحرب قطّ! إنّ من العجب حُبِّى لها غلاماً ويَفَعاً، وكراهيتي لها شيخاً بعد نفادِ العمر وقرب الوقت! وأمّا شكّي في القوم فلو شككت فيهم لشككتُ في أهل


1. سند الخطبة: لم يشر صاحب مصادر نهج البلاغة إلى سند خاص لهذه الخطبة، إلاّ أنّ لابن أبي الحديد فصل ذيل هذه الخطبة تحت عنوان من أخبار يوم صفين يفيد أنّ ما أورده هنا السيد الرضي (ره) بمعنى آخر ينسجم وما جاء في التواريخ.

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 13.

[ 390 ]

البصرة، واللّه لقد ضربتُ هذا الأمر ظهراً وبطناً، فما وجدت يسعُني إلاّ القتال أو أن أعصىَ اللّه ورسوله، ولكني أستأني بالقوم، عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة، فإنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال لي يوم خيبر: «لأنّ يهدىَ اللّه بك رجلاً واحداً خير لك مِمّا طلعت عليه الشمس».

—–

[ 391 ]

 

 

 

 

«أَمّا قَوْلُكُمْ: أَكُلَّ ذَلِكَ كَراهِيَةَ الْمَوْتِ؟ فَواللّهِ ما أُبالِي، دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ الشّامِ! فَواللّهِ ما دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وَأَنا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي، وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَها عَلَى ضَلالِها وَإِنْ كانَتْ تَبُوءُ بِِآثامِها».

—–

 

الشرح والتفسير

تماسك الإمام(عليه السلام) حيال القتال

كما ذكرنا فانّ الخطبة جواباً لأصحابه(عليه السلام) الذين استبطأوا إذنه لهم بالقتال في صفين، فقد قال(عليه السلام) «أمّا قولكم: أكل(1) ذلك كراهية الموت؟ فو اللّه ما أبالي، دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلىّ». نعم إذا كان هنالك هدفا مقدساً كرضى اللّه فانّ الفرد المؤمن لابدّ أن يسارع إلى الشهادة ولا ينتظرها، فما أسمى أن يهب الإنسان نفسه ويضحى بها من أجل معشوقه ومعبوده. أضف إلى ذلك فسابقة الإمام(عليه السلام) في الغزوات الإسلامية لأشهر من نار على علم وليست بخافية على أحد ولا سيما صولاته في بدر وأحد والأحزاب وخيبر وحنين وذوده عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)واستماتته من أجل نيل الشهادة، فكيف وهذا الحال يمكن توجيه هذه التهمة الباطلة لهذا الإنسان بتأخير القتال خوف الشهادة. وقد تحدث الإمام(عليه السلام)عن مثل هذا المعنى في الخطبة الخامسة والخطبة مئة وثلاث وعشرين حيث قال: «واللّه لابن أبي طالب آنس


1. هنالك احتمال بشأن إعراب هذه الجملة: أحدهما أن كل منصوبه على أنّها مفعول لفعل تقديره «أتفعل كل ذلك»، والآخر انها مرفوعة كمبتدأ وتقدير الجملة «أكل ذلك ناشئ من كراهية الموت». على كل حال فانّ الجملة «كراهية المت» مفعول لأجله.

[ 392 ]

بالموت من الطفل بثدي أمه» وقال: «والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش في غير طاعة اللّه».

وتشهد سيرة الإمام(عليه السلام) أنّه مارس هذا المعنى عملياً في حياته وما أجهل تلك الجماعة من جيش أهل العراق التي وجهت مثل تلك التهمة للإمام(عليه السلام) وخشيته من الشهادة في سبيل اللّه. قد يقال أنّ اُولئك لم يكونوا أدركوا اولى الغزوات الإسلامية. فنقول فهل يسعهم نسيان موقعة الجمل؟ الموقعة التي كان ينقض فيها الإمام(عليه السلام)كالليث الضاري على جنود الأعداء فيمزق جموعهم وينزل حمم غضبه على رؤوسهم. بل كيف يمكن إتهامه وهو الذي يمثل الإيمان كله في مقابل الشرك كله، أوليس هو القائل: «لقد كنت وما اهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب وإني لعلى يقين من ربّي وغير شبهة من ديني». وقوله(عليه السلام): «فو اللّه ما اُبالي» إشارة إلى هذه الحقيقة وهى أنّ الأفراد العاديين ممن لا هدف لهم، هم الذين يخشون الاتجاه نحو الموت، بل ينتظرون قدوم الموت إليهم آخر عمرهم; بينما ليس هنالك من فارق بين الخروج إلى الموت أو قدوم الموت حسب الأجل المقدر بالنسبة لأهل الإيمان والورع والتقوى ولعل الموت يمكن تشبيهه هنا بالاسد المفترس، فالفرد العادي لا يتجه إليه أبداً، أما الشجاع فيقدم على مواجتهه دون أن يشعر بخوف أو هلع، فالمؤمن الشجاع حين يرى في الموت الشهادة في سبيل اللّه ونيل رضوانه يستقبله بكل رحابة صدر، فلو قدر لهذا الموت أن يسلبهم ما تبقى من عمرهم، فانّهم سيستبدلون بذلك الخلود والبقاء. ثم تناول الإمام(عليه السلام) الاحتمال الثاني الذي أوردته تلك الجماعة بشأن تأخير القتال فقال: «وأمّا قولكم شكاً في أهل الشام فو اللّه ما دفعت الحرب يوما إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوا(1) إلى ضوئي» ثم برر ذلك بقوله(عليه السلام) «وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوءء(2) بآثامها». فالإمام(عليه السلام)يؤكد هنا على أن القتال لا يمثل هدفاً ولا السبيل الأول لحل الخصومات من وجهة نظر أولياء اللّه، بل هو العلاج الأخير إذا ما عجزت كل السبل والاساليب، فهم يسعون جاهدين للتريث


1. «تعشو» في الأصل من مادة «عشو» على وزن ضرب بمعنى الظلمة وعدم وضوح الشيء ومنه صلاة العشاء لأنها أول الظلمة وعشى بمعنى آخر اليوم الذي يظلم فيه الجو تدريجيا ويقال الأعشى لضعيف البصر.

2. «تبوء» من مادة «بوء» على وزن نوع بمعنى الرجوع والعودة وقيل أصلها يعني الصافي والمسطح واريد بها هنا الرجوع.

[ 393 ]