![]() |
![]() |
—–
1. غرر الحكم، ح 10948.
ومن خطبة له (عليه السلام)
وفيها مباحث لطيفة من العلم الإلهي
لما كان ذكر اللّه والتوجه إلى اللّه بأسمائه وصفاته يلهم الإنسان القوة والصمود ويدعوه إلى ممارسة مسؤوليته في جهاد العدو، فأنّ الإمام(عليه السلام) لاينفك قبل القتال وخلاله من توجيه الاُمّة نحو اللّه وصفاته الجلالية والجمالية، ومن ذلك هذه الخطبة التي خطبها الإمام(عليه السلام)على أعتاب قتاله لمعاوية ورهطه من أهل الشام، والتي يذكر فيها صفات اللّه عامة ولا سيما بشأن العلم والقدرة بهدف تفعيل قوة الاُمّة وتعبئة طاقاتها في ظل الالتفات إلى هذه الصفات.
1. سند الخطبة: نقل الصدوق(ره) هذه الخطبة مع بعض الاختلاف في كتابه التوحيد وأضاف: أنّ الإمام(عليه السلام)خطبها حين جهز الجيش ثانية لقتال معاوية. ومن بين المحدثين الذين نقلوا هذه الخطبة المرحوم الآمدي في غرر الحكم، وإن عاش بعد السيد الرضي. إلاّ أنّ اختلاف عباراته مع عبارات السيد الرضي (ره) يفيد أنه رواها من مصدر آخر غير نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 2/50).
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حالٌ حالاً، فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً،يَكُونَ ظاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ باطِناً، كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ، وَكُلُّ عَزِيز غَيْرَهُ ذَلِيلٌ، وَكُلُّ قَوِيّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ، وَكُلُّ مالِك غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ، وَكُلُّ عالِم غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ، وَكُلُّ قادِر غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَيَعْجَزُ، وَكُلُّ سَمِيع غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الاَْصْواتِ، وَيُصِمُّهُ كَبِيرُها، وَيَذْهَبُ عَنْهُ ما بَعُدَ مِنْها، وَكُلُّ بَصِير غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الاَْلْوانِ وَلَطِيفِ الاَْجْسامِ، وَكُلُّ ظاهِر غَيْرَهُ باطِنٌ، وَكُلُّ باطِن غَيْرَهُ غَيْرُ ظاهِر».
—–
لابدّ من الالتفات إلى مسألة في بحث الصفات حيث تقود الغفلة عنها إلى الغواية والضلال وهى أنّ صفات جمال اللّه وجلاله ليست لها أي شبه بصفات المخلوقات. فمن صفاته العلم والقدرة إلاّ أنها ليست من قبيل علمنا وقدرتنا، إنّه سميع وبصير ولكن ليس كسمعنا وبصرنا، وذلك لأنّ ذاته لامتناهية من جميع الجهات وهى تفوق الجسم والعوارض الجسمانية، ومن هنا تطالعنا الاعاجيب حين نرد بحث الصفات الربوبية، ومن ذلك على سبيل المثال أنّ الصفات المتضادة في عالم المخلوقات، تكون إلى جانب بعضها البعض الاخر في العالم الربوبي. فالأول في عالم المخلوقات مثلاً ليس آخر، والآخر ليس أول، والظاهر ليس باطن، والباطن ليس ظاهر، بينما تتصف الذات الإلهية المقدسة بأنّها ظاهرة وباطنة وأولى وآخرة. أضف إلى ذلك فالصفات في عالم المخلوقات تظهر الواحدة بعد الاُخرى بالتدريج ثم تتبلور وتتكامل، أمّا الصفات
الإلهية فلا تعرف المسيرة التدريجية ولا التقدم والتأخر. فقد إستهل(عليه السلام) الخطبة بالإشارة إلى هذا الأمر «الحمدللّه الّذي لم تسبق له حالٌ حالا، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً» ومن هنا فليس هنا لك من وجود قبله ولا بعده، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: (هُـوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالباطِـنُ)،(1) كما قال: (لا إِلـهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ)(2). فالحق أنّ الوجود الأزلي والأبدي ليس له من أول ولا آخر، ولا يعني نعته بالأول والآخر سوى أنّ جميع المخلوقات متوقفة في وجودها عليه سواء في بداية ظهورها أو في إستمرار حياتها. أمّا وصفه بالظاهر والباطن فيعني أنّ أصل وجوده وصفاته أظهر من كل شيئ، وذلك لأنّ الأدلة على وجوده وصفاته تصل إلى عدد النجوم والكواكب والكائنات الحية وأوراق الأشجار وحصى الصحاري، بل بعدد ذرات العالم التي يعجز عن علمها وتصورها أحد غيره; ولكن لما كانت الذات الإلهية لامتناهية ولا يسع أحد تصورها كما هى: «لاستحالة احاطة المحدود باللامحدود» فانّ هذه الذات خفية على جميع الناس بما فيهم الأنبياء والأوصياء والأولياء، وحيث إنّ الناس يتعرفون بادئ ذي بدء على آثاره في دائرة الوجود ثم يلتفتون إلى ذاته المقدسة فانّه يمكن القول: إنّه ظاهر قبل أن يكون باطن، وحسب تعبير بعض الفلاسفة المسلمين: «خفاؤه لشدّة ظهوره». أوليست الشمس التي تمثل إحدى مخلوقاته خفية لشدّة ظهورها؟ وهل من السهل على الإنسان النظر إلى قرص الشمس. ثم إنتقل الإمام(عليه السلام)إلى المقارنة بين عشر من صفات الكمال والجمال مع شبيهاتها لدى المخلوقات ليثبت عمق الفارق بينها وأنّ حقيقة الكمال مقتصرة على ذاته، وكل ما سواه رصيده العيب والنقص فقال(عليه السلام): «كل مسمى بالوحدة غير قليل» فالعبارة اشارة إلى نقطة مهمّة وظريفة في باب توحيد الصفات والذات، لأنّ وحدته تفيد كون ذاته وصفاته لامتناهية، وتعني عدم وجود الند والشبيه، أمّا الوحدة في المخلوقات فهى وحدة عددية وتطلق في مقابل الكثرة، وبالطبع فانّ هذه الوحدة تفيد القلة، بينما تشير وحدته إلى عظم وجوده الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان وفى تفس الوقت هو في كل زمان ومكان، وهذا ما
1. سورة الحديد / 3.
2. سورة القصص / 88 .
أشارت إليه الخطبة من أنّ أوصافه غير أوصاف مخلوقاته، فاذا كانت الوحدة بالنسبة للمخلوقات تفيد القلة، فهى تفيد الكثرة والعظمة بالنسبة للّه. فقد جاء في توحيد الصدوق: إنّ إعرابياً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام)فقال: يا أميرالمؤمنين أتقول إنّ اللّه واحد؟ قال فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسم القلب؟ فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام)دعوه فانّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي إن القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوازان على اللّه عزوجل، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لايجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الاعداد فهذا ما لايجوز، لأنّ مالا ثاني له لايدخل في باب الأعدد أمّا ترى أنّه كفر من قال ثالث ثلاثة، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا،(1) وقول القائل: إنّه عزّوجلّ أحدي المعنى يعني به أنّه لاينقسم في وجود ولا عقل ولاوهم كذلك ربّنا عزّوجلّ ثم قال(عليه السلام) في بيان الصفة الثانية: «وكل عزيز غيره ذليل» فالعزّة سواء كانت بمعنى القدرة القاهرة أو الحرمة والعظمة فهى لا تليق سوى بذاته المقدسة، ولأنّ غيره من الملوك وإن كان عزيزاً فهو ذليل في قبضة قوانين عالم الخلقة والقضاء والقدر، أضف إلى ذلك فالجميع محتاج إلى الذات الإلهية، كما أنّ عزته ذاتية وعزة من سواه عرضية متوقفة على تلك الذات، ومن هنا فليس لأحد من الموجودات إمكانية الوقوف أمام هذه العزة، ولكل عزته بمقدار قربه من تلك العزة المطلقة; الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم بالقول: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِـيعاً)(2)، والآية العاشرة من سورة فاطر: (مَنْ كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلّهِ العِزَّةُ جَمِـيعاً). ثم قال في الصفة الثالثة: «وكل قوي غيره ضعيف» لأنّ القوة في عالم المخلوقات نسبية; فكل كائن قوي إذا ما قورن بمن دونه وضعيف بالنسبة لمن فوقه، وهكذا الأمر حتى ننتهي إلى الذات المقدسة، فهناك القوة اللامتناهية التي
1. توحيد الصدوق، بحسب ما نقله عن بحارالانوار 3/206، ح 1.
ومن أجل التوضيح أكثر حول حقيقة التوحيد، ووحدانية الله سبحانه وتعالى، يرجى مراجعة كتاب «نفحات القرآن 3/260 و ما بعد».
2. سورة النساء / 139.
لايتصور قوة أعظم منها لتقارن بها. ومن هنا فان أقوى الأفراد قد يهزم أمام أضعف ا لمخلوقات من قبيل الذبابة أو النملة أو حتى المكروب الذي تصعب مشاهدته بالعين المجردة بحيث يمرض الإنسان بمرض يعيي الأطباء عن علاجه، وعليه فوصف ما سوى اللّه بالقوة إنّما هو وصف مجازي والقوي بالمعنى الحقيقي هو اللّه. وهذا ما أكدته الآية 165 من سورة البقرة: (أَنَّ القُوَّةَ لِلّهِ جَمِـيعاً)وقال في الصفة الرابعة: «وكل مالك غيره مملوك» لأنّ الملكية الحقيقة تنبع من الخلقة; فالمالك الحقيقي من خلق كافة الكائنات التي لا تحتاج إليه في بداية خلقها فحسب، بل تحتاج إليه في بقائها واستمرار حياتها. ومن هنا فان ملكية غير اللّه اعتبارية ومجازية، وبعبارة اُخرى: إذا ملكنا شيئاً فأنّ اللّه هو الذي ملكناه، وإلاّ فلا يملك أحد حتى النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)شيئاً، ومن هنا قال: (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاّ ما شاءَ اللّهُ)(1)، كما صرحت الآية 6، من سورة آل عمران: (قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُـؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِـيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ).
وقال في الصفة الخامسة «وكل عالم غيره متعلم» لأنّ علمه سبحانه ذاتي وهو الذي يفيض العلوم على النفوس، وعليه فلم يسبق بجهل ليعلم وليس لعمله من حدود، بل علمه عين ذاته لامتناهي; بينما لكل ما سواه علم مبسوق بجهل. فلم يكن للإنسان علم حين لم يكن موجودا، فلم وجد أودع اللّه فطرته بعض العلوم، كما حصل على بعض العلوم أيضاً عن طريق الحس والتجربة، كما تعلم على يد الآخرين، والأنواع الثلاثة تشكل نوعا من أنواع التعلم، وعليه فجميع العلماء ـ سوى اللّه ـ متعلمون، والذات الإلهية فقط الموصوفة بالعلم الازلي اللامتناهي. القرآن الكريم من جنبه قال: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(2) وقال في الصفة السادسة: «وكل قادر غيره يقدر ويعجز» ودليل ذلك عدم تناهي ذاته ومحدودية ماسواه، فلما كانت قدرته عين ذاته فهى مطلقة لامتناهية، أمّا غيره فقدرته محدودة مهما كان، وعليه فهو يقدر على بعض الأشياء ويعجز من غيرها، بل قد يقوى على القيام بأمر في ظروف ويعجز عن
1. سورة الاعراف / 188.
2. سورة النحل / 78.
القيام به في اُخرى. ومن هنا نقف على زيف المغالطة التي تتساءل إذا كانت قدرة اللّه مطلقة إلى هذا الحد فهل يسعه أن يحصر هذا العالم في بيضة دون أن يصغر شئ من العالم أو تكبر البيضة، فالسؤال خاطئ، لأنّ مفهومه هل يستطيع اللّه أن يكبر الدنيا وتكون البيضة بهذا الحجم ويكبرها لتسع الدنيا، بعبارة اُخرى كأن السؤال هل أنّ اللّه قادر على أن يصغر الدنيا ولا يصغرها في نفس الوقت ويجعل البيضة بقدر الدنيا وفي نفس الوقت لايجعلها كذلك؟ ومن الطبيعي ألا يكون هناك جواباً للسؤال الخاطئ. ويبدو أنّ مثل هذا السؤال قد طرح على أميرالمؤمنين(عليه السلام):«هل يقدر ربّك أن يدخل الدّنيا في بيضة من غير أن تصغر الدّنيا أو تكبر البيضة؟ فقال(عليه السلام): إنّ اللّه تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز والّذي ذكرت لايكون»(1)وزبدة الكلام فانّ قدرة اللّه ذاتية وغير محدودة وأزلية وأبدية، وكل مالغيره منه، وليس له من قدرة سوى ما يفيضها عليه.
وقال في الصفة السابعة: «و كلّ سميع غيره، يصّمّ عن لطيف الاْصْوات ويصمّه كبيرها، ويذهب عنه ما بعد منها» فالسمع لدى الإنسان إنّما يحصل عن طريق إنتقال الأمواج والذبذبات بواسطة الاذن الخارجية والداخلية والصيوان وطبلة الاذان وسائر أعضائها، ولما كانت هذه الأعضاء محدودة، فانّ سمعه هو الآخر محدود لايسعه إلتقاط كافة الأصوات، وكما صرح بعض العلماء من ذوي الاختصاص بان الاذن لايسعها سماع سوى الاصوات التي تترواح أطوالها الموجية بى ستة عشر إلى عشرين ألف ذبذبة في الثانية، أي لايسع الإنسان إدراك ما قلّ عن ست عشرة ذبذبة في الثانية، كما لا يسعه إدراك ما تجاوز العشرين الف ذبذبة في الثانية. طبعاً هذه الذبذبات ليست واحدة لدى جميع الكائنات، فهناك بعض الحيوانات التي لها سمع يفوق نيره لدى الإنسان، فهى تسمع حتى الأصوات ذات الأطوال الموجية الأقصر، مع ذلك لايسعها سماع جميع الأصوات. أضف إلى ما تقدم فانّ الأطوال الموجبة إذا بلغت حدا فانّها قد تشق غشاء الاذان وتقضي على حس السمع لديه،
1. بحارالانوار، 4/143 ح 10، وورد مثل هذا المعنى عن الإمام الصادق(عليه السلام)في الكافي، 1/79 ح 4، كما جاء في بحارالانوار أنّ الشيطان سأل المسيح عيسى(عليه السلام)هذا الجواب فأجابه بهذا السؤال (بحارالانوار، 14/271 ح 3).
ومن هنا نرى بعض العسكريين يضعون أصابعهم في آذنهم ويبتعدون عن الأماكن التي يفجرون فيها الأسلحة حذراً على سمعهم. وأخيراً فانّ سمع الإنسان يضعف كلما إبتعد عن مصدر الصوت مهما كان عظيماً، ومن هنا يوصف السمع بالعجز، فالواقع هنالك ما لايحصى من الاصوات التي تحيط بنا إلاّ أنا نعجز عن سماعها. أمّا سمع الحق سبحانه فلايحتاج إلى واسطة ووسيلة، وسمعه جزء من علمه، أي أنّه عليم بجميع الأصوات، فلا يحجزه سمع صوت عن آخر، ولا يؤذيه صوت ولايبتعد عنه آخر، وكلها لديه على السواء: (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السَّماءِ وَالأَرضِ وَهُوَ السَّمِـيعُ العَلِـيمُ)(1). وقال في الصفة الثامنة: «و كلّ بصير غيره يعمى عن خفّى الالوان ولطيف الاجسام» فالباصرة لدى الإنسان وسائر الكائنات تحصل بواسطة العين التي تتشكل من عدّة طبقات لكل منها وظيفة خاصة من قبيل الشبكية والقزحية والبؤبوء التي تتعاضد جميعاً لرؤية الصور في الخارج، مع ذلك فهناك أنواع من الاشعة التي يتعذر على العين رؤيتها، ناهيك عن إنعدام الرؤية لديها في الظلام، في حين لايخفى على اللّه شئ وهو محيط بجميع الأشياء (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِـيعُ البَصِـيرُ)(2)فالسمع والبصر الحقيقي إنّما يختص بالذات الإلهية المقدسة وقال في الصفتين الأخيرتين: «و كلّ ظاهر غيره باطنٌ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر» وهذه الصفات تستند في الواقع إلى ذاته اللامتناهية ومحدودية ذوات ما سواه، فلما كانت ذاته القدسية لامتناهية فان آثاره شملت جميع عالم الوجود وساد ظهوره المطلق كل زمان ومكان، أمّا سائر الكائنات فمهما كان لها من ظهور فهو محدود، ومن هنا يمكن القول بأنّها توصف بالظهور والخفاء، فهناك الكواكب والمجرات التي تفوق بحجمها الشمس وتفوقها نوراً وضوءاً، إلا أنا لانرى لها أي أثر، والعكس صحيح فاذا تجاوزنا قليلاً دائرة المنظومة الشمسية لبدت لنا الشمس باهتة حتى تنعدم بالمرة إضافة إلى ذلك، فانّ كل هناك من ظهور لشىء ـ مهما كان نسبياً ومحدوداً ـ فان ذلك ببركة وجود اللّه، وإلاّ فجميع الممكنات مظلمة وقاتمة في ذاتها، ونور اللّه هو الذي يمنحها هذا الظهور، هو بالضبط كذرات الغبار المعلقة في الهواء المعدومة الرؤية إلاّ أنّها تبدو للعيان وتظهر إذا ما
1. سورة الأنبياء / 4.
2. سورة الشورى / 11.
إخترقت أشعة الشمس ادنى ثقب في الغرفة. أمّا ما قاله الإمام(عليه السلام):«وكل باطن غيره غير ظاهر» إشارة إلى هذه الحقيقة وهى أنّ الذات الإلهية الخافية على جميع الكائنات بما فيها الأنبياء والأولياء والخارجة حتى عن حدود العقل، إلاّ أنّ آثارها قد سادت جميع الوجود بما جعلها ظاهرة، بينما تفتقر سائر الوجودات للظهور إذا كانت خافية باطنة، ولو كانت ظاهرة لما كانت باطنة، فالإنسان مثلاً ليس عارياً إذا كان مستوراً، كما أنّ العاري ليس مستوراً، والذات الإلهية فقط المستورة في عريها والعارية في سترها.(1) وقد قال القرآن الكريم في الآية الثالثة من سورة الحديد (هُـوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالباطِـنُ).
—–
1. لقد وردت العبارة المذكورة في أغلب نسخ نهج البلاغة بهذه الصورة «وكل ظاهر غيره غير باطن وكل باطن غيره غير ظاهر» وذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلى وجوب إشتمال العبارة على «غير» في العبارة «... غير باطن... غير ظاهر» أو حذفها، حتى زعم البعض خطأ نسخة صبحي الصالح التي لم تتضمن غير في العبارة الاولى، بينما وردت في العبارة الثانية، وبالطبع فان هذا ما يقتضيه سياق العبارة، ولكن وما ورد سابقاً لايمكن الزعم بان هذه النسخة خاطئة، ويمكن توجيه العبارة بما أوردناه من تفسير.
«لَمْ يَخْلُقْ ما خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطان، وَلا تَخَوُّف مِنْ عَواقِبِ زَمان، وَلا اسْتِعانَة عَلَى نِدّ مُثاوِر، وَلا شَرِيك مُكاثِر، وَلا ضِدّ مُنافِر، وَلَكِنْ خَلائِقُ مَرْبُوبُونَ، وَعِبادٌ داخِرُونَ، لَمْ يَحْلُلْ فِي الاَْشْياءِ فَيُقالَ: هُوَ كائِنٌ، وَلَمْ يَنْأَ عَنْها فَيُقالَ: هُوَ مِنْها بائِنٌ، لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ ما ابْتَدَأَ، وَلا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَلا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمّا خَلَقَ، وَلا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيما قَضَى وَقَدَّرَ، بَلْ قَضاءٌ مُتْقَنٌ،عِلْمٌ مُحْكَمٌ، وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ، الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ».
—–
يواصل الإمام(عليه السلام) حديثه عن الصفات الإلهية ذات الأثر التربوي في حياة الإنسان فقال(عليه السلام) «لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، ولا تخوّف من عواقب زمان، ولا استعانة على ندّ(1) مثاور،(2) ولا شريك مكاثر،(3) ولا ضدّ منافر(4)»، إننا غالباً ما نرتكب بعض الاخطاء بحق صفات الجلال والكمال من جراء مقارنتنا للأشياء بوجودنا وصفاتنا وأفعالنا، فنعتقد مثلاً بأنّ أفعال اللّه على غرار أفعالنا تهدف النفع وقضاء الحاجة، والحال أنّ وجوده مطلق
1. «ند» على وزن ضد بكسر النون النظير والمثيل ولا يكون إلاّ مخالفاً، ومن هنا فسر «بالضد» أحياناً.
2. «مثاور» من مادة «ثور» جاءت بمعنى الحركة والانبعات والاثارة، ومن هنا فان «إثارة» تعني تفرق الشيء، و«مثاورة» تأتي بمعنى وثوب شخصين ليقف أحدهما في وجه الآخر، ويقال أيضا لكل ضدين، ومن هنا يأتي معناها بمعنى المحاربة.
3. «مكاثر» من مادة «كثرة» بمعنى الزيادة، ويطلق على الشخص الذي لديه رغبة في الزيادة، والذي يتفاخر بالمال والسلطة والجاه بالمكاثر.
4. «منافر» من مادة «النفرة» بمعنى الابتعاد والامتعاظ من الشئ.
غني من جميع الجهات ومن هنا كان جامعاً لجميع الكمالات وليس للنقص والحاجة من سبيل إلى ذاته المقدسة. وبناءاً على ما تقدم فانّ أفعاله ليست من قبيل أفعالنا، ولما كان اللّه فاعلاً حكيماً، فانّ أفعاله منزهة من العبث ولابدّ من تحري أهداف أفعاله خارج وجوده وبالنظر إلى عباده. والوصف الذي تضمنته العبارة قد أشار إلى هذا الأمر، حيث ينفى عن أفعال الحق سبحانه كافة الأهداف التي تستبطن رفع الحاجة وا لنقص. فهدفنا من أغلب أفعالنا هو مضاعفة قدراتنا واستزادة قوتنا، وأحيانا هدفنا التحسب لبعض المساوئ والعقبات التي قد تلوح في آفاق مستقبلنا، وقد يكون للهم بالغلبة على من ينشدون ضعفناً أو يهبون لمواجهتنا من نظرائنا، وقد يكن الوقوف بوجه من ينافسنا من الأفراد الذين يعيشون من حولنا، وأخيراً فقد نهدف إلى ازالة بعض العقبات التي تعترض طريقنا، ومن هنا فان كافة أفعالنا إنّما تفرزها طبيعة مثل هذه الأهداف. أما الوصف الذي أورده الإمام(عليه السلام)بشأن اللّه سبحانه إنّما يشير إلى أنّ أفعاله لا تستند لأي من هذه الأهداف. فليس هنالك من ضعف في قدرة اللّه ولا يخشى من أحداث المستقبل، وليس له من شبيه أو نظير يسعه منافسته، وليس له من يطمع فيه من شريك وأخيراً ليس هنالك من موانع أو عقبات تعترض طريقه، وليس لهذه الاُمور من سبيل إلى ذاته، بل وجودنا الناقص بالذات إنّما يصاب بهذه الاُمور. وهنا يبرز هذا السؤال وهو إذا كانت جميع هذه الاُمور منتفية على اللّه سبحانه، فماهدفه من الخلقة؟ ورد الرد على هذا السؤال في العبارة اللاحقة من الخطبة «و لكن خلائق مربوبون، وعبادٌ داخرون»(1) نعم فليس هدف اللّه من الخلق تحقيق نفع، بل هدفه الجود على العباد; الأمر الذي أكده التعبير «مربوبون» في العبارة الذي يعطي معنى التربية والتكامل، كما أشير إلى المعنى المذكور أيضاً بقوله «عباد داخرون»، وذلك لأنّ تكامل الإنسان إنّما يمر عبر عبوديته. وبناءا على هذا فان العباد والمخلوقات ليست شبيهة ومضادة للّه فقط، بل هى تستفيض من رحمة اللّه ولطفه وفضله. ثم قال(عليه السلام): «لم يحلل فى الأشياء فيقال: هو كائنٌ،(2) ولمْ ينأ(3) عنها فيقال: هو منها
1. «داخرون» من مادة «دخور» على وزن حضور بمعنى الذلة والصغر، تستعمل في الاُمور السلبية كما تستعمل في الاُمور الإيجابية حينما يوصف عبادالله بصفة «داخر» فيعني ذلك التسليم والتواضع أمام الحق.
2. في الكثير من نُسخ نهج البلاغة التي تعرض لشرحها الشارحون جاءت هذه الجملة والتي وردت أعلاه بهذه الصورة «فيقال: هو فيها كائن» ولا ريب في أن مفهوم هذه الجملة التي جاءت في هذه النسخة هى أوضح، وفي النسخة التي دُوّن النص منها، فان كلمة «فيها» جاءت مُقدرة.
3. «ينْأَ» من مادة «نَأْى» على وزن رأى بمعنى ابتعد، والبعض فسرها بمعنى الابتعاد عن الشيء والاتجاه إلى نقطة بعيدة.
بائنٌ»، وبالنظر إلى أنّ الذات اللهية منزهة عن المكان والزمان فان هذين الوصفين يعدان من النتائج الحتمية. فليس هنالك من موضع يحتاج إليه ويحل فيه من تنزهت ذاته وفاقت الزمان والمكان، ومن هنا يتعذر تصور البعد والقرب عليه سبحانه، فكل هذه الاُمور إنما تصدق على الأشياء المحدودة، فاذا حلت في مكان قربت من شئ وبعدت عن آخر، أما الذات الإلهية المقدسة فهى مطلقة لامتناهية حاضرة في كل مكان وهى قريبة من كل شئ ولا يحويها مكان; الأمر الذي ورد في القرآن: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِـيرٌ)(1) وجاء فيه أيضاً (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)(2) وكذلك (وَلِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِـعٌ عَلِـيمٌ)(3). ومن الواضح أن لهذه الصفات الكمالية أثرها البالغ في تربية الإنسان، حيث يرى اللّه سبحانه معه أينما كان فيتحرج من مقارفة الذنب والمجاهرة بالمعصية. ثم قال(عليه السلام): «لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ماذرأ، ولا وقف به عجزٌ عمّا خلق» فقد أشارت العبارة إلى بعض الاُمور المهمة التي تعود جميعاً الى قدرته الازلية. الأول أنّ الخلق الأول الذي يتطلب قدرة أكثر لم يشق عليه سبحانه (لم يؤده من مادة أود على وزن عود بالفتح يعني الثقل)، والاخر أن ربوبية الخلق وتدبير شؤونه لم يخلق له أية صعوبة أو مشكلة، وأخيرا أن قدرته لم تنفد من جراء خلقه لكل هذا الخلق، بل له أن يخلق مالا نهاية من العوالم بقوله: «كن» (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(4). ويمكن أن يكون للعبارة الأخيرة معنى آخر وهو أن خلق هذه المخلوقات لم يعجزه عن إدارتها; وتكون العبارة في هذه الحالة تأكيد لما ورد في العبارة السابقة. وهذه الصفات هى الاُخرى نابعة من ذاته اللامتناهية; لأنّ العجز والتعب والثقل إنّما يصدق على الذات المحدودة القدرة التي تسعى للقيام بما يفوق
1. سورة الحديد / 4.
2. سورة ق / 16.
3. سورة البقرة / 115.
4. سورة يس / 82 .
قدرتها; وليس هنالك من مفهوم للصغير والكبير والثقيل والخفيف والسهل والصعب على الذات اللامتناهية القدرة ـ ثم قال(عليه السلام): «ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدر، بل قضاء متقن، وعلم محكم، وأمر مبرم» فالإنسان وبعلمه المحدود قد يتخذ قرارا مهما وحاسما إلاّ أنّ تكشف بعض الحقائق قد تثنيه عن ذلك القرار، كما يقف أحياناً على عمق خطأه فلا يواصل الطريق الذي إبتدأه. أمّا من كان علمه أزلي ولا يخفى عليه شئ في عالم الوجود ولا تتكشف له حقائق جديدة، وله إحاطة تامة وكل زمان ومكان حاضر عنده، فليس من سبيل للشبهة والشك إلى تدبيره وعزمه وتقديره. ونقول مرة أخرى أنّ هذه الصفة تستند إلى كون الذات والصفات الإلهية لامتناهية. ثم يختتم الإمام(عليه السلام)الخطبة بالقول: «المأمول مع النّقم، المرهوب مع النّعم» وهذا ما أشار إليه القرآن مرارا وكرارا ومن ذلك قوله: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً)(1) وقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرى أَنْ يَأْتِـيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرى أَنْ يَأْتِـيَهُمْ بَأْسُنا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(2). نعم فان المشاكل مهما بدت معقدة أمكن حلها بلطف اللّه وفضله، والنعم مهما كانت واسعة شاملة فان قبضها ليس صعب على الإرادة الإلهية. وعليه فلا يمكن اليأس عند البلاء والشدة، ولا الغفلة عند الرفاه والنعمة ومن هنا فان المؤمن يعيش الخوف والرجاء على الدوام في حياته. والصفتان الأخيرتان تستندان أيضاً إلى الذات والصفات اللامتناهية، فلما كانت قدرته لامتناهية فانّ حل الصعاب سهل يسير عليه سبحانه كما يسهل عليه سلب النعم ممن يكفرها. فأدنى زلزال يمكنه أن يقضي على منطقة برمتها، كما أن مرضاً خطيراً يمكنه أن يودي بحياة الالاف بل الملايين من الأفراد، أو أنّ برودة أو حرارة يمكنها أن تميت الاف الأشخاص.
—–
مما لا ريب فيه ان معرفة الله سبحانه وتعالى، والاحاطة باسمائه وصفاته، لها أهمية كبيرة،
1. سورة الانشراح / 5 ـ 6.
2. سورة الاعراف / 97 ـ 98.
وكل أحد يجب أن يستفيد أتم الفائدة من هذه المعرفة، وبتعبير آخر «إن نفس المعرفة تمثل الطريق إلى التكامل والقرب من الله سبحانه وتعالى»، ولكن، وفي هذه الحالة يجب أن لا ننسى بأن الاهتمام بصفات الجمال والكمال لها تأثير مهم في تربية النفوس الانسانية والاتجاه إلى الكمال المطلق، وتسوق الانسان إلى مرحلة الوصول إلى المِثل، ولو كان بدرجات متدنية جداً.
وبعبارة أوضح: عندما نقول بان الله عالم وقادر ومهيمن ونحده لقدرته ونثني عليه لهيمنة وملكوته، فكيف نرتضي لانفسنا ان نعيش في جهل مطلق وضعف وعدم مقدرة كاملة؟
ان حمدنا وتقديرنا لله من شأنه أن يزيد فى عزتنا وكمالنا واقتدارنا، ويدعونا إلى الرفعة والمنزلة العالية، وهذا كله في باب «صفات الذات».
أما عن «صفات الافعال»، فعندما نحمد الله لرحمانيته ورحيميته، ونقول «رَحْمتُهُ وسِعت كل شيء»، بل لقول: ان رحمته الخاصة بالرغم من كونها تختص بعباده من أهل التقوى والايمان، الا أن رحمته العامه، تشمل العدو والصديق وان مائدة رحمته ونعمته اللامتناهية وسعت كل شىء.
فكيف يمكننا ان نستفيد من هذه الصفة الرفيعة والسامية، لكننا لا نرحم صديقنا ولا عدونا، بل ان قلوبنا في بعض الاحيان خالية من أي نوع من الرحمة؟
ومن هنا فان الاهتمام بكافة الصفات الكمالية، سواءً صفات الذات أو صفات الافعال، وهى «الجود والسخاء والمغفرة والعزة والعفو والاحسان، وامثالها» والتي بامكانها ان تكون شعاعاً ينعكس في وجودنا فيجذبنا اليه.
ومن كلام له (عليه السلام)
في تعليم الحرب والمقاتلة
والمشهور أنه قاله لأصحابه ليلة الهرير،(2) أو أول اللقاء بصفين
![]() |
![]() |