1. سند الخطبة: رواها جمع كثير من المؤرخين والمحدثين قبل السيد الرضي وبعده ومنهم نصربن مزاحم في كتاب صفين والحافظ في البيان والتبيين وفرات بن ابراهيم الذي عاش على عهد الإمام الرضا(عليه السلام) في تفسيره المعروف والمسعودي في مروج الذهب (مصادر نهج البلاغة 2/52).

2. «ليلة الهرير»: والمقصود به نباح وعواء الكلاب ليلا من شدة البرد.

و «هرير»: وتعني في الأصل صوت الكلب المنحفض، وهو دون النباح، والذي يطلقه من قلة صبره على البرد.

وليلة الهرير هنا، هى الليلة المعروفة، من ليالي حرب صفين المملوءة بالحوادث، حيث استمرت فيها الحرب من النهار إلى طوال الليل، وكانت ليلة قارصة البرد مملوءة بالخوف والمخاطر، حيث هلك في هذه الليلة عدد كبير من جيش معاوية على يد ابطال جيش الإمام اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام).

[ 54 ]

عن مثله، لا واللّه ما رأيت فارساً يوزن به لرأيته يوما ونحن معه بصفين، وعلى رأسه عمامة سوداء، وكأن عينيه سراجا سليط. تتوقدان من تحتها، يقف على شرذمة شرذمة يخطبهم، حتى إنتهى إلى نفرأنا فيهم، وطلعت خيل لمعاوية تدعى بالكتيبة الشهباء، عشرة الاف دارع على عشرة آلاف أشهب، فاقشعر لها الناس لما رأوها، وانحاز بعضهم إلى بعض، فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): فيما الخنع والنخع ـ يا أهل العراق ـ هل هى إلاّ أشخاص ماثلة فيها قلوب طائرة لو مستها سيوف أهل الحق لرأيتموها كجراد بقيعة سفته الريح في يوم عاصف، ألا فاستعشروا الخشية، وتجلببوا السكينة، ادرعوا الصبر، وغضوا الأصوات، وقلقلوا الأسياف في الأغماد قبل السلة... .(1)

—–


1. مصادر نهج البلاغة 2/53. (مع تلخيص)

[ 55 ]

 

 

القسم الأول

 

«مَعاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ، وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ، وَعَضُّوا عَلَى النَّواجِذِ، فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ. وَأَكْمِلُوا اللَّأْمَةَ، وَقَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمادِها قَبْلَ سَلِّها، وَالْحَظُوا الْخَزْرَ، وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ، وَنافِحُوا بِالظُّبَى، وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطا».

—–

 

الشرح والتفسير

طائفة من الفنون القتالية

أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى تسعة من أساليب وفنون القتال العملية في ساحة المعركة فقال(عليه السلام): «معاشر المسلمين استشعروا الخشية، وتجلببوا السّكينة» إستشعروا من مادة شعار من الثياب ما يكون دون الدثار وهو يلي الجلد، أي اجعلوا الخوف من اللّه تعالى شعاركم، وتجلببا من مادة جلباب الثوب المشتمل على البدن وعادة ما يطلق على الثوب الذي تستر به المرأة رأسها وعنقها وبعض صدرها وظهرها، وهو أطول من الخمار وأقصر من الرداء. فالأمر الأول الذي يؤكد الإمام(عليه السلام)وجوب اختلاطه بروح المقاتل وقلبه هو خوف اللّه وخشيته والشعور بالمسؤولية تجاه أوامر اللّه في طاعتها وإمتثالها، ولعل هذا أهم الدوافع التي ينبغي أن يتحلى به المقاتل المؤمن فيمنحه الثبات والصمود تجاه العدو. الأمر الثاني الذي أكده الإمام(عليه السلام) هو أن يتحلى المقاتل بالسكينة والحلم والوقار، وذلك لأنّ أدنى إضطراب في ميدان القتال أمام العدو إنّما يكشف عن الضعف والعجز، وهذا ما يجعل العدو في مطمع من إقتحام الميدان واللجوء إلى الهجوم. والواقع أنّ الأفراد الأقوياء والشجعان يتصفون دائما بالتماسك وضبط النفس، بينما يعيش الضعفاء والجبناء حالة من الاضطراب والقلق على الدوام. وقد قال

[ 56 ]

القرآن الكريم بشأن السكينة وأهميتها: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِـينَةَ فِي قُلُوبِ المُـؤْمِنِـينَ لِـيَزْدادُوا إِيْماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السَّمـواتِ وَالأَرْضِ وَكانَ اللّهُ عَلِـيماً حَكِـيماً)(1)وهذه السكينة كانت هى العامل الذي وقف وراء إنتصار المسلمين في كافة الغزوات التي خاضوها ضد معسكر الكفر والشرك، وهى التي شدت أزر النبي(صلى الله عليه وآله)أثناء تلك الشدائد كدخوله(صلى الله عليه وآله) إلى غار جبل ثور وكان العدو يقف على باب الغار بحثاً عنه. ثم قال(عليه السلام):«وعضّوا على النّواجذ، فإنّه أنبى(2) للسّيوف عن الهام(3)» قوله(عليه السلام)«عضوا على التواجذ» جمع ناجذ وهو أقصى الاضراس، وللإنسان أربعة نواجذ في كل شق، ويسمى الناجذ ضرس الحلم، لأنّه ينبت بعد لبلوغ وكمال العقل، ويقال إنّ العاض على نواجذه ينبو السيف عن هامته نبواماً، وهذا ممّا يساعد التعليل الطبيعي عليه، وذلك أنّه إذا عض على ناجذه تصلبت الأعصاب والعضلات المتصلة بدماغه، وزال عنها الاسترخاء، فكانت على مقاومة السيف أقدر، وكان تأثير السيف فيها أقل وصرح بعض شرّاح البلاغة قائلاً: هذا كلام ليس على حقيقته، بل هو كناية عن الأمر بتسكين القلب وترك اضطرابه واستيلاء الرعدة عليه. ثم قال(عليه السلام): «و أكملوا اللاَّمة»(4)، اللأمة بالهمزة الدرع، وإكمالها أن يزاد عليها البيضة والسواعد ونحوها، ويجوز أن يعبر باللأمة عن جميع أداة الحرب، كالدرع والرمح والسيف، وأراد الإمام(عليه السلام)بهذه العبارة: أكمل السلاح الذي تحاربون العدو به. ثم قال(عليه السلام):«وقلقلوا(5) السّيوف في أغمادها(6) قبل سلّها» فالعبارة تنطوي على أهمية قصوى وان بدت صغيرة للوهلة الاولى، وذلك لئلا يدوم


1. سورة الفتح / 4.

2. «أنبى» من مادة «نبو» على وزن نبض بمعنى ارتقاع شيء عن شيء آخر والابتعاد عنه، وبهذا الدليل يستعمل هذا الاصطلاح عندما تعجز السيوف عن أداء دورها، حيث تبتعد السيوف عن تحقيق الهدف.

3. «الهام» جمع «الهامة» بمعنى مطلق الرأس وهو كائن ذاروح، واحيانا يستفاد من هذا الاصطلاح بشكل مطلق.

4. «لأمة» على وزن رحمة، وهى في الأصل بمعنى الاجتماع والاتفاق، ومن هنا، فعندما يلتحم الجرح ويشفى، فيقال له «التيام» و«لأمة» تأتي بمعنى الدرع، ولعل تسميتها بهذا الاسم جاء من قرب حلقاتها واجتماعها وارتباطها، وأحيانا يطلق هذا الاصطلاح على أي سلاح.

5. «قلقوا» السيوف من مادة «قلقلة» على وزن مرحمة بمعنى حركوا السيوف.

6. «أغماد» جمع «غمد» على وزن رند بمعنى بيت السيف، ومن هنا تطلق على بعض النباتات التي تختفي أشواكها في حواف أوراقها.

[ 57 ]

مكثها في الا جفان فيصعب سلها وقت الحاجة إليها، الأمر الذي قد يؤدي إلى بعض الأخطار التي لا يمكن معالجتها في ساحة الحرب. ثم قال(عليه السلام):«و الحظوا الخزر، واطعنوا الشّزر» الخزر أن ينظر الإنسان بعينه، وكأنّه ينظر بمؤخرها وهى أمارة الغضب، كما تستعمل أحياناً حين عدم الإكتراث، وقائدة مثل هذا الاُسلوب في ميدان القتال أولاً: إشعال وتأجيج نيران الغضب في الباطن بحيث تشحذ كافة القوى الداخلية وتتضاعف طاقة الإنسان وقدرته، والآخر أن النظر بكامل العين يدل على الخوف والوهن والعجز، الأمر الذي يجعل العدو أكثر جرأة وجسارة. وشزر على وزن نذر بمعنى الشتت وأكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن عن اليمين والشمال، ولعل الإمام(عليه السلام)أراد سلب إحساس العدو بالأمن فيما إذا تركزت ضربات المجاهدين على جانب واحد، كما يتأهبوا لتسديد الضربات الاجهاضية. فالواقع إنّ مثل هذه العبارات تكشف مدى خبرة الإمام(عليه السلام)بفنون القتال وخطط الحرب. ثم إختتم وصاياه بالقول: «ونافحوا بالظّبا، وصلوا السّيوف بالخطا» نافحوا من النفح على وزن الفتح بمعنى النفخ كناية عن شدة الاقتراب من العدو، والظبا طرف السيف وحده، والمراد كافحوا وضاربوا. والمراد بقوله(عليه السلام): «صلوا السّيوف بالخطا» أنّ اليد قد لاتكفي أحياناً لضرب العدو بالسيف ولابدّ من التقدم بضع خطوات والضرب بالسيف.

—–

 

تأمّل

الفنون القتالية في الماضي والحاضر

تمثل الفنون القتالية في الوقت الراهن علماً من العلوم المهمّة التي ينبغي تدريسها في الكليات العسكرية وتعلمها على مدى سنوات وممارستها في ساحات التدريب، فالواقع أنّ تجاهل مثل هذه الفنون لا يجعل أعظم الجيوش أن تتقدم في ميادين القتال وإن جهز بأحدث الاسلحة المتطورة. ومن هنا كان أتباع المدرسة الإسلامية مطالبين بتعلم كافة هذه الفنون من أجل الدفاع عن مبادئ الدين ومصالح البلاد، ولعل ذلك يمثل واجباً كفائياً، بل واجباً عينياً. فمما لاشك فيه أن الأسلحة لم تكن بهذا التعقيد كما لم تكن الفنون والخطط الحربية بهذه الدقة

[ 58 ]

التي هى عليها اليوم، مع ذلك فقد كانت لتلك الحروب أساليبها وقوانينها التي عرض الإمام(عليه السلام)بالشرح إليها، والتي تكشف عن مدى خبرة الإمام(عليه السلام) ومراسه للحرب. ولعل هنالك من يقول أن تعلم فنون القتال إنّما يؤدي إلى سفك المزيد من الدماء، الأمر الذي أكد عكسه في الوصايا والتعاليم الإسلامية ولا سيما الاوامر الحربية، حيث تحرص هذه التعاليم على الدماء وتدعو إلى الحد قدر المستطاع من سفك الدماء. والجواب إنّ ماورد في هذه الخطبة أمّا يمثل الامتداد الطبيعي لتلك التعاليم، لأنّ المقاتل إذا ألم باساليب القتال وفنونه أمكنه تحقيق النصر الخاطف السريع على العدو بأقل التضحيات. أضف إلى ذلك فان العدو إذا وقف على قدرة الخصم ومهارته في فنون القتال واستماتته من أجل الأهداف الإسلامية قد يركع ويستسلم فيرجح السلام على الحرب، الأمر الذي يحسم المعركة ويقلل من سفك الدماء.

—–

[ 59 ]

 

 

القسم الثاني

 

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللّهِ، وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللّهِ(صلى الله عليه وآله) فَعاوِدُوا الْكَرَّ، واسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ، فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الاَْعْقَابِ، وَنارٌ يَوْمَ الْحِسابِ وَطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً، وَامْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً، وَعَلَيْكُمْ بِهَذا السَّوادِ الاَْعْظَمِ، وَالرِّواقِ الْمُطَنَّبِ، فاضْرِبُوا ثَبَجَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ،قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً، وَأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلاً. فَصَمْداً صَمْداً! حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ «وَ أَنْتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ».

—–

 

الشرح والتفسير

الثبات والمقاومة

خاض الإمام(عليه السلام) في هذا القسم من الخطبة برفع معنويات جنده وأوصاهم بالثبات في القتال بغية إستئصال شأفة العدو فقال لهم: «و اعلموا أنّكم بعين اللّه» فاذا علم الإنسان أنّه بعين سيده القادر على كل شئ والمحيط به فانه يستلهم منه العزم والقوة وعدم الشعور بالوحدة من جانب، ومن جانب آخر يلفت نظره إلى عظم المسؤولية والوظيفة التي ينبغي أن ينهض بعبئها. وقد ورد هذا المعني في قصة نوح(عليه السلام) حين أمر بصنع السفينة (وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(1) في إشارة إلى أنّ العدو قد يحاول أن يعيقك عن القيام بهذا العمل من خلال السخرية والاستهزاء، أو من خلال ممارسة الحرب الدعائية والضغوط النفسية، فلا تكترث لهذه الاُمور ولا تخف فانّك تعمل وفق المشيئة الإلهية الغالبة. وهو ذات المعنى الذي ألمحت إليه


1. سورة هود / 37.

[ 60 ]

الآية الشريفة: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)(1) في إطار رباطة جأش النبي الأكرام(صلى الله عليه وآله)حيال تكالب الأعداء. ثم قال(عليه السلام):«و مع ابن عمّ رسول اللّه» ابن عمه الموصوف باخوته ووصيه ومن كان يتبعه اتباع الفصيل إثر اُمه. وعليه فلا ينبغي أن تشعروا بأدنى شك وترديد في مسيرتكم فاندفعوا بكل ما أوتيتم من قوة لقتال عدوكم، هذا في الوقت الذي يمثل فيه عدوكم سلالة أعداء رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، فوالد معاوية هو أبو سفيان الذي كان أعدى أعداء رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وعليه فهو غاصب للخلافة لابدّ من مقاتلته وإعادته إلى الحق. أمّا تأكيد الإمام(عليه السلام) على قرابته من النبي(صلى الله عليه وآله) ورغم كونه أمراً متعارفاً لدى العقلاء ـ الذين يرون قرابة الشخص أعلمهم بما جاء مالم يقم الدليل على خلافه ـ إلاّ أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى حديث الثقلين الذي جعل فيه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أهل بيته في مصاف القرآن ودعا الاُمّة إلى وصيتين هما في الواقع بمثابة اللازم والملزوم، فقال: «فعاودوا الكرّ، واستحيوا من الفرّ، فإنّه عارٌ في الاْعْقاب، ونارٌ يوم الحساب» فالعدو قد لاينهار من كرة واحدة ولابدّ من الكرة تلو الكرة لاضعاف العدو والقضاء عليه من جانب، من جانب آخر لا تحدثوا أنفسكم أبداً بالفرار من جبهات القتال، فانّ ذلك عار يوصم به جبينكم كما تجروه على أعقابكم من بعدكم فان الابناء يعيرون بفرار آبائهم(2)، وبغض النظر عن ذلك فان هذا الفرار سيكون وبالاً عليكم يوم الحساب فتردون النار، لأنّ الفرار من الزحف يعد من الكبائر، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأمر بقوله: (يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِـيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتال أَوْ مُتَحَـيِّـزاً إِلى فِئَة فَقَدْ باءَ بِغَضَب مِنَ اللّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِـيرُ)(3). ثم يؤكد(عليه السلام)الجهاد بأمرين من قبيل اللازم والملزوم أيضاً فيقول: «و طيبوا عن أنفسكم نفساً(4) وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً» سجح على وزن صحف


1. سورة طه / 48.

2. لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ هذا التفسير على أساس أنّ «أعقاب» جمع «عقب» على وزن نسب بمعنى الأولاد، وان كان عقب على وزن قفل بمعنى العاقبة وما يؤول إليه الأمر فانّ مفهوم العبارة سيكون «إنّ الفرار من الجهاد عار في عاقبة أمركم» إلاّ أنّ التفسير الأول أنسب.

3. سورة الانفال / 15 ـ 16.

4. جملة «طيبوا نفساً»، تستعمل كتعبير عندما يستقبل الانسان شيئاً بالرضا وطيب الخاطر، وفي هذه الموارد تأتي بعنوان تمييز منصوب.

[ 61 ]

تعني المستقيم وهى تستعمل بشأن الطرق المستوية والمستقيمة، ولما كان المشي سهلاً في مثل هذه الطرق فانّها تطلق على السهل أيضاً. ومن هنا ورد في المثل العربي المعروف «ملكت فاسجح». فالإمام(عليه السلام)يرى أنّ الشهادة في سبيل اللّه ضالة أهل الإيمان، فيؤكد عليهم عدم الاكتفاء برفض الخشية والخوف من الشهادة، بل لابدّ من إستقبالها بكل رحابة صدر، فطريقها سهل يسير ولابدّ من ركوبه لمعانقتها. وقد كان الإمام(عليه السلام)نموذجاً بارزاً لهذا الكلام حتى أقسم قائلاً: «واللّه لابن ابي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه»(1) وهو الذي صرح عند ما ضربه ابن ملجم: «فزت وربّ الكعبة».

ثم قال(عليه السلام) في إشارة إلى مركز تجمع جيش الشام والخيمة التي تربع داخلها معاوية: «وعليكم بهذا السّواد الاْعْظم، والرّواق الْمطنّب، فاضْربوا ثبجه» فقد يطمع العدو وتشتد شوكته لو حمل عليه من هنا هناك مع مراعاة الحذر والاحتياط، وعلى العكس من ذلك لو كانت الحملة مصوبة إلى قلب عسكر العدو لانهارت روحية العدو وتحطمت معنوياته، فانّ الهجوم على المركز يكشف عن مدى القوة والاقتدار، ومن هنا إستفاد الإمام(عليه السلام) هذه القضية النفية ليأمر جيشه بالهجوم على قلب العدو ومركز قيادته. والسواد الأعظم كناية عن التجمع الكبير الذي يبدو أسوداً من بعيد، والمراد به هنا عسكر الشام. الرواق على وزن كتاب غراب الفسطاط، وهو هنا إشارة إلى الخيمة الكبيرة المضروبة لمعاوية، المطنب المشدود بالأطناب جمع طنب بضمتين وهو حبل يشد به سرادق البيت والثبج بالتحريك الوسط وقوله(عليه السلام): «فاضربوا ثبجه» تعني الهجوم على قلب جيش الشام وخيمة معاوية. ثم أورد الإمام(عليه السلام)الدليل على ما قال: «فإنّ الشّيطان كامنٌ في كسره(2)وقد قدّم للوثبة(3) يداً، وأخّر للنّكوص(4)رجلاً»، والمراد بالشيطان هنا معاوية حيث جمع الأفكار والأعمال الشيطانية بينما ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّه أراد بالشيطان عمروبن العاص، كما قيل قد يراد به الشيطان الحقيقي «ابليس» الذي كان يتلاعب بمعاوية وعسكره آنذاك. وقد صور الإمام(عليه السلام)بهذه العبارة روحية معاوية الذي كان يعد نفسه للهجوم من جهة وهو يهم بالنكوص والفرار من جهة


1. للوقوف بصورة أعمق على هذا الموضوع راجع الخطبة الخامسة من المجلد الأول.

2. «كسر» على وزن مصر شقه الأسفل، كناية عن الجوانب التي يفر إليها المنهزمون.

3. «وثبة» من مادة «وثب» على وزن نصر بمعنى الظفر والنصر، كما تعني القفز للاستيلاء على الشئ.

4. «نكوص» بمعنى الانسحاب والتراجع عن القيام بعمل، وعادة ما تستعمل بشأن التراجع عن اَعمال الخير.

[ 62 ]

اُخرى; ولا غرو فهذه هو الاسلوب المتبع لدى الساسة الماديين، فليس لهم من هدف مقدس يقاتلون من أجله، ومن هنا يهربون هروب الشاة من الذئب إذا ما جابهتهم ثلة من المؤمنين. فقد صرح القرآن الكريم بشأن أعوان الشيطان في مجابهتهم للمؤمنين وكيفية تخلي الشيطان عنهم قائلاً: (وَإِذ زَيَّنَ لَـهُمُ الشَّـيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ)(1) ولا يقتصر هذا الأمر على الشيطان ـ ابليس ـ فهذا هو ديدن شياطين الانس الذين يزجون باتباعهم في الأحداث الساخنة ثم يخذلونهم في الظروف الحرجة. ثم إختتم الإمام(عليه السلام)خطبته قائلاً: «فصمداً صمداً!(2) حتّى ينجلى لكم عمود الحقّ (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)» فالواقع إنّ هذه العبارة تمثل نتيجة لما أورده الإمام(عليه السلام)ودعا إليه صحبه; أي أنكم قد وقفتم الآن على التعليمات الكافية والفنون القتالية وكيفية الهجوم على مركز تجمع العدو، فما عليكم إلاّ الثبات والصمود والمقاومة لاندحار الباطل وانتصار الحق. ثم يعدهم بالنصر استنادا إلى البشارة التي تضمنتها الآية 35 من سورة محمد(صلى الله عليه وآله): (وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ). وعليه فالخطبة تمثل دروساً عظيمة في التعرف على أساليب القتال وعناصر النصر دون أن تقتصر على زمان الإمام(عليه السلام). ويشير التأريخ إلى مدى التأثير الذي لعبته كلمات الإمام(عليه السلام)حتى ورد في كتاب صفين لنصربن مزاحم أنّ الإمام(عليه السلام)حين أورد هذه الكلمات ودعا صحبه أثناء صفين للهجوم على أهل الشام انطلق أكثر من عشرة الاف خلف الإمام(عليه السلام)ووثبوا إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم فانقضوا على جند معاوية حتى إقتربوا من خيمته فكاد يقضى عليه لو لاتلك الخدعة التي عمد إليها ابن العاص في رفع المصاحف على أسنة الرماح.(3)


1. سورة الانفال / 48.

2. «صمد» على وزن حمد، وجاء على معنيين، أحدهما «القصد» والثاني «الاستحكام والصلابة» وليس مستبعد ان يكون يرجع أصل المعنيين إلى أصل واحد، لان القصد يحصل اذا كان هناك استحكام وصلابة خاصة.

و«صمد» على وزن سبب، بمعنى الشخص الذي يقصده المحتاجون، وتعني: المكان الرفيع والسامي، وكذلك يأتي بمعنى الشيء المحلوء، وكل هذه المعاني لها تناسب مع المعنى الاصلي لهذا الاصطلاح.

وقد ورد في الجملة اعلاه كتعبير عن المقاومة والصمودُ البصر والتحمل في مواجهة العدو.

3. شرح نهج البلاغة للمرحوم تسترى 13/543.

[ 63 ]

 

 

 

الخطبة(1) 67

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

قالوا: لما إنتهت إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)قال(عليه السلام): ما قالت الانصار؟ قالوا: قالت: منا أمير، ومنكم أمير; قال(عليه السلام):

 

نظرة إلى الخطبة

الخطبة تمثل ردّاً حاسماً على زعمين بشأن خلافة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله). الأول وهو اجتماع طائفة من الناس في سقيفة بني ساعدة لتعيين الخلافة دون الالتفات إلى وصية النبي(صلى الله عليه وآله)بهذا الشأن فطالبت الأنصار بالشورى وأن ينتخب منهم أمير وأخر من المهاجرين. ففند الإمام(عليه السلام)هذا الزعم بحديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله). والثاني إستدلال المهاجرين على الأنصار بأحقيتهم بالخلافة. فاستدل عليهم الإمام(عليه السلام)بنفس إستدلالهم في أحقية أهل البيت(عليه السلام)بالخلافة إن كان إستدلالهم صحيحاً.


1. سند الخطبة: تعتبر هذه الخطبة من الخطب المعروفة لأميرالمؤمنين علي(عليه السلام)والتي روتها عدة مصادر من قبيل نهاية الارب للتويري وتأريخ الطبري وتأريخ ابن الأثير في حوادث سنة 11 هـ وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري، كما ورد بعضها في صحيح البخاري وصحيح مسلم، مصادر نهج البلاغة 2/58ـ60.

[ 64 ]

[ 65 ]

 

 

 

«فَهَلاَّ احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله وسلم وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ وَيُتَجاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ؟ قالُوا: وَما فِي هَذا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ؟ فَقالَ(عليه السلام): لَوْ كانَ الاِْمامَةُ ]الامارة[ فِيهِمْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ، ثُمَّ قالَ(عليه السلام): فَماذا قالَتْ قُرَيْشٌ قالُوا احْتَجَّتْ بِأَنَّها شَجَرَةُ الرَّسُولِ(صلى الله عليه وآله): فَقالَ(عليه السلام): احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وَأَضاعُوا الثَّمَرَةَ».

—–

 

الشرح والتفسير

الاستدلال المنطقى على الخلافة

أوردنا سابقا أنّ الإمام خطب بهذه الخطبة لما إنتهت إليه أنباء السقيفة وأنّ الأنصار قالت للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير، فقال(عليه السلام): «فهلاَّ احتججتم عليهم بأنَّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلّم وصّى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؟»(1)فاستفسره الحاضرون «قالوا: وما فى هذا من الحجّة عليهم؟» فردّ عليهم الإمام(عليه السلام):«فقال: لوكانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيّة بهم» فمن الواضح أنّ وصية أحد بآخر تفيد أنّ تصريف الاُمور بيد الموصى إليه، لابيد ذلك الذي أوصي به. بالضبط كالأب الذي يسافر فيوصي ولده الأكبر قائلاً: اُوصيك باخوانك خيراً. فمفهوم ذلك أني فوضتك القيام بالأعمال وأودعتك إخواتك. وعليه فالذي يستفاد من حديث النبي(صلى الله عليه وآله) أنّ الحكومة ليست للأنصار، إلاّ أن أصحاب السقيفة لم يلتفتوا لهذا الأمر وانحوا الأنصار بالقوة عن الخلافة. وقد استدل


1. روي هذا الحديث في صحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الأنصار  ، أنّ النبي(صلى الله عليه وآله)قال: «  إن الأنصار كرشي وعيبتي  .  .  . فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم  »  . صحيح مسلم  ، 4/1949 طبع دار إحياء التراث العربي  .

[ 66 ]

المتأخرون بمثل هذا الكلام على إثبات صحة دعواهم، ومن ذلك ما رواه ابن أبي الحديد قائلاً: حين توفي سعيد بن العاص، دخل إبنه عمرو بن سعيد على معاوية، فسأله معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال عمرو. لقد أوصى إلىّ ولم يوص بي. فتعجب معاوية من جوابه وقال: «إنّ هذا الغلام لاشدق» فعرف منذ ذلك الحين بين الناس بالاشدق أي الخطيب البليغ. ثم طرح الإمام(عليه السلام)سؤالاً آخر بهذا الشأن: «ثمّ قال: فماذا قالت قريشٌ؟» فردوا عليه: «قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم» فذهب الإمام(عليه السلام) إلى أنّ ذلك حجة عليهم «فقال: احتجّوا بالشّجرة، وأضاعوا الثّمرة». فاذا كانت الشجرة ذات أثر كان ثمرها أعظم أثراً. والعجيب ما أورده الشارح البحراني الذي أورد احتمالين بشأن المراد بالثمرة في هذه العبارة: أحدهما علي وأولاده، والاخر السنة النبوية التي توجب استحقاق علي(عليه السلام)للخلافة والولاية. فمن الواضح أنّ الاحتمال الثاني مستبعد رغم موافقته للاحتمال الأول، فاذا كانت الشجرة ترمز للقرب فان ثمرها يكون أكثر قربا، وعليه فليس المراد بهذه الثمرة سوى أهل البيت(عليه السلام).

 

تأمّل

الخلافة وقصة سقيفة بني ساعدة

روي أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لما قُبِض، اجتمعت الأنصار في سَقيِفة بني ساعدة، فقالوا: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد قبِض، فقال سعد بن عبادة لابنه قيس ـ أو لبعض بنيه: إنّي لا أستطيعُ أن أُسمِعَ الناسَ كلامي لمرضِى; ولكن تلقّ مني قولِي فأسْمِعهم. فكان سعد يتكلّم، ويستمع ابنه ويرفع به صوته ليُسمِع قومَه.

قال الطبري ثم خاطب سعد الانصار وذكرهم بسبقهم إلى الاسلام حين عادته العرب وقد لبث رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثلاث عشرة سنة في مكة فلم يجبه إلا القليل، حتى انبريتم للدفاع عن الاسلام ونصرة النبي(صلى الله عليه وآله) ووقفتم إلى جانب الحق، إلى أن قبض النبي(صلى الله عليه وآله) وهو راض عنكم فانتم أولى بالخلافة من غيركم.

فحدثه الحديث، ففزِع أبو بكر أشدَّ الفزع، وخرجا مسرعيْن إلى سقيفة بني ساعدة; وفيها

[ 67 ]

رجالٌ من أشراف الأنصار; ومعهم سعد بن عبادة فقام أبو بكر فقال: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) لما بُعث عظم على العرب أن يتركُوا دينَ آبائهم، فخالفوه وشاقّوه، وخصّ الله المهاجرين الأولين من قومِه بتصديقه الإيمان به والمواساة له، والصَّبْر معه على شِدّة أذى قومه، ولم يستوحشوا لكثرةَ عَدوّهم; فهمْ أول مَنْ عَبَد الله في الأرض، وهم أوّلُ مَنْ آمن برسول الله، وهم أولياؤه عِتْرته، وأحقّ الناس بالأمر بعده، لا ينازعهم فيه إلاّ ظالم; وليس أحدٌ بعد المهاجرين فضلاً وقَدَماً في الإسلام مثلكم; فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا نمتاز دونَكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الاُمور.

فقامَ الحُباب، وقال:

يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من الأمر، فإن أبوْا عليكم ما أعطيتموهم فأجلُوهم عن بلادكم، وتولَّوْا هذا الأمر عليهم، فأنتم أوْلَى الناس بهذا الأمر، إنّه دانَ لهذا الأمر بأسيافكم مَنْ لم يكن يدين له. أنا جُذَيْلُها المحكَّك، وعُذَيْقُها المرجَّب، إن شئتم لنعيدنَّها جَذعة، والله لا يرّد أحدٌ علىّ ما أقول إلاّ حطّمتُ أنفه بالسَّيْف.

فقال عمر: هيهات! لا يجتمع سَيْفان في غِمْد; إنّ العرب لا ترضى أن تؤمِّرَكم ونبيُّها من غيركم.

قال: فلما رأى بشير بن سعد الخزرجىّ ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمِير سعد بن عبادة ـ وكان حاسداً له وكان من سادة الخْزرج ـ قام فقال:

أيّها الأنصار، إنّا وإنْ كُنّا ذوِي سابقة، فإنّا لم نُرِدْ بجهادنا واِسلامنا إلاّ رضاً رَبِّنا وطاعة نبينا، ولا ينبغي لنا أن نستطِيل بذلك على الناس، ولا نبتغِي به عِوَضاً من الدّنيا، إن محمداً(صلى الله عليه وآله)رجلٌ من قريش; وقومه أحقُّ بميراثِ أمره، وايمُ الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر; فاتّقوا اللهَ ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.

فقام أبو بكر، وقال: هذا عمر وأبو عُبيدة، بايعوا أيَّهما شئتم; فقالا: والله لا نتولّى هذا الأمر عليك.

و لما رأت الأوس أنّ رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام اُسَيد بن حُضَير ـ وهو رئيس الأوس ـ فبايَع حسداً لسعد أيضاً، ومنافَسةً له أن يلىَ الأمرَ، فبايعت الأوس كلّها لمّا بايع

[ 68 ]

اُسيَد، وأراد عمر ان يقتل سعدا إن لم يبايع، إلا أنه خشى من تهديد سعد بعد أن نصحه ابوبكر بالكف عنه.