![]() |
![]() |
وقال المرحوم العلامة الاميني بهذا الخصوص «وكان من حشدهم اللهام رجال من الجن رموا سعد بن عبادة أمير الخزرج».(4)
وحين حج عمر سمع من يقول «إن مات عمر بايع فلانا»(5) فغضب عمر وصعد المنبر ثم قال: لا يقول أحد ذلك انما كانت بيعة أبي بكر فتنة وتمت... ولكن الله وقى شرها.
1 ـ يتبيّن مما مر معنا سابقا أن الشورى التي عقدت في السقيفة لم تكن شرعية منتخبة من
1. تاريخ الطبري 2/455 (بتلخيص).
2. شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6/10.
3. شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد17 / 223 (ذكر ذلك على أنه أحد اعتراضات الشيعة على ابي بكر حيث يعتقد البعض أنه أمر بقتل سعدا».
4. الغدير 9/379 (لهام بمعنى الجيش العظيم).
5. يبدو المقصود هو علي(عليه السلام) (شرح البخاري للقسطلاني 11/352، نقلا عن البلاذري في أنساب الاشراف).
قبل الاُمّة كما أراد أن يصورها البعض، بل حضرها بعض الأنصار على أمل تحقيق أهدافهم، ثم التحق بهم بعض المهاجرين لينافسونهم على الخلافة، حتى آلت الاُمور إلى تنصيب أبي بكر.
2 ـ تفتقر السقيفة إلى الشرعية من الناحية الدينية، كما تفتقر إليها من الناحية السياسية على ضوء الاعراف والقوانين الحاكمة في الأنظمة السياسية، وذلك لأنّها لو كانت ممثلة لجميع الاُمّة لوجب أن يحضر ممثلاً عن الأنصار وآخر عن المهاجرين، بينما نعلم أنّ قرابة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) المتمثلة بأهل بيته لم تحضر ذلك الاجتماع.
3 ـ تفيد أحداث السقيفة أنّ انتخاب الأصلح لم يكن هو المعيار المعمول به في الخلافة، وكأنّهم اعتمدوا الميراث أسلوباً في التعامل معها بحيث كان كل يدعي سهم معيناً فيها، ومن الواضح أنّ من لديه هكذا نظرة إلى الخلافة، لا يسعه أن ينتخب الأصلح لابناء الاُمّة.
4 ـ لم تتطرق السقيفة من قريب أو بعيد إلى وصايا النبي(صلى الله عليه وآله) بالخلافة، رغم علم الجميع بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أوصى الاُمّة قائلاً: «إنّى تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي; ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً». أفلم يكن يدعو هذا الحديث الشريف الذي روته أغلب مصادر الفريقين حتى عدّ متواتراً والذي صرح به الرسول(صلى الله عليه وآله) في عدة مناسبات، من حضر السقيفة إلى الرجوع إلى القرآن وأهل البيت(عليه السلام) قبل أن يفرضوا أهدافهم على الاُمّة ويتحكموا في مصيرها؟(1) أولم يكن حديث الغدير المتواتر عن النبي(صلى الله عليه وآله) مانعاً لأهل السقيفة مما أقدموا عليه بشأن الخلافة؟ أو لم يسمعوا بحديث يوم الدار حين نص رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) منذ أوائل دعوته على خلافة علي(عليه السلام) ووصايته، أو ما أورده آخر ساعات عمره الشريف وقوله إتوني بقلم ودواة؟!
طبعا قد يبدو ذلك عجيبا منذ الوهلة الاولى، إلاّ أنّه سرعان ما يزول، حيث النبي(صلى الله عليه وآله)على فراش الموت ودعى بقلم ودواة فمنعوا من ذلك وتفوهوا باشنع الكلمات ضد أطهر الكائنات من بني آدم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله); الأمر الذي يكشف عن وجود خطة مسبقة بشأن الخلافة، بحيث لم يكن ليحول دونها حتى أحاديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ووصاياه. وما ذلك إلاّ الطمع في الخلافة
1. روى هذا الحديث ثلاثة وعشرين صحابيا على الأقل عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله). وللوقوف على أسمائهم والعبارات المختلفة التي وردت في رواياتهم يمكن الرجوع إلى المجلد التاسع من رسالة القرآن /62 ـ 79 أو خلاصة عبقات الانوار 2/105 ـ 242 وإحقاق الحق 4/438 والسيرة الحلبية ومستدرك الحاكم والصواعق واسد الغابة وسنن البيهقي.
وحب الجاه والمنصب التي تجعل الإنسان يتجاهل كل القيم والحقائق التي لا يشوبها أدنى شك أو ريب.(1) وهنا يتضح عمق كلام أميرالمؤمنين(عليه السلام) «احتجّوا بالشّجرة، وأضاعوا الثّمرة».
—–
1. حديث «القلم والدواة» أو «القلم والقرطاس» من الأحاديث العجيبة في أمر الخلافة، وقد روته أشهر مصادر العامة صحيح البخاري. فقد ورد في هذا الكتاب في باب مرض النبي(صلى الله عليه وآله) عن سعيد بن الجبير عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) الوفاة قال: هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال بعضهم: إنّ رسول اللّه قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه. فاختلف من في البيت واختصموا فمن قائل يقول: القول ما قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ومن قائل يقول: القول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط واللغو والاختلاف، غضب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فقال: قوموا، إنّه لاينبغي لنبي أن يختلف عنده هكذا فقاموا، فمات رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في ذلك اليوم. فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، يعني الاختلاف واللغط. (صحيح مسلم 3/1251 كتاب الوصية، باب 5 طبع دار إحياء التراث العربي). كما نقل هذا الحديث صحيح البخاري بطرق مختلفة (صحيح البخاري، المجلد السادس، باب مرض النبي(صلى الله عليه وآله)ووفاته، ص 12 دارالجيل بيروت).
ومن كلام له (عليه السلام)
لما قلد محمد بن أبي بكر مصر، فملكت عليه وقتل
كان(عليه السلام) قد ولى محمدبن أبي بكر مصر، فلما إضطرب الأمر عليه بعد صفين وقوي أمر معاوية طمع في مصر. وقد كان عمروبن العاص بايعه على أن يكون معه في قتال علي، وتكون مصر له طعمة، فبعثه إليها بعد صفين في ستة آلاف فارس، وقد كان فيها جماعة عظيمة ممن يطلب بدم عثمان وكانوا يزعمون أن محمداً قتله فانضافوا إلى عمرو، وكان معاوية كتب إلى وجوه مصر، أما إلى شيعته فبالترغيب، وأمّا إلى أعدائه فبالترهيب، وكتب محمدبن أبي بكر إلى علي(عليه السلام) بالقصة يستمده بالمال والرجال، فكتب إليه يثبته ويعده بذلك بأسرع ما يمكن، فجعل محمد يدعو أهل مصر إلى قتال عمرو، فانتدب معه أربعة آلاف رجل، فوجه ألفين مع كنانة ابن بشر لاستقبال عمرو، وبقي هو في ألفين، فابلى كنانة في ذلك اليوم بلاءاً حسناً وقتل من عسكر عمرو خلقاً كثيراً، ولم يزل يقاتل حتى قتل، فلما قتل تفرق الناس عن محمد. وأقبل عمرو يطلب محمداً فهرب منه مختفياً، فدخل عمرو فسطاطه. وخرج معاوية بن خديج الكندي، وكان من امراء جيش عمرو، في طلب محمد فظفر به، وقد كاد يموت عطشاً، فقدمه فضرب عنقه، ثم أخذ جثته فحشاها في جوف حمار ميت وأحرقه. وقد كان علي(عليه السلام)وجه لنصرته مع مالك بن كعب إلى مصر نحو ألفي رجل، فسار بهم خمس ليال، ورود الخبر إلى
علي(عليه السلام)بقتله وأخذ مصر فجزع(عليه السلام) جزعاً ظهر أثره في وجهه ثم قال: رحم اللّه محمدا كان غلاما حدثاً وقد أردت...(1).
—–
1. مصادر نهج البلاغة 2/61.
«وَ قَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ، وَلَوْ وَلَّيْتُهُ إِيّاها لَمّا خَلَّى لَهُمُ الْعَرْصَةَ، وَلا أَنْهَزَهُمُ الْفُرْصَةَ، بِلا ذَمّ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْر، فَلَقَدْ كانَ إِلَيَّ حَبِيباً، وَكانَ لِي رَبِيباً».
—–
كما ورد في شأن الخطبة فانّها ناظرة إلى حملة جيش معاوية على مصر وقتل عامل أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) محمد بن أبي بكر. فقد استهل الإمام(عليه السلام) ببعض الكلمات التي تشم منها رائحة الذم لبعض أصحابه فقال: «و قد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة، ولو ولّيته إيّاها لمّا خلّى لهم العرصة،(1) ولا أنهزهم(2) الفرصة» فالعبارة تفيد أنّ الإمام(عليه السلام)ورغم محبته لمحمد بن أبي بكر وثقته به وما يتصف به من إيمان وصدق، إلاّ أنه كان يرجح توليه هاشم بن عتبة المعروف بالمرقال الذي كان أشجع من محمد وأقوى وأعظم تجربة، ويبدو أن طائفة من أصحاب الإمام(عليه السلام) كانت ترى ضرورة ولاية مصر من قبل محمد كونه ابن أبي بكر وأكثر معرفة بمصر وأهلها، ومن هنا كان له نحو هيمنة على الرأي العام المصري وقبولاً لديه. أمّا الإمام(عليه السلام) فلم يكن يرى فيه مقومات الصمود المتوفرة في هاشم بفعل صغر سنه وقلّة تجربته، رغم إتصافه بما لا يخفى من الصفات بيد أنّ تلك الطائفة مارست ضغوطها كتلك التي مارستها بشأن التحكيم فلم يكن من الإمام(عليه السلام) سوى الاستجابة. فالإمام(عليه السلام)وبخ بهذه الكلمات تلك
1. «عرصة» من مادة «عرص» على وزن غرس كل بقعة واسعة بين الدور، والمراد ما جعل لهم مجالاً للمغالبة، وأراد بالعرصة عرصة مصر، وكان محمد قد فر من عدوه ظنا منه أنّه ينجو بنفسه، فأدركوه وقتلوه.
2. «انهز» من مادة «نهز» على وزن نبض بمعنى القيام والحركة وانتهاز الفرصة إغتنامها.
الطائفة، ولو فسحوا المجال ليتصرف كما أراد لما ضاعت مصر بهذه السهولة. ولكن وبغية الحيلولة لما قد يقتدح إلى الأذهان من أنّ كلامه(عليه السلام)يستبطن ذم محمد بن أبي بكر، فقد أردف كلامه بالقول: «بلا ذمّ لمحمّد بن أبي بكر، فلقد كان إليّ حبيباً، وكان لي ربيباً» فالواقع أنّ محمداً لم يقصر في وظيفته وقد بذل كل ما بوسعه ولكن كان هذا أقصى طاقته. جدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام) لما أخبر بقتل محمد بن أبي بكر قال «رحم اللّه محمدا! كان غلاماً حدثاً، لقد كنت أردت أن اولى المرقال هاشم بن عتبة مصر، فانّه لو ولاها لما خلا لابن العاص وأعانه العرصة، ولا قتل الا وسيفه في يده بلاذم لمحمد، فلقد أجهد نفسه فقضى ما عليه»(1). أمّا قوله: «فقد كان لي حبيباً، وكان لي ربيباً» فلأنّ الإمام(عليه السلام) تزوج من أسماء اُم محد بن أبي بكر بعد وفاة أبيه فتربى محمد في أحضان الإمام(عليه السلام) فسار على هديه حتى أنّه كان يرى الإمام(عليه السلام)أبيه، وهكذا كان يرى الإمام(عليه السلام)فيه إبنه الحبيب.
«هاشم» ابن «عتبة ابن أبي وقاص»، وكان أبوه عتبة من ألد أعداء الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله)ولكن ابنه هاشم كان من المسلمين الغيارى، ومن أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) وأصحاب أميرالمؤمنين(عليه السلام) وله حديث مشهور يخاطب به أميرالمؤمنين(عليه السلام) فيقول: والله، لو أعطوني كل ما على الارض وتحت السماء على أن أحب أحداً من اعدائك، أو أبعض أحداً من مجيك لما فعلتُ.
كان في حرب «صفين» مع علي(عليه السلام) وكان يرجو أن ينال وسام الشهادة في طريق الله ومع علي بن أبي طالب(عليه السلام) فحارب بشجاعة منقطعة النظير، وكان يدعى «المرقال»، بمعنى سريع الحركة، واخيراً، نال ما يريد، فبعد حرب طاحنه خاضها في ميدان صفين تقلد وسام الشهادة، وقد حَزّن لشهادته الإمام على(عليه السلام) وجيشه باجمعهم.
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/93.
وبعد ذلك حمل الراية ابنه وهاجم جيش معاوية، وحارب بشجاعة منقطعة النظير، وبعدها وقع في الأسر، وعندما أخذوه أسيراً إلى معاوية، فكان له حديث مع معاوية وعمرو بن العاص، دافع فيه بعنف عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) مما حدى بمعاوية إلى أن يسجنه في احدى سجونه.(1)
ورد عن أحوال هاشم عندما كان يحارب في صفين، حيث قاتل قتالا شديداً فبينا هو في أصحابه اذ خرج عليهم فتىً شاب وشد يضرب بسيفه ويلعن ويشتم، فقال له هاشم: ان هذا الكلام بعده الخصام، وان هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فانك راجع إلى ربك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به، قال: فاني اُقاتلكم لان صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي وأنكم لا تصلون، وأقاتلكم لان صاحبكم قتل خليفتنا وانتم وازرتموه على قتله، فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان؟ إنما قتله أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) وقُراء الناس حين أحدث إحداثاً وخالف حكم الكتاب، وأصحاب محمد(صلى الله عليه وآله) هم أصحاب الدين و أولى بالنظر في أمور المسلمين، وأما قولك صاحبنا لا يصلي فهو أول من صلى لله مع رسول الله وأفقه في دين الله، وأما من ترى معه فكلهم قاريء الكتاب لا ينام الليل تهجداً، فلا يغروك عن دينك الاشقياء المغرورون، قال الفتى: يا عبدالله أني لا ظنك أمرءاً صالحاً أخبرني هل تجد لي من توبة؟
قال: نعم، تُب إلى الله يتب عليك.
قال الراوى: فذهب الفتى راجعاً.
فقال رجل من أهل الشام: خدعك العراقي.
قال: لا ولكن نصحني.
أجل، كان أصحاب على(عليه السلام) مثل الإمام على(عليه السلام) في ميدان الوغى، يحاربون ويتصحون ويهدون اهل الضلالة من اعدائهم، ولم يكن همهم قتال الاعداء بل كان سعيهم هدايتهم وارشادهم. و على أي حال فان «هاشم» و «عمار» قاتلا في صفين بشجاعة وبسالة منقطعة النظير و نالا وسام الشهادة وقد حزن لشهادتهما الإمام على(عليه السلام) واصحابه.(2)
1. مصادر نهج البلاغة 2/61 بتصرف.
2. سفينة البحار ومصادر نهج البلاغة 2/61 فما بعد ومصادر اخرى.
أم محمد بن أبي بكر أسماء بنت عميس، كانت تحت جعفر بن أبي طالب، وهاجرت معه إلى الحبشة، فولدت له هناك عبداللّه بن جعفر الجواد، ثم قتل عنها يوم مؤتة، فخلف عليها أبوبكر الصديق، فأولدها محمدا، ثم مات عنها، فخلف عليها علي بن أبي طالب، وكان محمد ربيبه وخريجه، وجاريا عنده مجرى أولاده، رضع الولاء والتشيع منذ الصبا، فنشأ عليه، فلم يكن يعرف له أبا غير علي، ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره، حتى قال(عليه السلام): محمد إبني من صلب أبي بكر. ومن الاُمور المهمة في حياة محمد بن أبي بكر أنّه كتب إلى الإمام(عليه السلام)حين ولاه مصر أنّه لاعلم لي بالسنة، فكتب إليه كتاباً، كان ينظر فيه ويتأدب بأدبه، فلما ظهر عليه عمرو بن العاص وقتله، أخذ كتبه أجمع، فبعث بها إلى معاوية، فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويتعجب منه، فقال الوليد بن عقبة وهو عند معاوية وقد رأى إعجابه به: مر بهذه الأحاديث أن تحرق، فقال معاوية: مه، لا رأي لك! فقال الوليد: أفمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها! قال معاوية: ويحك! أتأمرني أن أحرق علماً مثل هذا! واللّه ما سمعت بعلم هو أجمع منه ولا أحكم. فقال الوليد: إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله؟ فقال: لو لا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه. ثم سكت هنيهة، ثم نظر إلى جلسائه فقال: إنا لانقول إنّ هذه من كتب علي بن أبي طالب، ولكن نقول: هذه من كتب أبي بكر كانت عند إبنه محمد، فنحن ننظر فيها، ونأخذ منها.(1)
—–
1. الغارات 1/252.
ومن كلام له (عليه السلام)
في توبيخ بعض أصحابه
تعتبر هذه الخطبة من الخطب التي تعبر عن لوعة الإمام(عليه السلام) بعد الغارات والحملات التي كان يشنها أهل الشام على البلاد الإسلامية وتجابه بكل برود من قبل أتباعه. فقد تضمنت أشد الذم لتلك الجماعة من الكوفة الموسومة بالضعف والهوان والتي جعلت الإمام(عليه السلام)يشعر بيأسها من عدوها، ويبدو أن الإمام(عليه السلام) لجأ إلى هذه العبارات أملاً في إثارتهم وتعبئتهم ضد أهل الشام.
—–
1. سند الخطبة: نقلها بعض المحدثين قبل السيد الرضي (ره) كالبلادزي (المتوفى عام 279 هـ) في أنساب الاشراف واليعقوبي (المتوفى عام 284) في تأريخه. ويفهم من رواية اليعقوبي أنّ الإمام(عليه السلام)خطبها بعد غارة النعمان بن بشير على عين التمر (مصادر نهج البلاغة 2/60).
«كَمْ أُدارِيكُمْ كَما تُدارَى الْبِكارُ الْعَمِدَةُ، وَالثِّيابُ الْمُتَداعِيَةُ، كُلَّما حِيصَتْ مِنْ جانِب تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ، كُلَّما أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَناسِرِ أَهْلِ الشّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُل مِنْكُمْ بابَهُ، وَانْجَحَرَ انْجِحارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِها وَالضَّبُعِ فِي وِجارِها، الذَّلِيلُ وَاللّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ ناصِل، إِنَّكُمْ وَاللّهِ لَكَثِيرٌ فِي الْباحاتِ، قَلِيلٌ تَحْتَ الرّاياتِ. وَإِنِّي لَعالِمٌ بِما يُصْلِحُكُمْ، وَ يُقِيمُ أَوَدَكُمْ وَلَكِنِّي لا أَرَى إِصْلاحَكُمْ بِإِفْسادِ نَفْسِي أَضْرَعَ اللّهُ خُدُودَكُمْ،أَتْعَسَ جُدُودَكُمْ! لا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْباطِلَ وَلا تُبْطِلُونَ الْباطِلَ، كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ».
—–
يفهم من مضمون الخطبة مدى معاناة الإمام(عليه السلام) بصفته قائداً لتلك العصابة التي طبعت على العصيان والتمرد والتي مهدت السبيل أمام العدو لتسديد ضرباته الماحقة إليهم، فيعرض لها بالتوبيخ والذم، علها تعود إلى رشدها وتفيق إلى نفسها فتوحد صفوفها وتهب للوقوف بوجه عدوها. وتكشف عبارات الخطبة ـ وخلافاً لما يظنه بعض الجهال ـ مدى مداراة الإمام(عليه السلام)لهذه الجماعة الضعيفة المشتتة حتى سئم من مداراتهم وشعر بالتعب فقال(عليه السلام): «كم أداريكم كما
تدارى البكار(1) العمدة،(2) والثّياب المتداعية،(3) كلّما حيصت(4) من جانب تهتّكت من آخر»
فالتشبيهات التي أوردها من قبيل التشبيهات الغاية في الروعة والدقة التي تكشف النقاب عن طبيعة أهل الكوفة، فالتأريخ يشير إلى مدى الضعف والوهن الذي ساد عسكر الإمام(عليه السلام)بعيد موقعة صفين بفعل ما كانوا عليه من جهل وذل وهوان. فقد كان جلهم من الأفراد الذين خلدوا إلى الدعة والرحة وعدم التمتع بالآفاق والأفكار التي تجعلهم يتعرفون على ما حولهم من الأحداث. فلم تكن تهتز لهم قصبة رغم الحملات والغارات المباغتة التي كان يشنها أهل الشام على هذه المنطقة أو تلك من مناطق البلاد الإسلامية، وهم يرتكبون أفضغ الجنايات وأبشع الجرائم إلى جانب سلبهم الأموال واخرابهم للدور. فقد شبههم الإمام(عليه السلام)بادئ ذي بدء بالنوق الفتية التي اُعدت حديثاً للركوب وقد يجرح أحياناً سنامها. ومن الواضح أنّ هذا هو حال النوق في بداية عهدها وأنّ عليها أن تتحمل حتى يشد ظهرها ويستحكم سنامها. أمّا تلك الجماعة فلم تتعرض إلى ذلك الحمل الخفيف في موقعة صفين حتى جثت على ركبتيها، مع ذلك فانّ الإمام(عليه السلام)عاملها بمنتهى المدارة علها تنهض وتستعيد قوتها وشجاعتها. وفى التشبيه الثاني شبههم بالاسمال الخلقة البالية التي تشق بأدنى حركة، فاذا خيطت من جانب شقت وتمزقت من آخر. نعم فهؤلاء قد فقدوا كل عناصر الصمود والثبات إثر ضعفهم وخلودهم إلى الراحة والنكوص عن القتال، فكانوا كلما جمعوا من جانب تفرقوا من آخر، فما أعظمها من مشكلة أن يبتلى قائد شجاع وحكيم بمثل هذا الجيش المهزوم. حقا كان الإمام(عليه السلام)يعيش حالة مذهلة من الألم والمعاناة والاحباط، وهذه قمة المظلومية التي شهدها الإمام(عليه السلام). ثم أشار(عليه السلام)إلى
1. «البكار» جمع «بكر» على وزن مكر من مادة «بكور»، الفتي من الابل، ولابدّ من لالتفات إلى أنّها تستعمل بشأن الإنسان أيضاً وجمعها أبكار. و«بكر» على وزن مكر، ويطلق على الصغير من أُنثى الابل وجمعها «أبكار».
2. «عمدة» من مادة «عمد» على وزن حمد بمعنى إقامة الشئ بالعمود، وتطلق على الدابة التي انفتح داخل سنامها من الركوب وظاهره سليم.
3. «متداعية» من مادة «دعوت»، وهذا الاصطلاح يستعمل للاشخاص يدعون بعضهم الآخر إلى شيء معين، ومن هنا يطلق على قطعة القماش البالية والتي عندما تتمزق أحدى زواياها كأنما تدعوا لزاوية الاخرى لتكون مثلها، يطلق على هذه القطعة البالية «المتداعية».
4. «حيصت» من مادة «حيص» على وزن حوض بمعنى خيطت .
مدى ضعفهم وذلتهم علهم يصلحون أنفسهم: «كلّما أطلّ(1) عليكم منسرٌ(2) من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ رجل منكم بابه، وانجحر(3) انجحار الضّبّة(4) في جحرها، والضّبع(5) في وجارها(6)» والتشبيه بالضبة ينطوي على عدة أمور منها أنّ الضبة تعرف بالحماقة إلى درجة أنها قد تضل حتى جحرها فتعمد إلى جعل جحرها قرب صخرة بغية الاهتداء إليه، أضف إلى ذلك فهى تتصف بانعدام العاطفة بحيث تأكل أحياناً صغارها، وأخيراً شبههم بانثى الضباب الضبة مبالغة في وصفهم بالجبن والفرار، لأن الانثى أجبن وأذل من الذكر. كما شبههم بالضبع لحماقتهم وسائر الصفات التي أوردناها في الخطبة السادسة ومنها أنّها تنام رغم تهديدها من العدو الذي يمكن في كهفها فيجعلها تخلد إلى النوم حتى يمسك بها دون أن تبدي أدنى مقاومة والواقع أنّ أحداث صفين تعد شاهداً حياً على ما اورده الإمام(عليه السلام)في هذه الخطبة بشأن أهل الكوفة وكيف كانت حماقته تجعله يفقد الفرصة وزمام المبادرة بماجر الويلات عليهم وعلى إمامهم(عليه السلام) وعلى كافة المسلمين. ثم أماط الإمام(عليه السلام)اللثام عن مدى ضعفهم فقال: «الذّليل واللّه من نصرتموه! ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل(7)» والسهم الافوق الناصل المكسور الفوق، المنزوع الفصل، والفوق موضع الوتر من السهم، وهذا مثل يضرب لمن استنجد بمن لاينجده. ثم قال(عليه السلام):«إنّكم واللّه لكثيرٌ في الباحات(8) قليلٌ تحت الرّايات» فقد
1. «أطل» من مادة «طل» على وزن حل بمعنى الاشراف على شئ وهى هنا إشارة إلى إقتراب جيش الشام.
2. «منسر» على وزن منزل من مادة «نسر» القطعة من الجيش البالغ عددها مئة إلى مئتين والتي تمر أمام جيش كثير.
3. «انجحر» من مادة «جحر» على وزن جهل بمعنى دخل الجحر.
4.«ضبه» على وزن دبه بمعنى أُنثى الضب، وفي الاصل جاءت من مادة «ضبّت» بمعنى إنسياب الماء بشكل بطيء وأمثال ذلك.
5. «ضَبُع»، يطلق على نوع من السباع.
6. «وجار» من مادة «وجر» على وزن فجر بمعنى صب الدواء في الحلق، ومن هنا فان زحف الضبع في حجره له شبه بذلك، ويقال لجحر الضب والحيوانات الاخرى «وجار».
7. وهنا فان الفعل «رُمي» جاء بصورة فعل مجهول، في حين إن هذا الفعل تكرر في الخطبة 29 بهذا التعبير ولكن جاء بصيغة فعل معلوم، وبما انهما يعطيان معنىً واحداً في كلا الحالتين، لذا فلا مانع من الاستفادة من التعبيرين في الترجمة.
8. «باحات» من مادة «بوح» بمعنى الاتساع والظهور، ويراد بها ساحة الدار. ومن هنا فانه يطلق على الساحة الواسعة والظاهرة للعيان، بـ«الباحة».
إعتادوا على الراحة والرفاه ولذة العيش، وهذا هو سبب ذلهم وهوانهم وجرأة العدو عليهم. ثم قال(عليه السلام)«وإنّي لعالمٌ بما يصلحكم، ويقيم أودكم،(1) ولكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي». فقد ذكر الشرّاح تفسيرين لهذه العبارة لايتنافيان مع بعضهما، ولعل كلاهما صادق: الأول أنّه أستطيع أن أفعل مايفعله معاوية ويستيمل زعماء القبائل والناس بأموال بيت مال المسلمين، الا أني لا أفعل ما يسخط اللّه، ولا اُقيم دعائم حكومتي على حساب الفقراء والضعفاء وهضمهم حقوقهم، والثاني يمكنني أن أفعل ما يفعله الآخرون من حملكم بالقوة على قتال العدو. فقد جاء في كتاب الغارات أن الإمام(عليه السلام)خاطب أهل الكوفة قائلاً: «و اللّه لقد ضربتكم بالدّرة الّتي أعظ بها السّفهاء فما أراكم تنتهون، ولقد ضربتكم بالسّياط الّتي أقيم بها الحدود فما أراكم ترعوون، فما بقى إلاّ سيفي! وإنّي لاعلم الّذي يقوّمكم بإذن اللّه
و لكنّي لا أحبّ أن آتى تلك منكم»(2). ونموذج ذلك قد تمثل بالحجاج حين هجم جيش المهلب (أحد زعماء الخوارج) وسدد ضرباته القاصمة لحكومة بني أمية، فبعث الحجاج من نادى بالكوفة من تخلف عن قتال جيش المهلب اخربت داره على رأسه وضربت عنقه بالسيف، ولم يستثن من ذلك حتى الكهول والمرضى. وبالطبع فقد عمل بذلك عدد من المستبدين من قبل الحجاج وبعده. فالإمام(عليه السلام)يشير إلى سهولة اللجوء إلى هذا الاسلوب، إلاّ أنّه لايليق بشأنه وعلو منزلته، وانّه لايفعل ذلك لأنّه يفسد دينه. وهنا يطرح هذا السؤال: أو ليس الدفاع عن الحكومة الإسلامية وقتال أعدائها واجباً؟ فلم لايحمل الناس قهراً على القتال؟ والجواب على هذا السؤال يتضح من خلال ذكر هذه المسألة، وهى أنّ أصل هذا العمل صحيح، وللحكومة الإسلامية أن تلجا إلى القوة في مثل هذه الحالة، إلاّ أنّ هذا الأمر يستلزم عدّة تبعات قد تكون في نهاية الأمر مخالفة لأحكام الشرع، ونموذج ذلك واضح في قضية الحجاج الذي كان يضرب بالسيف البري والمذنب على حد سواء. أضف إلى ذلك فانّ هذا العمل قد يستبطن بعض ردود الفعل السلبية من البعض واساءتها لفهم القوانين الإسلامية، وذلك لعدم قبول هذا العمل من قبل الجميع، ولعل بعض الضغوط تدعو البعض إلى الردة والتمرد على أحكام الدين والقرآن.
1. «أوَد» من ماة «أود» على وزن قول بمعنى العوج. و «اَوَد» على وزن سند، ويطلق على الاعوجاج بـ«الاَوَد».
2. الغارات 1/42.
ومن هنا لم يلجأ النبي(صلى الله عليه وآله)قط إلى مثل هذا الاسلوب، بل لم يعمل به أي من الخلفاء بعد النبي(صلى الله عليه وآله). وعليه فقد درج الإمام(عليه السلام)وعلى غرار ما كان يفعله رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)من اعتماد الترغيب والترهيب في تعبئة الاُمّة لخوض غمار الجهاد. ثم إختتم الإمام(عليه السلام)خطبته بالدعاء عليهم جزاءاً لأعمالهم: «أضرع(1) اللّه خدودكم، وأتعس(2) جدودكم!(3) لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ!» فالواقع أنّ دعاء الإمام(عليه السلام) لم يكن سوى نتيجة أعمالهم، فمن ترك الجهاد لايذيق سوى الذل والهوان، وما ذلك إلاّ لجهلهم بالحق وعدم نهوضهم به واقبالهم على الباطل. وهذا هو البؤس والشقاء الذي يحتاج اليوم مجتمعاتنا الإسلامية. فهذه المجتمعات تعرف الباطل، مع ذلك تقلده وتقتفي آثاره، بينما تجهل الحق واتباعه، والأنكى من ذلك هناك من هم للوقوف بوجه الحق رافعا راية الباطل والضلال. والحال إنّ هذه الطاقات والإمكانات لابدّ أن تجند في سبيل اللّه وإحقاق الحق وإبطال الباطل.
—–
1. «أضرع» من مادة «ضرع» بمعنى الرضاع «وضع الثدي في الفم»، ويأتي معناها أيضا بمعنى المناسب في الاشياء، ومن هنا فان هذا المصطلح يستعمل للتعبير عن الدولة.
2. «أتعس» من مادة «تعس» على وزن «ترس» بمعنى الهفوة والسهو والزلة وكذلك يأتي بمعنى السقوط، و«اتعاس» من باب افعال بمعنى الهلكة.
3. «جدود» جمع «جد» وفي الأصل بمعنى أب الأب أو أب الام، وتأتي بمعنى الرزق والموفقية الاجتماعية، وأحيانا بمعنى الفائدة، حيث أتت هنا بهذا المعنى.
وقال عليه السلام
في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
«مَلَكَتْنِي عَيْنِي وأَنا جالِسٌ فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللّهِ(صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللّهِ ما ذا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الاَْوَدِ واللَّدَدِ فَقالَ ادْعُ عَلَيْهِمْ فَقُلْتُ أَبْدَلَنِي اللّهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وأَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي».
—–
![]() |
![]() |