1. سند الخطبة: نقله كثير من المحدثين قبل السيد الرضي (ره) ومنهم ابن سعد في الطبقات وأبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبين وابن عبد ربه في العقد الفريد وابن قتيبة في الإمامة والسياسة والمرحوم السيد المرتضى في الغرر والدرر والشيخ المفيد في الإرشاد. مصادر نهج البلاغة 2/64.

2. «سنح» من مادة «سنوح» على وزن حضور، بمعنى العبور السريع لشيء في مقابل الانسان، وكذلك تأتي بمعنى عرض الشيء أمام الانسان.

وقد فسر عدد من أرباب اللغة لفظ «سانح»، بحركة الشيء من اليسار إلى اليمين وفي مقابل الانسان، وعلى القاعدة فان ذلك يعتبر طالعٌ أو فأل خير، ويقابل ذلك اصطلاح «بارح» وهى الحركة من اليمين إلى اليسار، وهو طالع غير مبارك وغير حسن.

[ 86 ]

فانّ هذا الكلام يعبر عن مدى الاذى الذي تعرض له(عليه السلام)من تلك الجماعة. وبالطبع فهذه ليست المرة الاولى التي يشكو فيها الإمام(عليه السلام)بل ورد ذلك في أكثر من خطبة من خطب نهج البلاغة والتي تفيد بأجمعها عدم معرفة مقامه(عليه السلام) ورعاية حرمته إلى جانب الآذى والألم الذي جرعوه إيّاه. فقد إستهل كلامه(عليه السلام) بالقول: «ملكتني عيني وأنا جالسٌ » فالعبارة «ملكتني عيني » من فصيح الكلام الذي أراد به(عليه السلام) غلبني النوم، لأنّ العين هى العضو الأول الذي تظهر عليه آثار النوم، ومن هنا استعملت كناية عن مفهوم النوم. ثم قال(عليه السلام):«فسنح لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقلت: يا رسول اللّه! ماذا لقيت من أمّتك من الاود واللّدد؟ ». لعلنا لا نرى نظيراً للإمام(عليه السلام)من أولياء اللّه طلية التأريخ ممن جوبهوا بمثل هذا العداء والتمرد العصيان والاذى. ولم يقتصر ذلك على تلك المدة التي حكم فيها، بل إمتد ليشمل حتى تلك الفترة التي أصبح فيها جليس الدار مدة خمس وعشرين سنة، فقد تعرض لمثل ذلك الاذى طيلة الخلافة الراشدة ولا سيما إبان خلافة عثمان حين ضاق ذرعاً بالممارسات الخطيرة التي طالت بيت مال المسلمين فحاول الإصلاح لإعادة الاُمور إلى مجاريها، فجوبه بسخط واسع ونقمة عامة، الأمر الذي بلغ ذروته حين آلت إليه الخلافة. وعليه فلايبدو من العجيب أن يشكو الإمام(عليه السلام)الاُمّة إلى النبي(صلى الله عليه وآله) رغم ما وصف به من الصبر والتحمل، فهو الذي صبر وفى العين قذى وفى الحلق شجى. ولنرى جواب النبي(صلى الله عليه وآله)لعلي(عليه السلام):«فقال: «اُدع عليهم»، فقال الإمام(عليه السلام):«فقلت: أبدلني اللّه بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شرّاً لهم منّي». والسؤال الذي يقتدح إلى الذهن: لم أمر الرسول(صلى الله عليه وآله)بالدعاء عليهم وهو الموصوف بأنّه «رحمة للعالمين»؟ ونقول في الجواب أنّ طغيان طائفة من الناس وتمردها قد يصل درجة تغلق معها كافة منافذ الرحمة بوجهها فلا تبقى لنفسها سوى العذاب وسلب النعمة، وهكذا نرى الأنبياء الذين يمثلون ذروة الصبر والتحمل والحكمة واللطف والرحمة يرون هذه المفردات إنّما تتجسد في الدعاء على أقوامهم بعد وصولهم إلى مرحلة لايرجى بعدها هدايتهم. فهذا نبي اللّه نوح(عليه السلام) قد جهد تسعمائة وخمسين سنة في تبليغ رسالة ربه وتحمل ذلك الاذى في سبيل هداية قومه، ولما لم ير

[ 87 ]

من سبيل سوى الدعاء عليهم تضرع إلى اللّه سبحانه قائلاً: (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَـذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّاراً)(1) فاغرقوا جميعاً بالطوفان. على كل حال فان سيرة الإمام(عليه السلام)تجسدت في مداراة الأعداء فضلاً عن الأصدقاء ، حتى أوصى مالكاً حين ولاه مصر باستشعار قلبه الرحمة لكافة الناس بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم: «فالناس صنفان اما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» ومن هنا كان لابدّ من تصور مدى الاذى والتمرد الذي واجهه الإمام(عليه السلام)حتى إضطر إلى الدعاء عليهم. جدير بالذكر الادب الذي تحلى به الإمام(عليه السلام)حيال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)حيث لم يقدم على الدعاء عليهم إلا بعد أن أذن له النبي(صلى الله عليه وآله). مضمون الدعاء هو الآخر جدير بالتأمل حيث سأله أولاً النجاة من هؤلاء المردة ثم سأل اللّه أن يسلبهم نعمة وجوده ويسلط عليهم حاكماً ظالماً ليجرعهم مرارة أعمالهم. امّا العبارة «أبدلهم بي شرّاً لهم منّي» لاتعني أنّ الإمام(عليه السلام)كان والعياذ باللّه سيئاً وقد سأل اللّه أن يسلط عليهم أسوأ منه، لأنّ مفردتي الخير والشر في الاداب العربية لا تقتضي جزماً معاني صيغة التفضيل، وهكذا العبارة «ابدلني اللّه بهم خيراً منهم» فاولئك كانوا نفاقاً وشراً ولم يكونوا من الاخيار. والشاهد على ذلك عدة آيات قرآنية كالآية الخامسة عشرة من سورة الفرقان: (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ)والآية السادسة والعشرون من سورة الصافات: (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ).

على كل حال استجيب دعاء الإمام(عليه السلام) ليستشهد الإمام(عليه السلام) بعد أن ضرب في محرابه ففاز بلقاء اللّه وجوار رسوله(صلى الله عليه وآله)، بينما تسلط من بعده معاوية ويزيد والحجاج على أهل العراق ليجرعوهم الموت غصة بعد غصة.

وقال السيد الرضي (ره) آخر الخطبة «يعني بالاْود: الاْعْوجاج، وباللّدد: الْخصام. وهذا من أفصح الكلام».

 

تأمّلان

1 ـ أصحاب علي(عليه السلام)

لاشبهة ولاريب أنّ أتباع الإمام علي(عليه السلام) على ثلاث طوائف: الطائفة الاولى الخلص


1. سورة نوح / 26.

[ 88 ]

الأوفياء الذين كانوا يدورون حول الإمام(عليه السلام) كيفما دار ويضحون من أجله بالغالي والنفيس من قبيل مالك الأشتر وعمار بن ياسر ورشيد الهجري وميثم التمار وكميل بن زياد وأمثالهم. الطائفة الثانية الجهال الذين لم يعرفوا مقام الإمام(عليه السلام) ولم يدركوا شرائط الزمان والمكان، ولم يقفوا على أخطار معاوية وحكومته في الشام، كما لم يكونوا يحضرون في ميدان القتال، وهم أفراد سذج متلونون لا يعتمد عليهم في أي عمل من الأعمال والطائفة الثالثة هى الزمرة الحاقدة التي إعتادت العبث بأموال المسلمين على عهد عثمان، الأمر الذي طالبوا به علياً(عليه السلام)ولم يكونوا يفكرون سوى في الأموال والمناصب ـ بغض النظر عن الطرق المؤدية إليها ـ إلى جانب كون أكثر يشكلون جواسيس معاوية عيونه في الكوفة. مع ذلك كان الإمام(عليه السلام) يعامل الجميع بالرفق والمداراة حفظاً على مصالح المجتمع الإسلامي، بينما يضطر أحياناً لذمهم وتوبيخهم علهم يفيقون إلى أنفسهم أما شكاواه وأنينه منهم فيمكن الوقوف عليه في هذه الخطب:

1 ـ قال في الخطبة الخامسة والعشرين: «و إنّي واللّه لاََظنّ أَنّ هؤلاَء القَومَ سَيدَالونَ منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم... اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني ».

2 ـ قال في الخطبة السابعة والعشرين: «فيا عجباً عجباً! ـ واللّه ـ يميت القلب ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم! فقبحاً لكم وترحاً... يا أشباه الرّجال ولا رجال! حلوم الاْطْفال وعقول ربّات الْحجال، لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم».

3 ـ قال في الخطبة التاسعة والعشرين: «أيّها النّاس! المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهى الصّمّ الصّلاب، وفعلكم يطمع فيكم الاْعداء! تقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد».

4 ـ قال في الخطبة التاسعة والستون: «كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، والثّياب الم تداعية! كلّما حيصت من جانب تهتّكت من آخر ».

5 ـ قال في الخطبة السابعة والتسعين: «أيّها القوم الشّاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهواؤهم المبتلى بهم أمراؤهم... يا أهل الكوفة! منيت منكم بثلاث واثنتين: صمٌّ ذوو أسماع وبكمٌ ذوو كلام وعمىٌ ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللّقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء».

[ 89 ]

6 ـ قال في الخطبة المئة وتسعة عشر: «ما بالكم أمخرسون أنتم؟!... ما بالكم لا سدّدتم لرشد ولا هديتم لقصد ».

7 ـ قال في الخطبة المئة والحادية والعشرين: «أريد أن أداوىَ بكم وَأَنتم دَائي كناقش الشّوكة بالشّوكة وهو يعلم أنّ ضلعها معها! الّلهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الدّاء الدّوىِّ».

8 ـ قال في الخطبة المئة والثالثة والعشرين: «و كأنّي أنظر إليكم تكشّون كشيش الضّب لا تأخذون حقّاً ولا تمنعون ضيماً».

9 ـ قال في الخطبة المئة والخامسة والعشرين «أفٍّ لكم! لقد لقيت منكم برحاً، يوماً أناديكم ويوماً أناجيكم، فلا أحرار صدق عند النّداء ولا إخوان ثقة عند النّجاء».

10 ـ قال في الخطبة المئة والحادية والثلاثين: «أيّتها النّفوس المختلفة والقلوب المتشتّتة، الشّاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحقّ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الاْسد».

—–

 

2 ـ الأفراد الملعونون

كما مر معنا في شرح الخطبة فانّ الأنبياء والأوصياء قد إجتهدوا في إصلاح أقوامهم ودعوتهم إلى الحق بالحكمة والمواعظة الحسنة وتحملوا كافة المشاق والصعاب بكل صبر وجلد، إلاّ أنّهم كانوا يرون أحياناً كافة أبواب الأمل قد أغلقتها تلك الأقوام بوجهها بحيث لم يعد هنالك من أمل في هدايتها، فلم يكن أمامهم من سبيل سوى الدعاء عليها; أملاً في إجتثاث أولئك الفسدة واستبدالهم بآخرين. وإننا لنلمس نماذج من ذلك الدعاء في السيرة المفعمة بالعفو والرحمة لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ومنها:

1 ـ جاء في الأخبار أن الحكم بن العاص عم عثمان كان كثيراً ما يسخر من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ويؤذيه من خلال مشيه خلفه وإتيانه ببعض الحركات حيث كان يحرك كتفيه ويكسر يديه خلف رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إستهزاءاً منه بمشيته النبي(صلى الله عليه وآله) حتى إلتفت إليه النبي(صلى الله عليه وآله)وقال له: هكذا كن

[ 90 ]

فبقى الحكم على تلك الحال من تحريك أكتافه وتكسر يديه، ثم نفاه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) من المدينة ولعنه.(1)

2 ـ روي أنّ ابن مسعود قال: كنّا مع النبي(صلى الله عليه وآله) فصلى في ظل الكعبة وناس من قريش وأبوجهل نحروا جزوراً في ناحية مكة فبعثوا وجاؤوا بسلاها فطرحه بين كتفيه، فجاءت فاطمه(عليها السلام) فطرحته عنه، فلما انصرف قال: «أللّهمّ اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف» قال: عبداللّه: ولقد رأيتهم قتلى في قليب بدر.(2)

3 ـ ومن ذلك أنّه دعا على مضر فقال: اللّهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، فاصابهم سنون، فاتاه رجل فقال: فو اللّه ما أتيتك حتى لا يخطر لنا فحل ولا يتردد رائح(3)، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «اللّهمّ العنهما واركسهما في الفتنة ركساً ودعّهما في النّار دعّاً» فما قام حتى ملأ كل شئ، ودام عليهم جمعة، فأتوه فقالوا: يا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)إنقطعت سبلنا وأسواقنا، فقال النبي(صلى الله عليه وآله):حوالينا ولاعلينا، فانجابت السحابة عن المدينة وصار فيما حولها وأمطروا أشهراً.(4)

4 ـ وورد في الحديث أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لما مر بعمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط وهما في حائط يشربان ويغنيان بهذا البيت في حمزة بن عبدالمطلب حين قتل:

كم من حواري تلوح عظامه *** ورآء الحرب عندنا يجر فيقبرا

فقال النبي(صلى الله عليه وآله): أللّهمّ العنهما واركسهما فى الفتنة ركساً ودعهما فى النار دعاً.(5)

5 ـ وجاء في الخبر أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أخذ يوم بدر كفاً من حصى فرمى به في وجوه قريش وقال: «شاهت الوجوه» فبعث اللّه رياحاً تضرب وجوه قريش فكانت الهزيمة، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): اللهم لايفلتن فرعون هذه الأمة أبوجهل بن هشام. فقتل منهم سبعون، وأسر


1. بحارالأنوار 18/59.

2. بحارالأنوار 18/57.

3. بحارالأنوار 17/230.

4. بحارالأنوار 17/230.

5. بحارالأنوار 20/76.

[ 91 ]

منهم سبعون(1). وبالطبع فان دعاء النبي(صلى الله عليه وآله) ولعنه لم يقتصر على هؤلاء; الأمر الذي يشير إلى أنّ أولياء اللّه ورغم تحملهم كل عناء المواجهة مع الاعداء، الا أنهم كانوا لايرون من أمل في المقابل فيضطرون للدعاء عليه، وهذا ما ورد في خطبة الإمام(عليه السلام)اقتداءاً برسول اللّه(صلى الله عليه وآله).


1. بحارالأنوار 19/257.

[ 92 ]

[ 93 ]

 

 

الخطبة(1) 71

 

 

 

ومن خطبة له (عليه السلام)

 

في ذم أهل العراق

وفيها يوبخهم على ترك القتال والنصر يكاد يتم، ثم تكذيبهم له

 

نظرة إلى الخطبة

ورد في بعض الروايات خطب علي(عليه السلام) فقال: «لو كُسِرتْ لي الوِسادة لحكمتُ بين أهل التوراة بتوراتِهم، وبين أهلِ الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهْلِ الفرقان بفرقانهم، وما مِنْ آية في كتاب الله أنزلتْ في سهلِ أو جبل إلا وأنا عالم مَتَى أنزلت، وفيمن أنزلت».

فقال رجل من القُعود تحت مِنْبره: يالله وللدّعوى الكاذبة! وقال آخر إلى جانبه: أشهد أنّك أنت الله ربّ العالمين! (فقد كان احدهما مفرطا والاخر مفرّطا).

و روى المدائني أيضاً قال: خطب علي(عليه السلام)، فذكر الملاحم، فقال: «سلوني قبل أن تفقِدوني، أما والله لَتَشْغَرَنَّ الفتنة الصّماء برجِلها، وتطأ في خِطامها».

يا لها من فِتنة شُبّت نارها بالحطب الجزْل، مقبلة من شرق الأرض رافعة ذيلها، داعية


1. سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة هذا مختار من خطبة خطب بها(عليه السلام)بعد صفين وقد روى طرفا منها ابن دأب المعاصر لموسى الهادي الخليفة العباسي في كتابه الاختصاص. ورواها المفيد في الارشاد. وقال ابن أبي الحديد: وقد روي هذا الكلام «ما أتيتكم إختياراً..» على وجه آخر «ما أتيتكم إختياراً ولا جئتكم سوقاً»، والظاهر من كلامه أنها رواية غير النهج وأنّها خطبة واحدة مع الخطبة 97 التي فصلها السيد الرضي (ره). مصادر نهج البلاغة 2/66.

[ 94 ]

ويلَها، بدجلة أو حولها. ذاك إذا استدارَ الفَلك، وقلتم: مات أو هلك، بأىّ واد سلك!

فقال قوم تحت منبره: لله أبوه! ما أفصحه كاذباً!

على كل حال فانّ الخطبة قد وردت بعد واقعة صفين حيث يعرض بالذم لجيشه الذي أوشك على تحقيق النصر النهائي والقضاء على فتنة بني أمية. ومن هنا شبههم الإمام(عليه السلام)بالمرأة الحامل التي أوشكت على وضع ا لحمل أسقطت جنينها، فمات قيمها وطال تأيمها وورثها أبعدها، فأصبحت بائسة شقية. ثم إختتم الخطبة بالرد على من كذب حديثه وتجاهل ما أخبر به الإمام(عليه السلام) من حقائق بسبب الجهل والحمق. فالخطبة هى الاُخرى تكشف عن مدى مظلومية الإمام(عليه السلام).

—–

[ 95 ]

 

 

 

«أَمّا بَعْدُ يا أَهْلَ الْعِراقِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ، حَمَلَتْ فَلَمّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ وَماتَ قَيِّمُها، وَطالَ تَأَيُّمُهَا، وَوَرِثَهَا أَبْعَدُهَا. أَمَا وَاللّهِ! مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِياراً، وَلَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ (اتيتكم) سَوْقاً. وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: عَلِيٌّ يَكْذِبُ، قاتَلَكُمُ اللّهُ تَعالَى فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ؟ أَ عَلَى اللّهِ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ! كَلاَّ وَاللّهِ. لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا، وَلَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِها. وَيْلُ أُمِّهِ كَيْلاً بِغَيْرِ ثَمَن! لَوْ كانَ لَهُ وِعاءٌ «وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين»».

—–

 

الشرح والتفسير

الشكوى من الاتباع الجهلاء

كما أشرنا سابقا فانّ الإمام(عليه السلام) خطب هذه الخطبة بعد موقعة صفين، حيث بات النصر الحاسم وشيكاً، بينما إنشقت طائفة من جيش الإمام(عليه السلام) إثر حيلة معاوية وعمرو بن العاص ففقدت فرصة النصر، وأنكى من ذلك أحدثت شقاقاً وخلافاً في جيش الإمام(عليه السلام)، الخلاف الذي بلغ ذروته حتى أدى إلى وقوع تلك الحرب الأهلية. فالإمام(عليه السلام) وبفعل هذه الحادثة المروعة الأليمة يذم أهل العراق ويقول: «أمّا بعد يا أهل العراق، فإنّما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلمّا أتمّت أملصت(1) ومات قيّمها، وطال تأيّمها،(2) وورثها أبعدها» فالعبارة تتضمن عدّة تشبيهات: الاولى شبه أهل العراق بالمرأة حيث لم يدافعوا برجولة عن عزتهم وشرفهم، ثم لم يكتف بهذا التشبيه ليضيف إليه الحمل حيث كان باستطاعتهم وبطاعتهم للإمام(عليه السلام) أن


1. «أملصت» من مادة «ملص»، أسقطت وألقت ولدها ميتاً، كما تعني فقد ان الشئ سريعاً.

2. «تأيم» من مادة «ايم» على وزن زيد فقدان الزوج وتستعمل بشأن الزوج والزوجة.

[ 96 ]

يلدوا ذلك النصر المبارك الذي يضع حدا لغارت أهل الشام وتطاولهم على حرمة الإسلام والمسلمين، إلاّ أنّهم أسقطوا ذلك النصر في آخر اللحظات بفعل جهلهم. فقد خدع القوم بحيلة عمرو بن العاص حين رفع المصاحف على أسنة الرماح، فتعالت الأصوات بالرجوع إلى القرآن، حتى هدد الإمام(عليه السلام)بالقتل إذا لم يرجع مالك الأشتر ويكف عن القتال ولم يكن سوى بضع خطوات بينه وبين معاوية. فمثل هذه المرأة إذا فقدت زوجها ولم تحظ بزوج مناسب وماتت غصة في هذه الدنيا، فمن الطبيعي أن يرثها الأبعد، فليس لها من ولد يكون لها إمتداداً، وليس لها زوج يبكيها (على فرض أنّ ليس لها أب وأم). وذهب البعض إلاّ أن هذا الكلام إشارة إلى نبوءات على ما سيصيب أهل العراق من جراء سوء تدبيرهم في صفين، حيث سيفقدون إمامهم لجهلهم وتمردهم فيسلط عليهم البعداء فيسومونهم سوء العذاب، وهذا ما وقع بالفعل، ثم يتطرق الإمام(عليه السلام) إلى هجرته من المدينة إلى الكوفة التي إستندت إلى الاضطرار وليس فيهم ما يجعل الإمام(عليه السلام) يهاجر إليهم، على العكس من أهل المدينة الذين إندفع إليهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وقد كانوا أهلاً لحب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وإقباله عليهم. فقال: «أما والله ما أتيتكم اختياراً; ولكن جئت إليكم سوقاً». والتأريخ يشير إلى هذه الحقيقة وهى لولا موقعة الجمل لما إنطلق الإمام(عليه السلام) إلى البصرة، ولو كان لأهل الحجاز أن يقضوا على فتنة الناكثين لما إستنجد بأهل الكوفة، ولولا خطر معاوية الذي كان يهدد البلاد الإسلامية لما إستقر الإمام(عليه السلام)في الكوفة وهجر المدينة وغادر قبر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وسيدة النساء. والواقع أنّ العبارة رداً على إشكال في علة قدوم الإمام(عليه السلام)إلى الكوفة وهى بهذه الصفات الذميمة، فقد أجيب عن هذا الإشكال بأنّ الإمام(عليه السلام)أتى مجبراً لا مختاراً. ثم قال(عليه السلام)«و لقد بلغني أنّكم تقولون: عليٌّ يكذب، قاتلكم الله تعالى! فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أوّل من آمن به! أم على نبيّه؟ فأنا أوّل من صدّقه» فالحقيقة التي لاغبار عليها هى أنّ الإمام(عليه السلام) أول من آمن من الرجال باللّه، كما تشير حياته إلى أنّه لم يسجد لصنم ولم يعبد سوى اللّه وأنّه أول من صدق برسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ووقف إلى جانبه طيلة الدعوة. ولعل الكلام يشير إلى بعض إخباره بالمغيبات والحوا دث التي كانت خافية على أولئك الناس، وقد انطلق ذلك التكذيب من قبل تلك الفرقة المنافقة التي كانت متغلغلة في صفوف أهل الكوفة والتي كانت تنسب الإمام(عليه السلام)إلى الكذب كلما أخبر عن

[ 97 ]

وقوع بعض الحوادث بصفته «تعلّم من ذي علم». كما يمكن أن تكون العبارة إشارة إلى الأحكام والمعارف الإسلامية التي تعلمها الإمام(عليه السلام)من القرآن الكريم أو من النبي(صلى الله عليه وآله)وعجزت أفكار المنافقين عن إدراكها وفهمها. وقد صرح ابن أبي الحديد قائلاً: وإذا تأملت أحواله في خلافته كلها وجدتها هى مختصرة من أحوال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في حياته، كأنّها نسخة منتسخة منها في حربه وسلمه وسيرته وأخلاقه وكثرة شكايته من المنافقين من أصحابه والمخالفين لأمره، وإذا أردت أن تعلم ذلك علماً واضحاً فاقرأ سورة «براءة» ففيها الجم الغفير من المعنى الذي أشرنا إليه(1). ومن الواضح أنّ أول موحد ومؤمن باللّه ومصدق بالنبي(صلى الله عليه وآله)لايكذب قط ولايتكم بما لايعلم إنما يفتري الكذب من لا يؤمن باللّه ولايعرف للورع والتقوى من معنى. بعبارة أخرى: فان كافة معارف الإمام(عليه السلام)حتى الأخبار الغيبة التي كان يحدث عنها إنّما كانت دروساً تعلمها من النبي(صلى الله عليه وآله)، فهل من سبيل إلى الكذب لهذه الأخبار من قبل تلميذ النبي(صلى الله عليه وآله)وربيبه الوفي علي(عليه السلام)؟ إلاّ أنّ المنافقين عمي الابصار والبصائر لايرون سوى منافعهم، من هنا كانوا حريصين على تشويه سمعة الإمام(عليه السلام). ثم يختتم الإمام(عليه السلام)خطبته قائلاً: «كلاَّ والله! لكنَّها لهجةٌ(2) غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها ويل اُمّه(3) كيلا بغير ثمن! لو كان له وعاءٌ، ولتعلمنّ نبأه بعد حين» والمراد بالعبارة «لكنّها لهجةٌ غبت م عنها» ـ وبالالتفات إلى أنّ اللهجة هنا تعني الحقائق الغائبة عنهم ـ أنّ تكذبيكم وإنكاركم إنّما يستند إلى جهلكم وضحالة أفكاركم وعدم علمكم بالأسرار التي تعلمتها من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)والقرآن، ولاعجب فـ «النّاس أعداء ما جهلوا».

أمّا العبارة «ويل اُمه» ـ التي تفيد الترحم والتعجب كما ترد أحياناً للدعاء بالشر ـ فلها


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/129.

2. «لهجة» من مادة «لهج» على وزن فلج، ويأتي معنى هذا اللفظ أحيانا بمعنى الملازمة وأحيانا بمعنى الاختلاط والمعاشرة وأحيانا بمعنى العلاقة الشديدة بالشيء، وكذلك فان اللهجة ملازمة للغة الانسان، وتطلق على مجموعة مختلطة من الامور، أما في الجملة أعلاه فالاصطلاح جاء بمعنى الاسرار والمفاهيم الخاصة.

3. «ويل امه»: عبارة مركبة من (ويل) التي تأتي للدعاء أو التعجب وأمه مضافة إلى ويل إن كان مبتدأ، كما يمكن أن تكون مبتدأ وخبرها محذوف وتقدير العبارة «ويل أمه ثابت أو كائن» فان قرأت منصوبة فهى منادى وأصلها (يا ويل أمه) وقد وردت بكلمة واحدة في بعض النسخ ولا يفرق ذلك في المعني.

[ 98 ]

معنيان لدى الشرّاح; المعنى الأول: تأسفه(عليه السلام) من الجهود التي بذلها بحق اُولئك المردة، والثاني: لعن المنافقين الذين دأبوا على الفساد والانحراف أبان حكومته(عليه السلام)، ويبدو المعنى الثاني أنسب.

—–

 

تأمّلان

1 ـ علي(عليه السلام) أول من أسلم

لقد صرحت هذه الخطبة وعلى غرار سائر خطب نهج البلاغة أنّ علياً(عليه السلام) هو أول من آمن بالنبي(صلى الله عليه وآله) من الرجال (لأنّ خديجة هى الصديقة الاولى بالنبي(صلى الله عليه وآله) من النساء). وبالطبع فقد سعى بعض المتعصبين من أبناء العامة كصاحب البداية والنهاية للمساس بهذه الحقيقة المسلمة تأريخيا وروائيا من خلال بعض الذرائع الواهية، ولكن كما أشرنا آنفا فانّ هذه الحقيقة ثابتة على متوى التأريخ والروايات. فقد نقل العلاّمة الاميني في المجلد الثالث من غديره حدود مئة حديث بهذا الشأن عن مصادر العامة، والتي ورود بعضها عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) والبعض الاخر عن الصحابة والتابعين، ومنها:

1 ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال «أوّلكم وارداً علىّ الحوض أوّلكم إسلاماً علىُّ بن أبى طالب».(1)

2 ـ وقال علي(عليه السلام): «أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه وأنا الصّدّيق الاْكْبر، لا يقولها بعْدي إلاّ كاذبٌ مفتر، ولقد صلّيت مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قبل النّاس بسبع سنين، وأنا أوّل من صلّى معه».(2)

3 ـ وروى ابن عباس عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «إنّ أوّل من صلّى معي عليٌّ».(3)

4 ـ كان من بين الاسئلة التي طرحها الحسن المجتبى(عليه السلام) في مجلس معاوية: «أنشدكم باللّه هل تعلمون أنّه أوّل النّاس إيماناً».(4)


1. رواه الحاكم في المستدرك 3/136 والخطيب البغدادي في تأريخه 2/81، كما رواه آخرون.

2. رواه عدد كثير من كبار علماء العامة باسناد معتبرة ومنهم: النسائي في الخصائص ص 3 والحاكم في المستدرك 3/112 وابن ماجة في السنن 1/57 والطبري في تأريخه 2/213، وجمع آخرن المحدثين.

3. ورد هذا لاحديث في الباب 47 من فرائد السمطين بأربعة طرق.

4. أورده ابن أبي الحديد في المجلد الثاني ص 101.

[ 99 ]

5 ـ روت أغلب المصادر المعتبرة عن خادم النبي(صلى الله عليه وآله) أنس بن مالك قال «نبّىء النّبىّ يوم الإثنين وأسلم علىٌّ يوم الثّلاثاء»(1).

6 ـ قال ابن عباس كنت عند عمر فجرى الكلام عن السبق في الإسلام، فقال عمر: ثلاث لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) لو كانت لي واحدة منها لكانت خيراً لي ممّا طلعت عليه الشمس: فقد ربت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) على كتف علي(عليه السلام) وقال: «يا علىّ! أنت أوّل المسلمين إسلاماً وَأنت أوّل المؤمنين إيماناً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى».(2)

7 ـ روى أحمد بن حبل ـ أحد الائمة الأربعة ـ في مسنده أنّ علياً(عليه السلام) قال: «لقد صلّيت قبل أن يصلّي أحدٌ، سبعاً»(3) فالأحاديث الواردة بهذا الشأن كثيرة لايسع المقام ذكرها. وقد صنف المرحوم العلاّمة الاميني هذه الأحاديث (أحاديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، أحاديث علي(عليه السلام)، أحاديث الإمام الحسين(عليه السلام)وأحاديث الصحابة والتابعين والاشعار التي انشدت بهذا الخصوص) إلى جنب شهادة المؤرخين كالطبري في التأريخ وابن الأثير في الكامل ونصر بن مزاحم في صفين (ومن أراد المزيد فليراجع المجلد من كتاب الغدير ص 218 فصاعدا). كما نقل ابن أبي الحديد طائفة من هذه الأحاديث عن مصادر العامة في شرحه لنهج البلاغة.(4)

 

2 ـ إجابة عن سؤال

الجدير بالذكر أنّ بعض المتعصبين الذين لم يسعهم التنكر لهذه الفضيلة من وجهة النظر التأريخية والروائية، تشبشوا ببعض الذرائع للحد من قيمتها، وأهم تلك الذرائع:

يزعمون أنّ علياً(عليه السلام) لما أسلم كان له من العمر عشر سنوات والإسلام لايقر إسلام الصبيان; وقد إتسعت حدة هذه الذريعة الجوفاء في الاوساط المعادية للإمام(عليه السلام) لتظن بتعذر الاجابة على هذا الأشكال، والحال:

أولاً: من المناسب أن نذكر الحوار الذي دار بين المأمون الخليفة العباسي مع فقيه العامة


1. رواه الترمذي في الجامع 2/214 والحاكم في المستدرك 3/112 كما نقله آخرون.

2. بحارالأنوار 37/268.

3. مسند أحمد 1/99 طبع دار الصادق.

4. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/116.

[ 100 ]