![]() |
![]() |
وأضاف المرحوم العلاّمة الأميني بعد نقله لهذه المحاورة: وقال أبوجعفر الاسكافي المعتزلي المتوفى 240 في رسالته: قد روى الناس كافة إفتخار علي(عليه السلام)بالسبق إلى الإسلام، وإن النبي(صلى الله عليه وآله) استنبئ يوم الاثنين وأسلم علي(عليه السلام) يوم الثلاثاء. وإنّه كان يقول: صليت قبل الناس سبع سنين وإنه مازال يقول: أنا أول من أسلم. ويفتخر بذلك ويفتخر له به أولياؤه وما دحوه وشيعته في عصره وبعد وفاته، والأمر في ذلك أشهر من كل شهير، وقد قدمنا منه طرفاً وما علمنا أحداً من الناس فيما خلا إستخف بإسلام علي(عليه السلام) ولا تهاون به، ولا زعم أنّه أسلم إسلام حدث نحرير وطفل صغير، ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أباطالب وفعله ليصدوا عن رأيه، ثم يخالفه علي إبنه لغير رغبة ولا رهبة يؤثر القلة على الكثرة، والذل على العزة من غير علم ولا معرفة بالعاقبة(2). وروي في الخبر الصحيح أنّه لكفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاما وأن يدعو له بني عبدالمطلب، فصنع له الطعام ودعاهم ثلاثا، ثم كلمهم(صلى الله عليه وآله) فدعاهم إلى الدين ثم ضمن لم يوازره منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين ووصيه بعد موته وخليفته من بعده فامسكوا كلهم وأجابه هو وحده وقال: أنا أنصرك على ما جئت به واوازرك وأبايعك، فنصبه وصيه وخليفته، فضحك القوم وقالوا لأبي طالب: أطع إبنك فقد أمره عليك.
وزبدة القول فانّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قبل إسلام علي(عليه السلام)، فمن قال بعدم إعتبار إسلامه بسبب عمره، في الواقع يشكل على النبي(صلى الله عليه وآله).
ثانياً: جاء في الروايات المشهورة لقصة يوم الدار إن النبي(صلى الله عليه وآله) أعدّ طعاما ودعا إليه قرابته
1. العقد الفريد 3/43 بتصرف.
2. الغدير 3/237.
من قريش فدعاهم إلى الإسلام وأنّ من يجب دعوته ويقف إلى جانبه في الدفاع عن الإسلام سيكون وحيه وخليفته، فلم يجبه إلاّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي قال: أنا يا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): أنت أخي ووصيي وخليفتي.(1) فهل هناك من يعقل أن النبي(صلى الله عليه وآله)جعل علياً(عليه السلام)أخيه ووصيه وخليفته ودعا الآخرين إلى طاعته بحيث يسخر منه زعماء الكفر والشكر ويقولون لأبي طالب عليك أن تسمع لولدك وتطيع ، ولم يكن إسلامه مقبولاً؟! لا شك أنّ سن البلوغ ليس شرطاً لقبول الإسلام، فكل فتى له عقل وتمييز كاف ويعتنق الإسلام وعلى فرض أنّ أباه ليس مسلماً فانه يصبح في زمرة المسلمين إذا إنفصل عنه.
ثالثاً: يستفاد من القرآن أنّ البلوغ ليس شرطاً حتى في النبوة، حيث بلغ النبوة حتى من كان صبياً، فقد صرح القرآن بشأن نبي اللّه يحيى(عليه السلام) بقوله: (وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّاً)(2). كما ورد بشأن عيسى(عليه السلام) أنّه قال «إنّي عبدالله آتانى الكتاب وجعلني نبيّاً»(3). وإلاّ بعد من كل هذا فان النبي(صلى الله عليه وآله) قد قبل الإمام علي(عليه السلام)، كما ذكرنا ذلك وأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) صرح يوم الدار بانه أخوه ووصيه وخليفته.
على كل حال فان الروايات التي صرحت بانّ علياً(عليه السلام) هو أول من لبى دعوة النبي(صلى الله عليه وآله)وأسلم، إنّما تنطوي على فضيلة لاتضاهيها فضيلة لعلي(عليه السلام)، فلا يرقى أحد لأن يكون في مصافه(عليه السلام)، ومن هنا كان(عليه السلام) أنسب فرد من هذه الامة بخلافة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله).
—–
1. ذكرنا اسناد هذه الرواية بالتفصيل ذيل حديث يوم الدار في رسالة القرآن 9/326 .
2. سورة مريم / 12.
3. سورة مريم / 30.
ومن خطبة له (عليه السلام)
علم فيها الناس الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله) وفيها بيان صفات اللّه سبحانه
وصفة النبي والدعاء له
تتالف هذه الخطبة في الواقع من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قصير جداً يتحدث عن صفات اللّه سبحانه كمقدمة لاستنزال الرحمة والصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله).
القسم الثاني: تعليم كيفية الصلاة على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، كما تطرق إلى ذكر العديد من صفاته وخدماته الجليلة إلى البشرية ومبادئ الحق، والتي تستلزم أشرف الصلوات.
القسم الثالث: يتضمن مجموعة من الأدعية العظيمة بشأن النبي(صلى الله عليه وآله)، كما ورد فيه سؤال البارئ سبحانه تعزيز رابطة الأفراد بالنبي(صلى الله عليه وآله) ومرافقته في الجنّة.
—–
1. سند الخطبة: رواها الكثير ممن عاش قبل السيد الرضي (ره)، فقد وردت في الصحيفة العلوية والتذكرة لابن الجوزي والامالي للبغدادي وغريب الحديث لابن قتيبة والغارات للثقفي، كما فسر عبارتها ابن أثير في النهاية والزمخشري في الفائق وابن منظور في لسان العرب (مصادر نهج البلاغة 2/70).
«اللّهُمَّ داحِيَ الْمَدْحُوّاتِ، وَداعِمَ الْمَسْمُوكاتِ، وَجابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِها: شَقِيِّها وَسَعِيدِها».
—–
يثني الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة على اللّه سبحانه بثلاث من صفاته: «اللّهمّ داحي(1)المدحوّات، وداعم(2) المسموكات،(3) وجابل(4) القلوب على فطرتها: شقيّها وسعيدها» فالعبارة الاولى إشارة إلى بداية خلق السموات والأرض، حيث تشير النظريات إلى أنّ الكون والكرات والأجرام السماوية كانت كتلة واحدة ثم انفصلت عن بعضها لعدّة عوامل حتى إتسعت إلى ما هى عليه اليوم. كما كانت الأرض مطمورة تحت الماء، ثم ظهرت اليابسة شيئا فشيئا بعد أن نفذت المياه إلى المناطق العميقة والشقوق الأرضية، ثم إتسعت بمرور الزمان، حتى تكونت المناطق اليابسة والبحار، وأخيراً أصبحت الأرض أكثر إتساعاً بفعل جاذبية الأحجار السماوية، فقد صرح القرآن بهذا لاشأن قائلاً: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْد وَإِنّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُونَ)(5). والعبارة «داعم المسموكات» تعني
1. «داحي» من مادة «دحو» بمعنى البسط، و«دحو الأرض» إشارة إلى الزمان الذي خرجت فيه اليابسة تدريجياً من الماء وانتشرت.
2. «داعم» من مادة «دعم» على وزن فهم بمعنى تسوية الاعوجاج، ومنه «الدعامة» بمعنى العمود.
3. «المسموكات» من مادة «سمك» على وزن سقف بعنى رفع، والمسموكات المرفوعات وهى السماوات.
4. «جابل» من مادة «جبل» على وزن جبر بمعنى خالق.
5. سورة الذاريات / 47 ـ 48.
حافظ السموات بما فيها السيارات والثوابت والمجرات بواسطة القوى الجاذبية اللامرئية; وهى القوى التي تحفظها بحيث لا تتغير المسافة بين كرات المنظومة الشمسية رغم مرور ملايين السنين; الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم: (وَإِنْ مِنْ شَيء إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلـكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(1). أما العبارة «و جـابل القلوب» فهى إشارة إلى العلوم الفطرية والإلهية والغرائز والرغبات النافعة التي أودعها اللّه باطن الإنسان; العلوم والغرائز والرغبات التي تمثل الوسائل التي يوظفها الإنسان في مسيرته نحو السمو والتكامل والسير إلى اللّه إلى جانب الرقي المادي والمعنوي. ولعل هنالك من يعتقد أن اللّه أودع الشقاء والسعادة ذات الإنسان، بحيث هناك السعداء ذاتاً والأشقياء ذاتاً، والحال لاتفيد العبارة الواردة في الخطبة مثل هذا المعنى، بل تصرح العبارة بأنّ اللّه أودع هذه العلوم كافة أفراد البشر من آل أمره إلى السعادة أو الشقاء، وان إعتمدها البعض ووظفها من أجل السعادة وتجاهلها البعض الآخر ليزج بنفسه في وادي البؤس والشقاء; ولعل الحديث المعروف «كلّ مولود يولد على الفطرة...»(2) يشير إلى هذا المعنى. فمن الواضح أنّ السعادة والشقاء لو كانا ذاتيين وكل فرد مجبر على سلوك السبيل الذي عين له سبقاً، أن يكون من العبث بعث الأنبياء وانزال الكتب السماوية والتكاليف والمسؤوليات والأحكام الشرعية والثواب والعقاب، وبكلمة واحدة كافة المسائل المرتبطة بالتربية والتعليم وآثارها ومعطياتها; الأمر الذي لايقره العقل ولا الشرع. قال القرآن: (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً)(3). كما قال في موضع آخر: (وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(4). فالواقع هو أن الحق سبحانه أرشد الإنسان إلى طرق السعادة والشقاء دون أنّ يجبره على شئ، فهو مختار في أي سبيل سلك، ومن هنا كان مسؤولا أمام اللّه وضميره.
—–
1. سورة فاطر / 41.
2. ورد مضمون هذا الحديث في عدة روايات تناهز العشرين، رواها المرحوم العلاّمة المجلسي في بحارالأنوار 3/276 ـ 281، كتاب التوحيد.
3. سورة الدهر / 3.
4. سورة الشمس / 7 ـ 8 .
«اجْعَلْ شَرائِفَ صَلَواتِكَ، وَنَوامِيَ بَرَكاتِكَ، عَلَى مُحَمَّد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ الْخاتِمِ لِما سَبَقَ، وَالْفاتِحِ لِما انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدّافِعِ جَيْشاتِ الاَْباطِيلِ، وَالدّامِغِ صَوْلاتِ الاَْضالِيلِ، كَما حُمِّلَ فاضْطَلَعَ، قائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضاتِكَ، غَيْرَ ناكِل عَنْ قُدُم، وَلا واه فِي عَزْم، واعِياً لِوَحْيِكَ، حافِظاً لِعَهْدِكَ، ماضِياً عَلَى نَفاذِ أَمْرِكَ; حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقابِسِ،أَضاءَ الطَّرِيقَ لِلْخابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضاتِ الْفِتَنِ الاْثامِ، وَأَقامَ بِمُوضِحاتِ الاَْعْلامِ، وَنَيِّراتِ الاَْحْكامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، ورَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ».
—–
يصلي الإمام(عليه السلام) أفضل الصلوات وأزكاها على النبي(صلى الله عليه وآله) ذاكراً أكثر من عشرين صفة من صفاته البارزة(صلى الله عليه وآله) التي تستلزم أطهرا الصلوات عليه «اجعل شرائف(1) صلواتك ونوامى(2)بركاتك على محمّد عبدك ورسولك» فالصلوات هى رحمة اللّه، والبركات نعمه سبحانه كما تطرق الإمام(عليه السلام) إلى صفتين بارزتين مهمتين من صفاته(صلى الله عليه وآله): الاولى العبودية، والثانية الرسالة. فالعبودية تشكل إحدى إفتخارات الإنسان المسلم للّه سبحانه، فيرى كل شئ للّه حتى امواله
1. «شرائف» جمع «شريفة» بمعنى ذاقيمة.
2. «نوامي» جمع «نامية» من مادة «نمو» بمعنى التوسعة والزيادة والتطور.
التي يملكها بالظاهر فهى، فقد ورد عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) أنّه قال «إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً»(1) ثم أشار إلى ختمه للأنبياء في الصفة الثالثة فقال: «الخاتم لما سبق» فان كانت ما تعود إلى العاقل فالعبارة تفيد الأنبياء السابقين وخاتمهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله). وان كانت لغير العاقل عنت اختتام الشرائع السابقة بشريعة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله). ثم قال(عليه السلام) «والفاتح لما انغلق، والمعلن الحقّ بالحقّ» والمراد بالعبارة «الفاتح لما انغلق» أبواب العلوم والمعارف والمسائل الإنسانية الإخلاقية والاجتماعية المعقدة التي فتحها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)بوجه البشرية بدينه ونوره وهدايته، والعبارة «المعلن الحق بالحق» يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات التي تبيّن أحقية النبي(صلى الله عليه وآله)، كما يمكن أن يراد بها منطقه الذي يكشف النقاب عن الحقائق، أو المعارك والغزوات التي أقصت خصوم الدعوة لترى الاُمّة الحقائق، أو توضيح الحقائق بقرائن بعضها البعض الآخر من قبيل تفسير بعض الآيات القرآنية ببعضها الآخر، وأخيراً يمكن أن تكون جميع هذه المعاني مرادة بالعبارة.
ثم قال(عليه السلام) «والدّافع جيشات(2) الاباطيل، والدّامغ(3) صوْلات(4) الاضاليل» والجدير بالذكر في العبارة التعبير عن الباطل بالجيشات وعن عوامل الضلال بالصولات حيث تصور كل منهما عمق ما تختزنه هذه المفردات فالباطل مليء بالصخب والضجيح، كما أنّ عناصر الضلال غالباً ماتهجم على العزل من الناس. ثم قال(عليه السلام) في مقام بيان علة الدعوة لهذه الصلوات الوافرة «كما حمّل فاضطلع»(5) فكما هنا بمنزلة التعليل وتفيد معنى لأنّه، والواقع أنّ قبول هذه المسؤولية العظمى وتحمل كافة تبعاتها بعد من أهم خصائص النبي(صلى الله عليه وآله)التي تجعله يستحق
1. بحارالأنوار 74/400.
2. «جيشات» جمع «جيشة» من مادة «جيش» على وزن عيش من جاشت القدر إذ إرتفع غليانها، ومنه الجيش لحركته.
3. «دامغ» من مادة «دمغ» على وزن ضرب إذا شجه حتى بلغت الشجة دماغه.
4. «صولات» جمع «صوله» بمعنى الحملة من أجل الغلبة. ويستعمل هذا الاصطلاح أيضا في التعبير عن عضة البعير.
5. «اضطلع» من مادة «اضطلاع» بمعنى القوة والقدرة على القيام بالعمل. وفي الأصل من مادة «ضلع» على وزن جسم، بمعنى الضلع، وهو العظم المقاوم في مقابل الحوادث، وكذلك يطلق على اصطلاح «ضلع» وهو على وزن «منع» بمعنى القوة والقدرة.
الشكر والثناء. وقال(عليه السلام) «قائماً بأمرك، مستوفزاً(1) في مرضاتك» فالقيام بالأمر إشارة إلى جدية الأوامر الإلهية لأنّ الإنسان ينهض من أجل القيام بالأعمال الجادة. فالتعبيران لايشيران إلى مدى إمتثال النبي(صلى الله عليه وآله)لأحكام السماء فحسب، بل كان يسارع إلى الاتيان بكل ما يرضى اللّه سبحانه وان لم تصدر إليه الأوامر. ثم قال(عليه السلام):«غير ناكل(2) عن قدم،(3) ولاواه في عزم» فكثير هم الجديون في قرارتهم والانطلاق في أعمالهم، إلاّ أنّهم يضعفون في الاستمرار والمواصلة، والمهم أن يواصل الإنسان نشاطه وعمله. ويفيد التأريخ أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لم ينكل أو يضعف أمام الوساس والضغوط، كما لم يكن يلين تجاه أي مبادرة منحرفة، ومن ذلك قوله «واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره اللّه او أهلك دونه»(4). ثم قال(عليه السلام):«واعياً(5) لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك». ثم اشار الإمام(عليه السلام) إلى النتيجة التي تمخضت عنها جهود النبي(صلى الله عليه وآله)وتضحيته «حتّى أورى(6) قبس(7) القابس، وأضاء الطّريق للخابط،(8) وهديت به القلوب بعد خوضات(9) الفتن والاْثام».
والعبارة تلمح إلى سرعة إنتشار الإسلام واشراقة شبه الجزيرة العربية التي كانت مهد الكفر والشرك ومركز الجهل والجريمة، ولا يشك في هذه الحقيقة من كان له أدنى إلمام بالتأريخ الإسلامي; الأمر الذي إعترف به حتى خصوم الدعوة. ثم قال(عليه السلام): «و أقام بموضحات الأعلام، و نيّرات الأحكام». فالواقع وبغية الحيلولة دون تلكؤ أصحاب الحق في
1. «مستوفز» من مادة «استيفاز» بمعنى المسادع المستعجل.
2. «ناكل» من مادة «نكول» بمعنى الناكص والمتأخر.
3. «القدم» بضمتين المشيي إلى الحرب ومضى قدما سار ولم يخرج.
4. الكامل لابن اثير 1/489 (كما ورد هذا الكلام في سيرة ابن هشام وتأريخ الطبري).
5. «واعيا» أي حافظا وفاهما، وعيت الحديث فهمته وحفظته.
6. «أورى» من مادة «ورى» على وزن نفي بمعنى اشعال النيران وعليه فان (اورى) فعل متعدي.
7. «القبس» على وزن قفص بمعنى شعلة من النار.
8. «خابط» من مادة «خبط» على وزن ضبط بمعنى الحركة في طريق غير صحيح، وكذلك تأتي بمعنى عدم التعادل أثناء المسير أو القيام.
9. «خوضات» جمع «خوضة» من مادة «خوض» على وزن حوض، وفي الاصل يأتي بمعنى الدخول التدريجى في الماء، والسير والسباحة في الماء، وكذلك يأتي كناية عن معنى الدخول أو البدء بعمل أو خطاب سيء وغير مطلوب.
مسيرتهم، لابدّ من نصب العلامات الدالة على الطريق واضاءت كافة ظلماته، وهذا ما فعله رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)حين أضاء كل معالم الطريق ونصب الأدلاء عليه. ومن ذلك الأحكام المتعلقة بالصلوات اليومية وصلاة الجمعة ـ وبمراسها الخاصة ـ وحج بيت اللّه الحرام التي من شأنها هداية أتباع الحق وصدهم عن الحيرة والضلال، إلى جانب بيانه للأحكام ذات الصلة بالقضايا الاجتماعية والتربوية والسياسية والاقتصادية. ثم يختتم(عليه السلام)هذا الفصل من الخطبة بخمس صفات أخرى للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) فقال: «فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدّين،بعيثك بالحقّ، ورسولك إلى الخلق» فبعض هذه الصفات مقدمة وبعضها الآخر نتيجة. فكونه أمين اللّه وخازن علمه إنّما هى مقدمة من أجل الرسالة إلى الخلق والبعث بالحق، كما أنّ شهادته يوم القيامة إنّما تمثل نتيجة هذه الرسالة. أمّا قوله(عليه السلام): «أمين مأمون» هو تأكيد لمدى أمانته(صلى الله عليه وآله)واشارة إلى العصمة المشروطة في النبوة .وأمّا قوله(عليه السلام):«خازن علمك المخزون»، فالمراد به علمه(صلى الله عليه وآله)باسرار الغيب، وقد أشرنا إلى ذلك في حينه إلى تعذر قيام الأنبياء والأئمة بوظيفتهم بصورة تامة دون العلم بتلك الاسرار والخفايا، وقد أشار القرآن بهذا الشأن: (عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُك مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِـيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ)(1)والعبارة «شهيدك يوم الدين» مستوحاة من الآية 143 من سورة البقرة: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَـكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَـكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِـيداً) والآية 89 من سورة النحل: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّة شَهِـيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِـيداً عَلى هـؤُلاءِ...)التي تشير إلى شهادة النبي(صلى الله عليه وآله)على أعمال الاُمّة وشهادته على شهداء سائر الاُمم. ولما كانت الشهادة من فروع العلم، فان هذه التعبيرات تشكل دليلاً آخر على علمه(صلى الله عليه وآله)بأسرار الغيب.
—–
1. سورة الجن / 26 ـ 28.
«اللّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ; واجْزِهِ مُضاعَفاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ، اللّهُمَّ وأَعْلِ عَلَى بِناءِ الْبانِينَ بِناءَهُ، وأَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ، وأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ، واجْزِهِ مِنِ ابْتِعاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهادَةِ، مَرْضِيَّ الْمَقالَةِ، ذا مَنْطِق عَدْل، خُطْبَة فَصْل. اللّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنا وبَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيْشِ وقَرارِ النِّعْمَةِ، ومُنَى الشَّهَواتِ، وأَهْواءِ اللَّذّاتِ، ورَخاءِ الدَّعَةِ، ومُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ، وتُحَفِ الْكَرَامَةِ».
—–
يتضرع الإمام(عليه السلام) بدعاء جامع بحق النبي(صلى الله عليه وآله)، ليعلمنا في الواقع كيفية الدعاء للنبي(صلى الله عليه وآله)، فقد سأل اللّه للنبي(صلى الله عليه وآله) ستة أشياء: «اللّهمّ افسح(1) له مفسحاً في ظلّك» فالظل هنا قد يراد به المعنى الكنائي، كما يمكن أن يراد به ظل لطف اللّه وكرمه وجوده، أو أن يقصد به المعنى الحقيقي ليعني ظلال الجنان في المحشر، فقد ورد في الحديث: «أنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها»(2). ثم قال(عليه السلام):«واجزه مضاعفات الخير من فضلك» ومن الواضح أنّ الثواب الإلهي هو الضعف على الدوام، ولاغرو فذلك نابع من فضله وجوده وكرمه التي لاترى مكافئة الأعمال بمثلها دون زيادة، مع ذلك فقد سأل اللّه المزيد لنبيه(صلى الله عليه وآله). ثم قال(عليه السلام):
1. «افسح» من مادة «فسح» على وزن فسخ بمعنى المكان الواسع. ومن هنا فان هذه المادة تأتي بمعنى التوسعة.
2. مجمع البيان، 10 ـ 9/218 ذيل الآية 30 من سورة الواقعة.
«اللّهمّ وأعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منزلته» والمراد بالبناء هنا إمّا دين النبي(صلى الله عليه وآله)الذي سأل اللّه إظهاره وعلوه على سائر الأديان، وإمّا مقامه(صلى الله عليه وآله)وعلوه على من سواه. وتضرع(عليه السلام)قائلاً: «و أتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشّهادة، ومرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطبة فصل» والجدير بالذكر في هذا الدعاء أنّه عدّ شفاعة النبي(صلى الله عليه وآله)للاُمّة جزاء تبليغه الرسالة; الأمر الذي تعود بركته على الاُمّة وهذا ما يمثل قمة لطفه وكرمه(عليه السلام). كما أشارت العبارة إلى أنّ شهادته وشفاعته(صلى الله عليه وآله) ليست إعتباطية فمنطقه العدل وحديثه الفرقان بين الحق والباطل، فاذا شفع لشخص أو جماعة فقد توسم فيهم الشفاعة، وهذا ما أوردناه في بحث الشفاعة، في أنّها خاضعة لقانون وليست عبثية، بل للشفاعة مقدماتها التي تكمن في الأهلية والاستحقاق، وبعبارة اُخرى لابدّ أن تكون هنالك رابطة معنوية قائمة بين الشفيع والمشفع فيه، وإلاّ فمن قطع هذه الرابطة فهو لايستحق الشفاعة، ولعل هذه الشفاعة هى المقام الذي أشارت إليه الآية القرآنية: (وَمِنَ اللَّـيْلِ فَتَهَـجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).(1)
ثم يختتم الإمام(عليه السلام) خطبته بالدعاء له وصحبه: «اللّهمّ اجمع بيننا وبينه في برد العيش قرار النّعمة، ومنى الشّهوات، وأهواء اللّذّات، ورخاء الدّعة،(2) ومنتهى الطّمأنينة، وتحف الكرامة» ويبدو أن هذه هى خصائص الجنّة من قبيل السكينة والكرامة الإلهية والنعم الطيبة والمعنوية والمادية إلى جانب البقاء والخلود.
لقد تضمنت الخطبة أزكى الصلوات والتحيات على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله); الأمر الذي ينبهنا إلى عظم هذه المسألة التي صرحت بها التعاليم الإسلامية. فالواقع هو أن الروايات الإسلامية
1. سورة الاسراء / 79.
2. «دعة» من مادة «وداع» بمعنى الانفصال والترك وتخلية السبيل، ومن هنا يطلق هذا الاصطلاح على كل شيء يتركه الانسان، ويبقى بدون حركة وبحالة من الهدوء. وهذا الاصطلاح يأتي أحيانا بمعنى الهدوء، وقد جاء في الخطبة اعلاه بهذا المعنى.
أكدت الصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله) ومدى الأجر والثواب الذي أشارت إليه مصادر الفريقين إزاء هذا العمل بما يفوق التصور ويدعو إلى الدهشة والذهول، ومن هنا فقد إقتطفنا بعض الروايات الواردة بهذا الشأن والتي نلفت إليها إهتمام القراء الأعزاء ثم نسلط الضوء على ما ورد فيها:
1 ـ فقد جاء في الحديث أنّ أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) قال: «ألصّلاة على النّبىّ وآله أمحق للخطايا من الماء إلى النّار والسّلام على النّبىّ أفضل من عتق رقاب».(1)
2 ـ وفى الخبر عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إذا ذكر النّبىّ فأكثروا الصّلاة عليه فإنّه من صلّى على النّبىّ صلاةً واحدةً صلّى اللّه عليه ألف صلاَة في أَلف صَفٍّ منَ المَلائكَة ولم يبق شيءٌ ممّا خلقه اللّه إلاَّ صلَّى على ]ذلك[ العبد لصلاة اللّه عليه وصلاَة مَلائكَته فمن لم يرغب في هذا فهو جاهلٌ مغرورٌ قد برئ اللّه منه ورسوله وأهل بيته».(2)
3 ـ عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: «كلّ دعاء محجوبٌ حتّى يصلّى على النّبىّ».(3)
4 ـ وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أيضاً قال: «الصّلاَة عَلَىّ نورٌ عَلَى الصّرَاط».(4)
5 ـ وروي عن الإمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام) انه قال: «ما في الميزان شيءٌ أثقل من الصّلاة على محمّد وآل محمّد وإنّ الرّجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فيخرج الصّلاة عليه فيضعها في ميزانه فترجّح».(5)
6 ـ كما روي عنه(صلى الله عليه وآله) قال: «إذا كان يوم الخميس بعث اللّه ملائكةً معهم صحفٌ من فضّة و أقلامٌ من ذهب يكتبون يوم الخميس وليلة الجمعة أكثر النّاس علىَّ صلاةً».(6)
7 ـ وعنه(صلى الله عليه وآله) قال: «صلّوا عليّ فإنّ الصّلاة علىَّ زكاةٌ لكم».(7)
8 ـ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال لعلي(عليه السلام): «ألاَ أبشّرك؟ قال: بلى بأبي
1. ثواب الأعمال للشيخ الصدوق / 185.
2. بحارالأنوار 17/30.
3. كنزالعمال 1/490، ح 2153.
4. كنزالعمال 1/490، ح 2149.
5. وسائل الشيعة 4/1210 الباب 34 من ابواب الذكر.
6. كنزالعمال 1/ ح 2177.
7. كنزالعمال 1/494، ح 2182.
![]() |
![]() |