![]() |
![]() |
9 ـ وروي عنه(صلى الله عليه وآله) قال: «أكثروا الصّلاة علىّ فإنّ اللّه وكّل بي ملكاً عند قبري فإذا صلّى علىّ رجلٌ من أمّتي قال ذلك الملك يا محمّد: إنّ فلان بن فلان صلّى عليك السّاعة».(2)
10 ـ وروى الإمام الباقر(عليه السلام) أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: «من صلّى علىَّ إيماناً واحتساباً إستأنف العمل».(3)
11 ـ ولم يقتصر وجوب الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله) عند ذكر إسمه فحسب، بل تأكد ذلك حتى حين الكتابة، فقد روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من صلّى علىَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب».(4)
12 ـ روت عائشة عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من سرّه أن يلقى اللّه غداً راضياً فليكثر الصّلاة، علىَّ».(5)
وزبدة الكلام قد تظافرت الروايات بهذا الشأن والتي تفيد مدى أهمية الصلوات والسلام على النبي وآله، بحيث تضمنت مثل هذا الأجر والثواب لهذا العمل، وما أوردناه في السابق هو غيض من فيض تلك الروايات.
—–
1. شرح نهج البلاغة للعلاّمة الخوئي 5/214 ـ 215.
2. كنزالعمال 1/494، ح 2181.
3. وسائل الشيعة 4/1213 (الباب 34 من أبواب الذكر).
4. كنزالعمال 1/507، ح 2243.
5. كنزالعمال 1/504، ح 2229.
قبل كل شي يبرز هنا هذا السؤال وهو ما سر كل هذه الأهمية للصلوات؟ وما الأمر الذي تختزنه الصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله)؟ ويمكن القول في الاجابة على هذا السؤال هو عدم نسيان مكانة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) ومقامه الجليل، ويستلزم ذلك عدم هجر الإسلام وتعاليم الحقة، ومن هنا كانت الصلوات على النبي رمزاً لبقاء الإسلام وديمومة مسيرته. أضف إلى ذلك فانّ الصلوات تدعونا للتعرف بصورة أعمق على مقامه(صلى الله عليه وآله)والاقتداء باخلاقه وصفاته، ومن هنا وردت بعض التعبيرات التي تفيد أنّ الصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله)تؤدي إلى طهارة الأخلاق ونقاء الاعمال وتساقط الذنوب، ومن ذلك ما جاء في الزيارة الجامعة: «و جعل صلاتنا عليكم وما خصّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا وطهارةً لأنفسنا وتزكيةً لنا وكفّارةً لذنوبنا».(1) كما أشير في عدة روايات إلى تحات الذنوب حين الصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله). من جانب آخر فان الصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله)وآله إنّما تمطر أرواحهم الطاهرة بوابل من رحمة اللّه، ولما كانوا(عليه السلام)وسائط الفيض فانّ تلك الرحمة وبركاتها إنّما تنحدر منهم إلى الاُمّة. وعليه فالصلوات والرحمة عليهم في الواقع هى صلوات علينا ورحمة لنا. أضف إلى ذلك فانّ الصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله) إنّما يمثل نوعا من الشكر والتقدير للجهود التي بذلها من أجل هدآيه الاُمّة، وممّا لاشك فيه أن هنالك أجر وثواب لهذا الشكر ومعرفة الجميل.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو أنّ الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله) هل لها من دور على منزلته ومقامه(صلى الله عليه وآله) وآله؟ لعل هنالك من يقول بعدم وجود أي دور لهذه الصلاة فالنبي وآله قد بلغوا المقام الذي يريدون؟ إلاّ أنّ خواء هذا الكلام يتضح من خلال الالتفات إلى أنّ المسيرة التكاملية للإنسان إنّما تنطلق من المتناهي إلى اللامتناهي، وعليه فهى مسيرة مفتوحة ليست
1. زيارة الجامعة الكبيرة.
محددة باطر وحدود، ومن هنا ورد في بعض الأدعية وبضمنها التشهد القول بحق النبي(صلى الله عليه وآله)«وارفع درجته»(1) وإلى ذلك أشار القرآن: (إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِـيماً)(2) والفعل المضارع (يصلون) يفيد استمرار هذه الرحمة، ومن الواضح أنّ كل مسلم ينطق بالتوحيد والإسلام إنّما يمثل رحمة متجددة لمشيد دعائم هذا الدين، وذلك لأنّه(صلى الله عليه وآله) صاحب الفضل في سن هذه السنة الحسنة.
السؤال الآخر الذي يطرح نفسه بهذا الشأن يكمن في الصيغة التي ترد بها الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله). فقد وردت روايات عن طريق الفريقين التي أكدت إقتران آل النبي(صلى الله عليه وآله) به حين الصلاة. ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض هذه الروايات:
روي في الدر المنثور عن صحيح البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه عن كعب بن عجره انّ رجلاً قال للنبي(صلى الله عليه وآله): «أمّا السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟» قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «قل اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل ابراهيم إنّك حميد مجيد. اللّهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على ابراهيم إنّك حميد مجيد».
وإضافة إلى الحديث المذكور فقد نقل صاحب تفسير الدر المنثور ثمانية عشر حديثاً صرحت جميعها بوجوب ذكر آل محمد حين الصلاة عليه، وقد نقلت هذه الأحاديث في المصادر المشهورة والمعروفة لدى العامة عن طريق الصحابة ومنهم: ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وطلحة وأبومسعود الأنصاري وبريدة وابن مسعود وكعب بن عجرة وأميرالمؤمنين علي(عليه السلام).(3) وقد روى صحيح البخاري(4)، عدة روايات بهذا الخصوص، كما
1. وسائل الشيعة 4/989 باب كيفية التشهد.
2. سورة الأحزاب / 56.
3. تفسير الدرالمنثور 5/216 ذيل الآية 56 من سورة الأحزاب.
4. صحيح البخاري 6/151 في تفسير سورة الأحزاب.
جاءت روايتان في صحيح مسلم(1)، والغريب هو أنّ العنوان الذي ورد في صحيح مسلم باب الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم (دون ذكر آله) رغم إقتران الآل بالنبي(صلى الله عليه وآله)في الأحاديث المذكورة. والجدير بالذكر هنا أن بعض روايات العامة وأغلب روايات الشيعة لم تفصل بين محمد وآل محمد بحرف على، والصيغة الواردة هى «الّلهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد». ونختتم البحث بهذا الحديث الذي ورد في صواعق ابن حجر(2) ان النبي(صلى الله عليه وآله)قال: «لا تصلوا على الصلاة البتراء! فقالوا: وما الصّلاة البتراء؟ قال: يقولون: أللّهمّ صلّ على محمّد، وتمسكون; بل قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد» أضف إلى ذلك فقد وردت عدة أحاديث بهذا المجال في المجلد الأول من كنز العمال.
هنا يبرز هذا السؤال: هل الصلاة على النبي واجبة أم مستحبة؟ ظاهر الآية السادسة والخمسون من سورة الأحزاب: (إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ...)هو الوجوب; لأ ننا نعلم أن صيغة الأمر تفيد الوجوب، إلاّ أن تكون هناك قرينة على خلافه، وقد أمر اللّه في هذه الآية بالصلاة على النبي، فأقلّ ما يلزم الصلاة عليه ولو لمرة واحدة. أضف إلى ذلك فانّ مشهور فقهاء الشيعة وجمع من فقهاء العامة يعتقد بوجوب الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله) في التشهد. فقد صرح فقيه العامة ابن قدامة في كتاب المغني بوجوب الصلاة على النبي في التشهد الأول وقال: «أللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم... وهى واجبةٌ في صحيح المذهب وهو قول الشّافعي واسحاق...» ثم نقل عن ابن راهويه (أحد فقهاء العامة) «لو أنّ رجلاً ترك الصّلاة على النّبي(صلى الله عليه وآله)فى التشهّد بطلت صلاته».
وأضاف: (وظاهر مذهب أحمد أحد الائمة الأربعة لدى العامة) هو الوجوب أيضاً.(3)وصرح الشيخ منصور علي ناصف صاحب كتاب الجامع للاصول ذيل الآية السادسة
1. صحيح مسلم 1/305 باب الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله).
2. الصواعق لابن حجر /144.
3. المغني 1/579.
والخمسين من سورة الأحزاب: (إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ...) أنّ ظاهر الآية هو وجوب الصلاة على النبي وعليه إتفاق العلماء.(1)
السؤال الأخير الذي يطرح نفسه هنا: ما مفهوم هذه الصلوات؟ يتفق العلماء على أنّ صلاة اللّه على العبد تعني الرحمة، وصلاة الملائكة والناس تعني طلب العفو والرحمة، أو حسب الرواية الواردة عن الإمام الكاظم(عليه السلام)حين سئل عن معنى صلوات اللّه والملائكة والمؤمنين في الآية الشريفة: (إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ) قال: صلاة اللّه رحمته وصلاة المؤمنين تقديسهم للنبي(صلى الله عليه وآله) وصلاة المؤمنين طلبهم الرحمة للنبي(صلى الله عليه وآله).(2) ويرى البعض أن جمعي هذه ارسال الرحمة أو التقديس وطلب المغفرة بحيث يردها كل أحد على ضوء مقتضى حاله.(3)ولما كان الأصل اللغوي لهذه المفردة صلى على وزن سعى بمعنى القذف في النار أو الاشتغال بهما، فانّ البعض يرى أن الصلوات تعني إبعاد نار العذاب الاُخروي، ونتيجته الرحمة أو طلبها; إلاّ أنّ البعض فرق بين الصلو الناقص الواوي والصلي الناقص اليائي، على أنّ المعنى الأخير يتعلق بصلي بينما ترتبط المعاني السابقة بالصلو (لابدّ من التأمل).
على كل حال فان ما ورد يشير إلى أنّ كل صلاة وسلام على النبي(صلى الله عليه وآله)يمثل رحمة متجددة على روحه الطاهرة، ولا يستبعد أن تطول تلك الرحة التي تستند لتلك العين الإلهية الفياضة الاُمّة وترفرف عليها، ومن هنا كانت الصلوات والسلام على النبي(صلى الله عليه وآله)مصدر رحمة للإنسان وغفران ذنوبه. أما بشأن المراد بآل محمد(صلى الله عليه وآله)هل هم أهل البيت من ولده، فهذا ما سنعرض إليه في الخطبة 239. وقد أشرنا في الخطبة الثانية من المجلد الأول لهذا الأمر.
—–
1. التاج الجامع للاصول 5/143.
2. تفسير نورالثقلين 4/302، رقم 211 (ذيل الآية 56 من سورة الأحزاب).
3. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادة صلو (باقتباس ونقل بالمعنى).
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
قالُوا: أُخِذَ مَرْوانُ بْنُ الْحَكَمِ أَسِيراً يَوْمَ الْجَمَلِ، فاسْتَشْفَعَ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ(عليه السلام) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام) فَكَلَّماهُ فِيهِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقالا لَهُ: يُبايِعُكَ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فقالَ(عليه السلام):
—–
يشير كلامه(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى عذر مروان وبني مروان من جانب ويشبه خيانته بخيانة اليهود الذين وقفوا بوجه الدعوة منذ انبثاقها إلى يومنا هذا. كما يخبر(عليه السلام)عن حكومة بني مروان وهذه الشجرة الخبيثة ومدى المصائب والويلات التي طالت المسلمين من تلك الحكومة. وتكشف هذه النبوءة عن إحاطته(عليه السلام)بالحوادث المستقبلية.
—–
1. سند الخطبة روى طرفا من هذا الكلام قبل الرضي ابن سعد في الطبقات ج 1 في ترجمة مروان، والبلاذري في أنساب الاشراف بترجمة أميرالمؤمنين، ورواه بعد الزمخشري في ربيع الأبرار والسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص باختلاف يسير، وجاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير. وقال ابن أبي الحديد في 6/146 من شرحه لنهج البلاغة: وقد روي هذا الخبر من طرق كثيرة ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة، فترى ابن أبي الحديد هنا ينص على تواتر هذا الخبر وكثرة طرقه.
مصادر نهج البلاغة 2/72.
«أوَ لَمْ يُبايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمانَ؟ لا حاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّها كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ، لَوْ بايَعَنِي بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ. أَما إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ،هُوَ أَبُو الاَْكْبُشِ الاَْرْبَعَةِ، وسَتَلْقَى الاُْمَّةُ مِنْهُ ومِنْ وَلَدِهِ يَوْماً ]موتا [أَحْمَرَ».
—–
كما أوردنا سابقاً أنّ الإمام(عليه السلام) قال هذا الكلام لما استشفع إليه الحسن والحسين(عليه السلام) في العفو عن مروان بن الحكم لما أسر يوم الجمل، ثم إقترحا على الإمام(عليه السلام) بيعته، فقال «أو لم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لاَ حَاجَةَ لي في بَيعَته! إنّهَا كَفٌّ يَهوديّةٌ، لَو بَايَعَني بكَفّه لَغَدَرَ بسبّته».(1)
وتشبيه يده باليد اليهودية تعد إشارة واضحة إلى خيانة مروان وغدره الذي ورثه في الواقع من أبيه الحكم، عم عثمان بن عفان الذي كان يتجسس على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لصالح الكفار والمشركين والمنافقين إلى جانب سخريته واستهزائه بالنبي(صلى الله عليه وآله) فنفاه(صلى الله عليه وآله) إلى الطائف، ولم يشفع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) عثمان في رده إلى المدينة فلما ولي عثمان الخلافة كان أحد أسوأ أعماله التي دعت الناس للقيام عليه إعادة الحكم بن أبي العاص إلى المدينة. ومن الطبيعي ألا يكون هناك من اعتبار لبيعة هذا الرجل الذي بايع علياً(عليه السلام) ثم نقض بيعته ولم يقم لها وزناً، رغم أنّ البيعة كانت محترمة حتى في الجاهلية. فقد نقض بيعته وأجج نار الجمل، فلو بايع ثانية لنقض هذه البيعة
1. «سبة» على وزن غدة تعنى الطعنة في موضع واصلها من سب كما ترد كناية عن مخرج الإنسان، وقد وردت بهذا المعنى في العبارة المذكورة، ومعنى الكلام محمول على وجهين: أحدهما أن يكون ذكر السبة إهانة له وغلظة عليه، والعرب تسلك مثل ذلك في خطبها وكلامها، والثاني أن يريد بالكلام حقيقة لامجازاً، وذلك لأنّ الغادر من العرب كان إذا عزم على الغدر بعد عهد قد عاهده أو عقد قد عقده، قبل إستهزاء بما كان قد أظهره من اليمين والعهد، وسخرية وتهكماً. (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/147).
متى تسنح له الفرصة، فقد كان تبعا لهواه، ولم يك للعزة والشرف والالتزام الأخلاقي والشرعي من أهمية لديه. ثم أخبر الإمام(عليه السلام) عن ثلاثة أمور غيبية بشأن مروان، يكمن الأول فيها في إستيلائه على الخلافة لمدة قصيرة: «أما إنّ له إمرةً كلعقة(1) الكلب أنفه» فالكلب حين يزج برأسه في جيفة ليتناول ممّا فيها، يعلق مقدارا من بقايا تلك الجيفة على أنفه فيمد لها لسانه بغية تناوله وتنظيف ما علق بأنفه. ويمثل هذا التعبير بشأن قصر حكومة مروان منتهى البلاغة والفصاحة، وهو من قبيل: «المقال المطابق لمقتضى الحال». نعم فهو كالكلب الذي إنقض على جيفة الحكومة اللامشروعة لآل أمية، ولمدة فصيرة رآها بعض المؤرخين أربعة أشهر وعشرة أيام وقيل ستة أشهر، وأكثر مدة صرح بها المؤرخون هى تسعة أشهر، وهكذا تحققت نبوءة الإمام(عليه السلام)بشأنه حتى قتل على يد زوجته كما سنعرض لذلك في البحث القادم. الأمر الثاني الذي تنبأ به الإمام(عليه السلام): «و هو أبوالأكبش(2) الأربعة» والأكبش جمع كبش الحيوان الهائج المعروف حيث يشترك معه ولد مروان بهذه. وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بالأكبش الأربعة من ولد مروان هم: عبدالملك الذي ولى الخلافة بعده وعبدالعزيز الذي ولي مصر وبشر في العراق وأمّا محمد فولي الجزيرة، وقد ورث كل منهم الشر عن أبيه. وبالطبع فانّ أولاد مروان كثيرون، إلاّ أنّ هؤلاء الأربعة قد ولوا الحكومة واليهم أشار الإمام(عليه السلام)بكلامه. بينما ذهب البعض الآخر من الشرّاح إلى أنّ المراد بالأكبش الأربعة حفدة مروان من ولد عبدالملك وهم: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ولم يل الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة إخوة إلاّ هؤلاء. ومن هنا فقد رجح البعض القول الثاني لانسجامه والنبوءة الثالثة التي وردت في كلام الإمام(عليه السلام):«وستلقى الأمّة منه ومن ولده يوماً أحمر» وهذه النبوءة هى الاُخرى تحققت، وقد ولي هؤلاء الأكبش الخلافة الواحد بعد الآخر فاراقوا الدماء وقتلوا طائفة عظيمة من الأبرياء، لتحقق نبوءة الإمام(عليه السلام)بقوله: «يوماً احمر» من خلال تلك الفضائع والجرائم التي ارتكبوها، وافضل شاهد على ذلك الجنايات التي اقترفها والي الكوفة على عهد عبدالملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي.
1. «لعقة» من مادة «لعق» على وزن لعب بمعنى لَحسه و«العقة» اسم مرة «يعني لعق أو لحس مرة واحدة».
2. «أكبش» جمع «كبش» بمعنى مذكر الغنم أو الخروف بأي عمر كان تطلق العرب هذه المفردة على رئيس القوم وزعيمهم فيقال: كبش القوم وكبش الكتيبة.
كان مروان بن الحكم من أعدى أعداء أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام)، وقصته تمثل محور الخطبة والتي من شأنها توضيح أغلب الحقائق ذات الصلة بتأريخ صدر الإسلام. أبوه الحكم الذي نفاه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، إلى الطائف وخاطبه(صلى الله عليه وآله) قائلاً: «لعنك اللّه ولعن ما في صلبك» وكان ذلك قبل ولادة مروان. وقيل نفي مع أبيه إلى الطائف وكان طفلاً لايعقل، وإنّه لم ير رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، ولم يزل في الطائف ولم يجرأ الخليفة الأول ولا الثاني على الشفاعة لدى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لردّه إلى المدينة، حتى ولي عثمان فردّه إلى المدينة، وكان ذلك من الأعمال التي نقمها عليه الناس، والأعجب من ذلك قربه إليه وأغدق عليه أموالاً طائلة من بيت المال; ومن هنا إمتنع بعض صحابة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) من الصلاة خلف عثمان. بايع مروان علياً(عليه السلام) بعد قتل عثمان، ثم نقض بيعته وقدم البصرة وأجج نار الجمل، ثم أسر بعد أن قتل طلحة والزبير وهزم عسكر الجمل، وكما ورد في الخطبة فقد إستشفع الحسن والحسين(عليه السلام)إلى أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)وقيل ابن عباس فخلى(عليه السلام)سبيله. الا أنه بايع معاوية والتحق بصفين. وجاء في الخبر أنّ معاوية كان يخشى على حكومة يزيد من أربع من بينهم مروان، فعهد إلى ابنه بأن يصلي عليه، فاذا أتم الصلاة قتله، فلما اطلع مروان الخبر لم يكد يتمّ الصلاة حتى هرب.
و أمّا وفاة مروان، والسبب فيها أنّه كان قد استقرّ الأمر بعده لخالد بن يزيد بن معاوية على ما قَدّمنا ذكره، فلما استوثق له الأمرُ، أحبَّ أن يبايع لعبدالملك عبدالعزيز ابنْيه، فاستشار في ذلك، فأشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد، وهى ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ليصغَر شأنه فلا يرشّح للخلافة، فتزوجها. ثم قال لخالد يوماً في كلام دار بينهما والمجلس غاص بأهله: اسكت يا ابن الرطبة، فقال خالد: أنت لعمري مؤتمن وخبير.
ثم قام باكياً من مجلسه ـ وكان غلاماً حينئذ ـ فدخل على أمه، فأخبرها، فقالت له: لا يعرفنّ ذلك فيك، واسكت فأنا أكفيك أمرَه. فلما دخل عليها مروان، قال لها: ما قال لك خالد؟ قالت وما عساه يقول؟ قال: ألم يشكُنِي إليك؟ قالت: إنّ خالداً أشدّ إعظاماً لك من أن يشتكَيك، فصدّقها. ثم مكثت أياماً، فنام عندها وقد واعدت جواريَها، وقُمْنَ إليه، فجعلن الوسائد
والبراذع عليه، وجلسنَ عليه حتى خنَقهُ، وذلك بدمشق في شهر رمضان. وهو ابن ثلاث وستين سنة، في قول الواقدىّ.
وممّا قيل في مروان أنّ أمه كانت من أصحاب الرايات في الجاهلية قبل أن تتزوج من الحكم، حيث نصبت الراية علناً على باب بيتها وكانت تدعوا الرجال إليها. وكما أشرنا سابقاً فانّ حكومة مروان لم تدم أكثر من بضعة شهور، وقدم جاء في الخبر أنّه رأى في المنام قد بال أربع مرات في محراب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فلما سأل ابن سيرين عن رؤياه، أخبره بأنّ أربعة من بنيه يلون الحكومة فيعملون على هدم الإسلام وهذا ما وقع (طبعا أربعة من أحفاده من ولد عبدالملك) فقد حكم الوليد بن عبدالملك (86 ـ 96) وسليمان بن عبدالملك (96 ـ 99) ويزيد بن عبدالملك (101 ـ 105) وهشام بن عبدالملك (105 ـ 125)، وقد تخلل المدة القصيرة بين حكومة الأولين والآخرين حكومة عمر بن عبدالعزيز (99 ـ 101) وهو من أحفاد مروان. ثم انتهت حكومة آل مروان أسوأ خلفاء بنى أمية.(1)
—–
1. اقتطفنا سيرة حياة مروان من تاريخ الطبري وسفينة البحار وشرح النهج لابن أبي الحديد.
ومن خطبة له (عليه السلام)
لما عزموا على بيعة عثمان
و نحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات من مناشدتِه أصحاب الشورى، وتعديده فضائله وخصائصه التي بأنّ بها منهم ومن غيرهم قد رَوَى الناس ذلك فأكثروا; والذي صحَّ عندنا أنّه لم يكن الأمرُ كما رُوِي من تلك التعديدات الطويلة; ولكنه قال لهم بعد أن بايع عبدُالرحمن والحاضرون عثمانَ، وتلكّأ هو عليه السلام عن البيعة: إنّ لنا حقًّا إن نعطَه نأخذه، وإن نمَنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السُّرى; في كلام قد ذكره أهل السيرة; وقد أوردنا بعضه فيما تقدم، ثم قال لهم: أنشدكم الله! أ فيكم أحَدٌ آخَى رسولَ الله(صلى الله عليه وآله) بينه وبين نفسه; حيث آخى بينَ بعض المسلمين وبعض غيري؟ فقالوا: لا; فقال أفيكم أحدٌ؟ قال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): «مَنْ كنت مولاه فهذا مولاه» غيري؟ فقالوا: لا، فقال: أفيكم أحد؟ قال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أنتَ مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» غيري؟ قالوا: لا، قال: أفيكُم من اؤتمن على سورة براءة، وقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله) إنّه لا يؤدي عَنّي إلا أنا أو رجل
1. سند الخطبة: لقد استفاد بعض شرّاح نهج البلاغة من كلام ابن أبي الحديد أنّ لديه خطبة طويلة لأميرالمؤمنين علي(عليه السلام) بعد بيعة عبدالرحمن بن عوف لعثمان وما ورد في هذه الخطبة طرفا منها، حيث أشار الإمام(عليه السلام) إلى فضائله وسوابقه ثم قال: «إنّي أحق بها من غيري وواللّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة» (شرح نهج البلاغة للعلاّمة الخوئي 5/223).
مِني غيري؟ قالوا: لا، قال: ألا تعلمون أنّ أصحابَ رسول الله(صلى الله عليه وآله)فَرُّوا عنه في مأقِط الحرب في غير موطن، وما فررت قَطّ؟ قالوا: بلى، قال: ألا تعلمون أني أوّل الناس إسلاماً؟ قالوا: بلى. قال: فأيُّنا أقرب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) نسباً؟ قالوا: أنت. فقطع عليه عبدُالرحمن بن عوف كلامه، وقال: يا علي; قد أبَى الناس إلاّ على عُثمان، فلا تجعَلنّ على نفسك سبيلاً، ثم قال: يا أبا طلحة، ما الذي أمرك به عمر؟ قال: أن أقْتُل مَنْ شقّ عصا الجماعة، فقال عبد الرحمن لعلىّ: بايع إذن; وإلاّ كنت متَّبعاً غير سبيل المؤمنين،أنفذْنا فيك ما أمِرْنا به. فقال: «لقد علمتم أني أحقُّ بها من غيري، والله لأسْلِمن...» الفصل إلى آخره، ثم مدّ يده فبايع.(1)
—–
1. اقتباس من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/167، وللاطلاع أكثر حول المؤامرة التي حدثت في قضية الشورى من أجل اقصاء الإمام علي(عليه السلام) من الخلافة وماذا عمل هؤلاء من اجل تأمين مصالحهم المادية، فما عليك الا الرجوع إلى «شرح نهج البلاغة» تأليف «محمد عبده» أحد علماء مصر، وقد أورد ذلك في ذيل الخطبة التي يدور بحثنا حولها.
«لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النّاسِ بِها مِنْ غَيْرِي ووَ اللّهِ لاَُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خاصَّةً الْتِماساً لاَِجْرِ ذَلِكَ فَضْلِهِ وَزُهْداً فِيما تَنافَسْتُمُوهُ(1) مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ».
—–
أورد الإمام(عليه السلام) هذا الكلام حين أمر عمر بتشكيل الشورى من أجل إنتخاب عثمان، والشورى هم: علي(عليه السلام) وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص. وقد أمر جماعة بامهالهم ثلاثة أيام لينتخبوا من بينهم خليفة، فاختاروا عثمان خليفة بعد أن رفض علي(عليه السلام) ما اشترط عليه لقبول الخلافة، فرأى الإمام(عليه السلام) نفسه أمام عمل قد وقع، فاورد هذه الكلمات «لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها من غيري» في إشارة إلى أنّ سكوته(عليه السلام) لايعني أدنى شك وريب في جدارته بالخلافة، فتطرق(عليه السلام) إلى الدافع الذي يكمن وراء ذلك السكوت فقال: «و والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين; ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصّةً». نعم مصالح المسلمين هى الدافع لذلك السكوت، حذرا من شق صفوف المسلمين; الأمر الذي كان ينتظره أعداء الإسلام في الداخل والخارج بفارغ الصبر بغية تنفيذ مؤامراتهم التي تهدف إطفاء نور الإسلام، أو حرصاً على دماء المسلمين والحيلولة دون إراقتها، ثم يصرح بأنّه مستعد للتنازل عن حقه إذا إقتصر الظلم عليه ولم تمارسه هذه الخلافة بحق الإسلام والمسلمين. ثم أتبعه(عليه السلام)بالدافع الثاني «التماساً لأجر ذلك وفضله» وإلى جانب ذلك «وزهداً
1. «تنافستموه» من مادة «منافسة» للحصول على شيء يعد نفيساً (وإن لم يكن في الواقع كذلك) ومن هنا يصطلح «بالنفيس» على الأشياء المرغوبة التي يخاطر الإنسان بنفسه من أجلها.
فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه»(1). فقد أشار الإمام(عليه السلام)في هذه العبارة القصيرة إلى ثلاث حقائق مهمة هى:
أولاً: أنّه أحق من كافة الأفراد بخلافة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وأنّ اُولئك الذين صدوه عن حقه بدافع من مصالحهم الشخصية أو حسداً وبغضاً إنّما ظلموه كما ظلموا الأمّة لأنّهم حرموها من هذا الزعيم الكفوء.
ثانياً: أنّ سكوت الإمام(عليه السلام) لم يكن إعتباطياً خالياً من القيود والشروط، بل قيده(عليه السلام)بانتظام أعمال المسلمين دون أن يتعرضوا لأي ظلم وجور.
ثالثاً: إنّ الإمام(عليه السلام) طلب أجر اللّه وثوابه بهذا السكوت المرير والملي بالمعاناة، كما أراد أنّ يثبت عدم قيمة ما يتنافس عليه الآخرون من زبرج الدنيا وزخرفها ويحرقون من أجلها الأخضر واليابس، ولايقيم له الإمام(عليه السلام)من وزن.
—–
هنالك عدة أسئلة تطرح نفسها، الأول: ألايفهم من كلام الإمام(عليه السلام) أنّ سكوته في عهد الخليفة الأول والثاني دليل على عدم خروجهما عن مسار الحق والعدل؟ وإلاّ لقام الإمام(عليه السلام)واعترض عليهما.
والجواب على هذا السؤال هو أنّ الإمام(عليه السلام) لم يكن راضياً بذلك الوضع قطعاً; الأمر الذي نلمسه بوضوح بما ورد في الخطبة الشقشقيقة وغيرها من الخطب التي صرح فيها برفضه لذلك الوضع ليعلمه الجميع، فقد قال كل ما كان يجب قوله من خلال إمتناعه عن بيعة الخليفة الأول واعتراضه على ما ورد في السقيفة (كما مر علينا في شرح الخطبة 67) ولما استتبت لهم الاُمور وترسخت دعائم حكومتهم ولم يعد الاعتراض مجد يا سكت الإمام(عليه السلام)حذراً من خلخلة الأوضاع ونشوب النزاع داخل الحكومة الإسلامية ممّا يؤدي إلى إضعافها وإنهيارها. ومن
1. «زخرفه» و«زبرجه» أصل الزخرف الذهب وكذلك الزبرج، ثم أطلق على كل ممّوه مزور، وأغلب ما يقال الزبرج على الزينة من وشي أو جوهر.
![]() |
![]() |