![]() |
![]() |
ثم قام عثمان بعدة أعمال شائنة مرت علينا في شرحنا للخطبة الشقشقية تحت عنوان «دوافع القيام ضد عثمان» بحيث أدت تلك الأعمال إلى إحباط سعي الإمام(عليه السلام) من أجل إطفاء الفتنة. فالكلام يفيد بما لايقبل الشك مدى إعتراض الإمام(عليه السلام) على أعمال عثمان مرات وكرات وقد أخذ عهده على إصلاح وضعه، إلاّ أنّه عجز عن ذلك الإصلاح حتى على مستوى الظاهر بفعل ضغوط مروان ومعاوية.
كما ورد في الخطبة 164 من نهج البلاغة شرح مفصل بهذا الشأن.
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/129.
ومن كلام له (عليه السلام)
لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان
يعرض الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة بالذم لخصومه البعيدين عن المنطق في توجيه بعض التهم إليه التي لايمكنها أن تطال ساحته المقدسة بفعل سوابقه المشرقة وأهدافه العظيمة التي لاتخفى على أحد.
—–
1. سند الخطبة: لم يذكر الرواة سندا خاصا لهذا الكلام سوى ماورد في نهج البلاغة، إلاّ انّ صاحب مصادر نهج البلاغة نقل بعض هذا الكلام في مادة قرف عن ابن أثير في النهاية والطريحي في مجمع البحرين. مصادر نهج البلاغة 2/76.
«أَ ولَمْ يَنْهَ بَنِي أُمَيَّةَ عِلْمُها بِي عَنْ قَرْفِي أَ وما وَزَعَ الْجُهّالَ سابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي ولَما وَعَظَهُمُ اللّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسانِي أَنا حَجِيجُ الْمارِقِينَ خَصِيمُ النّاكِثِينَ الْمُرْتابِينَ وعَلَى كِتابِ اللّهِ تُعْرَضُ الاَْمْثالُ وبِما فِي الصُّدُورِ تُجازَى الْعِبادُ».
—–
يعتبر قتل عثمان ـ إثر البذخ والتطاول على بيت مال المسلمين والظلم والجور الذي تعرضت له الاُمّة منه ومن بطانته والذي أثار نقمة أغلب أفراد الاُمّة للقيام عليه ـ بؤرة أفضت إلى حوادث مريرة في التأريخ الإسلامي، إلاّ أنّ هنالك جماعة من الناس كانت ترى عثمان مقصراً ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله مستحقاً للموت، ومن هنا لم يرق لبعضهم قتله ولم يكونوا راضين بذلك، الأمر الذي مهد السبيل أما بعض الفئات المنحرفة لتستغل قتله لتحقيق أهدافها السياسية والقضاء على خصومها، وهكذا أصبح قتل عثمان وسيلة لتصفية الحسابات السياسية. فبني أمية وفي مقدمتهم معاوية كان ساكتاً لما هجم القوم على دار عثمان، بينما كان يتمثل موقف علي(عليه السلام) بتوبيخ عثمان على أعماله إلى جانب الحيلولة دون قتله، فقد ذب عنه حتى بعث بالحسن وبالحسين(عليه السلام) ليصدوا الناس عن الهجوم على داره. مع ذلك ما أن قتل عثمان حتى هب بني أمية للطلب بثأره ليكون هذا الأمر مقدمة للوصول إلى الخلافة، ولا سيما معاوية الذي إستغل هذا الأمر إستغلالاً بشعاً في الشام البعيدة عن المدينة لتحقيق أطماعه، حتى تمكن من خداع أهل الشام واقناعهم بانّه المدافع عن عثمان والطالب بدمه من علي(عليه السلام). وقصة قميص عثمان معروفة، فقد علق معاوية قميص عثمان (أو قميصاً يشبهه) على بوابة الشام
ليعبئ الاُمّة ضد علي(عليه السلام)، كما وظف طائفة من كهول الشام التي كانت تقيم مراسم العزاء وتبكي عثمان في المسجد بما يثير مشاعر الناس. فقد قال الإمام(عليه السلام) في إطار ردّه لمزاعم بني اُمية: «أولم ينه بني أميّة علمها بي عن قرفي؟(1)أو ما وزع(2) الجهّال سابقتي عن تهمتي!(3)» فبني أمية وإن جانبوا الحق والانصاف، إلاّ أنّهم كانوا ينبغي أن يعلموا صفات الإمام(عليه السلام) وأنّه لايظلم أحداً ولايلطخ يده بدماء الآخرين عبثاً، كما يعلمون جيداً سوابقه وفضائله ومنها أنّ النبي(صلى الله عليه وآله)خاطبه بأخيه وناداه أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وفيه وفي أهل بيته نزلت آية التطهير وقد فوض إليه النبي(صلى الله عليه وآله)أغلب أعماله سرية، فهذه التهم رخيصة، فالإمام(عليه السلام) لم يشترك في قتله ولا قتل غيره، كما بالغ في الدفاع عنه وإن كان يراه مقصراً، لكن دون حد القتل. فقد وعظه الإمام(عليه السلام)وحذره من مغبة أفعاله، كما دعى تلك الجماعة التي قامت ضده إلى التحلي بالصبر والحلم واعتماد الأساليب السلمية في حل النزاع، بينما بقيت بني أمية ساكتة دون ان تحرك ساكناً. ثم واصل الإمام(عليه السلام)كلامه قائلاً: «و لما وعظهم اللّه به أبلغ من لساني» أولم يقرأوا قوله سبحانه في كتابه العزيز: (يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِـبُوا كَثِـيراً مِنَ الظَّـنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّـنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّـسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِـبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِـيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(4) أو لم يسمعوا قوله سبحانه: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِـيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْما مُبِـيناً)(5). ثم أشار(عليه السلام)إلى فضيلة اُخرى من فضائله فقال: «أنا حجيج(6)المارقين، وخصيم النّاكثين المرتابين»، وقد إختلفت أقوال المفسّرين في محاجته(عليه السلام)
للمارقين في الدنيا أم الآخرة. أشار ابن أبي الحديد(7) أنّه أراد يوم القيامة حيث روي عنه(عليه السلام) أنّه
1. «قرف» على وزن حرف تعني في الأصل فصل قشرة الشئ كقشرة الشجرة، ولما كان تحري العيوب يؤدي إلى ضياع شخصية الأفراد، فانّ هذه الكلمة تستعمل بمعنى الاتهام.
2. «وزع» من مادة «وزع» على وزن وضع بمعنى المنع، كما وردت بمعنى الجمع. لأنّ جمع الشئ يتطلب منع تشتت افراده، ولعل «التوزيع» بمعنى التقسيم، لأنّ تقسيم الشئ يتطلب جمعه ثم تقسيمه.
3. «تهمة» من مادة «وهم» تعنى في الأصل الظن السيئ (وقد وردت هذه المفردة بفتح الهاء وضمها)، كما تعني التهمة البهتان، وهذا هو معناها في العبارة الواردة في الخطبة.
4. سورة الحجرات / 12.
5. سورة النساء / 112.
6. «حجيج» من مادة «حج» بمعنى قصد الشىء، ومنه «المحاجة» لمن يحاور العدو بقصد التغلب عليه، وحجيج المارقين خصيمهم، والمارقون هم الخارجون من الدين.
7. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/170.
قال: «أنا أوّل من يجثو للحكومة بين يدى اللّه تعالى»، والحال لاينسجم ظاهر الخطبة وهذا المعنى أو لايقتصر عليه، بل الظاهر أنّ الإمام(عليه السلام) أراد أن يقول بانّي كنت وما أزال أقف بوجه الناكثين الذي ينقضون العهد ولا يقيمون وزناً لتعاليم الدين، والشاهد على ذلك قتاله(عليه السلام)للناكثين (أصحاب الجمل) والمارقين (الخوارج) والقاسطين (أهل الشام)، وبعبارة اُخرى فانّ الإمام(عليه السلام)يقول بمخالفته لمن يخالف حقه، فان رأوا ذلك عيبا، فليعيبوه به. ثم إختتم كلامه(عليه السلام)بقوله «و على كتاب اللّه تعرض الأمثال،(1) وبما في الصّدور تجازى العباد»، فقد ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ العبارة إشارة إلى الآية 19 من سورة الحج (هـذانِ خَـصْمانِ اخْتَـصَمُوا فِي رَبِّـهِمْ)حيث روى النبي(صلى الله عليه وآله)إنها في علي(عليه السلام)وحمزة وعبيدة، وعتبة وشيبة والوليد، وكانت حادثتهم أول حادثة وقعت فيها مبارزة أهل الإيمان لأهل الشرك وكان المقتول الأول بالمبارزة الوليد قتله علي(عليه السلام)، فتجذرت ضغينة بني اُمية وكانت تستغل الفرص لدرك ثأرها، فنزلت الآية لتكشف عن مصير الفريقين، فليس لمشركي بني أمية سوى الجحيم والعذاب الأليم. وأمّا المسلمون ففي جنات النعيم. والحق أنّ العبارة لايمكن أن تقتصر على الإشارة لهذه الآية، بل ترشد إلى عرض المسائل المبهمة على شبيهاتها في القرآن ليميز الحق من الباطل ولا سيما هنا في قضية قتل عثمان وسعي الآخرين لتوجيه أصابع الاتهام إلى هذا وذاك بهدف تحقيق الأغراض السياسية، ولا سيما من قبل اُولئك الذين سكتوا لتقع تلك الحادثة، فاذا ما عرض هذا الأمر على القرآن، رأينا آياته تخالف ما قلتم، فهى تفند البهتان والتهمة وسوء الظن واشاعة الفاحشة.
والعبارة الأخيرة إشارة إلى هذه الحقيقة وهى أنّ اللّه عالم بنياتكم وأنّ هدفكم ليس الدفاع عن عثمان ولا إصلاح ذات بين المسلمين، بل تريدون إستغلال الصغيرة والكبيرة من أجل تحقيق أهدافكم وبكل وسيلة رخيصة من أجل الاستيلاء على الحكومة وممارسة الظلم والجور بحق المسلمين، فاللّه عالم وسيجاز يكم بذلك.
1. «الامثال» جمع «مثل» يراد بها هنا متشابهات الأعمال والحوادث تعرض على القرآن فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو الباطل، وقد جرى(عليه السلام) على حكم اللّه في أعماله فليس للغامز أن يشير بمطعن.
ومن خطبة له (عليه السلام)
في الحث على العمل الصالح
قال الكراجكي صاحب كنز الفوائد وهو من معاصري السيد الرضي (ره) عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: «تلكم أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه باربع وعشرين كلمة قيمة كل كلمة منها وزن السموات والأرض». ثم روى هذه الخطبة(2).
تشتمل هذه الخطبة حسب ما ورد في نهج البلاغة على عشرين صفة من صفات المؤمنين المخلصين، والجملات الأربع التي وردت في نقل المرحوم الكراجكي في هذه الخطبة هى «حذر أملاً» «ورتب عملاً» «يظهر دون ما يكتم» «ويكتفي بأقل ممّا يعلم»(3) وبالطبع هناك بعض الاختلاف الطفيف في عبارات الخطبة. على كل حال فانّ هذه الخطبة ورغم قصرها إلاّ انها عميقة المعاني ورصينة المضمون، والإمام(عليه السلام)يسأل اللّه الرحمة للمؤمن الذي يتحلى بهذه الصفات العشرين، ليحث الناس ويرغبهم في هذه الصفات، وزبدة الكلام فانّ هذه الخطبة خلاصة للفضائل الأخلاقية ومجمعة كاملة للسير والسلوك إلى اللّه.
1. سند الخطبة: هذه الخطبة رواها قبل الرضي الحراني في التحف والكراجكي في كنز الفوائد مع تفاوت يسير يفيد أنّه لم ينقل عن نهج البلاغة. ورواها من بعد السيد الرضي الزمخشري في ربيع الأبرار والسبط بن الجوزي في تذكرة الخواص ومحمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤل (مصادر نهج البلاغة 2/77).
2. مصادر نهج البلاغة 2/78.
3. بحارالأنوار 66/408.
«رَحِمَ اللّهُ امْرَأً ]عبدا[ سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى، ودُعِيَ إِلَى رَشَاد فَدَنَا، وأَخَذَ بِحُجْزَةِ هاد فَنَجا. راقَبَ رَبَّهُ، وخافَ ذَنْبَهُ، قَدَّمَ خالِصاً، وعَمِلَ صالِحاً. اكْتَسَبَ مَذْخُوراً، واجْتَنَبَ مَحْذُوراً، ورَمَى غَرَضاً، وأَحْرَزَ عِوَضاً. كابَرَ هَواهُ، وكَذَّبَ مُناهُ. جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجاتِهِ، والتَّقْوَى عُدَّةَ وَفاتِهِ. رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرّاءَ، ولَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضاءَ. اغْتَنَمَ الْمَهَلَ، وبادَرَ الاَْجَلَ،تَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ».
—–
إستهل الإمام(عليه السلام) الخطبة بقوله: «رحم اللّه امرأً ]عبداً[ سمع حكماً(1)فوعى(2) ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة(3)هاد فنجا. راقب ربّه، وخاف ذنبه».
لقد بين الإمام(عليه السلام) في هذه العبارة بهذه الصفات الخمس مقدمة طريقة رواد القرب إلى اللّه وسالكي مسيرة التقوى وتهذيب النفس، فأول الطريق ضرورة توفر الاذن السامعة التي تصغي إلى الحقائق وتستوعبها ومن ثم الاتجاه نحو الداعي الإلهي لمزيد من الفهم والإدراك، آنذاك اللجوء إلى الهادي وانتخاب القائد والدليل، وأخيراً الشعور بالحضور الدائم للّه سبحانه وشهوده للأعمال بغية الورع والتقوى من الذنب. فمن تحلى بهذه الفضائل الخمس يكون قد أعد زاده للسفر إلى اللّه والحركة نحوه. طبعاً صحيح أنّ اللّه قد خلق الإنسان على الفطرة وزوده بالعقل كمصباح يضيئ له الطريق، إلاّ أنّ المفروغ منه هو أنّ إجتياز هذا الطريق
1. «حكم» هنا بمعنى الحكمة.
2. «وعى» من مادة «وعي» على وزن سعي بمعني الحفظ وفهم المراد و«أذن واعية» كناية عن سماع الشخص للمطالب وفهمها بصورة جيدة.
3. «الحجزة» بالضم معقد الازار والمراد بها هنا الاقتداء والتمسك.
يتعذر بالاقتصار على العقل والفطرة، ولايتوج ذلك إلاّ بتوفر الداعي الإلهي والمرشد والدليل. ومن الواضيح أنّ المراد بالدليل والمنقذ الذين اُشير إليهما في العبارة هم النبي وأئمة العصمة(عليهم السلام)ومن يتحدث عنهم ويهدي إليهم; لا الأفراد المبتدعين ممن تسموا بشيوخ التصوف الذين يغطون في هالة من الظلمة الدامسة ويزعمون أنّهم يهدون إلى النور ولا يخفى على أحد مدى الدور الذي يلعبه الشعور بالمراقبة الإلهية والورع عن الذنب في كبح جماع النفس وصمودها أمام الأهواء والشهوات. فاذا ما توفرت هذه المقدمة اللازمة لذلك السفر، آنذاك يأتي دور البرامج العلمية فقال(عليه السلام): «قدّم خالصاً، وعمل صالحاً. اكتسب مذخوراً، واجتنب محذوراً، ورمى غرضاً(1) وأحرز عوضاً. كابر(2) هواه، وكذّب مناه». فقد أكد الإمام(عليه السلام) بادئ ذي بدء على العمل الخالص والصالح، كما ورد تعريفه عن الإمام الصادق(عليه السلام):«العمل الخالص الّذي لاتريد أن يمدحك عليه أحدٌ إلاَّ اللّه»(3) وإليه أشارت الآية الكريمة: (وَما أُمِرُوا إِلاّ لِـيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِـينَ لَهُ الدِّينَ)(4).
وهنالك تفاسير اُخرى للاخلاص تبدو من قبيل اللازم والملزوم، فقالوا: الاخلاص إخفاء العمل عن الخلائق وتطهيره من العلائق، وقيل: حقيقة الاخلاص ألا ينتظر الإنسان أجراً دنيوياً أو أخروياً على عمله، بل يقوم به حبّاً للّه. وقيل: الاخلاص إخراج الخلق من معاملة الخالق. ولعلنا نلمس قمة الاخلاص في الحديث الوارد عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)حين قال: «إلهي ما عبدتك طمعاً في جنّتك ولاخوفاً من نارك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(5). ثم اتبع الاخلاص والعمل الصالح بالحديث عن المذخور والذخيرة ليوم القيامة والواقع هو أنّ أعظم ذخيرة إنما تتمثل بالأعمال الخالصة والصالحة.
ولما كانت الأعمال الصالحة والخالصة للإنسان عرضة للاحباط بفعل الذنوب والمعاصي،
1. «غرض» على وزن مرض بمعنى الهدف الذي يسدد نحوه السهم، كما يعني المقصود والحاجة، إلاّ أنّه ورد في رواية «عرض» بمعنى المتاع الدنيوي الزائل.
2. «كابر» من مادة «مكابرة» بمعنى المنازعة والمبارزة، كما يطلق على المنازعات العلمية التي تهدف الغلبة على الطرف المقابل لاتحقيق الحق، وقد ارد بها هنا المعنى الأول.
3. الكافي 2/16.
4. سورة البينة / 5.
5. بحارالأنوار 69/278.
فقد ورد الحض على إجتناب هذه الذنوب والتورع عن ارتكابها ليقدم الفرد على ربّه يوم القيامة بتلك الأعمال. وطالماً كان الاقبال على الدنيا يصد الإنسان عن ذخيرة الأعمال الصالحة، واتباع هوى النفس الذي يعد من أهم موانع الطريق وعقبته الكؤود طول الأمل، فقد ورد الحديث عن ترك زخارف الدنيا وعدم الاغترار بها ومقاومة هوى النفس وتكذيب طول الأمل وإجتنابه; الآفات المهلكة التي ورد الحديث عنها عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)أنّه قال: «يقول اللّه تعالى: وعزّتي وجلالي... لايؤثر عبدٌ هواه على هواى إلاّ استحفظته ملائكتي و كفّلت السّموات والأرضين رزقه»(1). ثم إختتم الإمام(عليه السلام)خطبته بسبع صفات للمؤمن الصالح فقال: «جعل الصّبر مطيّة(2) نجاته، والتّقوى عدّة وفاته(3) ركب الطّريقة الغرّاء،لزم المحجّة(4) البيضاء. اغتنم المهل،(5) وبادر الأجل، وتزوّد من العمل». فقد أشار الإمام(عليه السلام)بهذه الصفات السبع ـ والتي تبدأ بالصفة الرابعة عشرة وانتهت بالعشرين ـ إلى شرائط والوسائل المتعلقة بالسالكين إلى اللّه الذين يحثون الخطى لنيل القرب من اللّه. ويحتاج هؤلاء السالكون قبل كل شيء إلى مركب يوصلهم إلى شاطئ النجاة وشق عباب هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والعقبات، وما أعظم الصبر بصفته المنقذ في كل موضع ومهما كانت الظروف. من جانب آخر فان كل مسافر لابدّ أن يحمل معه بعض الوسائل والأدوات التي تلبي حاجاته طيلة هذا الطريق، ويشير الإمام(عليه السلام) إلى أنّ هذه الوسائل تتمثل بالورع والتقوى بصفتها الزاد إلى الوفاة. ثم تأتي المرحلة الضرورية الاُخرى المتمثلة بمعرفة الطريق ومواصلة السير عليه فقال(عليه السلام)«ركب الطّريقة الغرّاء ولزم المحجّة البيضاء» فالعبارة الاولى تشير إلى انتخاب
1. الكافي 2/335.
2. «مطية» المركب السريع الذي لايجمع بصاحبه.
3. «غراء» مؤنث «أغر» كل شيىء أبيض والطريقة الغراء النيرة الواضحة.
4. «المحجة» من مادة «حج» تعني في الأصل القصد، ثم اُطلقت على جادة الطريق التي توصل الإنسان إلى مقصوده.
5. «مهل» جاء بصيغة اسم المصدر وبمعنى الرفق والمداراة، ومن هنا فان الفرص تمثل الارضية للرفق والمداراة، وهذا الاصطلاح أستعمل بمعنى الفرصة وفي الخطبة أعلاه، جاء بعنوان الاشارة إلى الفرص التي اعطاها الله سبحانه وتعالى لعباده من اجل اصلاح اعمالهم والاتيان بالاعمال الصالحة، والتي يجب أن يغتنمها الناس.
الطريق والثانية إلى السير عليه ومواصلته دون الانحراف عنه طيلة المسيرة. من جانب آخر ليس هنالك من منازل يمكن السالك التزود فيها لسفره الطويل، ومن هنا لفت الإمام(عليه السلام)إنتباه السالكين إلى إغتنام الفرص واحترام الوقت الذي قد يكون وبالاعلى صاحبه إذا لم يستفد منه: «اغتنم المهل وبادر الأجل».
—–
واخيرا اختتم كلامه بالحديث عن التزود للاخرة ومبادرة العمل الصالح خلال مدة العمر القصيرة.
الصبر حالة نفسانية يعتمده الإنسان لمواجهة ما يعترض مسيرته من صعاب ومشاكل، وتارة يكون هذا الصبر صبر الطاعة إذا تضمن الوقوف بوجه الصعاب من أجل إمتثال الأوامر الشرعية، وتارة اُخرى يكون الصبر على المعصية إذا تضمن كبح جماح النفس والحد من طغيانها وكسر شهوتها، وأخيراً هناك الصبر على النوائب إثر مجابهة المصائب والويلات والأمراض ومطبات الحياة وعقباتها الكؤود. والواقع أنّ هذه الصفة تأخذ بيد الإنسان إلى التقوى حتى ورد عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «فان الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»(1)وجاء في الحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال «سيأتي على النّاس زمانٌ لاينال الملك فيه إلاَّ بالقتل و التجبّر ولا الغنى إلاّ بالغصب والبخل، ولا المحبّة إلاَّ باستخراج الدّين واتّباع الهوى; فمن أدرك ذلك الزّمان وصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبّة، وصبر على الذّلّ وهو يقدر على العزّ، آتاه اللّه ثواب خمسين صدّيقاً ممّن صدّق بي»(2). وأخيرا فقد أكد الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة على إغتنام الفرصة والتأهب للأجل، وذلك لأنّ الفرص تمرّ مر السحاب، وهناك عدة أخطار تتهدد أعمال الخير، حيث
1. كلمات القصار / 82 .
2. اُصول الكافي 2/91.
روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إذا هممت بخير فبادر فإنّه ما تدري ما يحدث»(1)وقال(عليه السلام)أيضاً: «إذا همّ أحدكم بخير أو صلة فإنّ عن يمينه وشماله شيطانين فليبادر لايكفّاه عن ذلك».(2)
1. اُصول الكافي 2/142.
2. اُصول الكافي 2/143.
ومن كلام له (عليه السلام)
وذلك حين منعه سعيد بن العاص حقه
ورد هذا الكلام عن الإمام(عليه السلام) حين ولى عثمان الخلافة واستولت بطانته على بيت مال المسلمين فعاثت به فسادا لتمارس أبشع أنواع الأسرار إلى جانب تسليطه لبني أمية على رقاب الناس من خلال إغداق المناصب الحكومية الحساسة. ومن ذلك أنّه ولى سعيد بن العاص الكوفة فبعث مع ابن أبي عائشة مولاه إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) بصلة وأوصى مولاه (الحارث بن جيش) يبلغ عليا(عليه السلام) أنّه لم يبعث لأحد أكثر من هذه الصلة سوى لعثمان، وكأنّه أراد أن يمتن على الإمام(عليه السلام)، فقال(عليه السلام): واللّه لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء اللّه على رسوله بمثل قوت الأرملة; واللّه لئن بقيت لأنفضنها نفض اللحام الوذام التربة.
—–
1. سند الخطبة: روى هذا الكلام أبوالفرج الاصبهاني في كتاب الاغاني باسناد رفعه إلى الحارث بن جيش قال: بعثني سعيد بن العاص بهدايا إلى المدينة، وبعثني إلى علي(عليه السلام)وكتب إليه: إنّي لم أبعث إلى أحد بأكثر مما بعثت به إليك. قال فأتيت علياً(عليه السلام) فأخبرته فقال: الخطبه (طبعا هناك تفاوت بين ما أورده أبوالفرج وما جاء في نهج البلاغة إلاّ أنّ المضمون واحد). وقد روى هذا الكلام الأزهري في تهذيب اللغة وأبوعبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث وابن دريد في المؤتلف والمختلف وأبوموسى محمد بن أبي المديني الاصبهاني في مستدركاتي على الجمع بين الغريبين (مصادر نهج البلاغة 2/79 ـ 80).
«إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُراثَ مُحَمَّد صلى اللّه عليه وآله تَفْوِيقاً،اللّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لاَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَةَ!»
—–
لقد تسالم ساسة العالم ومنذ القديم على ممارسة الضغوط الاقتصادية على معارضيهم لينشغلوا بأوضاعهم دون الانتباه إلى ما يجري من حولهم، بل لايتخلون عن هذا الاُسلوب حتى في حالة جنوحهم إلى التعايش السلمي معهم فلا يزودونهم إلاّ بادى العطاء. فقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى هذا الأمر بقوله: «إنّ بني أميّة ليفوّقونني(1) تراث محمّد(صلى الله عليه وآله) تفويقاً». تتضمن المفردة ليفوقونني ـ من مادة فواق الناقة يعني حلبها لمرة واحدة ـ إشارة لطيفة رائعة إلى زهد العطاء، وكأن الخلافة بمثابة الناقة الحلوب التي تكالبت عليها بني أمية ولا تفيض منها على الإمام(عليه السلام) سوى بهذا الفواق الزهيد. أمّا قوله: «تراث محمد» فقد يكون المراد به فدك وما شابه ذلك، كما يمكن أن يكون المراد به الإسلام بكامله الذي يشمل التراث بمعناه الواسع; لأنّ إزدهار الاقتصاد الإسلامي إنّما حصل ببركة دين النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)والجهود المضنية التي بذلها(صلى الله عليه وآله) من أجل نشره، وعليه فكل ما في أيديهم من تراث محمد(صلى الله عليه وآله)، ولعلي(عليه السلام)السهم الأوفى في هذا التراث، ليس لقرابته من النبي(صلى الله عليه وآله)فحسب، بل لتضيحاته من أجل الإسلام. صحيح أنّ الإمام(عليه السلام)كان أسوة الزهد في حياته; إلاّ أنّه كان يحصل على عطائه من الغنائم على عهد
1. «ليفوقونني» من مادة «فواق» على وزن رواق المدة المتخلله بين رضعتين حسب قول أغلب أرباب اللغة، بينما ذهب البعض إلى أنّها تعنى المدة المتخللة بين فتح الضرع وغلقه حين الحلب، ولما كان الثدي يخلد إلى الراحة بعد الحلب فقد استعملت بمعنى الهدوء والراحة ومنها إفاقة المريض وإفاقة المجنون. وجاءت في العبارة بمعنى المال الزهيد الذي كان يعطيه بني أمية الإمام(عليه السلام) من بيت مال المسلمين.
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ويصل بها الفقراء والمحتاجين. ثم واصل(عليه السلام)كلامه قائلاً «و اللّه لئن بقيت لهم لأن فضنّهم(1) نفض الّلحّام الوذام التّربة!» تشبيهه(عليه السلام)لبني أمية بالوذام التربة التي تعني الحزة من الكرش أو الكبد والمعدة وسائر ما في بطن الحيوان التي تقع في التراب إشارة إلى ذروة تلوث بني أمية وضعتهم فهؤلاء ـ وبشهادة أعمالهم على عهد عثمان ـ بلغوا مرحلة من الدنس بما جعل عامة المسلمين تنقم عليهم وتفكر في إجتثات جذور هذه الشجرة الخبيثة من أصولها وطرد هذه العناصر الفاسدة من المجتمع الإسلامي وانقاذ بيت المال من أيديهم الآثمة.
قال المرحوم السيد الرضى (ره) آخر هذه الخطبة: ويروى التراب الوذمة وهو على القلب. قال الشريف: وقوله(عليه السلام): «ليفوّقونني» أي يعطونني من المال قليلاً كفواق الناقة. وهو الحلبة الواحدة من لبنها. والواذم: جمع وذمة، وهى الحزة من الكرش، أو الكبد تقع في التراب فتنفض. وجاء في بعض الروايات «التّراب الوذمة» بدلاً من «الوذام التّربة»، والمفهوم واحد وكلاهما بمعنى الأشياء الزهيدة التي قد تتلوث أحياناً ويجب تطهيرها.
كما أوردنا سابقاً فانّ الخطبة وردت بشأن سعيد بن العاص لما بعث بغلامه وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل عثمان وقد بعث بهدايا إلى المدينة، ثم بعدث بعدية إلى علي(عليه السلام) وكتب إليه إنّي لم أبعث إلى أحد أكثر مما بعثت به إليك إلاّ عثمان، وكأنّه قد إمتن على الإمام(عليه السلام)بذلك المقدار فأجابه الإمام(عليه السلام) بهذا الكلام. سعيد من طائفة بني أمية من قبيلة قريش، أدرك النبي(صلى الله عليه وآله) وكان من أمراء جيش المسلمين، وقد تربى في حضن عمر بن الخطاب، وقد ولاه عثمان الكوفة، فلما قدم الكوفة خطب أهلها واتهمهم بالتمرد والعصيان. فشكاه أهل الكوفة إلى عثمان، فاعاده إلى المدينة فمكث فيها حتى خرج الناس على عثمان فجعل يدافع عنه ويواجه الثوار حتى قتل عثمان، فاضطر للذهاب إلى مكة وبقي فيها. فلما ولي معاوية الخلافة، جعله معاوية أميراً على
1. «لأنفضنهم» من «مادة» نفض على وزن نبض تحريك الشي لتخليصه ممّا علق به ومن هنا يصطلح بالنفوض على المرأة الولود، كما تستعمل هذه المفردة في طرح الثمرة من الشجرة.
المدينة حتى توفى فيها. لم يلتحق بالجمل ولا صفين، ويتصف بالكبر والعنف والفضاضة، كما كان خطيباً متكلماً. بنى له قصراً كبيراً في المدينة، وتوفي سنة 53 أو 59 هـ في المدينة.(1)
بني أمية من قبيلة قريش وينسبون إلى أمية بن عبد شمس بن عبدمناف وقد بدأت حكومتهم منذ تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة عام 41 هـ حتى عصر مروان الحمار أو مروان الثاني الخليفة الرابع عشر الذي توفي سنة 132 هـ والحكومة الأموية وإن إنقرضت عام 132 هـ إلاّ أنّ أحد أفرادها حكم فيما بعد الأندلس، حيث فتحت الأندلس من قبل المسلمين عام 91 حتى 93 هـ ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 138 هـ كانت تحكم كسائر الممالك الإسلامية من قبل الخلفاء المسلمين. وفي عام 138 هـ حكمها عبدالرحمن الأول من أحفاد هشام بن عبدالملك الحاكم الأموي العاشر الذي نجى من العباسيين، وقد حكمها ونسله لمدة قرنين، حتى قام الناس في القرن الخامس لتسقط هذه الحكومة.(2)
![]() |
![]() |