![]() |
1. سورة الاحزاب / 72.
2. «أحقاب» جمع «حقب» على وزن عنق قيل ثمانون سنة وقيل أكثر وقيل هو الدهر .
3. سورة البقرة / 80 .
4. من الواضح أن الضمائر هنا لاينبغي أن تكون بصيغة المخاطب (كم) بل لابدّ أن تكون بصيغة الغائب (هم) لأنّها إشارة إلى من عاش في عصر النبي(صلى الله عليه وآله). ويبدو أنّ الاشتباه من النساخ، ولذلك قبله الشراح بهذا الشكل.
ترعوون عن الضلال وتعودن إلى الهدى، ولم لاتفيقون من نوم الغفلة». ثم حذرهم الإمام قائلاً: «و لقد نزلت بكم البليّة جائلاً(1) خطامها،(2) رخواً بطانها(3)» ذهب أغلب الشرّاح إلى أنّ المراد بهذه البلية فتنة بني أمية التي أحرقت الاخضر واليابس وطالت أموال الناس وأعراضهم. والجدير بالذكر هو أن الإمام(عليه السلام) قد شبه هذا البلاء الكاسر بالناقة الجامحة التي إسترخى لجامها فهى تنذر بسقوط راكبها. وعليه فالراكب لايتمكن من حفظ نفسه فضلاً عن السيطرة على الناقة وصدها عن الجموح. نعم هكذا كان بلاء بني أمية حيث لم يسلم أحد منهم.
وأخيراً إختتم الإمام(عليه السلام) خطبته قائلاً: «فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنّما هو ظلّ ممدودٌ إلى أجل معدود».
—–
1. «جائل» من مادة «جولان»، وفي الاصل بمعنى زوال الشيء من مكانه، لذا فيقال للحيوان الذي يتحرر من مكانه الموجود فيه بحيث يستطيع أن يذهب إلى أي مكان، يقال له «جائل».
2. «خطام» ما جعل في أنف البعير لينقادبه وجولان الخطام، حركته وعدم إستقراره، لأنّه غير مشدود.
3. «بطان» البعير حزام يجعل تحت بطنه، ومتى استرخى كان الراكب على خطر السقوط.
ومن خطبة له (عليه السلام)
وتشتمل على قدم الخالق وعظم مخلوقاته، ويختمها بالوعظ
تتالف الخطبة من أربعة أقسام:
القسم الأول: الحديث عن إحاطة اللّه بالعباد وعلمه بخفاياً الإنسان.
القسم الثاني: ازلية الحق سبحانه وشرحها بعبارات رائعة واضحة.
القسم الثالث: تهديد أعداءاللّه بالعذاب الاليم وبشارة أولياءاللّه بجزيل الأجر والثواب.
القسم الرابع: وعظ عباداللّه والنصح لهم، وكأن الاقسام الثلاث كانت مقدمة لهذا الوعظ المؤثر في الإنسان.
—–
1. سند الخطبة: جاء في مصادر نهج البلاغة أنّه رواها علي بن محمد الواسطي في عيون الحكم والمواعظ، وورد ذيلها في غررالحكم مما يدل عد انها نقلت من مصدر آخر غير نهج البلاغة، ونقلها ابن أثير في النهاية (مصادر نهج البلاغة 2/141).
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَة، والْخالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة، الَّذِي لَمْ يَزَلْ قائِماً قادِماً: إِذْ لا سَماءٌ ذاتُ أَبْراج، ولا حُجُبٌ ذاتُ إِرْتاج، ولا لَيْلٌ داج، وَلا بَحْرٌ ساج، ولا جَبَلٌ ذُو فِجاج، ولا فَجٌّ ذُو اعْوِجاج، ولا أَرْضٌ ذاتُ مِهاد، وَلا خَلْقٌ ذُو اعْتِماد: ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ ووارِثُهُ، وإِلَهُ الْخَلْقِ ورازِقُهُ،الشَّمْسُ والْقَمَرُ دائِبانِ فِي مَرْضاتِهِ: يُبْلِيانِ كُلَّ جَدِيد، ويُقَرِّبانِ كُلَّ بَعِيد».
—–
استهل الإمام(عليه السلام) خطبته بالإشارة إلى ثلاث من صفات اللّه فقال: «الحمد للّه المعروف من غير رؤية» نعم فهو ليس بجسم ولايحده زمان أو مكان يرى بالعين; فالجسمية دليل النقص والحاجة إلى الزمان والمكان، بينما اللّه منزه عن هذا النقض والحاجة فهو كمال مطلق، مع ذلك فقد ملأت آثاره الآفاق بما يدل على وجود ذاته المقدسة، بما فيها الآيات الآفاقية والنفسية. فالرؤية محالة عليه، إلاّ أنّه أوضح الواضحات، فكافة ذرات العالم تسبحه وتقدسه وتشهد له بالوجود. وقال(عليه السلام) في الصفة الثانية: «و الخالق من غير رويّة»(1) فانّما يحتاج إلى الفكر من كان هناك أشياء مجهولة لديه، أما من لم يكن له من شئ مجهول فالفكر محال عليه. كما يحتمل أن يكون المراد يقوله «غير رويّة» بأنّ سابقة لم تكن لهذا الخلق الذي خلقه اللّه، خلافاً لخلاقية الإنسان التي تحتذي بالتجارب. ثم قال في الصفة الثالثة: «الّذي لم يزل قائماً دائماً» فالازلية والأبدية من مختصات الذات المقدسة التي تعد من لوازم تلك الذات المطلقة
1. «روية» من مادة «ري» على وزن حي الفكر وإمعان النظر إذا وردت من باب التفعيل، ولما كان الإنسان يأخذ بنظر الاعتبار سوابق كل الأشياء والأعمال حين التفكير فانّ هذه المفردة تطلق كناية على الاُمور التي لاسابقة لها.
اللامحدودة. فلو كانت هناك من بداية لشئ كانت له نهاية فهو محدود قطعاً. أمّا الذات اللامحدودة واللامتناهية فهى لاتعرف البداية ولا النهاية. فهو الوجود الذي كان وكائن إلى الأبد. ثم وضح(عليه السلام) أزليته سبحانه بالقول: «إذ لا سماءٌ ذات أبراج، ولا حجبٌ ذات إرتاج،(1) ولا ليلٌ داج،(2) ولا بحرٌ ساج،(3) ولا جبلٌ ذو فجاج،(4) ولا فجٌّ ذو اعوجاج، ولا أرضٌ ذات مهاد، ولا خلقٌ ذو اعتماد» يمكن أن تكون العبارة «حجب ذات ارتاج» اشارة إلى ما صرحت به الروايات والأخبار من حجب النور تحت العرش التي لايسع مخلوق الاقتراب منها، فشدة نورها التي تخبف الأبصار وتحول دون إجتيازها هى بعض مخلوقات اللّه التي يحتمل أنّها وجدت بعد خلق العرش وقد فصلت العرش عن السموات. فقد جاء في الخبر عن الإمام الكاظم(عليه السلام) في فلسفة التكبيرات السبع في بداية الصلاة أنّه قال: «يا هشام إن اللّه خلق السماوت سبعا والأرضين سبعا والحجب سبعا...»(5) ثم ورد في ذيل الحديث أن هذه الحجب كانت تطرح الواحد بعد الآخر أمام رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) حين المعراج، فكان يكبر اللّه عند رفع كل حجاب وهذه هى فلسفة التكبيرات السبع (فالمصلي حين يقف بين يدي ربّه للصلاة التي تعتبر معراج المؤمن يكبر سبعاً من أجل رفع تلك الحجب عنه. كما تفيد المناجاة الشعبانية أنّ هذه الحجب النورانية قد رفعت عن بعض أولياءاللّه «إلهى هب لي كمال الانقطاع اليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة...» وبالطبع ليس لدينا من إطلاع عن ماهية هذه الحجب، أمّا الذي يستفاد من عبارات المناجاة الشعبانية أنّ تلك الحجب تشير إلى سلسلة من المفاهيم الوراء الطبيعة. وقد تعرض المرحوم العلاّمة المجلسي في بحارالأنوار بعد الإشارة إلى موضوع الحجب النورية الواردة في الروايات إلى بيان وتفسير الحجب في أبعادها الجسمانية والروحانية أو المادية والمعنوية.(6) العبارة: «و لا ليلٌ داج، ولا بحرٌ ساج» في الوقت الذي تشير فيه إلى أزلية اللّه
1. «ارتاج» مصدر باب إفعال من مادة «رتج» على وزن خرج بمعنى الاغلاق وإذا جاء من باب الأفعال عنى الغلق المحكم.
2. «داج» اسم فاعل من مادة «دجو» على وزن هجو بمعنى المظلم.
3. «ساج» اسم فاعل من مادة «سجو» الساكن.
4. «فجاج» جمع «فجع» الطريق الواسع بين جبلين.
5. وسائل الشيعة 4/723 ح 7 من الباب السابع، أبواب تكبيرة الإحرام.
6. راجع بحارالأنوار 55/46.
ووجوده المقدس قبل الخلق العالم، فهى تلمح إلى نعمه سبحانه على الخلق، وذلك لأنّ ظلمة الليل وسكون البحر من نعمه سبحانه، فالاولى تدعو إلى النوم والراحة التي تلعب دورا بالغاً في بناء البدن والروح، والثانية في الملاحة والصيد واستخراج ما في أعماق البحر من لؤلؤ ومرجان. والعبارة: «جبل ذوفجاج» أي أنّ الجبال لو كانت كالجدران متصلة لانفصلت بقاع الأرض عن بعضها واختلت الحركة عليها، بينما إقتضت حكمة اللّه فصلها لتيسير الحركة والمشيي. «فج ذو اعوجاج» يمكن أن يكون المراد بها لو لا انعطاف واعوجاج الأودية لأتت السيول بحركتها السريعة فجرفت كل شئ، حيث حال ذلك الاعوجاج دون طغيان السيول وسيطر عليها. «أرض ذات مهاد» إشارة إلى الأراضي الواسعة الساكنة. «خلق ذواعتماد» إشارة إلى القدرة الروحية والجسمية التي منحها اللّه للإنسان. ثم قال(عليه السلام): «ذلك مبتدع الخلق ووارثه»، فكل شئ زائل ولايبقى سواه «و إله الخلق ورازقه»، وكيف لايكون إله الخلق ومعبودهم وهو بهذه الصفات والكمالات. أضف إلى ذلك فالرزق بيده وهو يفيضه على العباد. فهو جدير بالعبادة لعظمته وهو أولى بها شكراً لنعمه. ثم اختتم كلامه بالإشارة إلى نعمتين تفيدان قدرته وعظمته فقال: «و الشّمس والقمر دائبان(1) في مرضاته: يبليان كلّ جديد، ويقرّبان كلّ بعيد» فقد سمى الشمس والقمر دائبين لتعاقبهما على حال واحدة دائما لايفترقان ولايسكنان. فالقمر في حالة حركة دائما، إلاّ أنّ نسب الحركة للشمس يمكن أن يكون إشارة إلى حركتها الظاهرية (وان كانت في الواقع ثابته والأرض تدور حولها) أو إشارة إلى سائر حركات الشمس، بل جميع المنظومة الشمسية في المجرات.
والجدير بالذكر أنّ أغلب عبارات الإمام(عليه السلام) قد اقتبست من آيات القرآن الكريم، ومنها الآية: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِساطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِـجاجاً)(2)والآية (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهاداً)(3) والآية (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّـمْسَ وَالقَمَرَ دائِـبَيْنِ)(4).
1. «دائبان» مثنى «دائب» من مادة «دأب» و«دؤوب» على وزن قلب وقلوب بمعنى الاستمرار على عمل معين وفق عادة وسنة ثابتة.
وعلى هذا الاساس، يطلق على الشخص أو الشيء الذي يقوم بعمل أو برنامج معين بصورة مستمرة ودائمة وعلى حالة وسنة معينة بالدائب.
2. سورة نوح / 19 ـ 20.
3. سورة النبأ / 6.
4. سورة ابراهيم / 33.
«قَسَمَ أَرْزاقَهُمْ، وأَحْصَى آثارَهُمْ وأَعْمالَهُمْ، وعَدَدَ أَنْفُسِهِمْ، وخائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ، وما تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ، ومُسْتَقَرَّهُمْ ومُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الاَْرْحامِ والظُّهُورِ، إِلَى أَنْ تَتَناهَى بِهِمُ الْغاياتُ».
—–
يتحدث الإمام(عليه السلام) هنا أيضاً عن صفات اللّه ذات الصلة بأوضاع الناس ومصائرهم كمقدمة للوعظ والنصح فقال(عليه السلام): «قسم أرزاقهم»، طبعا المراد بتقسيم الارزاق تقيسمها على ضوء السعي والعمل والاجتهاد، لا أنّ اللّه ضمن ايصال رزق كل فرد إلى باب بيته دون حساب، وان حصل الإنسان أحياناً على رزق (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) إلاّ أنّ هذا ليس أصلاً وقانوناً، والأصل والقانون هو السعي والجد والاجتهاد والعمل والابداع. بعبارة اُخرى فانّ الرزق رزقان; يتوقف أحدهما على السعي والعمل وبدونهما يحرم منه، والآخر حتمي يصل إلى الإنسان سعى إليه أم لم يسع. والأساس هو القسم الأول. وقد أشارت بعض الروايات إلى القسمين كقول أميرَالمؤمنين(عليه السلام): «إن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك»(1) والجدير بالذكر أنّ الأرزاق لاتفسر بالماء والغذاء فقط، بل تشمل كافة النعم المادية والمعنوية. فقد قسم اللّه سبحانه العلم والإيمان والمقام والجاه والموقع الاجتماعي وما إلى ذلك على ضوء الجهود والحركة، مع ذلك هنالك بعض الحالات التي تتجاوز عالم الأسباب لتشير إلى قدرة
1. نهج البلاغة، الرسالة 31.
مسبب الأسباب فتخيب نتيجة هذا السعي وتنجح تلك دون سعي وجهد، إلاّ أنّ هذه اُمور استثنائية مختصة به سبحانه ثم قال(عليه السلام): «و أحصى آثارهم وأعمالهم، وعدد أنفسهم، وخائنة أعينهم، وما تخفي صدورهم من الضّمير» وليس هذا فقط فحسب بل «ومست قرّهم ومس تودعهم من الأرحام والظّهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات» ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بالاثار يعني آثار وطئهم في الأرض، كما فسرها البعض الآخر بما يبقى من الإنسان في العالم. وفسروا عدد الأنفس بعدد الناس في كل زمان ومكان، كما فسرت بعدد الأنفاس (و يصح هذا التفسير إذا كانت العبارة في النسخة أنفاس، كما نقل ذلك بعض شرّاح نهج البلاغة وهو الانسب لما قبل هذه العبارة وما بعدها). أمّا المراد بخيانة العين النظر الحرام، أو غمز الآخرين من أهل العفة والحياء. وأمّا العبارة «وما تخفي صدورهم» فهى إشارة إلى النيات الحسنة والقبيحة والطاهرة والفاجرة والعقائد المختلفة. والمستقر رحم المرأة الذي تستقر فيه نطفة الرجل والمستودع صلب الرجل الذي يضم النطفة قبل إنتقالها إلى الرحم. والعبارة: «إلى ان تتناهى بهم الغايات» أي إلى أن يحشروا في القيامة، ولايصح ما ذهب إليه بعض الشرّاح من تفسيرها بالجنّة والنار لعدم انسجامها والعبارات السابقة. عل كل حال فالعبارات تشير إلى علمه سبحانه بسبعة اُمور عن الإنسان، من قبيل الأعمال والحركات والعين والأنفاس والعقائد والنيات ومنذ ظهور النطفة في صلب الرجل إلى إنتقالها إلى رحم الامُ مروراً بالولادة ومراحل الحياة وأخيرا الموت، ليعلم الإنسان بأنّه في عين اللّه على كل حال فيلتفت إلى أعماله وحركاته وسكناته. والحق أنّ كلماته(عليه السلام) إنّما تستد إلى الآيات القرآنية الكريمة، كالاية: (وَنَكْتُبُ ما قَـدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيء أَحْصَيْناهُ فِي إِمام مُبِين)(1) والآية: (يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ)(2) والآية: (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتاب مُبِين)(3).
—–
1. سورة يس / 12.
2. سورة غافر / 19.
3. سورة هود / 6.
«هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، واتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لاَِوْلِيائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ، قاهِرُ مَنْ عازَّهُ، ومُدَمِّرُ مَنْ شاقَّهُ، ومُذِلُّ مَنْ ناواهُ، وغالِبُ مَنْ عاداهُ، مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفاهُ، ومَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ، ومَنْ أَقْرَضَهُ قَضاهُ، ومَنْ شَكَرَهُ جَزاهُ».
—–
أشار الإمام(عليه السلام) إلى قدرة اللّه وشدة نقمته في ذات رحمته فقال(عليه السلام): «هو الّذي اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته»، ثم قال في الصفة الثانية: «و اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته» فالعبارتان تشيران إلى حقيقة واحدة من زاويتين، وهى أنّ الرحمة الإلهية الواسعة لاتمنع من شدة العذاب، كما أن العذاب الشديد لايحول دون سعة الرحمة. فالواقع هو أنّ الخوف والرجاء العاملان الرئيسان في الحركة نحو الكمال قد تجسداً باروع صورة في هاتين العبارتين، لنظر العباد بعين إلى رحمته وبالاُخرى إلى نقمته، فلا يغفلون ولا ييأسون، بل يعملوا بين الخوف والرجاء. ثم قال(عليه السلام): «قاهر من عازّه،(1) ومدمّر(2) من شاقّه،(3) ومذلّ من ناواه،(4) وغالب من عاداه» فالعبارات اشارة إلى حاكميته المطلقة سبحانه لعالم الوجود. وقد
1. «عاز» من مادة «معازه» اصلها عزة بمعنى الغلبة والعزيز من يغلب أعدائه ، وقد اُريد بها هنا من رام مشاركة اللّه في شئ من عزته .
2. «دمر» من مادة «تدمير» واصلها الدمار بمعنى الهلاك.
3. «شاق» من مادة «مشاقة» العداء والمراد بها هنا المنازعة.
4. «ناوأه» خالفه من «نوء» على وزن نوع وتعني القيام مع المشقة واُريد بها هنا من يقف بوجه الارادة الإلهية فتذله.
تكررت رحمته الواسعة في العبارة، مع ذلك فهى لاتعني سعة الجبابرة والظلمة على مقاومة إرادته سبحانه، وأما إمهاله لهم فانّ ذلك يستند إلى بعض الأسباب، من قبيل امتحان العباد، أو تسليط بعضهم على البعض الآخر. وبالطبع فانّ عبارات الإمام(عليه السلام) إنّما تستند إلى آيات القرآن، كالآية الواردة بشأن فرعون: (فَقالَ أَنَا رَبَّكُمُ الاَْعْلى * فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الآخِرَةِ وَالاُْولى)(1) ثم استنتج الإمام(عليه السلام) بعد ذكر هذه الصفات: «من توكّل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه ، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره جزاه» فهذه النتائج الأربع المترتبة على الأوصاف السابقة في أنّ الشخص الذي حصل على قدرة وأصبح صاحب نعمة وفيرة لابدّ أنّ يكون ملاذا للمتوكلين ومانحاً للسائلين ومثيباً للمنفقين والشاكرين. وعليه فمن حرم من الرحمة والعطاء والثواب فهو المقصر حيث لم يطرق بابه سبحانه ولم يقرضه ولم يشكر نعمه. ومرة اُخرى نقول أنّ أغلب عبارات الإمام(عليه السلام) مملوءة بالمضامين الدينية المستوحاة من الآيات القرآنية، كالاية: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(2) والآية الشريفة: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِـيرَةً)(3) والآية: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ)(4).
—–
1. سورة النازعات / 24ـ25.
2. سورة الطلاق / 3.
3. سورة البقرة / 245.
4. سورة إبراهيم / 7.
«عِبادَ اللّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وحاسِبُوها مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحاسَبُوا، وتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِناقِ، وانْقادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّياقِ،اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْها واعِظٌ زاجِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِها لا زاجِرٌ ولا واعِظٌ».
—–
الشرح والتفسير
إختتم الإمام(عليه السلام) خطبته بهذه العبارات التي تمثل الكلام الفصيح النادر اللطيف حسبما ذكر ذلك ابن أبي الحديد(1). فقال(عليه السلام): «عباد اللّه زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا» فقد درج الإنسان في حياته حين المعاملات على زنة المتاع ثم حساب قيمته، وأنّه ليفقد رأس ماله إذا التبس عليه الوزن أو الحساب ويصاب بالضرر والخسران، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه في الاُمور المعنوية، فعليه أن يزن نفسه ويرى ماهى عليه من الأخلاق والإيمان ثم يحاسبها، فان رأى نقصاً هب لاصلاحه قبل أن يرد حساب الآخرة حيث لاسبيل للاصلاح وتدراك الافراط سوى الحسرة والندم. فمما لاشك فيه أن وزن الأعمال في القيامة حق، الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم: (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذ الحَقُّ)(2) كما أنّ الحساب من المسلمات، ومن هنان كان أحد أسماء يوم القيامة هو يوم الحساب: (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر لايُـؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسابِ)(3). ثم قال(عليه السلام): «و تنفّسوا قبل
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/396.
2. سورة الاعراف / 8 .
3. سورة غافر / 27.
ضيق الخناق».(1) فالتنفس هنا كناية عن مبادرة العمل الصالح والعلم وتهذيب النفس والورع والتقوى. أمّا ضيق الخناق فيراد به الموت. فقد جاء في القرآن: (وَأَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَل قَرِيب فَأَصَّـدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِـينَ)(2) ثم قال(عليه السلام): «و انقادوا قبل عنف السّياق(3)» فاذا جاء الموت استسلم أعتى الأفراد كفرعون وهامان ونمرود ومن على شاكلتهم ليصرخ «آمنت لا إله الا اللّه» ولم ينفعهم ذلك الإيمان. كما صرح القرآن بشأن الآثمين الذي يرون ملائكة الموت أنّهم ينادون: (رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِـيما تَرَكْتُ كَـلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها)(4). ثم إختتم(عليه السلام)خطبته قائلاً: «و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظٌ وزاجرٌ لم يكن له من غيرها لا زاجرٌ ولا واعظٌ» فالهداية لابدّ أن تنبع من باطن الإنسان، ومادام باطن الإنسان ليس مستعداً فليس هنالك من تأثير للواعظ الخارجي. وعليه فالإنسان يجب أن يعزم بادي ذي بدء على إحياء ضميره ووجدانه لتحفه العناية الإلهية، وهنا يستعد الإنسان لاقتفاء آثار الأنبياء والأولياء ويعر آذانه لسماع الحق.
—–
تفيد أغلب الآيات والروايات أنّ يوم القيامة هو يوم وزن جميع الأشياء والحساب عليها، ولايقتصر هذا الوزن على الأعمال فحسب بل يخضع الإنسان للاختبار لمعرفة عقائده ونياته وأخلاقه. أمّا البعض فقد تصوروا أنّ موازين يوم القيامة كموازين الدنيا، إلاّ أنّها أدق، فاضطروا للاعتقاد بوزن الأعمال المعنوية، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك، فميزان كل شئ بمايناسبه.
1. «خناق» على وزن نفاق بمعنى العنق، ويقال للحبل أو ما يشابهة والذي يُشد على العنق من أجل خنق الشيء «الخَنَّاق».
2. سورة المنافقون / 10.
3. «سياق» من مادة «سوق» إشارة إلى الموت الذي يسوق الإنسان من هذه الدنيا إلى الآخرة.
4. سورة المؤمنون / 99 ـ 100.
فاليوم تستعمل كلمة الميزان ليقال ميزان الهواء وميزان الحرارة، والحال ليس هنالك مثل هذا الميزان. بل تستعمل الميزان بكثرة في الأعمال المعنوية ولايراد بها هذا الميزان. والحق أنّ عالم الاخرة آخر واسع يتجاوز حدود هذا العالم بحيث يتعذر علينا تصور ابعاده وحدوده وجزئياته وان كان لنا علم إجمالي به. وقد أوصى الإمام(عليه السلام) بزنة الأعمال قبل وزنها هناك ومحاسبتها قبل الحساب; الأمر الذي أكده سائر المعصومين(عليهم السلام). فقد ورد عن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنّه قال: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل خيرا استزاد اللّه منه، وحمداللّه عليه، وإن عمل شرا استغفراللّه وتاب عليه»(1). وجاء في الحديث أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال لأبي ذر: «يا أباذر! حاسب نفسك قبل ان تحاسب، فانه أهون لحسابك غدا، وزن نفسك قبل أن توزن»(2). كما قال(صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: «يا أباذر لايكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملسبه، أمن حل ذلك، أم من حرام».(3)
إن النتيجة المطلوبة تتطلب أمرين; الموضع المناسب والتربية الصحيحة، وبعبارة اُخرى: قابلية القابل وفاعلية الفاعل. فالفلاح مهما كان ماهراً والماء مهما كان وافراً، والبذر مهما كان صالحاً، لايجني أي ثمر إذا كانت الأرض الزراعية مالحة غير صالحة للزراعة، وذلك لأنّ إفتقار الموضع لقابليته يبدد جميع الجهود. ويصدق هذا الأمر على تربية النفوس البشرية، فما لم يكن للإنسان واعظ من نفسه ونزوعا نحو الحق والانصاف لم تؤثر فيه أقوى المواعظ من الخارج. ومن هنا شرب أبوجهل وابولهب الصدى وهما يجلسان على ساحل منبع الوحي الفياض، بينما ارتوى أمثال أويس القرني من ذلك المنبع رغم البعد الشاسع عنه. وبالطبع لايفهم الجبر من هذا الكلام، لأنّ الواعظ الباطني يتبلور أيضاً عن طريق تهذيب النفس وتزكيتها، فشعلته
1. ميزان الحكمة 1/ ح 3845 (مادة حساب).
2. المصدر السابق، ح 3841.
3. بحارالأنوار 74/86 .
تنطفئ في ظل الأهواء والشهوات، بينما تتقد إثر العفاف والطهارات.
إلى هنا انتهينا بحمداللّه من المجلد الثالث ويليه المجلد الرابع إن شاءاللّه. ولا يسعني هنا إلاّ أن أتضرع إلى البارئ سبحانه بفائق الشكر والامتنان على ما وفقني إليه، كما أسأله أن يمن علي بمواصلة هذا الجهد الزهيد. وما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت وإليه أنيب وآخر دعوانا أن الحمدللّه ربّ العالمين.
15 جمادي الثانية 1421
—–