—–

 

مصير الجبابرة

يعتقد كل من يؤمن باللّه وعدله أنّ أساس هذا العالم قائم على العدل والقسط، وأنّ الظلم


1. «عتب» على وزن حتم تعني الامتعاظ الباطني اريد به هنا عتب الزمان، وعتب عليه إذا وجد عليه.

2. سورة الأحزاب / 10 ـ 11.

3. سورة الأعراف / 129.

[ 365 ]

والجور طارئ على طبيعة عالم الخليقة، ومن هنا يراود البعض هذا السؤال: إذا كان العدل هو الأساس، فما تفسير تسلم الجبابرة لمقاليد الاُمور ومنحهم فرصة ممارسة نشاطهم وفعاليتهم؟ وللإجابة على هذا السؤال لابدّ من القول بأنّ هنالك عدة دوافع تقف وراء ذلك منها: أولاً: فساد الناس ومثل هذه الحكومات هى عذابهم الدنيوي; الأمر الذي نلمسه في وصية الإمام علي(عليه السلام) لمن ترك النهي عن المنكر: «فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلايستجاب لكم».(1)

ثانياً: قد يتحلى بعض الجبابرة ببعض الخصال الحسنة التي تستلزم منحهم تلك المهلة التي يتقلبوا فيها في البلاد، فقد جاء في الخبر أنّ موسى(عليه السلام) قال: إلهي أمهلت فرعون أربعمائة سنة وقد إدعى الربوبية وكذب نبيك وآياتك! فجاءه الخطاب: إنّه حسن الخلق وسهل الحجاب، (أي لم تكن هناك من صعوبة لدى الناس في الدخول عليه) واني أحب أن أثيبه على هذه الصفات.(2)

ثالثاً: ما ورد في الخطبة حيث قال الإمام(عليه السلام): «أمّا بعد فان اللّه لم يقصم جباري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء» لعلهم يفيقون من غفلتهم ويكفون عن ظلمهم وعدوانهم.

رابعاً هو أن بعض الجبابرة قد أغلقوا جميع أبواب الهداية بوجوههم، فاللّه يمهلهم إستدراجاً ليزدادوا ذنوباً وآثاماً فيضاعف عليهم العذاب، بالضبط كالذي يصعد شجرة وعاقبته السقوط، فكلما تسلق أكثر كان أذاه ومصابه أشد وأعظم. أما القرآن فقد صرح بهذا الشأن قائلاً: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِـيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِـينٌ).(3)

وبناءاً على ما تقدم فلاينبغي أن يتفر إلينا الشك في مسئلة العدل إذا ما رأينا ظالماً وقد تحكم بمصير أمة، وذلك لاختلاف الأسباب المؤدية إلى ذلك والتي أشرنا إلى جانب منها سابقاً.

—–


1. نهج البلاغة، الرسالة 47.

2. بحارالأنوار 13/129.

3. سورة آل عمران / 178.

[ 366 ]

[ 367 ]

 

 

القسم الثاني

 

«فَيا عَجَباً! وما لِيَ لا أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ الْفِرَقِ عَلَى إخْتِلافِ حُجَجِها فِي دِينِها! لا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيّ، ولا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيّ، ولا يُؤْمِنُونَ بِغَيْب، ولا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْب، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهاتِ، ويَسِيرُونَ فِي الشَّهَواتِ. الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ ما عَرَفُوا، والْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ ما أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وتَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمّاتِ ]المبهمات[ عَلَى آرائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِئ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقات ]وثيقات ـ وموثقات[، وأَسْباب مُحْكَمات».

—–

 

الشرح والتفسير

الاستبداد مادة الاختلاف

لما كانت العبارات الأخيرة من القسم السابق من الخطبة بشأن الدروس والعبر في حياة الناس، فانّ الإمام(عليه السلام) أشار هنا إلى أحدى الموارد المهمة لهذه العبر، ألا وهو اختلاف الأفراد والأقوام إثر هجرهم للأنبياء والأوصياء والعوم في وادي الحيرة والضلال، فقال(عليه السلام): «فيا عجباً! وما لي لا أعجب من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها! لا يقتصّون أثرن بيّ، ولا يقتدون بعمل وصيّ، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفّون(1) عن عيب»،فقد بان الشقاق والنفاق في أوساط الاُمّة الإسلامية على عهد أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام) وقد ظهرت مختلف


1. «يعفون» من مادة «عفاف» على وزن ثواب، وفي الاصل تأتي بمعنى الامتناع عن الاعمال الشائنة والقبيحة، ويقال للشخص الذي يجتنب الاعمال القبيحة «العفيف»، وقد جرى العرف على اطلاق هذا الاصطلاح على الذين يجتنبون القيام بالاعمال الجنسية الغير شرعية.

[ 368 ]

المذاهب في الاصول والفروع، إلى جانب إتساع رقعة البلاد الإسلامية التي أسهمت في انبثاق مختلف الفرق. فالإمام(عليه السلام) يضم هذا الاختلاف ويعزا ذلك إلى ثائر الاخباء زلات التي اشير إلى عشر منها في هذا الخطبة، أربع منها وردت في الخطبة: الاولى انهم لايتبعون تعاليم الوحى التي يبلغهم بها الأنبياء. الثانية انّهم لم يلتزموا ويقتدو بالأوصياء من بعد الأنبياء. الثالثة عدم الإيمان بالغيب. أمّا ما المراد بالإيمان بالغيب فهنا لك خلاف بين مفسرى القرآن وشرّاح نهج البلاغة. فقد ذهب البعض إلى أنّ المراد بالغيب الذات الالهية المقدسة، وقيل القيامة وقيل متشابهات القرآن بينما توسع البعض آخر فذهب إلى أنّ المقصود بالغيب كافة الاُمور الخارجة عن دائرة حس الإنسان. وعليه فقد يراد بالغيب جميع ماذكر، ويبدوا المعني الأخير هو الأنسب. الرابعة عدم التورع عن العيوب وبعبارة اُخرى فانّ هؤلاء يرتكبون كل ذنب بسهولة بسبب افتقادهم لملكة الافاف التى تحجز الإنسان عن ذنب، وهكذا كانت مباني إيمانهم ضعيفة وأعمالهم خاوية، ومن الطبيعى أن يؤدى التزلزل في الإيمان إلى الفساد في العمل، كما يؤدى الفساد في العمل إلى زعزعة دعائم الإيمان. ثم قال (عليه السلام) في الصفة الخامسة العشرة: «يعملون في الشّبهات، ويسيرون في الشّهوات» العبارة «فى الشهوات» إشارة إلى نقطة لطيفة وهى أنّ هؤلاء يخفون أعمالهم السيئة تحت غطاء الشبهات حتى لايطلع الناس على قبائحهم. أنّهم قلما يتجهون صوب محكمات القرآن والأحاديث، بل بالعكس إنّما يسارعون إلى المتشابهات، وكذلك في الموضوعات الخارجية التي تعتبر من الموضوعات الواضحة، حيث يبتعدون عنها ويقتفون آثار الموضوعات المشتبهة; ولا غرو فليس لهم من سبيل القيام بأعمالهم الشائنة إلاّ من هذا السبيل. والعبارة «يسيرون في الشهوات» تثير إلى أنّ محور حياتهم إنّما يمر عبر الشهوات، لا أنّ الشهوات طارئة عليهم، أضف إلى ذلك فانّ مقارفتهم لهذه الشهوات دائم متواصل، ويفهم ذلك من خلال العبارة التي تصدرتها الأفعال بصيغة المضارع «يعملون ويسيرون». والجدير بالذكر أنّ أعمالهم إنعكاس لعقائدهم الفاسدة، كما يمكن أنّ تكون مقارفة الشهوات تدفعهم لأن يتجهوا صوب العقائد التي تبرر أفعالهم.(1) ثم خاض


1. راجع ذيل الخطبة 38 في المجلد الثاني من هذا الشرح بخصوص الشبهة ومعناها وتأثيرها في تحريف الحقائق. (2/405)

[ 369 ]

الإمام(عليه السلام) في إطار مواصلته لحديثه عن سائر صفات هؤلاء المضلين ـ الذين قد يكونون أحياناً من العلماء المزيفين ـ فقال(عليه السلام): «المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا». نعم لما قطع هؤلاء رابطتهم باللّه والنبي لم يعد الوحي السماوي والسنة النبوية وكلمات المعصومين هى المعيار في تمييز الصالح من الطالح والحسن من القبيح، بل المعيار هوى النفس والرغبات الباطنية، أو الافكار الفئوية والتعصبات القبلية والاُمور التي تؤمن مصالحهم المادية، ولو كانوا حقاً من أهل الفكر فانّهم سيقعون في وادي الضلال أيضاً لعدم إنفتاحهم على تعاليم السماء وإرشادات الأنبياء والمعصومين، ففكر الإنسان عرضه للخطأ والانحراف. ثم قال(عليه السلام) في صفتهم التاسعة والعاشرة: «مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم» فاساس بؤسهم وشقائهم إنّما ينبع من هذه القضية، وهى أنّهم هجروا أولا تبعية الوحي وسنة النبي وتعاليم المعصومين، وعليه فكلما تقدموا أكثر إزداد انحرافهم وابتعادهم عن الحق. ومن هنا صرح الإمام(عليه السلام) كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات، والحال لاينطوون سوى على أفكار هزيلة وتصورات واهية (وَإنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(1). نعم هذا هو المصير المحتوم الذي ينتظر الأفراد الذين يولون ظهورهم للمعايير الدينية الصحيحة في حل خلافاتهم الفكرية والعقائدية وتمييز الحق من الباطل والصراط المستقيم من الطريق السقيم ويعولون على أفكارهم القاصرة وآرائهم الباطلة، ولذلك وقعوا في أودية الشرك والوثنية المقيتة حتى جعلوا للّه جسماً ويداً ورجلاً وشعراً مجعداً، بينما خالفهم البعض الآخر تماماً حتى عطل صفاته سبحانه وهبطوا بالفكر إلى الحضيض في أنّه لايستطيع إدراك صفاته والتطرق إلى ذاته، فذلك التجسيم الأبله وهذا التعطيل الأحمق هو الوليد الطبيعي للاستناد إلى الآراء الناقصة وهجر تعاليم أئمة الدين، فكان منهم الخوارج الذين يحسبون أنّهم عابدون وقد سلكوا سبيل النجاة، بينما أنكروا أبسط بديهات الإسلام وشرعة المقدس في ضرورة الحكومة وحاجة الامة الماسة إليها.


1. سورة العنكبوت / 41.

[ 370 ]

المستبدون الظالون

استفاضت الأحاديث التي تؤكد على أنّ الهوى يصد الإنسان عن الحق; الأمر الذي أشارت إليه بصورة جامعة هذه الخطبة، فهؤلاء الذين عجنت حياتهم بالشهوات لايرون معروف اللّه معروفاً ولامنكره منكرا، فهم لايستندون إلى أدلة العقل، والمعروف ما انسجم وميولهم النفسانية، وما خالفها فهو المنكر. وإذا ما صادفتهم بعض المسائل المعظلة إنّما يلوذون بأفكارهم المنحطة بدلاً من الاستعانة بالعقل والفكر، وأبعد من ذلك الآيات القرآنية وتعاليم الأئمة ليحلوا مشاكلهم. والعجيب أن هؤلاء الأفراد لايقبل أحدهم الآخر، بل كل يرى أنّه إمام نفسه وأنّه مرجعها وملاذها. ومن الطبيعي أنّ لايقود هذا السلوك سوى إلى الحيرة والضلال والسقوط، والاسوأ من كل ذلك يرون أنفسهم مهتدين; الأمر الذي صوره القرآن الكريم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّـئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّـهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(1).

—–


1. سورة الكهف / 103 ـ 104.

[ 371 ]

 

 

الخطبة(1) 89

 

 

 

ومن خطبة له (عليه السلام)

 

فى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وبلاغ الإمام عنه

 

نظرة إلى الخطبة

تتحدث الخطبة عن ثلاثة أمور مرتبطة مع بعضها; الأول تصوير جامع ورائع عن أوضاع العرب في الجاهلية تزامنا مع بعثة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) يفيد أنهم كانوا في أسوأ حالة من الناحية المادية والمعنوية; الحالة التي لايمكن معها وصفهم بالحياة، بل تشير الخطبة إلى الاوضاع الوخيمة والظلام الدامس الذي كان سائداً حتى خارج الجزيرة العربية. ثم حذر صحبه ومن عاصره من الظن بانقطاع عصر الجاهلية، بل عليهم الاعتبار بحياتهم والحيطة والحذر من العودة إلى الجاهلية. أخيراً صرح بهذه الحقيقة وهى مقارعة الجاهلية وأفكارها المنحرفة، وبينت لكم ما بينه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في زمانه، حتى أتممت الحجة عليكم. ثم حذرهم(عليه السلام) من الغرور والغفلة والتحلي باليقظة تجاه الأحداث والمخاطر التي تنتظرهم.


1. سند الخطبة: ورود هذه الخطبة أو بعضها في كلمات جمع من العلماء ممن عاشوا قبل السيد الرضي (ره)، فقد جاءت في تفسير علي بن إبراهيم الذي عاش لقرن قبل السيد الرضي، ورواها الكليني في أصول الكافي (1/60)، وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه اختلاف الروايات في بعض ألفاظ الخطبة مما يدل على أنّها نقلت في مصادر اُخرى غير نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 2/138).

[ 372 ]

[ 373 ]

 

 

القسم الأول

 

«أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وطُولِ هَجْعَة مِنَ الاُْمَمِ، واعْتِزام مِنَ الْفِتَنِ، وانْتِشار مِنَ الاُْمُورِ، وتَلَظّ ]تلظى[ مِنَ الْحُرُوبِ، والدُّنْيا كاسِفَةُ النُّورِ، ظاهِرَةُ الْغُرُورِ، عَلَى حِينِ اصْفِرار مِنْ وَرَقِها، وإِياس مِنْ ثَمَرِها،اغْوِرار مِنْ مائِها، قَدْ دَرَسَتْ مَنارُ الْهُدَى، وظَهَرَتْ أَعْلامُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لاَِهْلِها، عابِسَةٌ فِي وَجْهِ طالِبِها، ثَمَرُها الْفِتْنَةُ، وطَعامُها الْجِيفَةُ، شِعارُها الْخَوْفُ، ودِثارُها السَّيْفُ».

—–

 

الشرح والتفسير

العالم على أعتاب الدعوة

إن الهدف الغائي للإمام(عليه السلام) من هذه الخطبة هو إيقاظ الناس من سبات الغفلة والغررو، فقد إصطحبهم إلى عصر الجاهلية واستعرض لهم التأريخ، كيف كان الناس، والنقلة النوعية الكبرى التي أحدثتها نهضة النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم حذر من عودة أوضاع الجاهلية، مؤكدا أنّه وعلى غرار النبي(صلى الله عليه وآله) ثار من أجل إجتثاث جذور الجاهلية بما تنطوي عليه من أفكار وأوهام، ليعودوا إلى أنفسهم قبل فوات الآوان. فقد رسم صورة واضحة للجاهلية بعبارات قصيرة عظيمة المعنى في خمس عشرة. جملة بما يعجز الآخرون عن رسم مثل هذه الصورة. فقال(عليه السلام)«أرسله على حين فترة(1) من الرّسل»، وقيل إنّ هذه الفترة قد استغرقت خمسمائة سنة وقيل ستمئة سنة لم يبعث فيها نبي(2) (وان كان أوصياؤهم بين الناس). ولذلك ساد الناس سبات


1. «فترة» تعني في الأصل الهدوء والسكنية، كما تعني الضعف، كما تطلق على الزمان بين حركتين أو حدثين، ومن هنا يصطلح بالفترة على الزمان الفاصل بين ظهور الأنبياء.

2. ذكر البعض أن الفترة بين ولادة السيد المسيح(عليه السلام) هجرة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) استغرقت 621 سنة و195 يوماً (تفسير ابوالفتوح الرازي 4/154، هوامش المرحوم العلاّمة العشراني) كما قيل أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) ولد عام 570 م وبعث عام 610 م (بينات خالدة 1/121).

[ 374 ]

قاتل، وهذا ما أكده الإمام(عليه السلام) في العبارة الثانية «و طول هجعة(1) من الأمم»، ولعل هذه الفترة تستبطن امتحان اللّه للعباد وللوقوف على قدر الأنبياء ونعمته عليهم. مع ذلك فقد كان هناك أثر مباشر لهذه الفترة في تفعيل حركة شياطين الجن والانس; وذلك أن الميدان قد خلالهم فشددوا من حملاتهم على الاُمم والشعوب فجرعوها أنواع الانحرافات والأضاليل ثم قال(عليه السلام)في العبارة الثالثة: «و اعتزام(2) من الفتن» فقد شبه الإمام(عليه السلام) الفتن بالإنسان الشرير أو الحيوان الضاري الذي يهجم على الإنسان الأمن دون مبرر; وهذا ما كانت عليه الإمام في فترة الرسل. ثم قال(عليه السلام) في العبارة الرابعة: «و انتشار من الأمور» يمكن أن يكون المراد بهذه العبارة تشتت فعاليات الجماعة البشرية وانشطتها، وبعبارة اُخرى ظهور الفوضى والهرج والمرج والاضطراب والتششت في المجتمعات والذي يعد من الفتن والقلاقل. ثم قال(عليه السلام): «و تلظّ(3)من الحروب» ياله من تشبيه رائع، حيث شبه الحرب بلهيب الانار المحرقة التي تأتي على الأخضر واليابس فتحيله رماداً. كما شبه امتداد الحروب بالسنة النيران. ولو رجعنا قليلا إلى الوراء لرأينا العالم برمته ولا سيما جزيرة العرب أنّه كان مسرحاً للحروب الدامية فقد كانت الحرب قائمة على قدم وساق بين القبائل العربية ولأتفه الأسباب، إلى جانب معارك الروم وايران، فكانت تسيل أودية من الدماء. وقال(عليه السلام): «والدّنيا كاسفة(4) النّور، ظاهرة الغرور» فالواقع أنّ نور البشرية ليس إلاّ نور الوحي ووجود الانبياء، فاذا كانت هناك ظلمة مطلقة تلقي بعتمتها على كل شئ فتستفحل أمراض الخدع والمكر، وتتسع رقعة المذاهب الزائفة ويتلبس الدجالون لباس المسوح والاصلاح فيجدوا في إستغلال الخلق من أجل تحقيق منافعهم المادية. ثم شبه الإمام(عليه السلام)الناس في الجاهلية بمزرعة قد ذبلت جميع أشجارها واصفرت أوراقها (فهى في حال التساقط) وقد يأس المزارع من ثمرها بعد أنّ غار ماؤها


1. «هجعة» من مادة «هجوع» نوم الليل شبه به وضع الأقوام الجاهلية بالنسبة للهداية لعمقه.

2. «اعتزام» من مادة «عزم» العزم والقرار وهو هنا فاعل فتنة.

3. «تلظ» من مادة «لظى» بمعنى لهب النار، و«تلظى» بمعنى النار المشتعلة.

4. «كاسفة» من مادة «كسوف (» ومنه الكسوف والخسوف الذي تتعرض له الشمس والقمر) وهى هنا كناية عن إنطفاء أنوار الهداية في العصر الجاهلي.

[ 375 ]

وجفت عروقها: «على حين اصفرار من ورقها، وإياس(1) من ثمرها، واغورار(2) من مائها» وذلك لأنّ مزرعة المجتمع البشري إنّما تتزين بورود الأخلاق والفضائل، وثمارها العدالة والمروءة والمحبة، أمّا ماؤها فيكمن في الإيمان والورع والتقوى; المعاني التي كانت مغيبة تماماً في العصر الجاهلي. حتى من الناحية المادية فقد شلت الزراعة والتجارة بسبب الحروب وعدم شياع الأمن والاستقرار فكان الفقر قد ساء العالم الجاهلي بالشكل الذي كان يدفعهم إلى قتل أولادهم، وهذا ما أشار إليه القرآن بالقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاق)(3) بغض النظر عن وأدهم البنات خشية الفضيحة والعار. ثم قال(عليه السلام) في الصفة التاسعة والعاشرة: «قددرست(4) منار الهدى، وظهرت أعلام الرّدى» فالمنار موضع النور، حيث كانوا يشعلون في السابق سراجاً على مرتفع حين الليل فيكون علامة للقرى المدن يشاهدها القاصي والداني فلايضل الطريق. فاذا تآلكت هذه المرتفعات وتهدمت لم يعد هناك من سراج فوقها، فالعبارة كناية رائعة إلى سراج الكتب السماوية وتعاليم الأنبياء التي تمثل نور الهداية للجماعة الإنسانية، وقد انطفئ هذا النور في العصر الجاهلي اثر غلبة الاهواء، فكان من الطبيعي إذا اطفئ النور أن يعم الظلام الدامس بكل معاني الحيرة والظلال والكفر والنفاق وقال(عليه السلام) في الصفة الحادية عشرة: «فهى متجهّمةٌ(5) لاِهلِها، عابِسةٌ(6) فِي وجهِ طالِبِها» فالعبارة كناية عن شدة العنف والنزاعات وصعوبة المعيش وتعقيد الحياة; كيف لا والحياة الوادعة الامنة لاتتحق الا في ظل العدالة الاجتماعية والاخاء والمحبّة والمودة التي لم يكن لها من أثر في العصر الجاهلي. ثم قال(عليه السلام): «ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة(7)». حقاً ليست هنا لك من ثمرة لذلك الوسط بتلك


1. «إياس» على وزن قياس عدم الأصل.

2. «اغورار» من مادة «غور» الغوص في الأرض، وعادة ما يطلق على الماء داخل الأرض وهو هنا كناية عن انقطاع الهداية.

3. سورة الاسراء / 31.

4. «درست» من مادة «دروس» زوال الاثار وانعدامها.

5. «متجهمة» من مادة «جهم» على وزن فهم العنف والغلظة، ويقال متجهم لمن يستقبل الآخرين وينظر إليهم بوجه كريه.

6. «عابسة» من مادة «عبوس» على وزن مجوس كناية عن الاسى الشديد للناس في العصر الجاهلي.

7. «جيفة» من مادة «جوف»، وتطلق عادة على الميت الذي يفسد جوفه فتهب منه ريح نتنة.

[ 376 ]

الصفات سوى الفتن وليس له من طعام سوى الميتة; والمفردة جيفة قد تكون إشارة إلى الوضع الذي كان عليه الناس في عصر الجاهلية حيث كانت ا لعرب تأكل الميتة من شدة الاضطرار فالميتة متعفنة وتدعو إلى الاشمئزاز والنفرة، وقطعا فانّ الحياة في مثل هذه البيئة إنّما تتسم بالتعفن والاشمئزاز، كما كان دخلهم عن طريق شن الغارات ولسراقات وما شابه ذلك من الاُمور التي يمجها العقل السليم; أمّا الدليل على أكل أهل الجاهلية للميتة هو الآية القرآنية التي نهت عن ذلك: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ...)(1) وبالطبع فانّ المراد بالثمرة والطعام في العبارة الجانب الكنائي. فطعام الإنسان عادة أمّا أن يكون من الثمار أو اللحوم، ولم يكن نصيب الناس في الجاهلية سوى الفتنة والأفكار المتعفنة التي تدعو إلى الاشمئزاز والتقزز; ثمراتهم ونعمهم المادية والمعنوية كانت معجونة بالتعفن والفساد والعار. ثم قال(عليه السلام): «وشعارها الخوف، ودثارها السّيف» فبالالتفات إلى أنّ الشعار يعني الثوب الذي يلي البدن والدثار الثوب الداخلي يتبين أنّ العبارة كناية رائعة ولطيفة مصعمة بالفصاحة والبلاغة لتصوير ظروف ذلك الزمان وسيادة الخوف والسيف من الداخل والخارج، فكل يخشى الآخر، وكل قبيلة تتوقع أن تحمل عليها اُخرى فتقتل رجالها وتسبي نسائها وتنهب أموالها. فكانت السيوف مشهورة على الدوام بسبب ذلك الخوف والخشبية، ولعمري أنّ هذه العبارة قد أشارت إلى كافة أنواع البؤس والشقاء السائدة آنذاك. ومن الطبيعي أن يسود الخوف والرعب أوساط المجتمع الذي تغيب فيه أنوار الهدى وتشع فيه اعلام الضلال والردى ويبتعد فيه الافرد عن تعاليم السماء وإرشادات الأنبياء. أمّا الصورة التي رسمها أميرَالمؤمنين(عليه السلام) بهذه العبارة التي تعرض إلى خصائص العصر الجاهلي فانّها لاتقتصر على شبه الجزير العربية فحسب، بل تشمل كافة مناطق العالم آنذاك وإن بلغت ذروتها بين قبائل العرب. والحق لايسع خطيب ولاكاتب مهما كانت قدرته على البيان أن يصور فجائع ذلك الزمان وانحرافاته كا صورها الإمام(عليه السلام) بهذه العبارات المعجزة وهذا ما سنتعرض إليه في الحبث القادم والمؤسف أن هذه الخصائص إنّما تشاهد اليوم بوضوح في عصرنا الراهن الذي تحكمه الجاهليات المعاصرة.


1. سورة المائدة / 3.

[ 377 ]

ومن هنا نقف على عظم جهود النبي(صلى الله عليه وآله) في إخراج تلك الجماعة الممزقة الميتة من الظلمات إلى النور وتبديل خوفها أمنا وفقرها غنى ونزاعها وقتالها إلى إخوة وصلح وسلام، كما جعلهم أمّة متحضرة متمدنة حتى إنتشر الإسلام ورفعت رايته خفاقة في أغلب ربوع المعمورة، وقد استسلمت الملوك والسلاطين والجبابرة والطغاة لجيوش المسلمين الفاتحة التي حملت مشاعل الهداية والخير والصلاح. كما نهض المجتمع الإسلامي نهضات عظيمة ليشهد ذلك التطور والأزدهار في كافة المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية. وحقاً إن هذا لمن معجزات الدين الإسلامي الخالد وا لجهود المضنية التي بذلها الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله); ولا غرو فانّ كافة الحسابات المادية تشير إلى إنّ إنقاذ تلك الاُمّة مما كانت عليه والأخذ بيدها إلى حيث العزة والرفعة والسمو والكمال لايمكن تحقيقه في ظل المعادلات الطبيعية والحسابات المادية! وكما أوردنا سالفا فانّ هدف الإمام(عليه السلام) يكمن في تحذير الاُمّة من مغبة العودة إلى الجاهلية المقيتة بثيابها الجديدة وإنّ الإمام(عليه السلام) سيقف بوجهها كما وقف بوجهها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) واخمدها بجهاده.

—–

 

الجاهلية المعاصرة

لقد وقفنا على الصورة الرائعة التي رسمها الإمام(عليه السلام) للعصر الجاهلي بتلك العبارات المشحوتة بالفصاحة والبلاغة. وبالطبع فقد أشرنا إلى جانب من مميزات ذلك العصر في الخطبة الثانية من المجلد الأول والخطبة السادسة والعشرين من المجلد الثاني. غير أنّه لايمكن الوقوف على عظمة جهود النبي(صلى الله عليه وآله) في هداية تلك الأقوام ما لم يتامل الإنسان بعض تفاصيل حياة العرب في العصر الجاهلي من حيث الحروب والسلام والتقاليد والأعراف والخرافات والأباطيل التي كانت تنظم شؤون حياتهم. والمهم هنا هو أنّ هذه الجاهلية إنّما ترتدي اليوم حلة جديدة في مجتمعاتنا المعاصرة بينما تشترك في مميزاتها وخصائصها والجاهلية الاولى. فقد كانت القيم الحقة مغيبة في العصر الجاهلي، ودماء الأبرياء العزل تسفك بسهولة، وديدنه غارات الأموال والثروات ونهبها، ولايفرق هذا مع الجاهلية المعاصرة التي لاتفكر سوى في الحصول على الأموال وبارخص الأساليب، أدناها بيع أسلحة الدمار الشامل والتجارة

[ 378 ]

بالمحدرات وشن الحروب من أجل الاستيلاء على مصادر الطاقة. وان شهد العصر الجاهلي وأد بعض البنات، فالقانون اليوم يبرر للناس حالة الإسقاط والإجهاض، كما شنت الحرب العالمية التي أودت بحياة الالاف المؤلفة من البنين والبنات، فقد ذكر أنّ عدد قتلى الحرب العالمية الاولى والثانية ليفوق بكثير كافة ضحاياً الحروب التي شهدتها البشرية طيلة التأريخ، بل كان قتلى مدينتين في اليابان من جراء قنبلتين نوويتين أكثر من كافة قتلى العصر الجاهلي! وإن كانت بعض النساء من ذوات الأعلام في الجاهلية، فبعض النسوة اليوم تجاوزت تلك الأعلام لتعلن عن فجورها وفسادها في أغلب صحف العالم وتنظم لنفسها بعض الاعلانات داعية الآخرين إليها; الأمر الذي دفع بالدول والحكومات إلى فرض بعض الضرائب عليهن، وهذا ما أدى بالتالي إلى توفير الدعم القانوني لهن. بيع البنين والبنات ما زال متواصلاً حيث يقدم الأوربيون والأمريكان على شراء الصبية من المناطق المعدمة ويبيعونهم إلى الغرب; وهذا ما ينشر في الصحف والمجلات. أمّا الأخلاق فحدث ولاحرج فقد محتها أمواج الفساد والبغي والدعارة، ولو إستعرضنا بعض الجرائم والانحرافات لأدركنا أنّ الجاهلية المعاصرة أرهب وأرعب بكثير من تلك الجاهلية. ولعل الآية 33 من سورة الأحزاب ناظرة إلى الجاهلية المعاصرة حين خاطبت نساء النبي(صلى الله عليه وآله) بالقول: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَـرُّجَ الجاهِلِـيَّةِ الأُولى).

فالتعبير بالجاهلية الاولى يفيد أنّ هناك جاهلية أخرى.

—–

[ 379 ]

 

 

القسم الثاني

 

«فاعْتَبِرُوا عِبادَ اللّهِ واذْكُرُوا تِيكَ الَّتِي آباؤُكُمْ وإِخْوانُكُمْ بِها مُرْتَهَنُونَ، وعَلَيْها مُحاسَبُونَ ولَعَمْرِي ما تَقادَمَتْ بِكُمْ ولا بِهِمُ الْعُهُودُ، ولا خَلَتْ فِيما بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمُ الاَْحْقابُ والْقُرُونُ ]الدهور[، وما أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلابِهِمْ بِبَعِيد. واللّهِ ما أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً إِلاَّ وها أَنا ذا مُسْمِعُكُمُوهُ، وما أَسْماعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْماعِكُمْ بِالاَْمْسِ، ولا شُقَّتْ لَهُمُ الاَْبْصارُ، ولا جُعِلَتْ لَهُمُ الاَْفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ، إِلاَّ وقَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَها فِي هَذا الزَّمانِ ]الأوان[. ووَاللّهِ ما بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ ولا أُصْفِيتُمْ بِهِ وحُرِمُوهُ، ولَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جائِلاً خِطامُها، رِخْواً بِطانُها فَلا يَغُرَّنَّكُمْ ما أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَل مَعْدُود».

—–

 

الشرح والتفسير

كلكم مسؤول

خاطب الإمام(عليه السلام) الناس في زمانه محذرهم من إمكانية تكرار أوضاع الجاهلية فتعمكم ما كانت عليه من الفساد والانحراف فعليكم باليقظة والحذر: «فاعتبروا عباد اللّه واذكروا تيك الّتي آباؤكم وإخوانكم بها مرت هنون، وعليها محاسبون». تيك التي تعني تلك إشارة شاملة إلى كافة ذنوب وآثام أقوام الجاهلية، وانّ اللّه سيحاسبهم عليها، ولم يذكر هنا المشار إليه حيث بين في القسم السابق، وعليه لم تعد هناك من حاجة إلى التكرار. هذا وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد باسم الإشارة الدنيا والحياة الدنيوية أو الامّانة الإلهية

[ 380 ]