![]() |
![]() |
1. «يتاه» من مادة «تيه» على وزن شئ الضلال والحيرة .
2. «تعمهون» من مادة «عمه» على وزن فرح الحيرة والتخبط، وقيل: أنّ العمى في العربية عمى العين الظاهرة والعمه العين الباطنة.
3. نقل هذا الحديث العلاّمة الأميني باسانيد مختلفة من مصادر العامة (الغدير 3/176).
4. «هيم» جمع «أهيم» الابل العطشى، وكذلك يقال للرمال تبتلع الماء، وأحيانا يستعمل هذا الاصطلاح للتعبير عن العطش.
5. سورة المائدة / 55.
6. سورة المائدة / 76.
7. سورة الشورى / 23.
الواردة بهذا الشأن.(1) ويبدو التفسير الأول أنسب. وأخيراً فالعبارة «الهيم العطاش» تفيد أنّهم(عليه السلام) منبع ماء الحياة، وأنّكم بأشدّ الحاجة إليهم، وعليه يجب عليكم المسارعة إليهم دون أدنى تريث أو ترديد.
يتضح بجلاء مما مر معنا في هذا القسم من الخطبة أنّ وجود أهل البيت من عترة النبي(صلى الله عليه وآله)بين المسلمين، وتبعية الاُمّة لأقوالهم وأفعالهم إنّما تعصمهم من خطر الضلال، فهم أزمة الحق ومصابيح الهدى وأعلام الدين وألسنة الصدق وتراجمة الوحي. أمّا الروايات والأخبار الواردة من الفريقين في التأكيد على حبهم فذلك لأن حبهم يبعث على إتباعهم، وبالتالي فانّ اتباعهم هو أساسا الهداية والحركة نحو الحق. ومن تلك الروايات ما اورده الفخر الرازي في تفسيره المعروف عن الزمخشري في الكشاف أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال:
«من مات على حب آل محمد مات شهيداً».
«ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له».
«ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً».
«ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان».
«ألا ومن مات على حب آل محمد، بشره ملك الموت بالجنّة».
«ألا ومن مات على بغض آل محمد، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آئس من رحمة اللّه».(2) وورد في حديث أنّه(صلى الله عليه وآله) قال: «أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة، وكتابه وأهل بيتي، ثم أمتي، ثم أسألهم: ما فعلتم بكتاب اللّه وبأهل بيتي؟»(3) هذا غيض من فيض الأحاديث والروايات التي صرحت بمنزلة أهل البيت وأكدت على حبهم والتمسك بهم.
—–
1. للوقوف بصورة أعمق على هذه الآيات واقوال مفسري الشيعة والسنة راجع كتاب رسالة القرآن، ج 9.
2. تفسير الفخر الرازي 27/165، الآية 33 من سورة الشورى.
3. اصول الكافي 2/600، ح 4.
«أَيُّهَا النّاسُ! خُذُوها عَنْ خاتَمِ النَّبِيِّينَ صلّى اللّهُ عَلَيهِ وآلِهِ وَسلَّم: «إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ ماتَ مِنّا ولَيْسَ بِمَيِّت، ويَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنّا ولَيْسَ بِبال» فَلا تَقُولُوا بِما لا تَعْرِفُونَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيما تُنْكِرُونَ، واعْذِرُوا مَنْ لا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ ـ وهُوَ أَنا ـ، أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الاَْكْبَرِ! وأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الاَْصْغَرَ! قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رايَةَ الاِْيمانِ ووَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلالِ الْحَرامِ، وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعافِيَةَ مِنْ عَدْلِي، وفَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي،أَرَيْتُكُمْ كَرائِمَ الاَْخْلاقِ مِنْ نَفْسِي، فَلا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيما لا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ، ولا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ».
—–
أكد الإمام(عليه السلام) ما ورد في القسم السابق بشأن عترة النبي(صلى الله عليه وآله) فاضاف قائلاً: «أيّها النّاس! خذوها عن خاتم النّبيّين صلى اللّه عليه وآله وسلم: إنّه يموت من مات منّا وليس بميّت، ويبلى من بلي منّا وليس ببال» هناك كلام وخلاف بين شرّاح نهج البلاغة بشأن عودة الضمير في «خذوها» ولكن يبدو أنّه يعد إلى الحقيقة أو الكلام الحق ويعلم ذلك من قرائن الكلام، وان لم ترد في العبارات السابقة، فمفهوم العبارة: خذوا هذا الكلام الحق بشأن أهل البيت عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله). أمّا قوله: إنّه يموت من مات منّا وليس بميت، ويبلى من بلى منّا وليس ببال، فقد حمل على المعنى الحقيقي في أنّ أجساد أولياءاللّه تبقى غضة طرية في القبور وهم يتمتعون بنوع من الحياة بحيث يسمعون كلام الآخرين ويردون سلامهم، ولهم حياة
الشهداء الذين قال اللّه سبحانه وتعالى فيهم: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِـيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).(1) وعليه فالعبارة «يموت» تعنى الموت الظاهري، والعبارة «ليس بميت» تعني عدم الموت الواقعي، وهكذا عبارتي «يبلى» و«ليس ببال». وقال البعض أنّ المراد بعدم الموت والبلى هنا المعنى المجازي، أي أن آثارهم وتعاليمهم باقية بين الناس إلى يوم القيامة، وكأنّهم أحياء، ولعلنا نلمس هذا المعنى في رواية كميل في آخر نهج البلاغة بشأن العلماء العاملين «أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة»(2). كما احتمل أن يكون المراد بالحياة هنا تلك الحياة البرزخية التي تكون فيها الروح في قوالب مثالية لطيفة، إلاّ أنّ هذا الاحتمال يبدو مستبعداً لأنّ مثل هذه الحياة لاتختص بالأئمة والمقربين من أولياء اللّه. ويبدو الاحتمال الأول هو الأصح، وبالطبع فأنّها حياة أرفع من حياة الشهداء، فاننا نناديهم في الزيارة «تسمع كلامي وترد سلامي»(3). ثم أكد الإمام(عليه السلام)ذلك قائلاً: «فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون» في إشارة إلى أنّ معلومات الإنسان محدودة جدّاً وأنّ حقائق العالم عظيمة واسعة. والواقع أنّ العقل يقول في مثل هذه الحالة «لاينبغي للإنسان ان يتنكر لكل شئ لايعرفه». على سبيل المثال لو لم يكن لديه من علم بشأن حياة أولياءاللّه، فلاينبغي له أنّ ينكر ذلك. فليس هذا الأمر الوحيد الذي لايعلمه أغلب الناس، بل هناك آلاف الالوف وملايين المليونات من الوقائع المتحققة في الخارج والتي لا ندركها، وحسب تعبير أحد العلماء أنّ وقائع العالم بمنزلة كتاب ضخم بحيث لو جمعت كافة علوم البشرية من أولها إلى آخرها لما أصبحت ورقة في ذلك الكتاب. ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه ليكشف عن حقيقة مريرة صعبة وكذلك مفيده نافعة بعيدة المعنى فقال: «و اعذروا من لا حجّة لكم عليه ـ هوأناـ» أي أني نهضت بكافة وظائفي الملقاة على عاتقي، فلم أقصر في وظيفتى طرفة عين وقد أديت تكليفي أمام اللّه والعباد. وبناءاً على هذا فليس هنالك مايسي إلىَّ، ومن تفوه على فهو إمّا خاطئ أو مغرض. طبعاً هذا لايعني أنّه لاتبدو آرائكم تجاهي وتبخلون
1. سورة آل عمران / 169.
2. نهج البلاغة، الكلمات القصار 147، «من حسن المصادفات انه كتب هذا القسم من الخطبة في الذكرى الحادية عشرة لرحيل الإمام الخميني (ره)».
3. بحارالأنوار 67/295.
بالمشورة، إلاّ أنّه يعني ليس لكم حق الاعتراض علي; الأمر الذي نلمسه في قوله لابن عباس: «لك ان تشير علىَّ وأرى، فان عصيتك فأطعني»(1). ثم خاض الإمام(عليه السلام) في شرح خدماته التي اسداها للاُمّة بسبع عبارات، فقال بادئ ذي بدء «ألم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر» فسيرة حياة الإمام(عليه السلام) ولا سيما زمان حكومته تفيد أنّ القرآن كان محوره في كافة أقواله وأفعاله; الأمر الذي أشار إليه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) حين قال: «علي مع القرآن، والقرآن مع علي»(2). ثم قال(عليه السلام): «و أترك فيكم الثّقل الأصغر» وشاهد ذلك الحوادث التي وقعت ابان حياته(عليه السلام) بحيث كثيراً ما كان يتعرض أبناء رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وبقية الثقل الأصغر الإمام الحسن والحسين(عليهما السلام) إلى الاخطار، بينما كان يسعى الإمام(عليه السلام) جاهدا للحفاظ عليهما ومن ذلك أنّه شاهد الإمام الحسن(عليه السلام) وهو يسارع إلى الميدان في معركة صفين فقال: «أملكوا عني هذا الغلام لايهدني، فانني أنفس بهذين يعني الحسن والحسين عليهماالسلام ـ على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم»(3). ثم قال في العبارة الثالثة: «قد ركزت فيكم راية الإيمان». فكلام علي(عليه السلام) ـ ومن ذلك خطبه في نهج البلاغة ـ بشأن المبدأ والمعاد وأدلة نبوة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)تفيد أنّه كان ينتهز الفرص من أجل تقوية عرى الإيمان في قلوب الاُمّة. وقال في العبارة الرابعة: «ووقفتكم على حدود الحلال والحرام» وقد بلغ من تأكيد الإمام(عليه السلام)على بيان مسائل الحلال والحرام بحيث أنّه لم يكن يقتصر على بيانها في خطبه في المساجد وسائر الحلقات، بل كان يقوم بذلك كل يوم حين يتفقد السوق ويخاطب التجار والكسبة ويوصيهم بالتفقه بالدين، بل لم يحفل التأريخ بمثل أميرَالمؤمنين(عليه السلام) في بيانه لأحكام الشرع ومسائل الحلال والحرام. فقد جاء في الخبر أنّه كان يطوف بالأسواق وينادي أهلها بالورع التقوى وعدم القسم في المعاملة، فانها تذهب البركة والتاجر فاجر إلاّ أنّ يأخذ حقاً ويعطي حقا، ثم يأتي ثانية ويخاطبهم بهذه الكلمات(4). كما كان يطوف في أسواق القصابين ويناديهم من غشنا ليس منا.(5)
1. نهج البلاغة، الكلمات القصار 321.
2. ينابيع المودة طبقا لنقل إحقاق الحق 9/354، وقد نقل هذا الحديث في عدّة مصادر أخرى من المصادر المعروفة للعامة، وللوقوف أكثر راجع 5/639، من إحقاق الحق.
3. نهج البلاغة، خطبة 207.
4. الغارات، سيرة علي(عليه السلام) في نفسه.
5. المصدر السابق.
ثم قال(عليه السلام) في العبارة الخامسة: «و ألبستكم العافية من عدلي» فعدالة أميرَالمؤمنين(عليه السلام)وتاثيرها في إعادة روح الاستقرار والهدوء إلى المجتمع ليست بخافية على أحد، لم يكف لحظة إبان حكومته عن التأكيد على ضرورة بسط العدل والقسط، حتى صرح(عليه السلام) قائلاً: «واللّه لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الاماء، لرددته فان في العدل سعة. ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق».(1)
ثم قال في العبارة السادسة «و فرشتكم المعروف من قولي وفعلي» فأعمال الخير والاحسان قد تشيع وتتسع رقعتها في المجتمع عن طريق الوصايا والمواعظ الخطب، كما يمكن أن تنتشر عن طريق عرض النماذج والقدوات العملية، والحق أن الإمام(عليه السلام) كان قدوة في الأمرين، وقد شحنت كتب التواريخ ونهج البلاغة بسيرته العملية وأقواله بشأن أمر الناس بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم قال(عليه السلام): «وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي». ففضائله الأخلاقية(عليه السلام) وعدالته وايثاره وتضحيته وزهده وورعه وتقواه ونصرته للمظلومين واليتامى والضعفاء وشجاعته وبسالته ومبارزته للابطال الظلمة ليست بخافية على أحد، حتى إعترف بها الأعداء كمعاوية وعمرو بن العاص، فضلاً عن الأصدقاء. وقال البعض أن: «كرائم الاخلاق» أسمى من «حسن الاخلاق»; فمثلا حسن الخلق يوجب مقابلة الاحسان بالاحسان، أو الرد عليه بما يربو عليه، أما كرم الخلق فانه يوجب مقابلة الإساءة بالاحسان; العمل الذي قام به أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام) تجاه عبدالرحمن بن ملجم بعد أن ضربه. ثم اختتم كلامه(عليه السلام)قائلاً: «فلا تستعملوا الرّأي فيما لا يدرك قعره البصر، ولا تتغلغل إليه الفكر» في إشارة إلى أن ما بينه من منزلة للثقل الاصغر (عترة النبي) إنّما هى من الاُمور التي اقرتها الارادة الإلهية، فاياكم والتشكيك فيها من خلال الوهم والظن والأفكار العاجزة. فهى منزلة حباهم بها العزيز الحكيم إلى جانب كونها نعمة عظيمة أنعمها اللّه على الاُمّة الإسلامية. والواقع هو أنّ هذه العبارة تاكيد للعبارة السابقة التي قال فيها(عليه السلام): «فلا تقولوا بما لاتعرفون، فان أكثر الحق فيما تنكرون».
—–
1. نهج البلاغة، الخطبة 15.
ومنها: «حَتَّى يَظُنَّ الظّانُّ أَنَّ الدُّنْيا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ; تَمْنَحُهُمْ دَرَّها، وتُورِدُهُمْ صَفْوَها، ولا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الاُْمَّةِ سَوْطُها ولا سَيْفُها، كَذَبَ الظّانُّ لِذَلِكَ، بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَها بُرْهَةً، ثُمَّ يَلْفِظُونَها جُمْلَةً!».
—–
هذا هو ختام الخطبة. ويرى البعض أنّه موضوع مستقل ليس له من إرتباط بالأبحاث السابقة. والواقع أنّ هناك عدة مطالب بين هذا القسم من الخطبة والأقسام السابقة لم يتعرض لها السيد الرضي (ره)، ومن هنا يبدو عدم وجود ارتباط بين هذا القسم وما سبقه من أقسام، مع ذلك لايستعبد أن تكون هناك رابطة معقولة بين هذين القسمين، أي أن ما حذف منها ليس بالشيئ الكثير. وكأنّ الإمام(عليه السلام) أشار إلى العبارة الأخيرة من البحث السابق حين قال فلا تقولوا بما لاتعرفون، فانّ أكثر الحق فيما تنكرون. ومن ذلك قوله لاتعتقدوا أنّ حكومة بني أمية دائمة خالدة، لا ليس الأمر كذلك، فسرعان ما تؤول حكومتهم إلى زوال وإنهيار. وقد ابتدأ المرحوم السيد الرضي (ره) هذا القسم قائلاً أنّ القسم الآخر من هذه الخطبة: «حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولةٌ(1) على بني أميّة; تمنحهم درّها،(2) توردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ولا سيفها»، فالعبارة «معقولة على بني أمية» كناية عن تسليم الشئ إلى
1. «معقولة» من مادة «عقال» الحبل الذي تربط به رجل الناقة بعد الانحناء لكي لايستطيع القيام فتبقى في مكانها، ثم اطلقت كناية على الاُمور المستقرة.
2. «در» تعني في الأصل ترشح اللبن من الثدي، ثم اطلقت على سائر السوائل كالمطر وأمثاله، كما اطلقت كناية على مختلف النعم المادية.
شخص، والعبارة «تمنحهم درها» جرياً على عادة العرب بتشبيه أغلب اُمور حياتهم بالناقة، حيث كان لها بالغ الأثر في حياتهم وعليه فهذه التشبيهات محببة إليهم. على كل حال فانّ الأفراد السطحيين لايكادون يرون أحدهم متربعاً على عرش السلطة وقد صفت له الدنيا وقمع معارضيه حتى يظنون بخلود هذه السلطة، والحال لايعلم ما يخبئ الغدو ليس هنالك من سبيل للتكهنات في المسائل السياسية، نعم لأولياءاللّه أن يزودوا الناس بببعض هذه الأخبار المستقبلية إستناداً لعلمهم المستقى من علم اللّه سبحانه، ومن ذلك هذا الأخبار من الإمام(عليه السلام)حيث قال مواصلة لكلامه: «و كذب الظّانّ لذلك، بل هى مجّةٌ(1) من لذيذ العيش يتطعّمونها برهةً، ثمّ يلفظونها جملةً»; أي سيستحوذن على الحكومة تدريجياً، ثم يفقدونها دفعة احدة. فنحن نعلم أنّ حكومة بني أمية لم تدم أكثر من ثمانين سنة، فكانت أعظم مدتهم على عهد حكومة معاوية بعد شهادة الإمام علي(عليه السلام) وصلحه مع الإمام الحسن(عليه السلام) بعد أن أقبلت عليه الدنيا. ثم خلفه يزيد الذي اسود عهده بفعل قيام الإمام الحسين(عليه السلام) واستشهاده بتلك الطريقة البشعة فلم تدم حكومته أكثر من أربع سنوات، ثم تعاقبت الحكومات التي دام بعضها بضعة أشهر، بل كانت حكومة معاوية بن يزيد أربعين يوماً، ولم تشذ من ذلك سوى حكومة عبدالملك التي استغرقت عشرين سنة، ولعل السبب يعود إلى عدم استجابته لوصايا الحجاج وعدم إراقة دماء بني هاشم على كل حال وكما أخبر الإمام علي(عليه السلام) فقد كانت حكومتهم قصيرة مليئة بالأحداث المريرة ـ أمّا العبارة «هى مجة» فهى إشارة إلى أن بني أمية سيذوقون لمدة عابرة نعم الدنيا، إلاّ أنّ مثلهم كمثل الذي يضع طعاماً لذيذاً في فمه ويتذوق طعمه إلاّ أنّه لايقوى على إبتلاعه، فسرعان ما سيفقدون لذة الحكومة، والتاريخ أفضل شاهد على ذلك في أنّ حكومتهم التي دامت ثمانين سنة ـ سوى بعضها ـ كانت مليئة بالمخاطر والنزاعات والحروب والبلابل والاضطرابات.
1. «مَجَّة» من مادة «مج» على وزن حج، وفي الاصل تعني قذف الماء أو اللعاب من الضم بعيداً أو قريباً. ويقال لعصير العنب وما يشابهه «مجاج»، على وزن عُقاب، وأيضاً يقال للعسل «مجاج النحل».
وهنا جاء هذا الاصطلاح تعبيراً عن النصر والنجاح والموفقية التي يحصل عليها الانسان ثم يفقدها بسرعة.
صحيح أنّ بني أمية حكموا البلاد الإسلامية ما يقارب الثمانين سنة وقد تسلم زمام الاُمور أربعة عشر من آل أبي سفيان(1) وآل مروان، حيث حكم بعضهم لشهر أو بضعة أشهر، وكانت أطولها حكومة هشام بن عبدالملك حيث دامت عشرين سنة، فكان متوسط حكومة أحدهم ستة أشهر، إلاّ أنّ حكومتهم كانت ملئى بالنزاعات والخلافات; أمّا الحوادث التي وقعت خلال تلك المدة وأحالت عسل حكومتهم علقما فهى:
شهدت حكومة بني أمية عدة نهضات للخوارج وهى:
1 ـ قامت طائفة من الخوارج يبلغ عددها خمسمئة بزعامة فروة بن نوفل بعد حركة الإمام الحسن(عليه السلام) من الكوفة إلى الحجاز وورود معاوية الكوفة.(2)
2 ـ قيام عروة بن حدير المعروف بعروة بن أدية ضد معاوية وقتله من قبل زياد.
1. الاربعة عشر هم:
1 ـ معاوية 40 ـ 61 هـ ق
2 ـ يزيد بن معاوية 61 ـ 64
3 ـ معاوية بن يزيد 64 ـ اربعين يوما أو شهرين
4 ـ مروان بن الحكم تسعة أشهر من عام 65
5 ـ عبدالملك بن مروان 65 ـ 86
6 ـ الوليد بن عبدالملك 86 ـ 96
7 ـ سليمان بن عبدالملك 96 ـ 99
8 ـ عمر بن عبدالملك 99 ـ 101
9 ـ يزيد بن عبدالملك 101 ـ 105
10 ـ هشام بن عبدالملك 105 ـ 125
11 ـ الوليد بن يزيد 125 ـ 126
12 ـ يزيد بن الوليد شهرين وعشرة أيام من عام 126
13 ـ ابراهيم بن الوليد سبعين يوما من عام 126
14 ـ مروان بن محمد المعروف بمروان الحمار 126 ـ 132
2. البداية والنهاية 8/24.
3 ـ نجدة بن عويم الحنفي أحد زعماء الخوارج الذي ثار ضد معاوية واستولى على اليمامة والطائف وعمان والبحرين ووادي تميم وعامر.
4 ـ قيام مستورد بن سعد الصميمي على المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة، فبعث له المغيرة بمعقل بن قيس وقد قتلا معاً.(1)
5 ـ قيام حوثرة الأسدي ضد معاوية فجهز له معاوية جيشاً من الكوفة فخاطبهم حوثرة: يا أعداءاللّه لقد قاتلتم بالام من أجل القضاء على حكومة معاوية واليوم من أجل تثبيت دعائهما، وقد قتل حوثرة في هذه المعركة وتفرق أصحابه.
6 ـ قيام قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي وهما من مجتهدي البصرة ضد زياد.(2)
7 ـ قيام نافع بن الازرق الحنفي ونجدة بن عامر وهما من الخوارج وهجومهما على البصرة، وقد قتل في هذه المعركة أمير البصرة ابن عبيس ونافع، وتعرف هذه المعركة بمعركة دولاب وهى من المعارك المشهورة للخوارج.
8 ـ عبيد اللّه بن بشير بن ماحوز اليربوعي الذي تزعم الخوارج بعد قتل نافع وواصل القتال.
9 ـ قيام الزبير بن علي السليطي بعد أن نزل البصرة والتحق به أهالي البصرة والاهواز.
10 ـ قيام قطري بن الفجائة المازني ضد معاوية بعد قتل الزبير بن علي. حيث أراد الخوارج أن يتزعمهم عبيدة بن هلال إلاّ أنّه قال أن قطري بن الفجائة خير منّي فبايعوه.(3)
11 ـ عبد ربه الصغير الذي بويع على عهد قطري والذي قتل في معركته ضد المهلب.(4)
12 ـ قيام شبيب بن يزيد الشيباني في الموصل والجزيرة فقاتله الحجاج(5)، وقد تمكن من قتل عدد كثير من جيش الحجاج.
1 ـ قيام حجر بن عدي على المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة، حيث خطب
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/132 ـ 134.
2. المصدر السابق/135.
3. المصدر السابق/144.
4. المصدر السابق/167.
5. البداية والنهاية 9/17.
الناس فذم علي(عليه السلام) ومدح معاوية، فقام إليه حجر، ثم قتلوه في مرج عذراء بعد أن منحوه الأمان.(1)
2 ـ قيام الإمام الحسين(عليه السلام) ضد يزيد واستشهاده في محرم الحرام عام 61 هـ ق.(2)
3 ـ قيام عبداللّه بن الزبير في مكة فخلع يزيد ودعى الناس لبيعته، ثم أخرج والي يزيد من مكة.(3)
4 ـ قيام أهل المدينة بزعامة عبداللّه بن حنظلة والذي يعرف بواقعة الحرة، فورد جيش يزيد بزعامة مسلم بن عقبة المدينة فقتل أهلها.(4)
5 ـ قيام التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي عام 65 في عين الوردة تحت شعار يالثارات الحسين.(5)
6 ـ قيام المختار بن أبي عبيدة الثقفي بعد سليمان بن صرد الخزاعي، حيث وجه ابراهيم بن مالك بن الحارث لقتال عبيداللّه بن زياد، فتمكن ابراهيم من قتله، ثم اقتص المختار من قتلة الإمام الحسين(عليه السلام).(6)
7 ـ قيام مصعب بن الزبير ضد عبيداللّه بن زياد، إلاّ أنّه هزم بعد أن غدر به جمع من أهل العراق.(7)
8 ـ قيام عبدالرحمن بن محمدالاشعث في سيستان، حيث كان والي الحجاج عليها، إلاّ أنّ الحجاج غضب عليه وهدده، فخلع الحجاج وقاتله في الاَهواز عام 83 هـ ق.(8)
9 ـ قيام آل المهلب على يزيد بن عبدالملك عام 102 حيث بايع يزيد بن المهلب مائة وعشرين الف، فبعث يزيد بن عبدالملك بأخيه مسلمة بن عبدالملك فنشبت بينهما معركة
1. البداية والنهاية 8/54.
2. تاريخ اليعقوبي 2/245.
3. تاريخ اليعقوبي 2/247.
4. تتمة المنتهى /58.
5. البداية والنهاية 8/276.
6. تاريخ اليعقوبي 2/259.
7. البداية والنهاية 2/259.
8. تاريخ اليعقوبي 2/277.
ضارية هزم في بدايتها أهل الشام.(1)
10 ـ قيام سليمان بن كثير الخزاعي وصحبه عام 111 في خراسان وقد دعوا الناس لبيعة بني هاشم فاستجاب لهم الكثير.(2)
11 ـ قيام زيد بن علي بن الحسين(عليه السلام) على هشام بن عبدالملك، هيث استشهد أوائل شهر صفر عام 121، وقد بايعه بادئ الأمر جمع من قراء أهل العراق والاشراف، إلاّ أنّهم انفرجوا عنه حين قاتل عامل العراق يوسف بن عمر الثقفي ثم استشهد زيد، فاستخرجوا جسده بعد الدفن وحزوا رأسه ثم حرقوا جسده.(3)
12 ـ قيام يحيى بن زيد ضد نصر بن سيار فهزم جيشه وقتل قائده، ثم استشهد مع سائر أصحابه.(4)
13 ـ قيام الضحاك بن قيس الحروري ضد عبداللّه بن عمر بن عبدالعزيز حيث استولى على واسط والموصل ونصيبين وحران، وفي عام 127 قتل الضحاك وتفرق أصحابه.(5)
14 ـ قيام أبوحمزة المختار بن عوف الحروي الأزدي واستيلائه على المدينة، ثم انطلق للشام، فاشتبك مع مروان الحمار ثم عاد إلى المدينة.(6)
15 ـ قيام ابراهيم بن محمد الإمام وابومسلم الخراساني عام 129.(7)
—–
1. البداية والنهاية 9/246.
2. تاريخ اليعقوبي 2/319.
3. تتمة المنتهى /124 ـ 127.
4. البداية والنهاية 10/7.
5. تاريخ اليعقوبي 2/338.
6. تاريخ اليعقوبي 2/339.
7. البداية والنهاية 10/32.
ومن خطبة له (عليه السلام)
وفيها بيان للأسباب التي تهلك الناس
تتالف هذه الخطبة من قسمين; القسم الأول في أنّ العذاب الإلهي لايأتي بغتة، بل إنّ اللّه ليمهل الجبابرة والظلمة والأقوام الطاغية والمفسدة، وإنّه لايعجل في المؤاخذة، علهم يعودون إلى أنفسهم وينيبون إلى اللّه. بعبارة اُخرى فان العذاب الإلهي لايحمل طابع الانتقام، بل يهدف إلى الاعتبار والتربية، إلاّ أنّ المؤسف هو كثرة العبر وقلّة الاعتبار فلا من أذن تسمع ولا من عين تبصر الحق ولا قلوب تنزع إلى الهدى. أمّا القسم الثاني فيشير إلى الأقوام المنحرفة التي تلجأ إلى أفكارها الناقصة وآرائها الباطلة لحل خلافاتها الدينية بدلاً من الرجوع إلى الوحي والسنة النبوية المطهرة، فتكتفي بظنها; الأمر الذي يقودها إلى الهلاك.
1. سند الخطبة: نقل هذه الخطبة بفارق قليل المرحوم الكليني في كتاب روضة الكافي والشيخ المفيد في الإرشاد، كما نقلها ابن كثير في كتاب النهاية في 1/46 عن كتاب اللغة مادة «أزل».
«أَمّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ ]يفصم[ جَبّارِي دَهْر قَطُّ إِلاَّ بَعْدَ تَمْهِيل رَخَاء، ولَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَد مِنَ الاُْمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْل وبَلاء; وفِي دُونِ ما اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْب وما اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْب مُعْتَبَرٌ وما كُلُّ ذِي قَلْب بِلَبِيب، ولا كُلُّ ذِي سَمْع بِسَمِيع، ولا كُلُّ ناظِر بِبَصِير».
—–
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا القسم من الخطبة إلى أمرين مهمين: الأول أنّ اللّه يمهل الطواغيت والجبابرة بغية اليقظة والعدوة. الثاني لانصر دون صعوبات ومعضلات، فقد قال(عليه السلام): «أمّا بعدفإنّ اللّه لم يقصم(1) جبّاري دهر قطّ إلاّ بعد تمهيل رخاء» نعم فاللّه حكيم وحليم وغفور ورحيم، واستناداً لهذه الصفات الحسنى فانّه لايعجل بالعقوبة، بل يمهل الاثمين والمذنبين علهم يرغبون ويفيدون على اهداء وصواب ويكفون أنّ الذنوب يرعون والمعاصي، بل أحياناً يشجعهم فيغرقهم بوابل نعمه وآلائه، كما مر علينا ذلك في تأريخ نبي اللّه نوح وموسى(عليه السلام)وكذلك فرعون وقوم بني اسرائيل وقوم سبأ. ثم قال(عليه السلام): «و لم يجبر(2) عظم أحد من الأمم إلاّ بعد أزل(3) وبلاء» لييقدروا النعم فيجدوا في عدم نفارها وا لحفاظ عليها. ثم قال(عليه السلام): «و في
1. «يقصم» من مادة «قصم» على وزن غضب تعني في الأصل الكسر بشدة وتستعمل كناية بمعنى الهلاك.
2. «يجبر» من مادة «جبر» تعني في الأصل إصلاح الشئ، وجبر العظم طيبه بعد الكسر حتى يعود صحيحاً، كما تطلق على كل قهر وغلبة ولما كان القهر والغلبة ممزوج بالظلم عادة فقد يستعمل الجبار بمعنى الظالم، وأحد أسماء اللّه الحسنى جابر العظم الكسير.
3. «الأزل» بفتح الهمزة وسكون الزاي الضيق والشدة ومادتها الأصلية أزل على وزن فضل بمعنى الحبس.
دون ما استقبلتم من عتب(1) وما استدبرتم من خطب معتبرٌ». وكأنّ الإمام(عليه السلام) أراد أنّ يطيب خواطر صحبه ويرد على تساؤل قد تقتدح في أذهانهم بشأن إنتصارات بني أمية وانزعاجهم من ذلك، في عدم الاستعجال، فلن يدوم ظلم هؤلاء الظلمة، وهنالك وقت معلوم للمهلة الإلهية فاذا جاءت حلّ عليهم العذاب. ولا تمتعظوا ممّا يحل بكم من خطوب، فتلك سنة إلهية في البلاء والاختبار وتحمل الشدائد ومن ثم الفرج واليسر، حتى في عهد انبثاق الدعوة اللاسلامية وفى الحروب والمعارك فلم يكتب اللّه للمسلمين النصر في موقعة الأحزاب حتى زلزلوا زلزالاً شديداً; الأمر الذي صوره القرآن بالقول: (وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَـناجِرَ... هُنالِكَ ابْتُلِىَ المُـؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)(2). أمّا قوم بني إسرائيل فقد خاطبوا نبيّهم موسى(عليه السلام)حين إشتد عليهم الاذى «أو ذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا» فردّ عليهم موسى(عليه السلام)بالقول: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِك عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(3).
ونخلص ممّا سبق ان هذه السنة الإلهية جارية على الاُمّة الإسلامية كما جرت على الاُمم من قبلها، ولم يستثن من ذلك أصحاب الإمام(عليه السلام). نعم كل هذه الاُمور دروس وعبر، إلاّ أنّها تنفع من كانت له عين باصرة وأذن سامعة وقلب واع!
![]() |
![]() |