نفحات الولاية: شرح عصرى جامع لنهج البلاغة- المجلد الرابع

آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

 

نفحات الولاية

فى شرح نهج البلاغة

شرح واف باسلوب جديد

 

 

المجلد الرابع

 

 

[ 4 ]

 

 

 

بمساعدة مجموعة من الفضلاء

 

1 ـ محمد جعفر الامامي

2 ـ محمد رضا الاشتياني

3 ـ محمد جواد أرسطا

4 ـ إبراهيم البهادري

5 ـ سعيد داودي

6 ـ أحمد القدسي

 

[ 5 ]

 

 

الخطبة(1) 91

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

تعرف بخطبة الأشباح وهى من جلائل خطبه(عليه السلام)

 

روي عن مسعدة بن صدقة عن الصادق، جعفر بن محمد(عليه السلام) أنّه قال: خطب أميرالمؤمنين(عليه السلام)بهذه الخطبة على منبر الكوفة، وذلك أنّ رجلاً أتاه فقال له: يا أميرالمؤمنين صف لنا ربّنا مثلما نراه عياناً لنزداد له حبّاً وبه معرفة، فغضب ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، فحمداللّه وأثنى عليه وصلى على النبي(صلى الله عليه وآله) ثم قال...

 

نظرة إلى الخطبة

هذه من الخطب القيمة التي تفيض رقة وفصاحة وبلاغة وعذوبة، وهى شهادة اُخرى على


1. سند الخطبة: قد كفانا الرضى (ره) مؤنة البحث عن مصادر هذه الخطبة إذ ذكر أنّه نقلها عن مسعدة بن صدقة العبدى عن أبي عبداللّه(عليه السلام) ومسعدة هذا له كتب منها كتاب (خطب اميرالمؤمنين(عليه السلام)) كما ذكرنا ذلك في أوائل هذا الكتاب تحت عنوان الكتب المؤلفة في كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) وقلنا هناك إنّ كتاب مسعدة هذا كان باقياً إلى زمن السيد هاشم البحراني (ره) إذ نقل عنه كثيراً في تفسيره المعروف بالبرهان كما نوه به في مقدمة الكتاب المذكور ثم صار في ضمائر الغيوب. وعلى كل حال ان الخطبة الاشباح هذه من خطب أمير المؤمنين المشهورة رواها العلماء قبل الرضى أيضاً أحمد بن عبد ربّه المالكي في العقد الفريد والشيخ الصدوق في التوحيد باختلاف في بعض الألفاظ والفقرات مع رواية الرضي. ورواها الزمخشري في ربيع الأبرار وإبن الأثير في النهاية. و الخطبة شاهدة لنفسها لا تحتاج مع لفظها الباهر، ومعناها الظاهر، إلى اسناد متواتر كما قال السيد ابن طاووس (حيث من المستبعد إن تصدر مثل هذه المضامين من غير المعصوم) (مصادر نهج البلاغة 2/168).

[ 6 ]

عظمة أمير المؤمنين على(عليه السلام)وإرتباطه بالعالم القدسى وانفتاحه على خزائن العلم الإلهي.

قال ابن أبي الحديد في تعليقه على هذه الخطبة: «إذا جاء هذا الكلام الربانىّ، واللفظ القدسي، بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه، نسبة التراب إلى النضار الخالص; ولو فرضنا أنّ العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة، أو المقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي عبرت هذه الألفاظ عنها؟ ومن أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) هذه المعانى الغامضة السمائية; ليتهيأ لها التعبير عنها أمّا الجاهلية فانّهم إنّما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش، أو ثورة فلاة، أو صفة جبال أو فلوات; ونحو ذلك. وأمّا الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنّما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إمّا في موعظة تتضمن ذكر الموت أو ذم الدنيا، أو ما يتعلق بحرب وقتال; من ترغيب أو ترهيب...».

ثم أضاف ابن أبي الحديد بعد أن أشاد بالخطبة قائلاً: «وأقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمله اللبيب اقشعر جلده، ورجف قلبه، واستشعر عظمة اللّه العظيم في روعه وخلده، وهام نحوه وغلب الوجد عليه وكاد أن يخرج من مسكه شوقاً; وأن يفارق هيكله صبابة ووجداً»(1).

على كل حال فانّ هذه الخطبة تشتمل على عدّة أقسام، يكمل كل واحد منها الآخر. وهى على عشرة أقسام:

القسم الأول: في جانب من صفات اللّه سبحانه وتعالى من أجل إعداد الأفكار لتقبل ما يرد عليها من حقائق.

القسم الثاني: يتضمن إجابة عن سؤال السائل عن صفات اللّه و يجعل القرآن ميزانا في دائرة أسماء الله و صفاته، و يوصيه بالتمسك بآياته سيّما في هذا البحث.

القسم الثالث: الإشارة إلى عجز الإنسان عن الاحاطة العلمية بكنه الذات و الصفات


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/425.

[ 7 ]

الإلهية المقدسة وما تنطوى عليه من صفات.

القسم الرابع: بحث القدرة الإلهية في تدبير عالم الخلقة ـ الذي يمثل المرآة التي تعكس صفاته سبحانه ـ .

القسم الخامس: الحديث عن خلق السموات العلى والتي تمثل جانباً من عظمة البارئ سبحانه.

القسم السادس: الحديث عن خلق الملائكة وصفاتهم وخصائصهم.

القسم السابع: لفت انتباه الناس إلى العالم العلوى; إلى جانب الحديث عن خلق الأرض.

القسم الثامن: خلق آدم(عليه السلام) وبعث الأنبياء وارسال الرسل.

القسم التاسع: يتحدث عن علم اللّه سبحانه بالغيب واحاطته بكافة أسرار وجود الإنسان وخفاياه و ما يضمره من أعمال و أفكار ونيات.

والقسم العاشر: والأخير حيث يختتم الإمام(عليه السلام) خطبتة العميقة المضامين بأدعيه روحية عظيمة، لتشكل الخطبة بكافة أقسامها لوحة روحية سامية تلطف روح الإنسان وتأخذ بيده إلى السير نحو اللّه واصلاح فكره وأعماله(1).

وأمّا سبب تسمية هذه الخطبة بالاشباح فهناك اختلاف بين الشرّاح بهذا الخصوص. فقد ذهب البعض إلى أنّ «الاشباح» كناية عن الملائكة، حيث تضمنت الخطبة جانباً مهما في الحديث عنها ومن هنا سميت هذه الخطبة بالأشباح.

كما رأى البعض الآخر أنّ مفردة الأشباح ذكرت في الخطبة، وحيث اعتاد السيد الرضي(ره) على اختيار قطوف من الخطبة، فقد اسقط تلك العبارة والتي احتمل البعض أنّها وردت بهذا الشكل في الخطبة «وكيف يوصف بالأشباح وينعت بالألسن الفصاح». وهى العبارة التي أوردها المرحوم الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد ضمن خطبة قسما من خطبة الاشباح(2).

الاحتمال الآخر في سبب هذه التسمية هو أنّ الخطبة طويلة، وأحد معاني الشبح هو الطول


1. لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ الخطبه تقسم بشكل عام إلى عشرة أقسام، حيث تقسم هذه الأقسام بدورها إلى عدّة أقسام اُخرى. ولذالك عمدنا في النهاية إلى شرحها على أساس جعلها أربعة وعشرين قسماً.

2. توحيد الصدوق /79 ح 34.

[ 8 ]

والامتداد. حيث أورد ابن فارس في مقاييس اللغة في تفسير «الشبح» قائلاً: «أصل صحيح يدل على إمتداد الشي في عرض، من ذلك الشبح» وهو الشخص سمى بذلك، لأنّه فيه إمتداد أو عرضاً(1).

وهنا يبرز هذا السؤال: ورد في مقدمة الخطبة أنّ رجلاً سأل أميرالمؤمنين(عليه السلام) صف لنا ربّنا مثلما نراه عياناً لنزداد له حبّاً وبه معرفة. فغضب ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر وخطب بهذه الخطبة. والسؤال مم كان غضب الإمام(عليه السلام)؟

يبدو أنّ هناك بعض النقاط التي ينبغي الالتفات إليها لتتضح الإجابة على هذا السؤال ومنها: صيغة السؤال تفيد أنّ السائل كان يتوقع للّه صفات على غرار صفات مخلوقاتة، حيث عبر عن ذلك بالرؤية «مثلما نراه عيانا»; الأمر الذي يكشف عن عقيدة المجسمة الذين كانوا يرون اللّه جسماً.

أمّا النقطة الثانية فلعل غضبة(عليه السلام) كان لهذا السبب وهو: لم لايزال بعض المسلمين لا يملكون الرؤية الواضحة عن صفات اللّه سبحانه رغم تقادم الزمان على انبثاق الدعوة الإسلامية وسعة المعارف والعلوم والخزين الديني.

أو تأسفاً على تلك الحادثة التي أقصت الإمام(عليه السلام) عن الساحة وجعلته رهين الدار مدة خمس وعشرين سنة ليحول دونه ودون تعليم أبناء الاُمّة الإسلامية وتعريفهم بالمفاهيم الإسلامية الحقة والمعارف الدينية.

—–


1. ابن فارس، مقاييس اللغة.

[ 9 ]

 

 

القسم الأول

 

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ وَلا يُكْدِيهِ الاِْعْطاءُ وَالْجُودُ إِذْ كُلُّ مُعْط مُنْتَقِصٌ سِواهُ وَكُلُّ مانِع مَذْمُومٌ ما خَلاهُ وَهُوَ الْمَنّانُ بِفَوائِدِ النِّعَمِ وَعَوائِدِ الْمَزِيدِ وَالْقِسَمِ عِيالُهُ الْخَلائِقُ ضَمِنَ أَرْزاقَهُمْ وَقَدَّرَ أَقْواتَهُمْ وَنَهَجَ سَبِيلَ الرّاغِبِينَ إِلَيْهِ وَالطّالِبِينَ ما لَدَيْهِ وَلَيْسَ بِما سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِما لَمْ يُسْأَلْ الاَْوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَالاْخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ وَالرّادِعُ أَناسِيَّ الاَْبْصارِ عَنْ أَنْ تَنالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ ما اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحالُ وَلا كانَ فِي مَكان فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الاِنْتِقالُ وَلَوْ وَهَبَ ما تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعادِنُ الْجِبالِ وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدافُ الْبِحارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيانِ وَنُثارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ الْمَرْجانِ ما أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ وَلا أَنْفَدَ سَعَةَ ما عِنْدَهُ وَلَكانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخائِرِ الاَْنْعامِ ما لا تُنْفِدُهُ مَطالِبُ الاَْنامِ لاَِنَّهُ الْجَوادُ الَّذِي لا يَغِيضُهُ سُؤالُ السّائِلِينَ وَلا يُبْخِلُهُ إِلْحاحُ الْمُلِحِّينَ».

—–

 

الشرح والتفسير

جوده لا ينضب

أنّ الدافع إيراد من هذه الخطبة كما وردفي مقدمتها هو أنّ شخصاً سأل الإمام(عليه السلام) قائلاً: صف لنا ربّنا مثلما نراه عياناً; الكلام الذي تشم منه رائحة القول بالتجسم على اللّه، أو على الأقل الاشتمال على صفات الممكنات. فغضب الإمام(عليه السلام) غضباً شديدا و تغير وجهه وأورد هذه الكلمات من أجل تهذيب هذه العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة وهدايتها إلى الصراط المستقيم من خلال استعراض صفاته الحقه سبحانه ولذالك فقد استهل(عليه السلام) الخطبة بأدق

[ 10 ]

صفاته سبحانه التي تشير إلى مباينتها لصفات كافة مخلوقاته.فقد قال(عليه السلام) بادئ ذى بدء: «الحمداللّه الذي لا يفره(1)المنع والجمود، ولا يكديه(2)الاعطاء والجود».ثم خاض(عليه السلام)في الدليل على ذلك قائلاً: «إذ كل معط منتقص سواه، وكل مانع مذموم ما خلاه». نعلم جميعاً أنّ أحد الأركان الأصلية لمعرفة صفات اللّه سبحانه وتعالى يكمن في الاعتقاد بأنّه وجود مطلق من جميع الجهات وليست هناك من حدود لذاته المقدسة وصفاته. فمن الطبيعي أنّ اللامحدود يبقى كذلك مهما أخذ منه; أي ليس للنقصان والقلة من سبيل إليه. وعلى هذا الضوء فلو وهب كل إنسان عالماً من المادة، لما نفدت خزائن نعمه. ولهذا أيضاً إذا منع أحد شيئاً فلا يذم عليه. لتعذر تصور البخل على الذات المطلقة. فليس هنالك من سبيل سوى إسناد المنع إلى الحكمة والمصلحة. بعبارة اُخرى فانّ عطائه ومنعه يتوقف على الاستعداد والاستحقاق والأهلية، وعليه ينقطع كل كلام ويخرس كل لسان عن الخوض في هذا الموضوع. جاء في الحديث القدسى: «يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك ممّا عندى شيئاً إلاّ كما ينقص المخيط إذا دخل البحر»(3)، فمن الطبيعي أن لا يعلق شي من الماء بالاُبرة إذا ما القيت فيه سوى بمقدار الرطوبة العالقة بها. وهذا أروع مثال لأدنى نقص يطيل أعظم مصدر ومنبع للماء. فالمثال صورة واضحة لعدم تناهى الخزائن الإلهية التي لا تزيدها كثرة العطاء إلاّ زيادة. كما ورد في حديث قدسي آخر: «إن من عبادي من لا يصلحه إلاّ الفاقة، ولو أغنيته لأفسده ذلك»(4)، ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه عن سائر صفاته سبحانه ذات الصلة بجوده وكرمه وعطائه فقال: «وهو المنان بفوائد النعم، وعوائد المزيد والقسم» فالالتفات إلى النعم الإلهية على أساس أنّ وجدان الإنسان يوجب عليه شكر هذه النعم ويشده إلى الحق سبحانه، نرى الإمام(عليه السلام)يطرق بادىء الأمر هذا المعنى ليعد القلوب لما سيرد عليها من حقائق. والتعبير «منان» من مادة من بمعنى كثير العطاء. أمّا فوائد النعم فتنطوى على مفهوم واسع يشمل كافة النعم المادية


1. «يفره» من مادة «وفور» بمعنى الكثرة والزيادة.

2. «يكديه» من مادة «كدى» على وزن كسب بمعنى البخل، وهى هنا بمعنى يفقره وينفد خزائنه.

3. منهاج البراعة 6/288.

4. بحار الانوار 68/140 ح 31.

[ 11 ]

والمعنوية. وأمّا الفارق بين هذه العبارة وقوله: «عوائد المزيد والقسم» فقد وردت بشأنه عدّة احتمالات: الأول: أنّ العبارة الاولى إشارة إلى ضروريات الحياة، والثانية إلى الرفاه والدعة وما يدعو إلى الاستقرار واللذة والراحة; أى كماليات الحياة. والاحتمال الثاني: أن يكون المراد بالعبارة الاولى النعم الفردية، والعبارة الثانية: «بالنظر إلى مفردة القسم من مادة قسمة»المنافع والنعم الاجتماعية. والاحتمال الثالث: أن يكون المقصود بفوائد النعم الأرزاق التي تشمل الإنسان من قبيل الماء والهواء ونور الشمس وضياء القمر وبالتالى مايصله من رزق دون سعى وجهد، والعبارة: «عوائد المزيد والقسم» ناظرة إلى الارزاق التي يحصل عليها الإنسان بفعل جده واجتهاده وسعيه ونشاطه وإدارته الصحيحة لشؤون حياته. ثم واصل الإمام(عليه السلام)كلامه بهذا الخصوص فقال: «عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدر أقواتهم» فالتعبير بعيال تشير من جانب إلى محبّة اللّه ولطفه بعباده، كما أنّها مقدمة لبيان ضمان أرزاقهم من جانب آخر، وذلك لأنّ كل فرد يشعر بعظم مسؤوليته إزاء عياله وأهل بيته. فلا يمكن على اللّه أنّ يخلق عبداً دون أن يتكفل برزقه. وأمّا ما نراه من جوع في عالمنا المعاصر و فيما مضى قدأدى بحياة الناس، فذلك ممّا تفرزه طبيعة الحرص والظلم التي انطوت عليها سيرة الطغاة والظلمة والاستغلال الذي يمارسونه بحق الضعفاء والفقراء ونهب أموالهم وخيراتهم. كما لا ينبغي أن ننسى خنوع البعض وعدم السعي الجاد في هذه الحياة والافتقار إلى الإدارة الصحيحة. وإلاّ فانّ السفرة الإلهية على درجة من السعة والشمول بحيث تلبي احتياجات كافة العباد إلى يوم القيمة. ثم خاض(عليه السلام)في النعم المعنوية ليكشف اللثام عن فتح باب الميسرة إلى اللّه والفوز بقربه وجواره فقال(عليه السلام): «ونهج سبيل الراغبين إليه، والطالبين ما لديه». وهكذا أبان(عليه السلام) توفر كافة أسباب سعادة الناس على الصعيد المادي والمعنوي ليهديهم إلى الطريق دون أن يكون هناك من اجبار لنهج هذا السبيل أو ترك ذاك، فللإنسان بمحض إرادته أن يستثمر هذه النعم ويوظفها في الاتجاه الصحيح. ثم اختتم كلامه بشأن هذه النعم حيث تعرض إلى صفة أخرى من صفاته قائلاً: «وليس بما سئل باجود منه بما لم يسأل». فالعبارة تختزن إشارة لطيفة إلى حقيقة وهى أنّ جوده وكرمه على أساس الاستحقاق والاستعداد لا على ضوء الطلب والسؤال، وإن كان الدعاء أحد أسباب نزول النعم الإلهية

[ 12 ]

فذلك لأنّ الداعي إذا أعد في نفسه شرائط الدعاء إنّما يكون قد وسع دائرة استحقاقه واستعداده; فالدعاء الصحيح يسوق الإنسان إلى التوبة والإنابة وإصلاح الذات وذكر اللّه، وكل من هذه المعانى يسهم بقدر في اتساع حجم الاستحقاق.

قال ابن أبي الحديد في تفسيره للعبارة: «وليس بما سئل بأجود...» فيه معنى لطيف، وذلك لأنّ هذاالمعنى ممّا يختص بالبشر: «لأنهم يتحركون بالسؤال وتهزهم الطلبات، فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألهم إياه. وأمّا البارئ سبحانه فانّ جوده ليس على هذا المنهاج، لأنّ جوده عام في جميع الأحوال»(1).

أضف إلى ذلك فانّ الناس وإثر نقصهم وحاجتهم إنّما يشحون في العطاء بما هم إليه أحوج من سائر الأشياء التي لا حاجة لهم فيها; الأمر الذي ليس به من سبيل إلى الذات الإلهية المطلقة المنزهة عن كل نقص وحاجة. ثم انتقل الإمام(عليه السلام) إلى بيان أربع صفات من صفات الذات فقال: «الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شي قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شي بعده». فالمفروغ منه هو أنّ الأساس في معرفة ذات وصفات اللّه يكمن في كونه مطلقاً سبحانه لايعرف القيود والحدود واللامتناهي، و هو الكمال المطلق والوجود الدائم من جميع الجهات، فهو كائن ويكون إلى أبد الأبدين.

فالأول في عالم الممكنات يقال للشيء بالنسبة لمايليه، وفي نفس الوقت لما سبقه بعض الأشياء لأنّ البداية والنهاية في الممكنات أمر نسبي; وتنفرد الذات الإلهية المطلقة بعدم وجود شي قبلها ولا بعدها. ومن البديهي على هذا الاساس أنّ أوليته وآخريته لا تعني الأول الزماني ولا الآخر الزماني و ذلك لأن الزمان يأتي من حركة الموجودات حيث أن الزمان يمثل مقدار الحركة; فلا يطلق عليه البعدية والقبلية كما يطلق على الزمانيات; وإنّما لم يكن وجوده زمانياً لأنّه لا يقبل الحركة، والزمان من لواحق الحركة، وإنّما لم تطلق عليه البعدية والقبلية إذا لم يكن زمانياً; والحركة إمّا نحو الكمال أو النقصان. ونعلم أنّه كمال مطلق لا يشوبه أي نقص. ثم قال(عليه السلام) في الصفة الثالثة: «والرادع أناسى(2) الأبصار عن أن تناله أو تدركه» فلا العين


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/400.

2. «اناسى» جمع «إنسان» و يطلق على أفراد بني الإنسان كما يطلق هذا اللفظ على بؤبؤ العين، لانعكاس صورة الأفراد فيها.

[ 13 ]

الظاهرة تراه لأنه ليس بجسم فلا مكان له ولا جهة، ولا العين الباطنه يسعها مشاهدة كنه ذاته. فالمحدود يعجز عن رؤية اللامحدود. فالتعبير بالرادع لا يعني إنّ اللّه تعالى خلق في الأبصار مانعاً عن إدراكه، بل كناية عن ذاته أعظم واسمى من أن ترى بالعين الظاهرة أو الباطنة. فقد قال القرآن الكريم بهذا الشأن: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ)(1) ولما سأل بنو  إسرائيل موسى(عليه السلام) رؤية اللّه، جاء الخطاب: (انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّـهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَـرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَك َ تُبْتُ إِلَيْك َ وَأَنَا أَ وَّلُ الْمُؤْمِنِـينَ)(2)، ثم قال(عليه السلام) في الصفة الرابعة والخامسة المكملة للصفات السابقة: «ما اختلف عليه الدهر فيختلف منه الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال» فالواقع هو أنّ هاتين الصفتين إنّما تشيران إلى نفي الزمان والمكان وعوارضهما عن الذات الإلهية المقدسة; الذات المطلقة التي تأبى الحركة، ومن هنا لم تخضع لسيطرة الزمان، ولذلك أيضاً لم يكن للحالات المختلفة والحركة نحو الكمال أو النقصان من سبيل إلى هذه الذات. فاللّه ليس بجسم ليحتاج إلى مكان. ليس بمحدود ليضمه موضع معين، ومن هنا انعدم تصور المكان عليه سبحانه. ثم عاد الإمام(عليه السلام) ثانية إلى وصف جوده وعطائه سبحانه ليحدث عن سعة نعمه استثاره لحس الشكر والحمد لدى العباد والأمل بهذه الذات إلى جانب الإرشاد للمعرفة بصفات الجلال والجمال فقال(عليه السلام): «ولو وهب ماتنفست عنه معادن الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، من فلز اللجين(3) والعقيان(4) ونثارة(5) الدر، وحصيد المرجان، ما أثر ذلك في جوده، ولا انفد سعة ما عنده، ولكان عنده من ذخائر الانعام، مالا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الذي لا يغيضه(6) سؤال السائلين، ولا يبخله الحاح الملحين».


1. سورة الانعام/103.

2. اقتباس من سورة البقرة/255; سورة الاعراف/142.

3. «لجين» على وزن حسين بمعنى الفضة.

4. «عقيان» الذهب الخالص.

5. «نثارة» من مادة «نثر» على وزن نصر التناثر والتشتت، حيث تتشقق أغلفة الأصداف فتتناثر منها حبيبات الدر هنا وهناك.

6. «يغيض» من مادة «غيض» على وزن فيض النقصان وذهاب الماء في الأرض ووردت في العبارة بمعنى عدم نقصان منابع الفيض الإلهي بالعطاء.

[ 14 ]

حقاً ليس هناك من تعبير أروع وأبلغ من هذا التعبير لوصف جوده وكرمه سبحانه وسعة رحمته وشمول آلائه. فلو صبت الدنيا بما فيها من كنوز ومعادن مستترة في بطون الأرض وأوديتها وجبالها على شخص، لما كان لها تأثير قطرة في بحر بالنسبة لعظم خزائنه وسعة بحر جوده وكرمه. كيف لا وقوله «كن» الذي يتبدل إلى «فيكون» يخلق ما لا نهاية من هذه الخزائن في عالم الوجود ومن هنا أيضاً فانّ الحاح الملحين وكثرة طلبات السائلين لاتدعوه ال القبض والبخل أو الغضب والغيظ، فانما يغضب من كانت مصادر جوده محدودة ينقصها السؤال والعطاء فتشرف على الانتهاء وعليه فاذا كانت لدينا من حاجة لابدّ من طرحها على الكريم فهو الكريم والجواد الرحيم في عطائه وكرمه، والتعبير بالتنفس عن معادن الجبال إشارة لطيفة إلى طرحهاالمعادن من جوفها بفعل تصدعها والزلازل و التعرية التي تصيبها مع مرور الزمان و أما تعبير «ضحك» فهى إشارة إلى الشقوق التي تحدث في فوهات الصدف ليستخرج منها اللؤلؤ. وهى على غرار الأسنان الناصعة التي تبدو كحيات اللؤلؤ حين يضحك الإنسان ذا الجمال. فاذا ما ضحكت هذه الاصداف بانشقاقها ظهرت حبات لؤلؤها وقذفتها خارجاً.

 

تأمّل : شمول النعم الإلهية

اشتمل هذا القسم من الخطبة على عدّة اُمور مهمّة بشأن سعة نعمه سبحانه وافاضتها على العبيد من معادن الفيض الازلى الجياش; ليثير الإمام(عليه السلام) بذلك أحاسيس السامعين ويوقظ ضمائرهم، فيستشعروا ضرورة الشكر بحكم بداهة العقل، وهذا ما يقودهم بالتالى إلى الانفتاح على معرفة اللّه سبحانه والالمام بصفاته. فقد أشار في موضع آخر إلى سؤاله عن كل ماتريد ودون سؤال غيره وذلك أنّ كثرة الجود والعطاء ليس لها أن تنقص خزائن كرمه ولو مثقال ذرة، بل أنّها لتربو على الجود والعطاء. وصرح في موضع آخر بأنّه على درجة من الجود والكرم بحيث لايحتاج إلى السؤال كما هى طبيعة الممكنات، فحيثما كان الاستحقاق والاستعداد كان الفيض والعطاء. ولعلنا نلمس هذا المعنى في بعض الأدعية الرجبية: «يا من

[ 15 ]

يعطى من سأله، يا من يعطى من لم يسأله ومن لم يعرفه تحننا منه ورحمة»(1)، وقد عبر الإمام(عليه السلام) عن ذلك بقوله: «وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل»، وأخيراً ما أروع عبارته(عليه السلام) التي تعرضت لسعة جوده وكرمه وعدم تأثرها من قريب أو بعيد بكثرة السؤال: «ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف البحار، من فلز اللجين والعقيان ونثارة الدر وحصيد المرجان، ما أثر ذلك في جوده، و لا أنفذ سعة ما عنده ما لا تنفذه مطالب الأنام». والحال ليس الإنسان كذلك مهما كان جوده وكرمه وعطائه، فمثل هذه الاُمور تؤثر مباشرة عليه، وليس ذلك إلاّ لأنّ كافة إمكاناته ومصادره محدودة، ينقصها العطاء. بينما تتصف نعمه سبحانه بالدوام وعدم التناهى والانقطاع فهى كذاته سبحانه مطلقة لاتعرف من معنى للحدود والقيود.

—–


1. مفاتيح الجنان، أعمال شهر رجب.

[ 16 ]

[ 17 ]

 

 

القسم الثاني

 

«فانْظُرْ أَيُّها السّائِلُ فَما دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِىْ بِنُورِ هِدايَتِهِ وَما كَلَّفَكَ الشَّيْطانُ عِلْمَهُ مِمّا لَيْسَ فِي الْكِتابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ وَلا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ(صلى الله عليه وآله) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللّهِ سُبْحانَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللّهِ عَلَيْكَ وَاعْلَمْ أَنَّ الرّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْناهُمْ عَنِ اقْتِحامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ الاِْقْرارُ بِجُمْلَةِ ما جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ فَمَدَحَ اللّهُ تَعالَى اعْتِرافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَناوُلِ ما لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيما لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً فاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللّهِ سُبْحانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ».

—–

 

الشرح والتفسير

معرفة اللّه عن اللّه

أشار الإمام(عليه السلام) في هذا الكلام إلى قاعدة كلية مهمّة وخالدة في فهم صفات الحق سبحانه وتعالى، بحيث لو انطلق الجميع في حركتهم الفكرية من خلالها لما بقي هناك من اختلاف بما يرتبط بصفاته سبحانه، فقال(عليه السلام): «فانظر أيّها السائل فما ذلك القرآن عليه من صفته فأنتم به، واستضئ بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي(صلى الله عليه وآله) وائمة الهدى أثره; فكل عمله إلى اللّه سبحانه، فان ذلك منتهى حق اللّه عليك». فالواقع أنّ الإمام (عليه السلام) قد حدد وظيفة الجميع في ضرورة معرفة صفات اللّه بالاستناد إلى القرآن وسنة النبي(صلى الله عليه وآله) وهدى أئمة العصمة(عليهم السلام)، والابتعاد تماماً عن الاستبداد

[ 18 ]

والتمسك بالرأي والتعويل على الأفكار الإنسانية المحدودة بهذا الخصوص، فكل هذه الاُمور من وساوس الشيطان ومكائده. لأنّ صفات اللّه مطلقة كذاته ليست محدودة من جانب، ومن جانب آخر فانّ معارف الإنسان وعلومه إنّما تقتصر على المخلوقات، فاذا اتجهوا صوب صفات اللّه خشى عليهم السقوط في مستنقع التشبيه على غرار صفات مخلوقاته، ومن هنا فانّ أغلب من ولى ظهره لهذا الأصل الأساسي المتمثل بالرجوع إلى القرآن والوحي وكلمات المعصومين(عليهم السلام)بُلي بالانحراف وإجراء صفات المخلوق على الخالق، من جهة اُخرى فهذا القرآن يهتف بأنديتنا صباح مساء: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ)(1) و(وَلا يُحِـيطُونَ بِهِ عِلْماً)(2) فأنى للإنسان بهذا الفكر القاصر أن يطمع في معرفة ذات اللّه وصفاته ولا يكتفي بمعرفته الإجمالية على ضوء نور الوحي وهدى العصمة الذي ينأى به بعيدا عن الزلل. فلا يمكن معرفة اللّه إلاّ به، وهو كما عرف نفسه وصفاته. وهنا يبرز هذا السؤال: هل صفات اللّه توقيفية؟

يعنى لا يجوز وصفه إلاّ من خلال ما ورد في الكتاب والسنة؟

ونقول في الإجابة على هذا السؤال نعم هذا ما عليه أغلب المحققين والعلماء الأعلام، إلى جانب ضرورة مراعاة الحيطة والحذر في مبحث صفات اللّه والانفتاح عليها انطلاقاً من الوحي وكلمات المعصومين(عليه السلام). بعبارة اُخرى فانّ السبيل إلى معرفة اللّه وصفاته إنّما يمر عبر خط مستقيم يقع على جانبيه مطبين عظيمين; مطب التشبيه ومطب التعطيل.

وتوضيح ذلك: إنّ مبحث معرفة ذات اللّه وصفاته كسائر المباحث التي اكتنفها الإفراط والتفريط. فقد شبه البعض صفات اللّه بصفات مخلوقاته، حتى اعتبروا صفاته سبحانه زائدة على ذاته على غرار صفاتنا الزائدة على ذاتنا من قبيل العلم والقدرة وسائر الصفات، فقد كنا لانعلم يوماً ثم أصبح لنا علم، ولم نكن أقوياء ثم أصبحنا كذلك، وهكذا اعتقدوا اشتماله سبحانه على هذه الصفات المشوبة بأنواع النقص، ثم اندفعوا أكثر من ذلك ليصوروا له سائر ما لخلقه من جسم وزمان ومكان وجهة، بل ويد ورجل وشعر مجعد وأمثال ذلك.

بينما خالف البعض الآخر هذا الاتجاه تماماً حتى قال بتعطيل معرفة صفات اللّه، فزعم أننا


1. سورة الشورى/11.

2. سورة طه/110.

[ 19 ]

لانعرف شيئاً عن صفات اللّه ولا يسعنا ادراكها، وكل ذلك حذراً من التورط في مستنقع التشبيه الذي هوى فيه الفريق الأول.

والحق أنّ الفريقين الأول والثاني على خطأ، فهما لم يستضيئا بنورالوحي وهدى أئمة العصمة(عليهم السلام)، ومن هنا غرقا في هالة من الظلام الدامس والجهل المطلق. ولو التزما وصية أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) لما قالا بالتعطيل ولا التشبيه، ولا قتنعا بالمعرفة الإجمالية ـ التي وردت في العبارات القادمة من هذه الخطبة ـ ولركنا إلى القرآن وكلمات المعصومين(عليهم السلام)ليصونا أنفسهما من الزلل والانحراف ولاكتفيا بما وردت عنهم(عليهم السلام) من كلمات في صفاته سبحانه، دون أن يحكموا عقولهم القاصرة بهذا المجال فليس للعقل من فعالية تذكرفي هذا الخصوص دون الاستناد إلى الوحي ومعادنه الواضحة، فالحق أنّ هذا الوادي خطير فلا ينبغي أن يقتصوه، وأنّه بحر لجى لا ينبغي لسهم أن يلجوه. فهى ظلمات بعضها فوق بعض ولا يمكن اختراقها الا بمعونة من كشفت له.

جدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام) عبر عما ورد في القرآن بالفرض وسنة المعصومين(عليهم السلام) بالأثر، ولعل هذا الاختلاف في التعبير بينها يشير إلى حقيقة وهى لزوم ووجوب التعرف على ما جاء في القرآن في باب صفات اللّه سبحانه. وما وصل عن المعصومين(عليهم السلام)إنّما هو مبين ذلك الذي جاء في القرآن.

ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى نقطة بالغة الأهمية وهى هداية الراسخين في العلم عن الانحراف في معرفة الحقائق القرآنية وذلك لتسليمهم واقرارهم بما خفي عنهم، فاذعنوا لعجزهم عن الخوض فيما غاب عن علمهم. فمدح اللّه سبحانه هذا الاذعان والاعتراف «واعلم ان الراسخين في العلم هم الذين اغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً»، ثم أوصى(عليه السلام) بالاكتفاء والقناعة بهذا المقدار دون تحكيم العقل في الاحاطة بعظمة اللّه; الأمر الذي يؤدي إلى الهلاك «فاقتصر على ذلك، ولا تقدر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين». فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) قد حذر ذلك السائل الذي سأل عن

[ 20 ]