وعليه فمن الواضح أنّ الاصرار على إدراك كنه هذه الذات والتعمق في الصفات امّا أن تزيد من حيرتنا وذهولنا، أو أن تقذف بنا في متاهات الضلال ومستنقع التشبيه و تشبيه الخالق بالمخلوق; و هو الهلاك المعنوى الذي حذر منه الإمام(عليه السلام) بقوله: «فتكون من الهالكين».

 

تأمّل : الراسخون في العلم وتفسير المتشابهات

هنا يقتدح إلى الأذهان هذا السؤال: صرح الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة قائلاً: «ان الراسخين في العلم هم الذين اغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الاقرار بجملة ما

[ 21 ]

جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما» ونعلم أنّ عبارته(عليه السلام) إشارة إلى الآية السابعة من سورة آل عمران (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُـلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)فتأويل الآية هو أنّ اللّه وحده العالم بتأويل آيات القرآن المتشابهة والراسخون في العلم يعربون عن عجزهم إزاء ذلك; أي أنّ جملة والراسخون إستثنافية. إلاّ أنّ ما ورد في أغلب روايات الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ولعلها تربو على الثلاثين رواية أنّهم(عليهم السلام) قالوا: «نحن الراسخون في العلم» معطوفة على اللّه. والسؤال المطروح: كيف يمكن حل هذا التضارب بين ما ورد في خطب نهج البلاغة وما جاء في الروايات؟ وبعبارة اُخرى: هل للراسخين في العلم من معرفة بمتشابهات القرآن واسرار صفات الحق سبحانه وتعالى؟ أم أنّهم استحقوا صفة الرسوخ في العلم بسبب قناعتهم بذلك العلم الإجمالي وعدم التعمق في ماوراء ذلك؟

هناك عدّة روايات ذهبت إلى التصريح بالمعنى الأول، ويصعب تجاهل كل هذه الروايات. هذا من جانب، ومن جانب آخر فانّ الخطبة التي نحن بصددها تؤيد المعنى الثاني، وهذا ما أصاب أغلب محققي المسائل الإسلامية والمفكرين بالحيرة والذهول. إلاّ أنّ قدراً من الدقة من شأنه أن يجمع بين المعنيين وإزالة ذلك التضارب، ولا يتيسر ذلك من طريق واحد بل من طريقين:

الأول: أنّ الراسخين في العلم مهما كانت منزلتهم وعلو مقامهم حتى الأئمة المعصومين(عليهم السلام)فليس لهم ذاتاً العلم بمتشابه القرآن وأسرار صفات الحق سبحانه; وما علمهم إلاّ من ذلك التعليم الإلهى و الوحي والالهام الغيبي. وهذا ما ذكرناه مسبقاً في بحث علم الغيب والشفاعة بشأن الآيات القرآنية النافية لعلم الغيب عن أولئك الكرام(عليهم السلام) والآيات المثبتة لهم علم الغيب في أنّهم لا يتمتعون ذاتياً بهذا العلم، وان كان لديهم من علم فبتعليم اللّه، كما أنّهم لا يمتلكون الشفاعة ذاتاً، ولا يشفعون إلاّ باذنه وإلاّ لمن ارتضى له اللّه.

الثاني: أنّ المتشابهات و أسرار المعارف الدينية المعقدة على نوعين: نوع يعلمه الراسخون في العلم (كتفسير أغلب متشابه القرآن). أمّا النوع الثاني المرتبط بتفسير الآيات القرآنية ذات الصلة بذات اللّه وصفاته. فالعلم التفصيلى به ليس ميسرا لأي إنسان، وكل ما يسع الإنسان

[ 22 ]

إدراكه فعلى أساس المعرفة السطحية والعلم الإجمالي الذي ورد بيانه سابقاً. بعبارة اُخرى: فانّ المتشابهات على قسمين; قسم يعلمه المعصومين(عليهم السلام) والراسخون في العلم، وآخر يتعلق بذات البارئوصفاته لا يعلمه أحد من الناس، والروايات المذكورة ناظرة إلى القسم الأول، بينما التى نشرحها واردة في القسم الثاني.

والنتيجة فانّ الواو في الآية الشريفة عاطفة، ومفاد الآية هى علم اللّه والراسخين في العلم بتفسيرالمتشابهات، أمّا العبارة الواردة في الآية: (يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُـلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)فهى عبارة منفصلة تعالج بعض المسائل من قبيل كنه الذات والصفات أو زمان القيامة وأمثال ذلك(1).

ومن هنا يتضح ما تعارف بين العلماء الأعلام من أنّ صفات اللّه توقيفية; أي لا ينعت سبحانه إلاّ بتلك النعوت والأسماء التي وردت في الكتاب والسنة. وإلاّ لو فسح المجال أمام الأفكار البشرية لتأخذ سبيلها إلى أسماء اللّه وصفاته، لنعتته بما لايليق بشأنه بفعل قصر هذه الأفكار واقتصار تعاملها مع الممكنات المعروفة بالحدود. ومن هنا وردت التحذيرات التي تميط اللثام عن مدى المخاطر التي تعترض هذا السبيل لو سلك دون الاستضاءة بنور الكتاب وهدي السنة المطهرة. لذلك ردّ الإمام(عليه السلام)على السائل عن صفات الحق سبحانه وتعالى بالقول «فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضئ بنور هدايته،... إلى أن يقول(عليه السلام)فاقتصر على ذلك، ولا تقدر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».

—–


1. قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الخطبة يمكن أن تكون جملة يقولون نصباً على أنّه حال من الراسخين، ويمكن أن يكون كلاماً مستأنفاً، أي هؤلاء العالمون بالتأويل، يقولون: آمنا به (6/404).

[ 23 ]

 

 

القسم الثالث

 

«هُوَ الْقادِرُ الَّذِي إِذا ارْتَمَتِ الاَْوْهامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ وَحاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَراتِ الْوَساوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفاتِهِ وَغَمَضَتْ مَداخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لا تَبْلُغُهُ الصِّفاتُ لِتَناوُلِ عِلْمِ ذاتِهِ رَدَعَها وَهِيَ تَجُوبُ مَهاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحانَهُ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لا يُنالُ بِجَوْرِ الاِعْتِسافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ وَلا تَخْطُرُ بِبالِ أُولِي الرَّوِيّاتِ خاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلالِ عِزَّتِه».

—–

 

الشرح والتفسير

العالى على الخيال والقياس والظن والوهم

واصل الإمام(عليه السلام) كلامه بالتطرق إلى ما أورده سابقاً بشأن عجز العقول البشرية عن إدراك صفات اللّه سبحانه بعبارات عميقة ورصينة. كاشفاً النقاب عن حقيقة من خلال قضية شرطية ـ بأربع جمل شرطية معطوفة على بعضها وجزائين للشرط ـ وهى أنّ الإنسان مهما كان عميقاً في تفكيره جاداً عن طريق العقل والشهود لبلوغ كنه صفات اللّه سبحانه، فانّ ذلك لن يتكلل بالنجاح ولا ينبغي أن يكتب له النجاح; وذلك لأنّه ذات فوق: «ما لا يتناهى بما لا يتناهى»، فعقول الناس قاصرة من جميع الجهات فقد قال(عليه السلام): «هو القادر الذي إذا ارتمت(1)


1. «ارتمت» من مادة «رمى» على وزن نهى تعنى اطلاق السهم، ولما كان السهم يتحرك بسرعة فان جملة «ارتمت» تعنى سرعة حركة الأفكار.

[ 24 ]

الأوهام، لتدرك منقطع(1) قدرته. وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت(2) القلوب إليه، لتجرى في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهى تجوب(3) مهاوى(4)سدف(5) الغيوب، متخلصة إليه سبحانه».

فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) أشار إلى أربعة عوامل للبحث في إطار السعى لمعرفة كنه الصفات; الأول: الأفكار العادية الملوثة، والثاني الأفكار المنزهة عن الوساوس، والثالث: القلوب المفعمة بحب اللّه والتي تحث الخطى باتجاه الشهود، والرابع: والأخير العقول الحادة والدقيقة التي تعتمد الطرق الاستدلالية والنظرية في تعاملها مع المسائل، ليصفها الإمام(عليه السلام) في خاتمة المطاف بالعجز عن إدراك كنه ذاته وصفاته، وأنّ لتلك الذات والصفات أنوار خاطفة تسلب العقول لبها وتردع أصحاب هذا السبيل من الخوص والتقدم. فهو كما قال الشاعر:

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلاً *** أنت حيرت ذوي اللب وبلبلت العقولا

كلما قدّم فكري فيك شبراً، فرّ ميلاً *** ناكصاً يخبط في عمياء لايهدي سبيلا

ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه بأنّ عاقبة حركة هذه العقول والقلوب والأوهام هو العجز، فلا ترى أمامها سوى الاعتراف بسذاجة السعي وتفاهة الحركة التي ليس من شأنها الانفتاح على ذاته وصفاته، فعقول البشر قاصرة عاجزة ليس لها إدراك ذلك بل لاتخطر عظمته وعزته على أفكار العلماء: «فرجعت إذ جبهت(6) معترفة بأنّه لاينال بجور الاعتساف(7) كنه معرفته، ولا


1. «منقطع» الشي ما إليه ينتهى حيث يحصل القطع عادة آخر الشي.

2. «تولهت» من مادة «وله» بمعنى العشق وشدة حب الشي حتى تجعل الإنسان حيراناً وتصيبه بالذهول.

3. «تجوب» من مادة «جوب» على وزن ذوب بمعنى القطع والثقب. فقد ورد في الاية التاسعة من سورة الفجر بشأن قوم الثمود(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّـخْرَ بِالوادِ) في اشارة إلى دورهم التي كانوا يبنوها في الجبال من جراء قطع الحجر والصخر.

4. «مهاوي» جمع «مهواة» و«مهوى» تعنى في الأصل الوادي بين جبلين، أو الحفرة بين جدارين، ولما كان مثل هدا المكان مطبا، فقد وردت هذه الكلمة بمعنى الهلاك.

5. «سدف» جمع «سدفة» بمعنى الظلمة.

6. «جبهت» من مادة «جبهة» بمعنى الجبين با لبناء للمجهول ضربت جبهتها والمراد عادت خائبة.

7. «اعتساف» السلوك على غير جادة، كما وردت بمعنى مطلق الانحراف والعدول عن الشي.

[ 25 ]

تخطى ببال أولى الرويات(1) خاطرة من تقدير جلال عزته». فالعبارة «إرتمت الأوهام» إشارة إلى سرعة حركة الأفكار العادية للناس من أجل كشف عمق وسعة صفات اللّه. والعبارة: «حاول الفكر المبرأ...» إشارة إلى أفكار العلماء والمفكرين الذين طهروا أرواحهم من وساوس الشيطان فاصبحت أفئدتهم على درجة من الصفاء بحيث عادت كالمرآة تعكس الحقائق. والعبارة: «تولهت القلوب إليه...» اشتد عشقها حتى أصابها الوله وهو الحيرة، فهى دائبة السعى وحث الخطى لمعرفة اللّه والانفتاح على ذاته وصفاته والعبارة: «وغمضت مدخل العقول...» إشارة إلى العقول المقتدرة التي انطوت على أدق السبل النظريه الاستدلالية. فالإمام(عليه السلام) أشار إلى أنّ الإنسان وإن حكم هذه الطرق الأربع فانّها قد تمكنه من إدراك بعض الحقائق. إلاّ أنّ أي من هذه الطرق لا يمكنها إدراك كنه الذات وحقيقة الصفات. والحق أنّ هذا أروع بيان وأبلغه يصور عجز البشر عن إدراك كنه ذاته وصفاته سبحانه. طبعاً هذا ليس معلولاً لخفاء ذاته وصفاته سبحانه، بل اشتد ظهوره حتى حارت الأبصار عن الوقوف على كنهه; الأمر الذي نلمسه في تعذر رؤيتنا لقرص الشمس وهل ذاك لظلامها أم لشدة نورها وضوئها. فاذا كان هذا وضع الشمس التي تعد كوكباً ضائعاً ضمن ملايين الكواكب والمجرات، فما ظنك بذات الحق؟ وبعبارة اُخرى: فالإنسان كلما إقترب اكثر غرق في بحر وهالة من النور والعظمة، لكي لا يجد من سبيل أمامه سوى الاعتراف بالعجز.

وبالطبع فهذا لا يعنى أننا نعتقد بتعطيل صفاته وذاته ونزعم أننا لا نستطيع مطلقاً التعرف على اللّه، بل ملأت آثار علمه وقدرته وذاته وصفاته عالم الوجود، بحيث نراه في كل مكان ونستمع لتسبيحه وتنزيهه في كل موضع; وإن كان علمنا على نحو الإجمال لا التفصيل.

—–


1. «رويات» جمع «روية» وهى الفكر.

[ 26 ]

[ 27 ]

 

 

القسم الرابع

 

«الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثال امْتَثَلَهُ وَلا مِقْدار احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خالِق مَعْبُود كانَ قَبْلَهُ وَأَرانا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وَعَجائِبِ ما نَطَقَتْ بِهِ آثارُ حِكْمَتِهِ وَاعْتِرافِ الْحاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَها بِمِساكِ قُوَّتِهِ ما دَلَّنا بِاضْطِرارِ قِيامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَظَهَرَتِ الْبَدائِعُ الَّتي أَحْدَثَتْها آثارُ صَنْعَتِهِ وَأَعْلامُ حِكْمَتِهِ فَصارَ كُلُّ ما خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ وَإِنْ كانَ خَلْقاً صامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ ناطِقَةٌ وَدَلالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قائِمَةٌ».

—–

 

الشرح والتفسير

الحديث عن تدبيره

جرى حديث الإمام(عليه السلام) سابقاً عن التحذير في التعمق في كنه الذات والصفات، وذلك لتعذر إدراكها على العقل البشرى مهما كانت إمكاناته. فواصل هنا الكلام وبغية عدم تصور غلق باب معرفة اللّه فتطرق(عليه السلام) على نحو الإجمال إلى طرق معرفة ذاته وصفاته ليكشف عن حقيقة فحواها سمو هذه الذات وغناها المطلق عن الحدود. فهو الذي أفاض الوجود على المعدومات دون الاحتذاء بمثال سابق، أو الاستمداد من خالق آخر «الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه، من خالق معبود كان قبله». فالعبارات إشارة إلى أزليه ذاته المقدسة سبحانه من جانب، ومن جانب آخر أنّ مخلوقاته قد وجدت دون تجربة وسابقة; فهو خلق جديد وتام بكل معنى الكلمة.

وتعتبر مسألة «الابداع» (الخلق دون تجربة) من المسائل المهمّة. حيث تتضح هذه الأهمية من خلال العلم بانّ كافة الابداعات والاختراعات البشرية إنّما تستند لما قبلها من الأمثلة في

[ 28 ]

عالم الخليقة. فهى تقتدى أحياناً في عملها بظاهرة من ظواهر مختلفة في ما تقوم به من إبداع، و أحيانا أخرى بظواهر تركيبية و تلفيقية مختلفة بالضبط كالرسام الماهر الذي يعكس بريشته بعض الصور الرائعة والجميلة بالاستناد إلى من سبقه في الرسم والتصوير. فبالطبع لولا وجود هذه الصور والأشياء لما وسع ذلك الرسام هذا الابداع والجمال. أمّا الحق سبحانه فليس كذلك فعمله الابداع دون الاقتداء بالمثال وليس ذلك لأحد سواه. وقد مرّ علينا شبيه هذا المعنى البديع في الخطبة الاولى من نهج البلاغة بعبارته(عليه السلام) «أنشأ الخلق إنشاءاً، وابتدأه إبتداءاً...». ثم قال(عليه السلام)موضحاً ما أورده أن أرانا من عجائب قدرته والآثار الحالية عن تناهي حكمته وحاجة كافة الأشياء إليه بما يدعونا تلقائيا إلى معرفته: «وأرانا من ملكوت قدرته، وعجائب مانطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوته، ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته» بعبارة اُخرى فانّ اللّه سبحانه قد أبان آثار قدرته في عالم الوجود وهى تجري وفقاً لنظام دقيق وقوانين معقدة تفيد أنّ الابقاء عليها يتطلب علمه وتدبيره الحكيم. فذرات الكون برمتها محتاجه إليه في خلقها وكذلك في ادامة حياتها واستمرارها، وهى تحكي بكافة تفاصيلها عن تناهي قدرته وحكمته. بما يجعل الإنسان يقر بضعفه وعجزه والاستضاءة بنور معرفته. ثم واصل الإمام(عليه السلام) قائلاً: «فظهرت البدائع التي أحدثتها آثار صنعته وأعلام حكمته، فصار كل ما خلق حجة له، ودليلاً عليه; إن كان خلقاً صامتاً، فحجته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة»(1) نعم فقد غصت أرجاء العالم بعلمه وقدرته وشع نور التوحيد من جبين كافة مخلوقاته وكائناته سبحانه. كما عطر فضاء العالم بحمده وتسبيحه (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَ نَّهُ الحَـقُّ)(2).

وهو المعنى الذي عبر عنه أبوالعتا هية حين أنشد قائلاً:(3)

فيا عجبا كيف يعصى الاله *** أم كيف يجحده الجاحد


1. الضمير في حجته ودلالته يعود إلى الخلق لا الخالق.

2. سورة فصلت/53.

3. الكنى والالقاب 1/121.

[ 29 ]

وفي كل شي له آية *** تدل على أنه واحد

نعم فاينما وليت وجهك طالعتك آيات اللّه، وإذا أعرت أذنك أى كائن طرقت سمعك ألسنة حال التسبيح والتقديس. فما أكثر الأدلة والبراهين التي تجعلك تدرك تلك الذات المقدسة، أنّهاتمتد لتشمل عدد أوراق الأشجار وقطرات المطر والذرات وخلايا البدن ونجوم السموات والمجرات، وبالتالى جميع ذرات وجود هذا العالم.

والعبارة «ما دلنا باضطرار قيام الحجة» لا تعنى أننا نذعن على نحو الإجبار بوجوده المقدس، بل تعنى أنّ الدلائل على وجوده على درجة من الظهور بحيث لم يبق معها مجال لانكار. كمثل من أحضر إلى المحكمة وقد نصبت للشهادة عليه الأفلام والأشرطة والشهود والقرائن المختلفة، بحيث لا يسعه التنكر لاعماله وأفعاله. فيعبر هنا بانه مضطر للاقرار، فهذا لا يعنى أنّه ارغم على الاقرار من خلال ممارسة الضغوط والتعذيب، حيث أنّ المسألة على قدر من الوضوح، بحيث لا يسعه الانكار.

والعبارة: «فحجته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة» إشارة إلى أنّ تدبير عالم الوجود دليل على علمه المطلق وقدرته، كما أن تنوع موجودات العالم المفعمة بالابداعات المذهلة هو الآخر دليل على قدرته المطلقة وعلمه.

—–

[ 30 ]

[ 31 ]

 

 

القسم الخامس

 

«فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ وَتَلاحُمِ حِقاقِ مَفاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ وَلَمْ يُباشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لا نِدَّ لَكَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ تاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلال مُبِين إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ كَذَبَ الْعادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهامِهِمْ وَجَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّماتِ بِخَواطِرِهِمْ وَقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرائِحِ عُقُولِهِمْ».

—–

 

الشرح والتفسير

انت المنزه عن الشبيه والمثيل

عاد الإمام(عليه السلام) هنا ثانية إلى بيان صفات اللّه سبحانه وتعالى، محذراً من الاقتراب من وادي التشبيه، فلعل دلائل وجود اللّه في عالم الخلقة والبحث عن آثار عظمته في كل موضع من مواضع هذا العالم توسوس للإنسان أن يعتقد ببعض الصفات للّه على غرار صفات مخلوقاته، حتى أنّه ليسقط في مطب التجسيم على اللّه، ليراه جسماً كسائر مخلوقاته.

ومن هنا ابتهل الإمام(عليه السلام) إلى اللّه قائلاً: «فاشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم(1) حقاق(2) مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك، وكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من


1. «تلاحم» من مادة «لحم» بمعنى الاتصال، شبيه اتصال عضلات الجسم.

2. «حقاق» جمع «حقه» وهو رأس العظم عند الفصل.

[ 32 ]

المتبوعين إذ يقولون تاللّه إن كنا لفى ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين».

فهذه العبارات إشارة واضحة إلى ضلال المجسمة أو المشبهة وشركهم وكفرهم، حيث جعلوا اللّه جسماً ذا أعضاء ويد ورجل وعين واذن فهووا وافي وادى التشبيه ليروه سبحانه مخلوقاً ضعيفاً وعاجزاً فانياً، حتى عبر عنهم القرآن في الآية الشريفة بأنّهم على ضلال مبين.

والعبارة: «من شبهك بتباين أعضاء خلقك» إشارة إلى من له جسم، وجسمه مركب من أعضاء مختلفة. والعبارة: «تلاحم حقاق مفاصلهم» إشارة إلى الإرتباط السائد بين الأعضاء وبناء على هذا فانّ أعضاء البدن منفصلة عن بعضها البعض ومنظمة مع بعضها أيضاً، وهذا من حكمة اللّه في خلقه المخلوقاته، بحيث لولا اشتماله على الأعضاء المختلفة لتحددت أعمالها، كما لو كانت منفصلة تماماً لتعذر تعاضدها وتعاونها في القيام بانشطتها وفعالياتها. كما أنّ البارئ بحكمته ولطفه قد أخفي هذا الإرتباط بين الأعضاء تحت طبقات اللحم ليصونها من مختلف الحوادث الخارجية. ولا يمكن تصور هذا الأمر إلاّ في عالم الخليقة، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، فهو منزه عن الأجزاء والأعضاء ولايحتاج إلى الجسم.

فالإمام(عليه السلام) يشير إلى أنّ هؤلاء الأفراد الجهال قد إصيبوا بثلاثة انحرافات: الأول: عدم معرفتهم الحقيقية لله، الثاني: عدم اعتقادهم بوحدانيته، الثالث: أنّهم لم يسمعوا آيات القرآن ولم ينفتحوا على تعليمات هذا الكتاب السماوى، ومن هنا شهدوا على أنفسهم بأنّهم (فِي ضَلال مُبِـين). أمّا يوم القيامة حين ترفع الحجب وتتضح الحقائق سرعان ما يقفون على خطأهم، فيتبرأ التابع من المتبوع ويلعن بعضهم بعضا ولا يملكون سوى الندم والخجل يوم لا ينفع الندم; الأمر الذي ورد بشكل صريح في هذه الخطبة.

الجدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام) قد نسب كلامه السابق إلى الناس، ثم انتقل هنا إلى اللّه; الأمر الذي ينبه إلى خطورة القضية التي حذر منها لأنّ التأمل في الكلام يتوقف على درجة ومكانة المخاطب فكيف به إذا صدر من المشفق. ثم واصل(عليه السلام) الحديث عن طائفة اُخرى من المنحرفين ـ أي المشركين والوثنيين الذين يعدون جزء من المشبهة ـ فقال «كذب العادلون(1) بك، إذ


1. «عادل» مادة «عدل» على وزن قشر بمعنى المعادل والشبيه والنظير والعادلون بك الذين عدلوا بك غيرك، أي سووه بك وشبهوك به.

[ 33 ]

شبهوك بأصنامهم، ونحلوك(1) حلية المخلوقين باوهامهم، وجزأوك تجزئة المجسمات، بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح (2) عقولهم» فقد نفي الإمام(عليه السلام)بهذه العبارات الرصينة القاطعة ـ والتي بينت بأربع صور ـ كافة أنواع الشرك والتشبيه للّه سبحانه بمخلوقاته، وتحذر الجميع من السقوط في مستنقع الشرك و التشبيه، إلى جانب تعيين الحد الفاصل بين توحيد الموحدين وشرك المشركين. فقى العبارة الاولى نفي التشبيه بالأصنام.

والعبارة الثانية صرحت ببطلان اضفاء صفات الزينة للمخلوقات على اللّه (من قبيل وصفه من بعض الجهال بأنّه فتى جميل أمرد له شعر مجعد).

والعبارة الثالثة التي تنفي عنه التركب من الأجزاء والأعضاء من قبيل اليد والرجل.والعبارة الرابعة سذاجة الاعتقاد باتصافه بمختلف الحواس (التى لمخلوقاته) من قبيل الباصرة والسامعة والشامة وهكذا تتحطم معاقل الشرك من مختلف الجوانب.

 

تأمّل : من هم المجسمة؟

تطلق المجسمة (بكسر السين) على من نسب الجسمية لله و هم الذين يقولون بأنّ له يد ورجل واذن وعين، كما يقال لهؤلاء المشبهة بكسر الباء، وذلك أنّهم يشبهون اللّه سبحانه بمخلوقاته المادية. ويبدو أنّ مثل هذا الاعتقاد كان سائدا بين أفراد البشر منذ قديم الزمان حيث جعلهم قصر فكرهم يعجزون عن تصور ماوراء هذه الطبيعة المادية، حتى ألفوا الماديات والجسام فظنوا أنّ اللّه سبحانه مثلهم أو كسائر الأجسام المادية. ومن هنا نشأ الاعتقاد بسائر المعبودات كالشمس والقمر والكواكب وسائر أجسام المشابهة. ويفيد تأريخ اليهود رسوخ عقيدتهم بجسمية الحق سبحانه وتعالى، ومن ذلك مدى اصرارهم على نبيهم
موسى(عليه السلام)في أن يريهم اللّه سبحانه جهرة ولا تخفي علينا قصة جبل الطور والصاعقة التي


1. «نحلوا» من مادة «نحل» بمعنى الهبة والعطية، وحلية المخلوقين صفاتهم الخاصة بهم من الجسمانية وما يتبعها.

2. «قرائح» جمع «قريحه» تعنى في الأصل أول ماء يسحب من البئر، ثم اطلقت على النتاجات الفكرية والذوقية للإنسان.

[ 34 ]

أخذت طائفة من بني إسرائيل فبعد أن نجى بني اسرائيل من البحر أتوا موسى(عليه السلام) وقد مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم فقالو لنبيهم موسى(عليه السلام) اجعل لنا إلها كما لأولئك، بل لم يثوبوا إلى رشدهم حتى بعد أن أخذتهم الصاعقة، ثم سارعوا لعبادة العجل الذي أخرجه لهم السامري، حتى ضلت فيه جماعة من بني اسرائيل. فرجع اليهم موسى(عليه السلام) غضبان أسفاً وآخذهم بما فعلوا.

تاريخ النصارى أيضاً يشهد بأنّ عقيدة التثليث (اللّه والابن والروح القدس) كانت شائعة بين النصارى والتي تفيد القول بالجسمية على اللّه. فهم يصرحون جهرة بأنّ المسيح(عليه السلام) ابن اللّه وأنّه أحد الآلهة الثلاث. والحال لم يكن المسيح(عليه السلام) سوى بشراً من سائر الناس.

ولما نزل القرآن الكريم على صدر الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) أبطل هذه العقائد الفاسدة بما فيها القول بالتجسيم والتشبيه. والشاهد على ذلك الآيات القرآنية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ)(1) و: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ)(2) و(لَنْ تَرانِي)(3) و(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)(4) و(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)(5) و(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(6) التي تنفى جسمية اللّه سبحانه وتعالى. إلاّ أنّ المؤسف له هو أنّ بعض الأفكار الانحرافية الموروثة من الاُمم الوثنية واليهودية والنصرانية والمجوسية قد وردت الإسلام لتخترق عقائد بعض السذج من المسلمين الذين اصطلح عليهم بالمجسمة أو المشبهة.

ولعل بعض التعبيرات الكنائية التي وردت في بعض الآيات القرآنية من قبيل الآية الكريمة: (يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(7) والآية: (الرَّحْمـنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)(8) قد أصبحت ذريعة لدى بعض المنحرفين من أصحاب النظرة القاصرة والأفكار الضيقة و المنحرفة ليحثوا الخطى نحو هذه المذاهب المشركة الفاسدة; والحال من المسلم به أنّ اليد في الآية تعنى القوة


1. سورة الشورى/11

2. سورة الانعام/103.

3. سورة الأعراف/143.

4. سورة الحديد/4.

5. سورة ق/16.

6. سورة البقرة  /115.

7. سورة الفتح/10.

8. سورة طه  /5.

[ 35 ]

والقدرة واستوى بمعنى السلطة والسيطرة، لا بمعنى الجلوس والاستقرار على الشي، وبالطبع فانّ هذه الكنايات كانت سائدة لدى مختلف الأقوام قبل نزول القرآن وبعده، من قبيل قولهم، ليس له يد على هذا الأمر، وهكذا فإن مفردة الاستواء التي تستعمل بشأن استيلاء سلطان وسيطرته على بلاد.

وناهيك عما سبق فانّ الأدلة العقلية والمنطقية هى الاُخرى تنفي بوضوح أية جسمية عن اللّه; لأنّ كل جسم محدود وله زمان ومكان واجزاء، وعليه فهو محتاج من مختلف الجهات، ونعلم أن ليس للحاجة والمحدودية من سبيل إلى ذاته المطلقة سبحانه. والأهم من كل ذلك أنّ كافة الأجسام يعتريها التغيير بل وحتى الزوال، في حين ليس لهذا التغيير والزوال أن يدنس ساحة كبريائه وعظمته.

ورغم كل ما مرّ من أدلة واضحة، فمما يؤسف له ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ فانّ عقيدة الجسمية المنحطة قد طالت جمعاً من جهال المسلمين حتى أوغلوا في الانحراف والضلال، و حسب ما نقله «المحقق الدواني» فان البعض يعتقد بأنّه جسم مركب من لحم ودم تنبعث منه أشعة قضية شفافة وله قامة من سبعة أشبار، كما اعتقد البعض الآخر بانه على هيئة شاب أمرد له شعر مجعد حسب ما ذكره المحقق الدواني بشأن هذه الفئات الضالة.

فقد أورد العلاّمة الحلى في كتابه منهاج الكرامة قصة عن بعض المجسمة، لا بأس أن أنقلها. فقد حكى عن بعض المنقطعين التاركين من شيوخ الحشوية أنّه إجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة قطط الشعر على الصفات التي يصفون ربّهم بها. فألح بالنظر إليه ليلا وكرره، فتوهم منه النفاط أمراً، فجاء إليه ليلاً وقال له: رأيتك تلح بالنظر إلى هذاالغلاموقد أتيتك به، فان كان لك فيه نية فأنت الحاكم. فرد عليه وقال: إنّمأكررت النظر لأنّ مذهبي: أن اللّه ينزل على صورة هذا الغلام، فتوهمت أنّه اللّه. فقال له النفاط: واللّه ما أنا عليه من النفاطة أجود ممّا أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة.(1)

—–


1. شرح نهج البلاغة للعلاّمة التسترى 1/333

[ 36 ]

[ 37 ]

 

 

القسم السادس

 

«وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ ساواكَ بِشَيْء مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ وَالْعادِلُ بِكَ كافِرٌ بِما تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَماتُ آياتِكَ وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَواهِدُ حُجَجِ بَيِّناتِكَ وَإِنَّكَ أَنْتَ اللّهُ الَّذِي لَمْ تَتَناهَ فِي الْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِها مُكَيَّفاً وَلا فِي رَوِيّاتِ خَواطِرِها فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً».

—–

 

الشرح والتفسير

الممتنع على احاطة العقول

عاد الإمام(عليه السلام) هنا مرة اُخرى إلى قضية انحراف المشركين والقائلين بالتشبيه، ليشهد عند اللّه ثانية بانحرافهم، وما ذلك الا لسماع المخاطبين وتحذيرهم من الوقوع في هذا المستنقع النتن. فقد قال(عليه السلام): «وأشهد أن من ساواك بشي من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك».

يبدو أنّ هناك فارقا بين شهادة الإمام(عليه السلام) هنا في انحراف المشركين، وتلك الشهادة السابقة. حيث وردت في طائفتين. فالشهادة السابقة إنّما وردت بشأن الوثنيين الذين شبهوا اللّه بالأوثان والأصنام واتخذوها أرباباً من دون اللّه. أي كانوا يسألونها حاجاتهم ومن هنا عبدوها واتخذوها آلهة. أمّا الشهادة التي وردت هنا فهى ناظرة لاُولئك الذين سووا به بعض خلقه في جميع الجهات، كالثنوية من الوثنيين الذين يعتقدون بوجود إلهين هما إله الخير وإله الشر، والنصارى القائلين بالتثليث (الأب والابن والروح القدس). فقد اعتبر الإمام(عليه السلام)هؤلاء كافرين بمحكمات القرآن والحجج البينة: «كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك» يمكن ان تكون العبارة «محكمات الآيات» و«الحجج البينات» كلاهما

[ 38 ]