إلى إجتثاث جذور الظلم والطغيان، إلاّ أنّ هذا الاحتمال ييدو بعيداً، وذلك لأنّه أولاً: سوف


1. «يفرج» من مادة «فرج» بمعنى السلخ ورد هنا، كما يعني حل المشاكل.

2. «أديم» بمعنى الجلد.

3. «خسف» بمعنى الاخفاء، وورد في الخطبة بمعنى الذل.

4. «يحلس» من مادة «حلس» على وزن فلس بمعنى الكساء الذي يوضع على ظهر البعير.

5. «جزور» من مادة «جزر» على وزن جذب الناقة المجزورة، كما وردت هذه المفردة بمعنى انخاض ماء البحر وما شاكل ذلك.

[ 151 ]

لن يكون بني أمية آنذالك طائفة خاصة. ثانياً: ليس هنالك من مجال لأن يتمنوا حكومة الإمام علي(عليه السلام) حين ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) وتطبيق كافة تعاليم السماء.

وبعبارة اُخرى: فانّ هذه الاُمنية ستكون من قبيل تحصيل الحاصل. وهذا الكلام إخبار عن ظهور المسودة، وانقراض ملك بني أمية، ووقع الأمر بموجب إخباره(عليه السلام); حتى لقد صدق قوله: «لقد تود قريش...»، فانّ أرباب السير كلهم نقلوا أنّ مروان بن محمد قال يوم الزاب لما شاهد عبدالله ابن علي بن عبدالله بن العباس بازائه في صف خراسان: لوددت أنّ علي بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلاً من هذا الفتى; والقصة طويلة وهى مشهورة.(1)

والأعجب من ذلك حين ولى أبو العباس السفاح الخلافة ـ وهو أول خليفة عباسيـ أمر بقتل كافة بني أمية، كما أمر بنبش قبورهم وأخراج الأموات منها واحراقها، ولم ينج منهم إلاّ من هرب إلى الأندلس ـ وقيل أنّ السفاح أمر بطرح موتى بني أمية أمام الكلاب لتنهش لحومهم.(2)

بل لقب أبوالعباس بالسفاح لكثرة قتله من بني أمية.(3)

ويتضح ممّا مر معنا أنّ الفرج الذي بشر به الإمام(عليه السلام) إنّما يقتصر على الفترة الممتدة بين حكومة بني أمية وبني العباس، أو بعبارة اُخرى يرتبط بالمدة التي لم تقو فيها قدرة بني العباس إلى الحد المطلوب، وذلك لأنهم حين توطدت دعائم حكومتهم وقويت شوكتهم، غاصوا في هالة من الظلم والاضطهاد ليجعلوا المسلمين يعيشون فترة مظلمة اُخرى.

 

تأمّلان : 1ـ ضريبة الفرار من الحق

شحن التأريخ بهذه التجربة في أنّ من يهرب من الحق والعزة والكرامة، إنّما يعيش حياته في ظل الذل والباطل. وأفضل نموذج على ذلك أهل العراق على عهد علي(عليه السلام) الذين لم يستجيبوا


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7/57.

2. تتمة المنتهى /156.

3. دائرة المعارف الاعلمي 10/405.

[ 152 ]

لعلي(عليه السلام)المعروف بعدالته ورحمته حتى في ساحات الوغى ومع الخصوم والاعداء، فكانوا يختلقون مختلف الذرائع ليتمردوا عليه، فملأوا قلبه دما وشحنوا صدره غيضاً وجرعوه الهم والغمّ. إلاّ أنّه لم تمض عليهم مدة حتى دفعوا ثمن ذلك باهضاً ليذوقوا ألوان الذلة والهوان. فقد سلط عليهم زمرة من الجفاة الطفاة القساة الذين لم يرعوا إلاّ ولاذمة في كبير أو صغير. وقد نهبوا أموالهم وانتهكوا حرماتهم وجرعوهم الموت غصة غصة، وأحالوا حياتهم ظلاماً دامساً، حتى تمنوا لحظة من لحظات حكومة علي(عليه السلام) ولكن هيهات.

نعم هذا ما صرح به الإمام(عليه السلام) في الخطبة 28: «ألا وإنّه من لاينفعه الحق يضره الباطل، ومن لايستقيم به الهدى، يجربه الضلال إلى الردى».

حقاً أن هذا الفصل من تأريخ الإسلام مليء بالدروس والعبر، فمصير اُولئك الذين غدروا بأمير المؤمنين علي(عليه السلام) ينطوي على الدروس والعبر من جانب، ومن جانب آخر فانّ قصة بني أمية بعد علي(عليه السلام) هى الاُخرى عبرة لمن اعتبر.

روى المؤرخ المشهور المسعودي أنّ الحجاج حكم الكوفة والبصرة على عهد عبد الملك بن مروان عشرين سنة، واحصي من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد مائة وعشرين ألفا، ومات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف أمرأة، منهن ستة عشر ألفا مجردة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستريستر الناس من الشمس في الصيف ولا من البرد والمطر في الشتاء، وكان له غير ذلك من العذاب.(1)

وذكر إبن قتيبة في الامامة والسياسة أن الحجاج دخل مسجد البصرة مع مئتي نفر يحملون سيوفهم ثم أمرهم بالهجوم على الناس إن خلع عمامته إذا رموه، فجعلون يضربون أعناق من في المسجد حتى إمتلأ بدمائهم. و لم يكن ذلك سوى جانبا من مصير من تمرد على الإمام(عليه السلام).

 

2ـ عاقبة بني أمية

عاقبة بني أمية كانت هى الاُخرى أسوأ من عاقبة أهل العراق في حكومة بني العباس


1. مروج الذهب 3/166.

[ 153 ]

حتى قيل أنّ أحد خلفاء بني العباس أحضر في مجلسه تسعين من زعماء بني أمية فأمر بضرب رؤوسهم بأعمدة الحديد والقوا وسط المجلس، ثم وضعت مائدة الطعام عليهم فجعل يتناول مع صحبه الطعام.(1)

بل لم يرحموا حتى صغار بني أمية فضلاً عن موتاهم. فقد عمد عبدالله بن علي أيام أول خليفة عباسي السفاح إلى نبش قبورهم، فاخرج جسد هشام بن عبدالملك وأضرم فيه النار، كما أخرج جسد الوليد بن عبدالملك ويزيد بن معاوية ـ ولم يبق منهما إلاّ العظام ـ وسائر أجساد بني أمية وأمر باحراقها.(2)

ثم اتجه صوب قبر معاوية، فلم يكن فيه سوى حفنة من التراب.(3)

—–


1. الكامل لابن أثير 5/430.

2. مروج الذهب 3/207.

3. الكامل لابن أثير 5/430.

[ 154 ]

[ 155 ]

 

 

الخطبة(1) 94

 

 

 

ومن خطبة له (عليه السلام)

 

وفيها يصف الله تعالى ثم يبين فضل الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) ثم يعظ الناس

 

نظرة إلى الخطبة

تشتمل الخطبة على أربعة محاور: الأول: بيان بعض صفات الله سبحانه، الثاني: خلق الأنبياء من صلب آدم(عليه السلام).

الثالث: خلق النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) من النسل الطاهر، وشرح بعض فضائله ومناقبه ومدح عترته(عليهم السلام).

الرابع: النصح والوعظ بعبارات قصيرة عظيمة التأثير.

—–


1. سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة مانقله الرضي (ره) في هذا الموضع مأخوذ من خطبة له(عليه السلام)مشهورة أولها: الحمدلله الواحد الأحد الصمد، المتفرد... وقال الكليني في الكافي عن هذه الخطبة بعد أن أخذ غرضه، منها في الكتاب التوحيد: وهذه الخطبة من مشهورات خطبة(عليه السلام) حتى لقد ابتذلتها العامة (الكافي 1/134) وقال المرحوم الصدوق، قال الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) خطب بهذه الخطبة لما استنهض الناس لحرب معاوية في المرة الثانية. (توحيد الصدوق، /41، باب التوحيد ونفي التشبيه، الحديث 3). رواها ابن عبد ريه المالكي في العقد الفريد 4/74 بتفاوت مع رواية الرضي تحت عنوان خطيته الفراء. وقال صاحب المصادر: ويلاحظ أنّ رواية العقد خلت من ذكر أهل البيت في الخطبة فلعل يداً أمينة! حذفت ذلك، كما حذفت الخطبة الشقشقية من العقد (مصادر نهج البلاغة 2/185).

[ 156 ]

[ 157 ]

 

 

القسم الأول

 

«فَتَبَارَكَ اللّهُ الَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ حِدْسُ الْفِطَنِ، الأوَّلُ الَّذِي لاَ غَايَةَ لِهُ فَيَنْتَهِيَ، وَلا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ».

—–

 

الشرح والتفسير

عجز الفكر عن معرفته

استهل الإمام(عليه السلام) خطبته ـ كسائر خطبه ـ بحمد الله والثناء عليه، أفضل انطلاقة في الحديث واعداد القلوب لسماع الوعظ. فقد بيّن(عليه السلام) بهذه العبارات أربع صفات من صفات الله التي تعود في الحقيقة إلى صفة واحدة (وقد ورد شبيه ذلك في الخطبة الاولى من نهج البلاغة في المجلد الأول من هذا الكتاب). فقال(عليه السلام): «فتبارك الله الذي لايبلغه بعد الهمم، ولايناله حدس الفطن».

فهو سبحانه الأول الذي لانهاية له ليمكن الوصول إليه، ولا آخر له لتكون له نهاية «الأول الذي لاغاية له فينتهي، ولا آخر له فينقضي» فجميع هذه الصفات إنّما تشير إلى عدم تناهي ذاته في كل جهة. الذات التي لا تعرف الحدود من حيث العظمة والعلم والقدرة والاولية والآخرية. فهو ليس محدود في الفكر الإنساني، ولا يدرك بالظنون، ليس له أول، كما ليس له آخر، ليس هنالك من هدف لذاته ولا غاية، وذلك لأنّه كمال مطلق ووجود لا حدود له ولانهاية.

وفي ذات الوقت فانّ هذه الصفات الأربع تعالج هذه الحقيقة من جوانب مختلفة:

في العبارة الاولى: أنّ الأفكار البشرية والإرادات القوية ومهما بلغت جهودها ومساعيها لايسعها أن تبلغ معرفة كنهه سبحانه.

[ 158 ]

والعبارة الثانية: إشارُة إلى الحدس والظن والانتقالات الدفعية والسريعة الفكرية التي يمكنها أن تذلل أغلب قضايا الحياة، حيث يقول الإمام(عليه السلام) ليست لها من فاعلية هنا.

العبارة الثالثة: تشير إلى أنّ الله سبحانه، على خلاف الموجودات الإمكانية التي لها هدف ومقصد لهذا الوجود، فهى تنتهي حين تبلغ هذفها وتقوم برسالتها; فليس هناك وجود ليبلغه.

العبارة الأخيرة: تشير إلى أنّه آخر لانهاية له ـ بعبارة اُخرى: هو أول الوجود وآخره، ولكن ليس بمعنى الأول الذي ينتهي ولا الآخر الذين ينقضي; فهذه الصفات تعني أزليته وابديته ومطلقيته.

قد لا يكون المعنى الأخير كذلك للوهلة الاولى، ولكن يبدو ذلك صحيحاً من خلال الالتفات إلى العبارة السابقة، ونظير اتها في نهج البلاغة، كما ورد في الخطبة 85.

على كل حال فانّ الأفكار البشرية المحدودة لاتصل أبداً إلى كنه ذلك الكمال المطلق، وليس لنا سوى معرفة إجمالية، يمكنها أن تتكامل كلما طهرت روح الإنسان أكثر وأصبح فكره أقوى وأكمل، وأن تعذر بلوغ المعرفة التفصيلية البتة.

—–

[ 159 ]

 

 

القسم الثاني (ومنها في وصف الأنبياء)

 

«فَاسْتَوْدَعَهُمْ في أفْضَلِ مُسْتَوْدَعِ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرِّ، تَنَاسَخِتْهُمْ كَرَائِمُ الأَصْلابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الأرْحَامِ; كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللّهِ خَلَفٌ».

—–

 

الشرح والتفسير

المكانة الرفيعة للأنبياء

أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى الأنبياء الذين بعثهم الله طيلة تاريخ البشرية، ليكمل بحث التوحيد ببحث النبوة. وتفيد القرائن أن هناك مقاطع محذوفة بين هذا القسم وذلك الذي سبقه، فالأقسام مقتطفات من خطبة طويلة للإمام(عليه السلام).

على كل حال فان الخطبة أشارت في الواقع إلى الاُمور المهمة التالية.

الأول: أنّ الأنبياء قد غطوا جميع التاريخ البشري وقد نهضوا الواحد تلوا الآخر بمهمتهم في الوعظ والإرشاد.

الثاني: أنّهم ينشدون جميعاً هدفاً واحداً.

الثالث: أنّهم تربوا في أصلاب شامخة وأرحام مطهرة.

فقال(عليه السلام): «فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرهم في خير مستقر»، ثم خاض(عليه السلام) في شرح هذا المجمل بأنّ الله قد قلبهم في الأصلاب الكريمة والأرحام المطهرة. فقال(عليه السلام) بهذا الشأن: «تناسختهم(1) كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام».


1. «تناسخ» من مادة «نسخ» بمعنى الازالة وانتقال الشيء، وتعني هنا انتقال نطفة الآباء إلى أرحام الاُمهات.

[ 160 ]

فالواقع هو أنّ «أفضل مستودع» يراد به أصلاب كرام الآباء من أهل الفضل و«خير مستقر» يراد به الأرحام الطاهرة للاُمهات.

ثم أشار(عليه السلام) إلى استمرار رسالة الأنبياء وامتدادها، وكلما رحل منهم أحد، خلفه آخر ليواصل سبيله: «كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف».

فالواقع هو أنّ حديقة الحياة الإنسانية لم تخل قط من شجرة الأنبياء الطيبة، لتتغذى البشرية على الدوام على ثمارها المعطاء: (تُـؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِـين بِـإِذنِ رَبِّها)(1) فترتوي من فيضها وتزدان قوة في روحها وبدنها.

أمّا قضية طهارة أصلاب الأنبياء وأرحامها فمن الاُمور المهمة التي أسهبت في ذكرها الروايات الإسلامية والزيارات، وذلك لاهميتها من جانبين: الأول من ناحية قانون الوراثة الذي ينطوي على آثار عميقة والثاني: من الناحية الاجتماعية وثقة الاُمّة بالأنبياء، إلى جانب الرابطة بين الاُمم والأنبياء بما لا يمكن انكار دوره.

ومن هنا صرحت الروايات التي وردت بشأن انتخاب الزوجة بأن تكون من اُسرة دينية مشهورة بعفتها وطهارتها وورعها وتقواها، والعكس صحيح في اجتناب الاُسرة الوضيعة وان كانت هناك بعض الصفات في المرأة. فقد جاء في الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «أيها الناس إياكم وخضراء الدمن! قيل: يا رسول الله وماخضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء».(2)

والنقطة الجديرة بالذكر أنّ العبارة: «كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف»، إشارة إلى هذه الحقيقة هى أنّ الأنبياء وبمصداق (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ)(3)، لهم برامج واحدة، وأصول مشتركة، وإن كان هناك بعض الاختلاف في الفروع بسبب تفاوت الزمان والمكان; فكانوا يدعون جميعاً إلى التوحيد والعدل والمعاد، حتى أنّهم كانوا سواسية في اصول المسائل الفرعية; فهم يدعون إلى التضرع والعبودية ويحثون على الفضائل ومكارم الأخلاق ويحذرون من الصفات الرذيلة، وبالتالي احترام القانون ورعاية النظام.


1. سورة ابراهيم/25.

2. وسائل الشيعه 14/29 ح 4.

3. سورة البقرة/285.

[ 161 ]

 

 

القسم الثالث

 

«حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى إِلَى مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله) فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وَأَعَزِّ الأَرُومَاتِ مَغْرِساً; مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ. عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الأُسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ; نَبَتَتْ فِي حَرَم، وَبَسَقَتْ فِي كَرَم; لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ; وَثَمَرٌ لاَيُنَالُ; فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، سِراجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ، وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ، سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَكَلامُهُ الْفَصْلُ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ; أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّ سُلِ، وَهَفْوَة عَنِ الْعَمَلِ، وَغَبَاوَة مِنَ الأُمَم».

—–

 

الشرح والتفسير

فضائل النبي(صلى الله عليه وآله)

ركز الإمام(عليه السلام) في إطار حديثه عن أنبياء الله ورسله على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد(صلى الله عليه وآله)وفضائله وكمالاته وأعظم صفاته من جميع الجهات. فقد تطرق في بادىء الأمر إلى أجداده الطاهرين وعظم فضيلة ونسبه(صلى الله عليه وآله) ثم خاض في فروع هذه الشجرة المباركة من عترته وأهل بيته. ثم تناول في المرحلة الاُخرى صلاحيته في زعامة الاُمّة، كما تحدث عن انبثاق دعوته وقيامه بالامر، ومن شأن كل بعد من هذه الابعاد أن يكشف عن عظمته(صلى الله عليه وآله). فقد قال(عليه السلام) بأنّ الله وأصل عنايته ولطفه ببعث الأنبياء إلى أن ختمهم بالنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله): «حتى أفضت كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمد(صلى الله عليه وآله)».

حيث استخرجه من أطيب المعادن وأفضلها ومن أطيب الترب وأعزها، وجعل فرع

[ 162 ]

وجوده من شجرة الأنبياء، تلك الشجرة الطيبة التي اصطفى منها أمناء رسالاته: «فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعز الارومات(1) مغرساً: من الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتجب منها أمناءه».

قطعاً أنّ أحد الابعاد المهمة في شخصية الإنسان انما يبلوره البعد الوراثي، حيث يكتسب الأبناء القدسية من جراء الآباء من أهل الورع والتقوى والصلاح، والاُمهات من ذوي الطهر والنجابة والعفاف. وبالطبع كل ذلك دون حصول الاجبار. والنبي(صلى الله عليه وآله)كان نموذجاً بارزاً في هذا الأمر; فهو ينتهي لآل ابراهيم(عليه السلام) والأنبياء الذين إنحدروا من نسله، من صلب بني هاشم المعروفون بالشجاعة والكرم والاثرة، من ولد عبدالمطلب المشهور بإيمانه وعدله وشجاعته. فقد انفرد(صلى الله عليه وآله) بكل هذه الصفات.

الحقيقة الاُخرى التي لاغبار عليها هى أنّ الأبناء من ذوي الشخصيات والأحفاد من أهل الفضائل دليل آخر على شخصية كل إنسان وقد يما قيل (الظرف ينضح بما فيه).

ومن هنا ذكر الإمام(عليه السلام) بأنّ عترته من أهل بيته من أفضل العتر وأطيبها، واسرته(صلى الله عليه وآله) من خير الاسر، وشجرته المباركة من أحسن الشجر: «عترته(2) خير العتر، وأسرته خير الاُسر، وشجرته خير الشجر» الشجرة التي نبتت في حرم الله الأمن، وبسقت في سماء الكرامة والفضيلة: «نبتت في حرم، وبسقت في كرم».

وتمتاز هذه الشجرة بفروعها الطويلة وثمارها الطيبة القيمة التي لاتبلغها أيادي السفلة: «لها فروع طوال، وثمر لاينال».

فالحق أنّ الإمام(عليه السلام) أدى حق الكلام بهذه العبارات اللطيفة الرائعة بشأن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)وعترته الطاهرة(عليهم السلام)، واماط اللثام عن عظمة وبركة هذه الشجرة الطيبة، ليبيّن بتشبيهات وعبارات جميلة فضائله ومناقبه(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته.

وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بالحرم في قوله: «نبتت في حرم» الحرم


1. «أرومات» جمع «ارومة» بمعنى أصل الشيء وأساسه، كما تطلق على جذر الشجرة.

2. «عترة» من مادة «عتر» على وزن سطر آل بيت الرجل ونسله ورهطه الأقربون، والعشيرة. ومعناها الأصلي هو الأصل.

[ 163 ]

المكي، الذي نمت فيه شجرة النبي (صلى الله عليه وآله)، وترعرعت ونمت في ظله، بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد بالحرم هنا العترة والحرمة; أي أن شجرته(صلى الله عليه وآله) نبتت في غاية الحرمة والعزة، ولكن يبدو المعنى الأول أنسب.

والعبارة «بسقت في كرم» إشارة إلى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لم يلد في أرض وأسرة عزيزة كريمة فحسب، بل ترعرع وتربى في بيئة مفعمة بالكرامة والشموخ (لأن البسوق في الأصل تعني ارتفاع وطول فروع وأغصان النخل).

والعبارة «ثمر لاينال» لا تعني أن يد أحد لاتصل إلى ثمار هذه الشجرة المباركة; لأن هذه ليست فضيلة، بل كما ذكرنا سابقاً إمّا ان يكون المراد أنّه لاتبلغ يد الطالحين ثمار هذه الشجرة الفاضلة، وإمّا أن يكون المراد أنّ ثمار هذه الشجرة المباركة إلى درجة من الفضل والكرامة بحيث لايمكن أن يصافها أحد.

ويتبين ممّا ذكرنا آنفاً أنّ الشجرة في العبارة الاولى إشارة إلى إبراهيم(عليه السلام) والأنبياء السابقين، وفي العبارة الاُخرى إشارة إلى شجرة وجود النبي(صلى الله عليه وآله) وعترته فروعها.

ثم أشار بعد ذلك بتسع عبارات فصار إلى سائر الخصال المهمة الحميدة للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فقال(عليه السلام): «فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى، سراج لمع ضؤوه، وشهاب سطع نوره، وزند(1) برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل» فالعبارة: «إمام من اتقى...» شبيهة «هدى للمتقين» بشأن القرآن التي وردت في الآية الثانية من سورة البقرة. والمراد إنّما يستضيئى بنور هذا السراج الهادي والزعيم الاوحد من كانت له عين باصرة وقلب واع ينشد الحقيقة والفضيلة، بعبارة اُخرى يتحلون بالتقوى التي تجعلهم مستعدين لقبول الحق; ولذلك فليس من العجيب ألايهتدي بهديه أهل التعصب والعناد والأحقاد والضغان من عمي البصائر، على غرار مكفو في البصر الذين لايرون الشمس في رابعة النهار فلا يستفيدون من ضيائها، والعبارة: «سيرته القصد» شبيهة ما ورد في القرآن الكريم: (وَكَذ لِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(2)، فهى إشارة إلى اعتدال سيرة النبي(صلى الله عليه وآله)وابتعاده عن كل


1. «زند» ما تشعل به النار مثل الكبريت، أو الوسائل القديمة التي كانت توقد منها النار.

2. سورة البقرة/142.

[ 164 ]

افراط وتفريط في كافة الشؤون العبادية والاخلاقية والسياسية والاقتصادية.

ولعل هناك من يتصور أن هناك تضاد بين العبارة «وحكمه العدل» وما ورد في الحديث الشريف عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إنّما أقضي بينكم بالبينات والإيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض; فأيما رجل قطعته من مال أخيه شيئا، فانما قطعت له به قطعة من النار».(1)

وذلك لأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد يحكم بخلاف الواقع على ضوء مفهوم هذا الحديث. إلاّ أنّ الجواب على هذا الإشكال يبدو واضحاً، وهو أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لم يستعن في إصداره للأحكام على الوحي والغيب، وإنّما يصدر أحكامه دائماً على ضوء الأدلة والمدارك المتعارفة الموجودة، وهذا بحد ذاته عين العدالة، في أن يستند القاضي إلى المدارك الموجودة في إصداره للأحكام والقضاء، فاذا كان هناك من يضعف عن بيان الحق، أو لا يستطيع أن يقدم المدارك المطلوبة فيتعرض إلى نوع من الاجحاف فانّ ذلك لا يخدش البتة في عدالة القاضي، ولو كان غير ذلك لما أمكن تسميته عادلاً.

ثم اختتم الإمام(عليه السلام) كلامه بالاشارة إلى الظروف الصعبة والملابسات التي رافقت ظهور النبي(صلى الله عليه وآله) ليكشف النقاب عن عظمة دعوة النبي(صلى الله عليه وآله) والجهود الجبارة التي بذلها في هذا الشأن، فقد بعثه الله بعد مدة طويلة من الرسل (ومن هنا) ابتعد الناس عن العمل الصالح وعاشوا الانحراف، وساروا نحو الجهل والظلام: «أرسله على حين فترة من الرسل، وهفوة(2) عن العمل، وغباوة(3) من الاُمم» وتتضح حقيقة هذه العبارات من خلال التأريخ البشري إبان ظهور الدعوة الإسلامية، ولاسيما أوضاع عرب الجاهلية.(4)

ومن الطبيعي أن تكون وظيفة أولياء الله والمصلحين الربانيين ودعاة العدل والحق والاخلاق والفضيلة أصعب وأعقد كلما كانت الظروف السائدة قاسية تدعو إلى الجهل والبلادة والفساد والانحراف، ومن هنا نكتشف عظمة النبي(صلى الله عليه وآله) وعظم جهوده في تغيير ذلك المجتمع.


1. وسائل الشيعة 18/169 ح 1.

2. «هفوة» من مادة «هفو» الزلل.

3. «غباوة» من الغباء وعدم الفهم.

4. راجع شرح الخطبة الاولى 1/228.

[ 165 ]

تأمّلان : 1 ـ منزلة النبي(صلى الله عليه وآله) لدى الآخرين

لايقتصر ماورد في هذه الخطبة من صفات عاليات وكرامات شامخات للنبي(صلى الله عليه وآله) على علي(عليه السلام) واتباعه، بل اننا لنرى حتى كبار الشخصيات الغربية من غير المسلمين ليقفون وقفة إجلال وإكبار لنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله).

فهذا الفيلسوف والكاتب الانجليزي برناردشو يقول: إنّ دين محمد هو الدين الوحيد الذي يلوح لي أنّه حائز على أهلية الهضم لأطوار الحياة المختلفة بحيث يستطيع أن يكون جاذباً لكل جيل.... أنّ محمداً يجب أن يدعى منقذ الإنسانية، وأعتقد أنّه لو تولى رجل مثله زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشاكله بطريقة تجلب إلى العالم السعادة والسلام، أنّ محمداً أكمل البشر من السابقين والحاضرين، ولا يتصور وجود مثله في الآتين.(1)

 

2 ـ اُسرة النبي(صلى الله عليه وآله)

لم يقتصر الحديث عن شرف نسب النبي(صلى الله عليه وآله) وعظمة طائفته واُسرته على ماورد في كلام أميرالمومنين علي(عليه السلام) في هذه الخطبة، بل تظافرت أحاديث النبي(صلى الله عليه وآله) في مصادر الفريقين بهذا الشأن. ومن ذلك أنّه(صلى الله عليه وآله) قال: «إن جبرائيل(عليه السلام) قال لي: يا محمد! قد طفت الأرض شرقاً وغرباً، فلم أجد فيها أكرم منك، ولا بيتاً أكرم من بني هاشم»(2). وجاء في حديث آخر: «سادة أهل المحشر سادة أهل الدنيا: أنا وعلي وحسن وحسين وحمزة وجعفر»(3). وورد في الحديث أيضاً: «أنّه لايبغض أحد أهلي إلاّ حرمه الله الجنّة»(4). وروي عن عائشة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال:«قال لي جبرائيل: يا محمد! طفت شرق الأرض وغربها فلم أر أكرم من بني هاشم»(5)، وجاء في صحيح مسلم ـ وهو من المصادر المشهورة لدى العامة ـ في بحث


1. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة 1/63.

2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7/63.

3. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 7/63.

4. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7/64.

5. ورد الحديث في عمدة ابن بطريق /273; فضائل الصحابة لأحمد بن حنيل 2/628.

[ 166 ]

فضائل الصحابة في قضية الغدير أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال في خطبته ثلاثا: «اذكركم الله في أهل بيتي»(1).

والطريف في الأمر أنّ الإمام الحافظ أبوالعباس أحمد بن عمر بن ابراهيم القرطبي ـ من مشاهير علماء العامة ـ صرح في كتابه المفهم الذي شرح فيه صحيح مسلم حين بلغ هذا الحديث قائلاً: من العجب أن يخالف بني أمية أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) ويضيعوا حقهم رغم وصايا النبي(صلى الله عليه وآله) بهم، حتى أراقوا دمائهم وسبوا نسائهم واخربوا بيوتهم وسنوا لعنهم. فويل لهم يوم القيامة.(2)

والأعجب من ذلك دفاع البعض عن معاوية رغم فضائح بني أمية ومدى سعة ظلمهم وجورهم.

على كل حال فانّ شجرة النبي(صلى الله عليه وآله) وفروعها المباركة مصداق واضح للآية 24 و25 من سورة ابراهيم: (كَشَجَرَة طَـيِّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُـؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِـين بِـإِذنِ رَبِّها).

ونختتم حديثنا هذا بهذه الأبيات الرائعة(3):

يا حبذا دوحة في الخلد نابتة *** ما مثلها نبتت في الخلد من شجر

المصطفى أصلها والفرع فاطمة *** ثم اللقاح علي سيد البشر

والهاشميان سبطاه لها ثمر *** والشيعة الورق الملتف بالثمر

هذا مقال رسول الله جاء به *** أهل الرواية في العالي من الخبر

—–


1. صحيح مسلم 4/1873 (كتاب فضائل الصحابة، ح 36).

2. المفهم 6/304.

3. منهاج البراعة 7/110.

[ 167 ]

 

 

القسم الرابع

 

«اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللّهُ، عَلَى أَعْلام بَيِّنَة، فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُو إِلى دَارِ السَّلَامِ، وَأَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَب عَلى مَهَل وَفَرَاغ، وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ، وَالأَقْلامُ جَارِيَةٌ، وَالأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ، وَالأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ، وَالأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ».

—–

 

الشرح والتفسير

اعملوا ما استطعتم

خاض الإمام(عليه السلام) في المقطع الأخير من الخطبة بالنتيجة الأخلاقية والعملية، ليبيّن بعض الاُمور المفيدة والمهمة بعبارات قصيرة، عظيمة المعنى. فقال(عليه السلام): «اعملوا رحمكم الله»، ثم أشار(عليه السلام) إلى المسير الذي ينبغي سلوكه في العمل وهو الاستناد إلى الكتاب والسنة «على أعلام بينة».

ثم أشار(عليه السلام) إلى أنّ تشخيص هذا المسير ليس بالشيء الصعب فالسبيل واضح يدعو إلى الأمن والأمان والسعادة الخالدة في الجنّة: «فالطريق نهج يدعو إلى دار السلام».

ثم تطرق(عليه السلام)إلى الفرص الثمينة التي زود بها الإنسان، وغالباً ما يهملها، ليوضحها(عليه السلام)بثمان عبارات ويكشف جميع جوانبها، أشار في العبارة الاولى إلى أنّكم في دار يمكنكم فيها تلافي ما يفرط منكم: «وأنتم في دار مستعتب».(1)

ولديكم الفرصة الكافية والمهلة الوافية للقيام بالصالحات من الأعمال: «على مهل وفراغ».


1. مستعتب من مادة عتب على وزن حتم طلب العتبى، أي طلب الرضى من الله بالأعمال النافعة.

[ 168 ]

وصحيفة الأعمال مفتوحة والقلم مشرع للكتابة: «والصحف منشورة والاقلام جارية».