على كل حال فانّ الوسيلة الاولى التي ذكرت هى الإيمان; الإيمان بالله والنبي، لأنّ الإيمان أساس الحركة البناءة والفاعلة.

الطريف في كلام الإمام(عليه السلام) أنّه تطرق في كل نقطة دليلها بصيغة تعليل وفلسفة لكافة الواجبات العشر الواردة في العبارة، سوى مسألة الإيمان بالله والنبي. وذلك لأنّ هذه المسألة غنية عن ذكر الدليل، وبعبارة اُخرى فانّ أساس الصالحات والخيرات واعمال البر إنّما يكمن في الإيمان، وبدونه ليس هنالك من حركة نحو الفرائض الإلهية والواجبات الدينية. فالأمر على درجة من الوضوح بحيث لايحتاج إلى دليل.

ثم أشار(عليه السلام) إلى الواجب الثاني: «والجهاد في سبيله، فانه ذروة(1) الإسلام» وللجهاد هنا معنى واسع يشمل الجهاد العلمي والإعلامي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكافة الجهود والمساعي البناءة من أجل النهوض بالاهداف الإسلامية وحتى جهاد النفس، إلى جانب الجهاد العسكري والمقاومة ضد العدو.

والعبارة «ذروة الإسلام» تفيد عدم جدوى الجهاد ما لم يكن عاماً شاملاً. وقد قال الإمام(عليه السلام)في موضع آخر من نهج البلاغة بشأن فلسفة الأحكام ومنها الجهاد: «والجهاد عن للإسلام»(2).

ورغم سعي إعداء الإسلام إلى استغلال مفردة الجهاد الإسلامي واساءة تفسيرها من خلال وصفها بالعنف إلاّ أنّهم يغفلون عن المعنى الواقعي للجهاد والذي يتمثل بالصمود من أجل الحياة ومقاومة العناصر الهدامة; وهو الأمر الذي أودع طبيعة كل إنسان.

فالحق أنّ الحياة لتتعذر علينا ولو ضعفت الخلايا ليوم واحد كتلك التي ركبت في بدن الإنسان وتقوم بوظيفتها في الدفاع عنه ومهاجمة المكروبات والجراثيم التي تحاول اختراق البدن، وما المرض الخطير الذي يصطلح عليه بالايدز إلاّ اختلال القوى الدفاعية للبدن. فالمجتمع الذي يتخلى عن الجهاد إنّما يكون كهذا المريض المصاب بالايدز، فيصبح مسرحاً


1. «ذروة» على وزن قبلة أعلى الشيء.

2. نهج البلاغة، الحكمة 252.

[ 397 ]

لهجوم أنواع المشاكل والمعضلات.

وبالطبع أن أولئك الذين صوبوا سهام حقدهم نحو الجهاد الإسلامي، ليعلمون جيداً أنّ التسلط على المسلمين متعذر مادام هذا الأصل المتمثل بالجهاد نابض بالحياة، فلو حذف الجهاد بحجة العنف، لم تعد هنالك من مشكلة أمام تسلط الاعداء.

على كل حال فان ذكر الإمام(عليه السلام) للجهاد كواجب بعد الإيمان بالله والنبي يفيد موت الدين في حالة غياب هذا الواجب.

فقد ورد في حديث عن علي(عليه السلام): «والله ما صلحت دنيا ولا دين إلاّ به»(1).

ثم ذكر(عليه السلام) الواجب الثالث «وكلمة الاخلاص فانها الفطرة».

والمراد بكلمة الاخلاص «لا إله إلاّ الله» التي تتضمن الشهادة لله بالوحدانية والعبودية ونفي الشرك والوثنية.

وتفيد بعض الروايات أنّ للاخلاص بعد عملي يتمثل بالاقبال على الحق سبحانه والأغماض عما سواه إلى جانب التحفظ عن ارتكاب الذنب والمعصية. فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من قال لا إلاّ الله عما حرم الله»(2).

ومن الواضح أنّ من يقارف الذنوب أو ينقاد للشيطان أو الأهواء فانّه مشرك في عمله، وهذا ما يتناقض وحقيقة الأخلاص.

ثم قال(عليه السلام): «واقام الصلاة فانّها الملة»، والملة هنا تعني الدين، أمّا أنّ الصلاة لم تعد جزءاً من الدين بل الدين كله، وذلك لأنّ الصلاة الدعامة الأساسية للدين. فقد جاء في الحديث النبوي المعروف أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: «الصلاة عماد الدين، فمن ترك صلاته متعمداً فقد هدم دينه»(3).

كما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب والأوتاد والغشاء، وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب، ولا وتد ولا غشاء»(4).

ثم قال(عليه السلام): «وايتاء الزكاة فانها فريضة واجبة».


1. وسائل الشيعة 1/9.

2. بحار الانوار 8/359.

3. جامع الأخبار (طبق نقل بحار الانوار 79/202).

4. منهاج البراعة 7/398 وبحار الانوار 79/218.

[ 398 ]

تطلق الفريضة عادة على الواجب، وبناءاً على فانّ ذكر الواجبة بعدها للتأكيد، إلاّ أنّ للفريضة معنى آخر أنسب لموضع بحثنا، وهو قطع وفصل الشيء، وهنا قسم من المال الذي يفصل لهدف.

أو بعبارة اُخرى الضريبة التي فرضت لمساعدة الضعفاء في المجتمع وتأمين بعض تكاليف الحكومة الإسلامية.

وقد ورد في القرآن بشأن أسهم الإرث: (نَصِـيباً مَفْرُوضاً)(1).

ومن هنا عبر العلماء الاعلام في مباحث الإرث بكتاب الفرائض بدلاً من كتاب الارث.

على كل حال فانّ مسألة الزكاة من أهم أركان الإسلام بعد الصلاة.

وقد جاء في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان في مسجده فنادى خمسة أشخاص وقال: «لاتصلوا فيه وانتم لا تزكون»(2).

ثم قال(عليه السلام): «وصوم شهر رمضان فانّه جنّة من العقاب».

ورد التعبير هنا «جنّة من العقاب» بينما وردت العبارة في الحديث المعروف «جنّة من النار»(3).

ويكفي في فضل الصوم أنّه يخرج الإنسان من البهيمية إلى عالم الملائكة ويجلسه على بساط القرب الإلهي.

ثم بين الركن السابع من أركان الإسلام فقال: «وحج البيت واعتماره فانّهما ينفيان الفقر ويرحضان(4) الذنب».

لاشك أنّ لزيارة بيت الله بركات مادية واُخرى معنوية وروحانية، وقد أشير إليهما هنا، وقد وردت خلاصة ذلك في الآية الشريفة 28 من سورة الحج: (لِـيَشْهَدُوا مَـنافِـعَ لَهُمْ )وقد ورد فى الحديث «يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه»(5) أما تأثيره في ازالة الفقر ـ علاوة على بركاته المعنوية ـ فذلك أنّ المسلمين يستطيعون أن يقيموا الاسواق الاقتصادية إلى


1. سورة النساء/7.

2. شرح نهج البلاغة للمرحوم الشوشتري 13/102.

3. الكافي 4/62 ح 1.

4. «يرحضان» من مادة «رحض» على وزن محض الغسل، إشارة إلى أنّ الحج والعمرة يغسلان الذنوب.

5. بحار الانوار 69/26.

[ 399 ]

جانب مراسم الحج من أجل ممارسة الانشطة والمبادلات التجارية بحيث بديرون نوعاً من التجارة العالمية فيما بينهم، فقد كان هناك مثل هذه الأسواق البدائية على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله).

ولو جد المسلمون اليوم في تقوية بناهم الاقتصادية لتمكنوا حقاً من سد حاجات الفقراء والمعوزين. ومن هنا ورد في حديث الإمام الصادق(عليه السلام): «ما رأيت شيئا أسرع عني ولا أنفى للفقر من إدمان حج البيت»(1).

ثم قال(عليه السلام) في بيان الركن الثامن: «وصلة الرحم فانّها مثراة(2) في المال ومنسأة(3) في الأجل».

فصلة الرحم واضافة إلى تأثيرها في ازدياد المال تؤدي إلى نماء العمر وزيادته، ولعل ذلك لدعاء الأرحام بعضهم لبعض، إلى جانب معونة بعضهم البعض في الأمراض; الأمر الذي يؤدي إلى طول العمر، ناهيك عن تقليلها من الهم والغم والحزن.

فقد جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسىء في الأجل»(4).

ثم قال(عليه السلام) في الركن التاسع من أركان الإسلام: «وصدقة السر فانّها تكفر الخطيئة، وصدقة العلانية فانّها تدفع ميتة السوء»، المراد بصدقة السر المساعدات التي يقدمها الإنسان إلى الأفراد المحتاجين والمحترمين بدافع من نية خالصة إلى جانب السعي لحفظ ماء وجههم، ومن هنا كانت بركاتها جمة، والعبارة تشمل الصدقات الواجبة كالكفارات والنذورات والصدقات المتجة والانفاقات. والمراد بصدقة العلانية، المعونة الظاهرة ومن بركاتها تشجيع الاخرين على أفعال الخير. والعبارة اقتباس من الآية الشريفة: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرّاً وَعَلانِـيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(5).


1. بحار الانوار 66/406.

2. «مثراة» من مادة «ثرى» و «ثروة» وتعني الزيادة، وعلى هذا الاساس، يقال للمال الكثير «الثروة» و «مثراة» مصدر ميمي بمعنى اسم فاعل و يعني سبب الزيادة.

3. «منسأة» من مادة «نسأ» على وزن نسخ بمعنى التأخير، ومنسأة: مصدر ميمي بمعنى اسم فاعل يعني سبب التأخير.

ويقال للعصا «المنسأة» لانها تستعمل لازالة الاشياء الضارة التي تعترضنا أثناء السير.

4. الكافي 2/150.

5. سورة البقرة/274.

[ 400 ]

وتفيد روايات الفريقين أنّها نزلت في علي(عليه السلام) حين كان له أربعة دراهم انفق واحد منها في النهار وآخر في الليل وآخر سراً وآخر علانية.(1)

طبعا تطلق الصدقة في الفقه الإسلامي على ما يعطى للفقراء بقصد القربى إلى الله، إلاّ أنّ للصدقة مفهوم واسع يشمل كل عمل خير اجتماعي كبناء المساجد والمدارس والطريق والمستشفيات والأعمال الثقافية، ومن هنا جاء في رواية الإمام الكاظم(عليه السلام): «عونك للضعيف من أفضل الصدقة»(2) ولاشك أنّ بناء المستشفيات والمدارس وأمثال ذلك مصداق لعون الضعيف. وورد في الحديث النبوي: «كل معروف صدقة»(3).

وورد عنه(صلى الله عليه وآله) أيضاً: «الكلمة الطيبة صدقة»(4).

وقال الصادق(عليه السلام): «إسماع الاصم من غير تزجر صدقة هنئة»(5).

ونختتم هذا الكلام بحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في أنّه قال: على المسلم أن يتصدق كل يوم. فقال رجل: لانقدر كلنا على ذلك.

فقال(صلى الله عليه وآله): «إماطتك الاذى عن الطريق صدقة، وإرشادك الرجل إلى الطريق صدقة، وعيادتك المريض صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة»(6).

والمراد بميتة السوء، الموت تحت التعذيب والالام، كالاحتراق في النار، أو أثر الاصابة بمرض خطير شاق وحوادث الطريق.

ثم قال في الركن العاشر من أركان الإسلام: «وصنائع(7) المعروف فانّها تقي مصارع(8)الهوان».

والعبارة بصنائع المعروف تشمل كل عمل صالح، من قبيل ذكر العام بعد الخاص، كما


1. احقاق الحق 3/246ـ251.

2. تحف العقول، الكلمات القصار للإمام الكاظم(عليه السلام).

3. الخصال 1/134.

4. بحار الانوار 80/369.

5. بحار الانوار 71/388.

6. بحار الانوار 72/50 ح 4.

7. «صنائع» من مادة «صنع» على وزن «قفل» بمعنى صناعة الشيء وابداعه.

وفي لغة العرب يقال للاعمال الجيدة والحسنة «الصنائع» وهو جمع «صنيعة». «نقل من المعجم الوسيط».

8. «مصارع» جمع «مصرع» بمعنى السقوط على الارض، ويطلق لمحل القتل بالمصرع، ويقال للصراع بين طرفين «المصارعة» لان كل طرف من هذين الطرفين يحاول أن يطرح الآخر أرضاً.

[ 401 ]

يحتمل أن يكون المراد بصنائع المعروف مساعدة عباد الله.

وقد وردت عن الائمة(عليه السلام) عدة روايات أكدت مسألة صنايع المعروف، منها ماورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «أول من يدخل الجنّة أهل المعروف»(1)، وقال أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «عليك بصنائع المعروف فانها نعم الزاد إلى المعاد»(2).

كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه كان يحث أصحابه على صنائع المعروف ويقول: إنّ للجنّة باب اسمه المعروف لا يدخله إلاّ من كان يصنع المعروف في الدنيا، ثم قال: «إنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكل على الله عزوجل به ملكين واحداً عن يمينه، وواحدا عن شماله، يستغفرون له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته»(3).

 

فلسفة الأحكام

غالبا ما يعمد الاطباء المهرة إلى تنبيه مرضاهم إلى الآثار المهمة للأدوية والأطعمة المقوية التي تسرع في شفاء حالتهم المرضية; لكي يتحملوا مرارة الدواء برغبة ولهفة ويلتزموا بارشادات الطبيب. ولعل الأطباء الروحيين يسيرون على هذا النهج فيبينون فلسفة تشريع الأحكام ومعطيات البرامج الدينية للناس، ليثيروا فيهم الشعور والدافع نحو هذه البرامج ويرسخوا عزمهم في تنفيذها.

وقد راينا فموذج ذلك ـ بيان فلسفة الأحكام ـ في هذه الخطبة، حيث ينطوي هذا البيان على عدة فوائد، إلى جانب كونه يحث الناس على التفاعل مع الوظائف الدينية وممارستها بكل شوق ورغبة ويهون عليهم تحمل بعضى المشاق التي تشتمل عليها بعض الوظائف الدينية. ومن الفوائد التي يمكن ذكرها هنا:

1ـ تحدد للناس الاسلوب الصحيح الذي ينبغي أن تؤدي فيه الفريضته، مثلاً حين تبيّن فلسفة الحج «فرض الله الحج تشييدا للدين»(4)، فمفهوم ذلك إقامة مراسم الحج بكل عظمة


1. ميزان الحكمة 2/1931 ح 12611.

2. غرر الحكم، 6166.

3. الكافي 2/195 ح 10.

4. خطبة الزهراء(عليها السلام)، احتجاج الطبرسي 1/258، طبع اسوة، وورد مثل هذا المعنى في الكلمات القصار، 252.

[ 402 ]

لتحقيق هذا الهدف ولا يكتفون بآدابه الصورية الظاهرية.

2ـ أنّ يعلموا أنّ آثار وبركات هذه الأعمال تعود علينا، فليس هناك من منّة على الله، بل الله يمن علينا، الأمر الذي صرح به القرآن الكريم بشأن الإسلام والإيمان: (يَمُـنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاِْيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِـينَ)(1).

3ـ يمكننا تقييم أعمالنا من خلال الالتفات إلى فلسفة الأحكام، لنرى مدى قبولها عند الله، مثلاً حين يقال: «وفرض عليكم الصوم للتقوى والصلاة نهياً عن الفحشاء والمنكر» فانّ علينا أن نرى هل حصلت لدينا ملكة التقوى بعد القيام بالصوم والصلاة أم لا؟ وهكذا نقف على قيمة عباداتنا وأعمالنا.

نعم اننا نعلم بأنّ الله حكيم، وحكمته تقتضى ألايشرع شيئاً دون أن يبيّن هدفه ونتيجته، ويا لهم من جهال أولئك الذين يزعمون أنّ أفعال الله ليست معلله بغرض; أي ليس هناك من هدف في تشريعاته وأعماله! أنّهم ليسيئون بهذا الكلام إلى كونه حكيماً سبحانه، وهم يزعمون أنّهم اقتربوا من حقيقة التوحيد، والحال أنّهم مصداق لهذه الآية الشريفة: (قُلْ هَلْ نُنَبِّـئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَ نَّـهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(2).

نعم أفعال الله ليست معللة بأغراض، أي ليس هناك من هدف يعود إليه، لأنّه غني عن كل شيء وعن كل موجود; إلاّ أنّ المؤسف له أنّ هؤلاء الجهال لايقولون ذلك، بل يزعمون أن لاضرورة لأنّ تعود نتيجة أفعال الله وأوامره على العباد، وهذا منتهى الجهل!!

على كل حال فانّ الإمام(عليه السلام) بين فلسفة الأحكام في هذه الخطبة، بحيث يتأجج الشوق في أعماق من يتمعنها لأن يؤدي وظائفه على أكمل وجه دون أن يشعر بالتعب والملل.

—–


1. سورة الحجرات/17.

2. سورة الكهف/103ـ 104.

[ 403 ]

 

 

القسم الثاني

 

«أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللهِ فَانَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ. وَارغَبُوا فِيَما وَعَدَ المُتَقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ. وَاقْتَدُوا بِهَدْي نَبِيِّكُمْ فَاِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ. وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أهْدَى السُّنَنِ. وَتَعَلَّمُوا الْقُرآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيِعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَص، وَإِنَّ الْعَالِمَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ; بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عِنْدَ اللهِ أَلْوَمُ».

—–

 

الشرح والتفسير

القرآن والسنة

بعد أن فرغ الإمام(عليه السلام) من بيان أركان الإسلام وذكر فلسفة الأحكام، دعا الناس إلى امتثال الأحكام والعمل بالوظائف فقال (عليه السلام): «أفيضوا في ذكر الله فانّه أحسن الذكر».

فالعبارة «أفيضوا» تفيد كثرة ذكر الله سبحانه والتوجه إليه.

والعبارة «أحسن الذكرى» لأنّ ذكر الله سبحانه مصدر وأساس كافة البركات المادية والمعنوية.

فقد جاء في الحديث النبوي: «ليس عمل أحب إلى الله تعالى، ولا أنجى لعبد من كل سيئة في الدنيا والآخرة، من ذكر الله. قيل: ولا القتال في سبيل الله؟ قال: لولا ذكر الله لم يؤمر بالقتال»(1).


1. كنز العمال، 3931.

[ 404 ]

ثم قال(عليه السلام): «وارغبوا فيما وعد المتقين فانّ وعده أصدق الوعد، واقتدوا بهدي نبيّكم فانّه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فانّها أهدى السنن».

لاشك أنّ الوعود الإلهية للمطيعين والمؤمنين الصالحين لهي أصدق الوعود، لأنّ من يتخلف عن الوعد إمّا عاجز، أو بخيل أو جاهل، حيث يعد دون علم، ثم لايفي بوعده. أمّا من كان مطلق في علمه وقدرته فخلف الوعد محال عليه.

المراد بالهدى (على وزن منع) السبيل والاسلوب والطريقة.

والسنة تعني ما يصدر من الأوامر في مختلف المجالات، ولما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو خاتم الأنبياء، فمن الطبيعي أن تكون سنة أهدى السنن.

ثم أكد الإمام(عليه السلام) على القرآن فقال: «وتعلموا القرآن فانّه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه، فانّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فانه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فانّه أنفع القصص».

فقد ذكر الإمام(عليه السلام) أربع مراحل مختلفة تتقدم كل واحدة منها بصورة طبيعية على الاُخرى.

في المرحلة الاولى أوصى(عليه السلام) بتعلم القرآن على أنّه أحسن الحديث; وذلك لاشتماله على أكمل أسس سعادة الإنسان.

المرحلة الثانية أوصى(عليه السلام) بالتفكير والتدبر فيه وسبر غوره والوقوف على معناه ومضمونه، بفضله ربيع القلوب، فكما تتفتح البراعم في فصل الربيع وتورق الأشجار وتنبت الأوراد والزهور وتنتشر رائحتها العطرة في كل مكان، فببركة القرآن الكريم تظهر على القلب زهور فضائل الأخلاق وبراعم المعارف الإلهية، فمن لم يكتسب منه الحياة الإنسانية، كان كالشجرة اليابسة التي لاتهتز وتتحرك في فصل الربيع.

المرحلة الثالثة الأمر بالعمل والقول: عليكم بالاستشفاء بنور آيات الله، على غرار نور الشمس التي يستشفى في ظلها المرضى، فقد قيل أشعة الشمس قد تغني عن حضور الطبيب. والمرحلة الرابعة: «أحسنوا تلاوته» لتغوص القلوب فيه وتطبع بطابعه فتبلغه إلى الآخرين.

وهكذا يكون الإمام(عليه السلام) قد حدد وظيفة الأفراد تجاه القرآن الكريم. وليت الأفراد لم يكتفوا بالاقتصار على حسن تلاوة القرآن وتجويده والتركيز على جمالية الصوت، والتفتوا إلى سائر

[ 405 ]

المراحل التي تشكل الدف الأصلي للقرآن. وقد عبرت العبارة الاولى عن القرآن على أنّه أحسن الحديث، والعبارة الأخيرة أنفع القصص. فالحديث ما يصدر من المتحدث من كلام (لأنّ الحديث من مادة حدوث ويطلق على الكلام الحديث لأنّه حادث باستمرار) فالمفهوم أنّ القرآن أفضل كلام بين الناس، من حيث الفصاحة والبلاغة، ومن حيث المحتوى والمضمون، والواقع هو أنّ العبارة إشارة إلى الآية الشريفة: (اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ)(1).

أمّا أحسن القصص فقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بها المجموعة القرآنية بما فيها الآثار والنتائج العلمية للقرآن التي تتحصل في ظل اجراء الأحكام والتعاليم القرآنية.

ومن هنا وردت الإشارة في آخر الخطبة إلى نقطة مهمّة بالنسبة للعالم الذي لاعمل له، واولئك الذين يتلون القرآن ولايعملون به، إذ قال(عليه السلام): «إنّ العالم بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لايستفيق(2) من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة ألزم، وهو عند الله ألوم(3)».

فالعبارة تشتمل على تشبيه رائع للعالم بلا عمل (أو بتعبير الإمام(عليه السلام) العالم الذي لايعمل بعلمه) يفيد أنّ مثل هذا العالم أقل درجة في الواقع من الجاهل العادي. بل هو كالجاهل الحائر الذي لايفيق من جهله قط، فليس هنالك من أمل في هدايته; وذلك لأنّه يسير عن علم على الطريق الاعوج، ومن هنا فان الله سبحانه يسلبه توفيق الهداية فيفقد صوابه في هذه الحيرة ولايصل ساحل النجاة أبدا فيسقط في الهاوية.

ثم أشار(عليه السلام) إلى مدى بؤس مثل هذه العالم السادر في غيه فقال(عليه السلام) أولاً بأنّ الحجة عليه أعظم، فقد يتذرع الجاهل بجهله (إن يكن الجهل عذراً) ولكن ما عذر العالم بلا عمل.

والثاني حسرته لازمة، فقد تخلف عن السعادة وكانت كافة أسبابها لديه فتاه حائراً في صحراء الحياة.


1. سورة الزمر/17.

2. «يستفيق» من مادة «استفاقة» بمعنى تحسن الحالة الصحية بعد المرض والوعي بعد السكر واليقظة من النوم وجاءت هذه الكلمة فى هذه الخطبة بالمعنى الثالث أي اليقظة من النوم.

3. «ألوم» من مادة «لوم» على وزن قوم بمعنى العتب، ومع الأخذ بنظر الاعتبار بان «ألوم» هى صيغه أفعل تفضيل، وهنا تعني الملامة، وهو الأنسب.

[ 406 ]

والثالث أنّه أكثر لوماً عند الله من الجاهل الحائر، لأنّ الحجة عليه أتم من غيره. ومن هنا ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(1). بل يتعذر قبول توبة هذا العالم الذي لاعمل له. فقد صرح القرآن الكريم قائلاً: (إِنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة...)(2).

 

تأمّل : عاقبة العالم غير العامل

الناس على أربع: عالم، جاهل مقصر، جاهل مقصر بسيط وجاهل مركب. فالعالم من يعلم المطلب على نحو الاجمال أو التفصيل; أي قد يكون له أحياناً علم اجمالي بالشيء، وقد يكون له أحياناً اُخرى علم تفصيلي. فهو يعلم مثلا على نحو الإجمال أنّ المسكر حرام وله أضرار على جسم الإنسان وروحه. أو أنّه رأى على نحو التفصيل أدلة حرمة المسكر وقد درس الآثار الضارة له على كل عضو من أعضاء البدن.

والجاهل القاصر من لايعلم، وليس له من سبيل إلى العلم، وربّما كان بعيداً عن مراكز العلم فانغمس في الغفلة والسهو.

والجاهل المقصر من له سبيل إلى العلم، إلاّ أنّ الكسل والإهمال لم يدعه يتجه إلى العلم، فيبقى في جهله، مع ذلك فهو يعلم بجهله!

أي يدري أنّه لايدري.

وأمّا الجهل المركب فهو من جهل ولايدري أنّه في جهل. بل بالعكس يظن أنّه عالم وما يفهمه من الاُمور هو عين الواقع، وبعبارة اُخرى فهو: لايدري أنّه لايدري.

ويبدو أنّ الخطر والمسؤوليته التي تتوجه إلى الجاهل القاصر أقل من غيرها بالنسبة للطوائف الأربع، ويأتي بعده الجاهل المقصر ثم الجاهل المركب; الذي قد يدفعه جهله المركب لايجاد بعض المشاكل لنفسه والآخرين. إلاّ أنّ الأخطر من الجميع هو العالم.


1. الكافي 1/47 ح 1.

2. سورة النساء/17.

[ 407 ]

الذي لا عمل له. وإلى هذه الطائفة تعزى جميع الكوارث التي تكبدتها البشرية طيلة التأريخ بما فيها النزاعات والحروب في الماضي والحاضر.

فهم الذين يصنعون أخطر أسلحة الدمار الشامل التي تهدف إلى القضاء على الأبرياء من المجتمع البشري. وهم الذين يشعلون فتيل الحرب من أجل تحقيق مآربهم واطماعهم.

وأخيراً هؤلاء هم الذين يستحوذون على المواقع المتقدمة والمراكز الحساسة في الأجهزة الإعلامية ووسائل الدعاية ليمارسوا أوسع عملية تضليل ليشوهوا الحقائق فيسوقوا الجهال إلى نيران فتنهم ويقضوا على حياتهم. وقد شبههم القرآن الكريم بالكلاب إذ قال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ)(1).

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:ترى ما سر هذا التضاد بين العمل والعلم أولم يكن حرياً بهذا العالم أن يتجه إلى الصواب ويقود الناس إليه؟

ويبدو الجواب واضحاً على هذا السؤال وهو أن أسس ودعائم إيمان هذا العالم إنّما هى في الواقع ضعيفة خاوية، وإن انتحل الإسلام والعلم ظاهراً، إلاّ أنّ لسانه الباطني «يقولون إن الله خالق جنّة ونار وتعذيب وغل يدين»(2).

كما قد يكون مؤمنا بالله إلاّ أنّه منقاد لهوى نفسه الذي يتغلب على إيمانه.

ونختتم هذا الكلام بحديث عن علي(عليه السلام) في أنّ التوارة قد اختتمت بخمس عبارات هى(3).

الأول: العالم الذي لا يعمل بعلمه فهو وابليس سواء.

والثاني: سلطان لايعدل برعيته فهو وفرعون سواء.

والثالث: فقير يتذلل لغني طمعاً في ماله فهو والكلب سواء.

والرابع: غني لاينتفع بماله فهو والاجير سواء.

والخامس: إمرأة تخرج من بيتها بغير ضرورة فهى والاُمّة سواء.


1. سورة الأعراف/176.

2. ورد ذلك عن عمر بن سعد حين اقترح عليه قتال الحسين(عليه السلام) في كربلاء، واعطائه ملك الري، ففكر في الأمر ثم انشد شعرا، زعم فيه أن يقتل الحسين(عليه السلام)ويفوز بملك الري ثم يتوب اله الله سبحانه. ألا لعنة الله على الظالمين.

3. الاثني عشرية /206.

[ 408 ]

اللّهم نسألك العمل بما نعلم من العلم الذي أفضته علينا في ظل قبسات وعلوم نهج البلاغة لأميرالمؤمنين علي(عليه السلام)، اللّهم ولاتقرنا مع الشيطان أبداً، اللّهم نسألك حسن العاقبة وأن تختم لنا بالخير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

تم بعون الله المجلد الرابع من شرح نهج البلاغة

في 17 شوال. عام 1422 هـ ويليه المجلد الخامس ان شاء الله.