![]() |
![]() |
فأخذت الأعضاء تموت الواحد بعد الآخر ولم يبق له من لسان ناطق أو أذن سامعة: «يردد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم، ولايسمع رجع كلامهم» أنّهم يسعون لأنّ يرتبطوا به ولكن لم يعد هنالك من سبيل.
ثم قال(عليه السلام): «ثم ازداد الموت التياطاً(1) به، فقبض بصره كما قبض سمعه، وخرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله، قد أو حشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، لا يسعد باكياً، ولا يجيب داعياً».
ثم بلغ مرحلته الأخيرة: «ثم حملوه إلى مخط(2) في الأرض، فأسلموه إلى عمله، وانقطعوا عن زورته(3)».
لقد ألفوه سنوات، كان يضحكون معه وربما لم يطيقوا بعده، أمّا الآن بعد أنّ حل الموت بساحته، فهم لم يعودوا يتحملوا الجلوس بقربه ولو لساعه، وكأنهم لم يألفوه وكانوا غرباء عنه.
ليست هناك من لحظة يتعرض فيها الإنسان لأعظم خطر طيلة حياته أبلغ وأوجع من لحظة الاحتضاره فهى.
1. «التياط» من مادة «ليط» على وزن ليل الالتصاق.
2. «مخط» الحفرة وتطلق على القبر، لأنّهم بحظون ثم يحفرون.
3. «زوره» من مادة «الزيارة» وجاءت بهذا المعنى.
لحظة انتهاء الامال والأماني.
لحظة الاغماض عن كافة وسائل الحياة.
لحظة مفارقة الأهل والأقرباء والأصدقاء.
لحظة وداع الدنيا وما فيها.
وبالتالي لحظة الانتقال إلى عالم جديد ربما انطوى على كثير من المشاكل والمعضلات الخطيرة.
وقد صور الإمام(عليه السلام) هذه اللحظات بصورة دقيقة متابعا الموت مرحلة مرحلة تملأ القلب رعبا وخشية إذا ما تمثلها على حقيقتها.
فقد هدف الإمام(عليه السلام) إلى ايقاظ الإنسان من غفلته قبل أن يفيق في اللحظة حين لا يجديه نفعاً، فيستعد لها ويهيى الزاد اللازم لها.
وهنا لاينبغي أن ننسى بأنّ أولياء الله والصالحين من العباد إنّما يستقبلون الموت برحابة صدر وطلاقة وجه; وذلك لأنّهم يرون الموت طفرة نحو السعادة والخلود والحياة الابدية، وبعبارة اُخرى فانّ سكرات الموت إنّما تتوقف على أعمال الإنسان، وعليه فيمكن أن تكون من أخطر اللحظات وأصعبها، كما يمكن أن تكون من أجملها وأروعها.
—–
«حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَالاَمْرُ مَقَادِيَرهُ، وَأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ، أَمَادَ السَّماءَ وَفَطَرَهَا، وَأَرَجَّ الأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا، وَقَلَعَ جِبَالَها وَنَسَفَهَا، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ، وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا، فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهمْ، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِما يُريدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الأَعْمَالِ وَخَبَايَا الاَفْعَالِ، وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: أَنْعَمَ عَلَى هؤُلاَءِ وانْتَقَمَ مِنْ هؤُلاَءِ».
الشرح والتفسير
خاض الإمام(عليه السلام) في مرحلة اُخرى تواجه الإنسان، بعد أنّ أشار إلى دنيا الطالحين واللحظات المريرة التي يعيشونها آخر حياتهم حين الاحتضار. فقد تطرق(عليه السلام) هنا إلى القيامة والحساب ليكمل بحث مصير الإنسان ويكون عبرة للاخرين، بهدف اليقظة والابتعاد عن الانحراف وسلوك الصراط المستقيم.
فقال(عليه السلام): «حتى إذا بلغ الكتاب أجله، والأمر مقاديره، وألحق آخر الخلق بأوله، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه»، نعم فحياة الإنسان في هذه الدنيا ليست هدفاً غائياً، بل هى مقدمة لتلك الحياة الخالدة في ذلك العالم الخالد.
«أماد(1) السماء و فطرها، و أرج(2) الأرض و أرجفها،(3) و قلع جبالها و نسفها،(4)
1. «أماد» من مادة «ميد» الحركة والاضطراب.
2. «أرج» من مادة «رجّ» على وزن «حجّ» ومعناها التحريك الشديد.
3. «أرجف» من مادة «رجف» على وزن «كشف» بمعنى الاضطراب والاهتزاز الشديد، ومن هنا يطلق على الأخبار التي تثير الفتنة بـ «الأراجيف» والتي تسبب الاضطرابات في المجتمع.
4. «نسف» من مادة «نسف» على وزن «حذف» بمعنى وضع الحبوب التي يستفاد منها كمادة غذائية في الغربال، وتحريكه أو يُذرى في الهواء من أجل فصل الحبوب عن القشور.
وهنا تأتي بمعنى تحطيم وتلاشي الجبال و بشكل شديد.
ودك(1) بعضها بعضا من هيبة جلالته ومخوف سطوته».
حيث يقع انفجار عظيم في السموات والأرض فيضنى عالم المادة تماماً فيظهر عليه عالم جديد، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك العالم كونه العالم الذي تقام عليه القيامة والحساب: (يَوْمَ تُـبَدَّلُ الأَرضُ غَيْرَ الأَرضِ وَالسَّمـواتُ وَبَرَزُوا لِلّهِ الواحِدِ القَـهّارِ).(2)
والواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) قد اقتبس هذه العبارة من الآية الشريفة: (إِذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ * وَ إِذا الكَواكِبُ انْتَثَرَتْ)(3).
كما قال بشأن الأرض: (إِذا رُجَّـتِ الأَرْضُ رَجّـاً * وَبُسَّـتِ الجِبالُ بَـسّاً * فَـكانَتْ هَـباءً مُنْـبَثّاً)(4).
وقال: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ * تَتْبَعُها الرّادِفَةُ)(5)
ثم قال(عليه السلام): «وأخرج من فيها، فجددهم بعد إخلاقهم جمعهم بعد تفرقهم».(6)
وهذه بداية قيامة الإنسان، حيث يعود إلى حياة جديده يرد بها المحشر.
والعبارة «جددهم» إشارة واضحة إلى المعاد الجسماني واعادة بناء الإنسان وتكامله الجسمي في المحشر.
والعبارة «وجمعهم بعد تفرقهم» ممكن أن تكون إشارة إلى تجمع الناس في المحشر، أو جمع الذرات المتفرقة لكل إنسان من أجل تجديد حياته، ولا مانع أن تكون العبارة إشارة إلى كلا المعنيين.
ثم قال(عليه السلام): «ثم مميزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال، وخبايا الأفعال،
1. «دك» في الاصل بمعنى تسوية الأرض، ومن هنا فان عملية تسوية وتعديل الارض الغير المستوية يحتاج الى ان ندكها، ويستعمل هذا الاصطلاح في موارد عديدة بمعنى التحطيم الشديد.
2. سورة ابراهيم/48.
3. سورة الانفطار/1ـ2.
4. سورة الواقعة/4ـ6.
5. سورة النازعات/6ـ 7.
6. «إخلاق» من مادة «خلق» على وزن شفق البلى.
وجعلهم فريقين: أنعم على هؤلاء وانتقم(1) من هؤلاء».
والعبارة: «خبايا الأفعال، وخفايا الأعمال» يمكن أن يرادبها مطلب واحد، يعني الأعمال الخفية: كما يحتمل أن تكون «خفايا الاعمال» إشارة إلى الأعمال التي تتم في الخفاء وان أتي بها وسط الناس، و«خبايا الأفعال» إشارة إلى الأعمال التي تتم في الخلوات، لأنّ خبايا جمع خبيئة الشيء المخبوء.
على كل حال ليس هنالك من عمل من أعمالنا بخفي على الله، لأنّه حاضر في كل مكان و العالم حاضر لديه.
—–
1. «انتقم» من مادة «نقمة» على وزن نعمة تعني في الأصل الجزاء والعقاب، كما تأتي بمعنى الثأر المقرون بالعداء، الا انها وردت بالمعنى الأول في الخطبة والاستعمالات القرآنية.
«فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابِهُمْ بِجِوَارِهِ، وَخَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ، حَيْثُ لاَيَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلاَتَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الاَفْزَاعُ، وَلاَتَنَالُهُمُ الاَْسقَامُ، وَلاَتَعْرِضُ لَهُمُ الاَخْطَارُ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ الاَسْفَارُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَار، وَغَلَّ الأَيْدِىَ إِلَى الأَعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِىَ بِالاَقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ، وَمُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ، فِي عَذَاب قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَبَاب قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ، فِي نَار لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ، وَقَصِيفٌ هَائِلٌ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يُفَادَى أَسِيرُهَا، وَلاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا. لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَومِ فَيُقْضَى».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا الموضع من الخطبة ـ الذي يمثل في الواقع آخر مرحلة سير الإنسان ـ إلى جانب من ثواب المحسنين وعقاب المسيئين فقال: «فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره، وخلدهم في داره».
ثم تحدث(عليه السلام) عن خصائص تلك الدار بعبارات قصار بعيدة المعنى «حيث لايظعن(1)النزال، ولا تتغير بهم الحال». وإلى جانب ذلك فلا من خوف ولا مرض ولاخطر ولاسفر يخرج من الديار «ولا تنوبهم الأفزاع(2)، ولا تنالهم الأسقام، ولا تعرض لهم الأخطار ولا تشخصهم(3) الأسفار».
1. «يظعن» من مادة «ظعن» السفر.
2. «أفزاع» جمع «فزع» الخوف.
3. «تشخص» من مادة «إشخاص» الاخراج من منزل إلى آخر.
وعليه فالحوادث المزعجة والعوارض المقلقة التي تصدع باستمرار هدوء الإنسان في الحياة الدنيا، لا وجود لها في الآخرة، والإنسان في راحة تامة هناك ينعم بالسكينة والاستقرار والحياة المملوءة بالفرح والسرور، فليس هنالك من خطر يهدده، ولامرض ولا عوامل طبيعية مرعبة من قبيل السيول والزلازل والقحط وسائر الحوادث الاجتماعية التي تدعوا إلى النزاع والحرب فتهدد أمنه.
والفارق بين العبارة «لايظعن النزال» والعبارة «ولا تشخصهم الأسفار» في أنّ الاولى إشارة إلى السفر الاضطراري الذي قد يجبر عليه الإنسان في الدنيا أحياناً فيترك وطنه بالمرة، والثانية إشارة إلى الأسفار التي يضطر لها الإنسان في الدنيا بهدف تلبية حاجاته ومتطلباته فيتحمل المشاق والمصاعب، وليس هنالك أي من هذين السفرين في الدار الآخرة.
نعم فالحياة الدنيا مهما كانت مريحة مفعمة بالنعم إلاّ أنّها ليست حلوة مرجوة بسبب تلك الآفات والعوارض; بينما حلوة هى الدار الآخرة لخلوها من هذه الآفات والعوارض.
وهنا قد يقتدح إلى الأذهان هذا السؤال اننا لندرك قيمة النعمة حين نفقدها والصحة والعافية والسلامة حين السقم والمرض، وما لم نر ظلمة الليل فلا نقف على أهمية شعاع الشمس في النهار، أفلا يغيب عن الإنسان إدراك لذة تلك النعم إذا لم تطرأ عليها الحوادث المذكورة؟
وللاجابة على هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلى نقطتين: الاولى أنّ نعم الآخرة في حالة تغيير، أي هناك نعمة تستبدل باُخرى على الدوام، وكل يوم يفاض عليهم نعم جديدة، ومن شأن هذا التغيير أن يقضي على حالة الرتابة. والثانية ما يجعل نعم الدنيا مريرة هو أنّها محفوفة بالاخطار، والذي يؤرق الإنسان هو عدم انفكاكه عن التفكير في سلبها وزوالها، وقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى عدم وجود هذه الاُمور في نعم الآخرة.
فقد ورد على لسان أهل الجنّة حين حمدهم لله وثنائهم عليه: (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذهَـبَ عَنّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَـكُورٌ * الَّذِي أَحَـلَّنا دارَ المُـقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا
فِـيها نَصَـبٌ وَلا يَمَسُّنا فِـيها لُـغُوبٌ)(1).
ثم خاض(عليه السلام) في تفاصيل أهل المعصية وما يتعرضون له من مشقة «وأمّا أهل المعصية فأنزلهم شر دار، وغل الايدي إلى الاعناق، وقرن النواصي بالأقدام».
والعبارات إشارة إلى ما صرح به القرآن الكريم: (إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْناقِـهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الحَمِـيمِ ثُمَّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ)(2).
ثم واصل(عليه السلام) كلامه قائلاً: «وألبسهم سرابيل القطران، ومقطعات النيران، في عذاب قد اشتد حره، وباب قد أطبق على أهله، في نار لها كلب(3) ولجب(4)، ولهب ساطع، وقصيف(5)هائل».
فالعبارات تفيد شدة حرارة نار جهنم المحرقة، حيث تتصاعد السنتها إلى عنان السماء مصحوبة بالأصوات المرعبة.
ثم قال(عليه السلام): «لايظعن مقيمها، ولا يفادى أسيرها، ولا تفصم(6) كبولها(7) لا مدة للدار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى».
ولو تصور الإنسان في ذهنه لحظة هذا العذاب الشديد والمرعب، لما قارف الذنب، وهذا هو هدف الإمام(عليه السلام) من شرح هذا العذاب!
وقد أكدت الروايات الإسلامية التمعن في الآيات القرآنية التي تتحدث عن الثواب، والتوقف عند تلك التي تتحدث عن العذاب.
—–
وهو ذات الأمر الذي أكده الإمام(عليه السلام) في الخطبة 93 وهو يصف المتقين: «فاذا مروا بآية
1. سورة فاطر/34 ـ 35.
2. سورة غافر/71ـ 72.
3. «كلب» من مادة «كَلْب» على وزن «جلب» وفي الاصل بمعنى الضغط على الحصان بواسطة المهماز و ذلك لكي يُسرع فى عدوه، وهذا الاصطلاح يستعمل لأي نوع من أنواع الشدة.
4. «لجب» له معنى المصدر واسم المصدر الصوت المرتفع.
5. «قصيف» أشد الصوت.
6. «تفصم» من مادة «فصم» على وزن نظم كسر الشيء دون فصله، وتعني القطع.
7. «كبول» جمع «كبل» القيد.
فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم».
حقاً أنّه لاسلوب عظيم في هداية الإنسان ونجاته هذا الذي اعتمده الإمام(عليه السلام) بهذه العبارات التي تختزن الآثارة والتحذير.
فقد الستهل الخطبة بالاشارة إلى صفات الجمال والجلال وقدرته العظيمة سبحانه وعلمه المطلق بكل شيء ممّا يصدر من العباد إلى جانب عظمة عالم الوجود.
ثم تحدث(عليه السلام) عن خلق أصناف الملائكة وعبادتها وطاعتها، ليبين زهادة عبادة الإنسان بالنسبة لتلك العبادة.
آنذاك تطرق(عليه السلام) إلى خلق الإنسان ونعمه الجمة سبحانه، ثم ذم بشدة طلاب الدنيا، محذراً إيّاهم من التعلق بهذه النعم الزائلة.
كما تحدث(عليه السلام) عن الموت وانتهاء الحياة وسكرات الموت ومدعى الحسرة والندم التي يشعر بها الاثم على أعتاب الموت، حتى رسم صورة يهتز لها القلب ويتيقظ لها الوجدان، وتفيق لها الأرواح الميتة.
وأخيراً إختتم(عليه السلام) الخطبة بالإشارة إلى الثواب الذي ينتظر الصالحين والعقاب الذي ينتظر المسيئين، ليلتفت كل إنسان إلى نفسه ويراقب عمله.
نعم فقد خط هذا الطبيب الروحي العظيم وصفة لمرضى القلوب لاتحمل لهم سوى العلاج إن إلتزموا بالعمل بها.
—–
ومنها في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)
«قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا وَأَهْوَنَ بِهَا وَهَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ زَوَاهَا، عَنْهُ اخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً. بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، وَنَصَحَ لاُمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعَاَ اِلَى الْجَنِّةِ مُبَشِّراً، وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً».
—–
الشرح والتفسير
زهد النبي(صلى الله عليه وآله)
خاض الإمام(عليه السلام) هنا في صفات النبي(صلى الله عليه وآله) ورغبته عن هذه الدنيا لتكون سيرته قدوة تامة للاُمّة، و ليبين كيف يستطيع الإنسان أن يعيش الأمان من أخطار الدنيا في ظل الإيمان و العمل الصالح فقال(عليه السلام): «قد حقر الدنيا وصغرها، وأهون بها وهونها».
فالعبارة إشارة واضحة إلى زهده(صلى الله عليه وآله): لأن من يحقر الدنيا ويوصي الاخرين باحتقارها، قطعا ليس له أدنى تعلق بها، وذلك لأنّ الشيء الحقير والتافه ليس له قيمة في استقطاب القلب والسيطرة على العقل.
ثم أكد(عليه السلام) هذا المعنى بالقول: «وعلم أنّ الله زواها(1) عنه اختياراً(2)، وبسطها لغيره احتقاراً». والعبارة شبيه ماورد في الآية الشريفة من سورة الزخرف: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ
1. «زوى» من مادة «زي» على وزن طي الجمع والفيض والابعاد.
2. «اختيار» بمعنى الانتخاب والاصطفاء والاعتزاز ضد «الاحتقار».
أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمـنِ لِـبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ* وَلِـبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَـتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذ لِكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِـينَ).(1)
ثم واصل(عليه السلام) كلامه عن النبي(صلى الله عليه وآله): «فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، أو يرجو فيها مقاماً».
ورد الرياش بمعنى المفرد والجمع وهو اللباس الفاخر، وأصلها الريش، ويمكن أن يراد به جميع زينة الدنيا ومنها اللباس الفاخر.
فأول مزية لرسول الله(صلى الله عليه وآله) عدم اغتراره بزخرف الدنيا وزينتها فلم يقع في مخالبها قط.
المزية الاُخرى للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) تكمن في وظيفته بتبليغ الرسالة وايصال أوامر الله ونواهيه إلى جميع العباد، وقد استفرغ وسعه في هذا السبيل، حيث قال(عليه السلام): «بلغ عن ربّه معذراً، ونصح لأمته منذراً، ودعا إلى الجنّة مبشراً، وخوف من النار محذراً».
قطعاً لو فشل الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في المرحلة الاولى في كيفية التعامل مع الدنيا واغتر بنعمها ولذاتها، لما تمكن قط من القيام بالمرحلة الثانية في ابلاغ الرسالة السماوية، فأين إسارة النفس في الدنيا من ابلاغ الرسالة.
ورد في حديث الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ الله أوحى إلى موسى بن عمران(عليه السلام): «يا موسى إنّ الدنيا دار عقوبة عاقبت فيها آدم عند خطيئته، وجعلتها ملعونة، ملعون ما فيها إلاّ ما كان لي. يا موسى إنّ عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم، وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم».(2)
إنّ أعظم مشكلة تهدد القادة والزعماء إنّما تمكن في تهافتهم على ماديات الدنيا; الأمر الذي يؤدي إلى تقديمهم الأفراد السيئين على الصالحين بدافع من حفظ منافعهم ومصالحهم المادية،
1. سورة الزخرف/33 ـ 35.
2. الكافى 2/317 ح 9.
إلى جانب ايثارهم للظلم والجور على العدل والقسط لذات الهدف.
إنّهم يعتمدون المنافع المادية كمعايير في تعاملهم مع كل شىء فيضحون بالمبادىء الإلهية والعقلائية والإنسانية من أجل تحقيق منافعهم الدنيوية الرخيصة.
ومن هنا كان أول أمر أكده الإمام(عليه السلام) في إطار وصفه للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) هو عدم اعتنائه بالدنيا وتصغيرها وتحقيرها، ممّا جعله لا يكترث لجميع ما فيها، ويمحوها من ذاكرته.
وقد صرح القرآن الكريم مراراً بشأن الأنبياء ولاسيما نبي الرحمة(صلى الله عليه وآله) أنّهم لايسألون الناس أجراً على ابلاغ الرسالة، وكانت معيشتهم في الدنيا معيشة المستضعفين وهذا ما جعلهم يجرون الحق ويقيمون العدل بحق الجميع ولا يخشون سطوة ظالم ولا يحسبون حساباً لاصحاب المال والثراء.
فضريبة الحياة المرفهة با هضة لاتتأتى إلاّ من خلال مماشاة أصحاب الثراء ومداهنتهم; الأمر الذي يهدد بالصميم الحق والعدل والإدارة الصالحة الطاهرة.
وقد بلغ من زهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وانصرافه عن الدنيا أنّه كان يجلس على الحصير ويتوسد الليف حتى أثر في بدنه الطاهر، ولما قيل له هذا كسرى وقيصر يجلسان على الحرير والديباج وانت تجلس على الحصير. ردّ رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّما مثل الدنيا كمثل راكب مر على شجرة ولها فيء فاستظل تحتها، فلما أن مال الظل عنها ارتحل فذهب وتركها»(1).
—–
1. بحار الانوار 16/283.
«نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُّوةِ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلائِكَةِ، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَيَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنا ومُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ وَعَدُوُّنا وَمُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ».
—–
الشرح والتفسير
أهل البيت(عليهم السلام)
اختتم الإمام(عليه السلام) خطبته بعد ذكر أوصاف النبي(صلى الله عليه وآله) بالحديث عن صفات أهل البيت(عليه السلام)و قد بلغ بالفصاحة و البلاغة ذروتها بهذا الختام الحسن فقال: «نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف(1) الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم».
فالتعبير بالشجرة يفيد أنّ النبوة كالشجرة المثمرة التي لها فروع وأغصان مختلفة، جذرها وساقها النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وأوراقها أولاده، وثمرتها هداية الناس إلى الله.
وشبه(عليه السلام) أهل البيت في العبارة الثانية بالموضع الذي تهبط فيه الرسالة من جانب الله سبحانه، كما وصفهم في العبارة الثالثة بالموضع الذي تختلف إليه الملائكة في صعودها ونزولها. على(عليه السلام) وولده ممن تربوا في هذه الاسرة ليستضيئوا بنور الوحي.
ولعل المراد بالملائكة هنا ملائكة الوحي (جبرئيل ومن معه) الذين كانوا يهبطون على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو أنّها إشارة إلى المعنى الأعم فيشمل جميع الملائكة الذين يختلفون عليهم للخدمة والبشارة وأمثال ذلك، على كل حال فليس المراد أنّ الوحي كان ينزل على غير رسول الله(صلى الله عليه وآله).
1. «مختلف» من مادة «اختلاف» وتأتي هنا بمعنى الذهاب والإياب، ومن هنا فان كلمة «مُختَلَف» تعني هنا محل الذهاب والإياب.
والفارق بين شجرة النبوة ومحط الرسالة أنّ للنبي(صلى الله عليه وآله) مقامان: مقام النبوة وهو الأخبار عن الله ومقام الرسالة وهو ابلاغها. وبعبارة اُخرى فان النبي(صلى الله عليه وآله) مأمور بالابلاغ، والرسالة تقترن عادة بالإمامة والزعامة والإجراء.
والمراد بمعادن العلم أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ورثة علوم النبي(صلى الله عليه وآله) وحفظة الكتاب والسنة.
فقد قيل في سبب نزول الآية الشريفة: (وَتَعِـيَها أُذُنٌ واعِـيَةٌ)(1).
إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: سألت ربّي أن يجعلها أذن علي. ثم قال علي(عليه السلام): «ما سمعت من رسول الله شيئا فنسيته»(2).
وكذلك الحديث: «علي مع القرآن، والقرآن مع علي»(3).
والحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(4).
وهكذا سائر الأحاديث المعروفة التي روتها كتب الفريقين، تفيد بأجمعها كون أهل البيت معادن العلم والحكمة.
والفارق بين معادن وينابيع هو أنّ المعدن الشيء الذي يقصده الناس وينتفعون به، أمّا الينابيع ما يفيض على الناس.
ثم إختتم(عليه السلام) كلامه بالقول: «ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة»(5).
طبعاً لا تعني هذه العبارة أنّ لهم حقا مثل هذا الانتظار، بل تعني أنّهم لابدّ أن ينتظروا مثل هذه العاقبة المشؤومة، فالواقع أنّه نوع من التهديد بالعذاب الإلهي في الدنيا والآخرة.
—–
1. سورة الحاقة/12.
2. راجع نفحات القرآن 9/359; بحار الانوار 35/326ـ331.
3. الغدير 3/178 و180.
4. الغدير 6/61ـ80.
5. «سطوة» الوثوب على الشخص وقهره، ولما كان من لوازم ذلك العقاب، فقد وردت بهذا المعنى في العبارة.
ومن خطبة له(عليه السلام)
في أركان الدين
تتألف هذه الخطبة في الواقع من قسمين: القسم الأول: الذي تطرق فيه الإمام(عليه السلام) إلى أفضل ما تقرب به العباد إلى الله من قبيل الإيمان والجهاد والاخلاص والصلاة والزكاة، ثم ذكر فلسفة كل شعيرة من هذه الشعائر بعبارة قصيرة عميقة المعنى.
القسم الثاني: بيان الأبعاد العملية للايمان وطرق بلوغها والوصية بذكر الله والاقتداء بهدي النبي(صلى الله عليه وآله) واتباع سنته والاهتمام بتعلم القرآن وفهم آياته.
ثم اختتم(عليه السلام) الخطبة بالذم الشديد للعالم بلا عمل وشدة عقابة.
—–
1. سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة بداية الخطبة «الحمد لله فاطر الخلق وخالق الأشباح» وهى خطبة معروفة مشهورة تعرف بخطبة الديباج. رواها قبل السيد الرضي (ره) المرحوم الصدوق في كتاب من لايحضره الفقيه (1/131) بتفاوت وفي علل الشرايع، كما وردت في تحف العقول وفي كتاب المحاسن (مصادر نهج البلاغة 2/238) إلاّ أنّ الخطبة في تحف العقول بدأت «الحمد لله فاطر الخلق، وخالق الاصباح» ثم اورد الخطبة وذكرانها تعرف بخطبة الديباج. (تحف العقول، /104 ـ 107).
«إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ اِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الإِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهادُ فِي سَبِيِلهِ، فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الإِسْلامِ; وَكَلِمةُ الإِخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ; وَإِقاَمُ الْصَلاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ; وَإِيتَاءُ الزَّكاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ; وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةُ مِنَ الْعِقَابِ; وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاعْتَِمارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ ألْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمالِ، وَمَنْسَأَةٌ فِي الأَجَلِ; وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ; وَصَدَقَةُ الْعَلانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَهَ السُّوءِ; وَصَنَائِعُ الْمَعرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ».
—–
الشرح والتفسير
تحدث الإمام(عليه السلام) هنا عن أفضل الأعمال التي يؤديها سالكي طريق العبودية ودعاة الحق للتقرب إلى الله فقال(عليه السلام): «إنّ أفضل ما توسل به المتوسلون(1) إلى الله سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله».
وكان هذه العبارة إشارة إلى الآية الشريفة: (يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِـيلَةَ)(2). إلى جانب شرحها و تفسيرها، فقد أمر الله سبحانه في هذه الآية بالتقوى ومن ثم انتخاب الوسيلة إلى الله.
وعلى هذا فالمراد بالوسيلة الإيمان والجهاد وسائر الاُمور الواردة في هذه الخطبة وليس
1. «متوسلون» من مادة «وسيلة» بلوغ الشيء مع الميل والرغبة.
2. سورة المائدة/35.
![]() |
![]() |