1. «محيص» من مادة «حيص» على وزن حيف بمعنى العودة والعدول واعتزال الشيء ومحيص اسم مكان، وعليه قد تعني الملاذ.

2. يستفاد من المصادر اللغوية ان السر ما يخفيه الإنسان، أمّا الغيب فما خفى على عيننا وحسنا.

3. سورة الكهف/48.

[ 359 ]

فالتعبير بالناحية كناية عن تسليم المخلوقات لإرادة الله المطلقة. والتعبير بكل نسمة يعني في الأصل هبوب الرياح المعتدلة، ثم اطلق على روح الكائنات الحية، في إشارة إلى أنّ كل موجود راجع إليه ماثل في محكمته.

ثم اختتم الإمام(عليه السلام) الخطبة بالقول: «سبحانك ما أعظم شأنك! سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك! وما أصغر كل عظيمة في جنب قدرتك! وما أهول ما نرى من ملكوتك! وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك».

والحق ان عظمة هذا العالم وعمق غرائبه تتسع لدينا شيئاً فشيئاً كلما تقدمت مسيرة العلم وتطورت الأجهزة. وقد عبرّ أحد العلماء بأنّ عالم الخلقة ـ حسب ما لدينا من معلومات ـ بمثابة المكتبة العظيمة التي تضم ملايين الكتب، وكرتنا الأرضية بكل ما فيها بمنزلة نقطة في صفحة من صفحات كتاب من تلك المكتبة الضخمة. كما صرح آخر بأن ما ثبت اليوم أن كواكب السماء على قدر من الكبر بحيث تذهل الإنسان. فكوكب الجوزاء يبلغ أكبر من كرتنا الأرضية ثلاثين ملياردا، هذا بالنسبة لكواكب واحد ـ و ما أروع ما قاله الإمام(عليه السلام) بأن ماخفي عنا لأعظم مما نرى ـ و قد قال ذلك حيث تنعدم الإكتشافات آنذاك و حين كانت الهيئة البطليموسية التي ترى صغر عالم الوجود هى السائدة في كافة الأوساط العلمية.

فقد انطلق الإمام(عليه السلام) في الواقع من خلال الرؤية القرآنية لهذه المسألة (لَخَلْقُ السَّمـواتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1).

ثم اختتم(عليه السلام) كلامه في بيان نعم الدنيا والآخرة فقال: «وما أسبغ(2) نعمك في الدنيا، وما أصغرها في نعم الآخرة».

—–


1. سورة غافر/57.

2. «اسبغ» من مادة «اسباغ» الكثير الوافر.

[ 360 ]

[ 361 ]

 

 

القسم الثاني

 

ومنها: «مِنْ مَلائِكَة أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ; هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ; لَمْ يَسْكُنُوا الأَصْلاَبَ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الأَرْحَامَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا «مِنْ مَاء مَهين» وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ «رَيْبَ الْمَنُونِ»; وَإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهمْ مِنْكَ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ وَكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِىَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَلَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَّق عِبَادتِكَ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ».

—–

 

الشرح والتفسير

عبودية الملائكة

لما فرغ الإمام(عليه السلام) من الحديث في الأقسام السابقة عن عظمة خلق الله وملكوت السموات، وأنّ ما نراه لأصغر بكثير عما خفي علينا من أسرار، أشار هنا إلى الملائكة بفضلها دلالة على عظمة خلق الله فقال(عليه السلام): «من(1) ملائكة أسكنتهم سماواتك، ورفعتهم عن أرضك».

لاشك أنّ ملائكة لا تقتصر على سكنة سماواته، فهناك ملائكة الأرض التي تحفظ أعمال الانس وتدبر الاُمور باذن الله وتتولى قبض الأرواح. لكن بالنظر إلى أن الإمام(عليه السلام) لم يبين بالعبارة المذكورة حكما كليا بشأن الملائكة بل تحدث عن طائفة منها فليست هناك من مشكلة ـ و لا ضرورة لتلك التوجيهات التي ذكرها هنا بعض شراح نهج البلاغة.


1. بناء على ماورد فان «من» تبعيضية وإشارة إلى بعض مخلوقات الله العظيمة التي وردت في المقطع السابق من الخطبة.

[ 362 ]

ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه في الإشارة إلى بعض الصفات الثبوتية والسلبية لملائكة قائلاً: «هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك».

فالصفات الثلاث مرتبطة مع بعضها; لأنّه المعرفة العظمى للملائكة بالنسبة لذات الله تؤدي إلى خوفها، الخوف من التقصير في إداء الوظائف والمسؤوليات، والخوف الناشىء من عظمته وهيبة مقامه. والصفتان تؤديان إلى قرب الملائكة من الله.

وهنا يبرز هذا السؤال كيف أنّ الملائكة أعلم من جميع المخلوقات بالله وأقربها إليه، والحال أنا نعلم أنّ أنبياء الله ـ ولاسيما نبي الإسلام ـ وحتى بعض الصالحين أفضل من الملائكة، وأفضل دليل على ذلك سجود كافة الملائكة لآدم، وأفضليته عليهم من حيث العلم والمعرفة، وقد ورد في الحديث أنّ طائفة من الملائكة تقوم على خدمة الأنبياء والصلحاء والمؤمنين، كما هناك الحديث المشهور عن تركيب خلق الإنسان من العقل والشهوة والملائكة من العقل دون الشهوة، فانّ غلب عقله شهوته كان أفضل من الملائكة، هو الآخر دليل على أفضلية الإنسان على الملائكة(1) ويمكن القول في الاجابة على هذا السؤال: المراد الأعلمية والقرب النسبي، وبعبارة اُخرى فانّ العبارة المذكورة شبيه الحصر الاضافي، كما يمكن القول أنّ العبارة حكم عام يستثنى منه الأنبياء والأولياء.

ثم أشار إلى صفاتهم السلبية بعدم وجود نواقص في الملائكة على غرار الناس، فذكر أربع صفات منها: «لم يسكنوا الأصلاب، ولم يضمنوا الأرحام، ولم يخلقوا من ماء مهين(2) ولم يتشعبهم(3) ريب(4) المنون».

من الواضح أنّ الاستقرار في مكان محدود كصلب الأب ومن ثم رحم الاُم، والخلق من قطرة ماء تبدو تافهة، لهو نقص في الإنسان; والحال ليست الملائكة كذلك، فلا من زواج ولا ولادة كالإنسان.


1. وسائل الشيعة 11/164، أبواب جهاد النفس، الباب 9، ح 2.

2. «مهين» من مادة «مهانة» بمعنى الضعة والحقارة وماء مهين إشارة إلى المني الذي ليس له قيمة من حيث المقدار ولا الظاهر.

3. «يتشعبهم» من مادة «تشعب» التفرق، وشعبة بمعنى الفرع الذي فصل عن الأصل.

4. «ريب» كل شك وترديد، ومنون حوادث الدهر أو الموت.

[ 363 ]

أضف إلى ذلك فهى لا تموت ولا تتغير بسبب الزمان، ولا تمرض ولا تشيب وتعجز. فوجود هذه المميزات وإن كانت من علامات شرف خلقة الملائكة، وأنّ الإنسان لاشك هو أسمى مقاماً منها من هذه الناحية. إلاّ أنّ سبب عظمة الإنسان وأفضليته على الملائكة إنّما تعود إلى روحه التي أشارت إليها الآية الشريفة: (َنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحِي)(1).

ومن هنا سجد الملائكة كلهم أجمعون لآدم(عليه السلام).

أمّا هدف بيان الإمام(عليه السلام) لكل هذه الصفات ما أراد ذكره في العبارات اللاحقة «وأنّهم على مكانهم منك، ومنزلتهم عندك، واستجماع أهوائهم فيك، وكثرة طاعتهم لك، وقلّة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم، ولزروا(2) على أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك، ولم يطيعوك حق طاعتك».

نعم فالملائكة ورغم تلك المعرفة والمقام الشامخ، فهى قاصرة عن معرفة عظمته ودائرة صفاته في الجمال والجلال، وعليه فلو فرض تعرفها على الله كما هو، لأكتشفوا أنّهم لم يعبدوه كما هو أهله ولم يطيعوه كما يستحقه. وكل ما أدوه ذرة لاقيمة لها ولاوزن.

فالعبارة تفيد من جانب أنّ معرفة الإنسان بالله كلما تسامت، تضاعفت عبادته وطاعته لله. كما تفيد من جانب آخر أنّ أحداً لم يعبد الله حق عبادته، كما أنّ أحداً لم يعرف الله حق معرفته، وذلك لأنّ الإنسان والملك ـ حتى أعظم الناس والملائكة ـ إنّما هو وجود محدود، والذات الإلهية ليست محدودة، فليس لهذا المحدود أن يؤدي حق عبادة الله ولاطاعته ولامعرفته. أمّا التعبير بالأهواء جمع هوى في العبارة «واستجماع أهوائهم فيك» فلا تعني هوى النفس وشططها، بل تعني الحب والرغبة، لانّ لهذا اللفظ معنيان. وبعبارة اُخرى يستعمل أحياناً في الحب الإيجابي واُخرى في السلبي. والمراد بالعبارة أنّ الملائكة ركزت حبّها وعشقها في الله سبحانه والعبارة «قلة غفلتهم عن أمرك» تفيد امكانية غفلة الملائكة، إلاّ أنّها طفيفة جداً. وشاهد ذلك الروايات الواردة في بعضى الملائكة في ترك الاولى. وعليه فلا حاجة لذلك التكلف الذي صرح به بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ القلة هنا تعني العدم.


1. سورة الحجر/29.

2. «زروا» من مادة «زرى» على وزن سعى العيب والتوبيخ واللوم، والازراء بهذا المعنى أيضاً.

[ 364 ]

على كل حال هذا هو حال الملائكة بهذه العبادة والطاعة لالآف السنين فما ظنك بعباداتنا وطاعاتنا البخسة؟ والجدير بالذكر أنّ الرسول الأكرام(صلى الله عليه وآله) وبالنظر إلى الحديث المعروف «ما عبدناك حق عبادتك، وما عرفناك حق معرفتك»(1)، قد التفت إلى هذه الحقيقة، أي عدم معرفة الله وعبادته كما يستحق، بينما تبيين العبارة المذكورة للإمام(عليه السلام) عدم التفات الملائكة لهذه المسألة، ولعل الآية الشريفة: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)(2) دليل آخر على هذا المعنى، وهذا ما يوضح أفضلية الإنسان على الملائكة.

—–


1. بين المرحوم العلاّمة المجلسي في المجلد 68 من بحار الانوار ص23 الحديث المذكور عن النبي(صلى الله عليه وآله)ضمن شرحه لبعض الاحاديث.

2. سورة البقرة/30.

[ 365 ]

 

 

القسم الثالث

 

«سُبْحَانَكَ خِالِقاً" وَمَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ. خَلَقْتَ دَاراً، وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً: مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِمَاراً; ثُمَّ أرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو اِلَيْهَا، فَلا الدَّاعِىَ أَجَابُوا، وَلاَ فِيَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ اِلَيْهِ اشْتَاقُوا. أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَة قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْن غَيْرِ صَحِيحَة، وَيَسْمَعُ بِأُذُن غَيْرِ سَمِيعَة، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَماتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَُه، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُما زَالَتْ زَالَ إلَيْهَا، وَحَيْثُما أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا; لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللهِ بِزَاجِر، وَلاَ يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظ، وَهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ، حَيْثُ لاَ اِقَالَةَ وَلاَرَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقِدِمُوا مِنَ الاخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُوَنَ. فَغَيْرُ مَوْصُوف مَا نَزَلَ بِهِمْ».

—–

 

الشرح والتفسير

عالم الآخرة

تحدث الإمام(عليه السلام) هنا عن الدار الآخرة وخلق الجنّة وما تضمه من نعم جمة فقال(عليه السلام): «سبحانك خالقاً ومعبوداً! بحسن بلائك عند خلقك» فقد خلقت تلك الدار العظيمة (الآخرة) وجعلت فيها مختلف النعم من مشارب ومطاعم وأزواج وخدمة وقصور وأنهار

[ 366 ]

وزرع وثمار «وجعلت فيها مأدية(1): مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وأنهاراً وزروعاً وشماراً».

قطعاً أنّ الهدف من بيان هذه الاُمور هو تطهير الإنسان من الرذائل والادناس والذنوب والمعاصي وسوقه إلى القرب من الله سبحانك: وقد وفرها الحق جميعا لعباده بصفتها تشجع الإنسان على الثبات في الطريق القويم ومواصلته.

ثم قال(عليه السلام): «ثم أرسلت داعياً يدعو إليها، فلا الداعي أجابوا، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا».

فهم لم يكتفوا بعدم الرغبة بتلك النعم المطهرة الخالدة، بل اقبلوا على جيفة نتنة افتضحوا بأكلها والعجيب في الأمر أن كلمتهم اتفقت على حبها: «أقبلوا على جيفة(2) قد افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبّها».

طبعاً مراد الإمام(عليه السلام) من ارسال الداعي هو بعث الأنبياء ولاسيما نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) والمراد بعدم إجابة الدعوة لاتشمل جميع الناس; بل الأغلبية من أهل الدنيا المفارقين للآخرة من اتباع الهوى والشهوات.

ومن هنا فقد شبههم بالحيوانات المفترسة التي تنهال على جيفة فتفضح نفسها; وذلك لأنّ الرائحة النتنة لتلك الجيفة تفوح من فمها ويدها.

وقوله(عليه السلام): «واصطلحوا على حبها» لا يعني عدم وجود النزاع بين أهل الدنيا، بل هم دائماً كالحيوانات التي تجتمع حول جيفة نتنة وتهجم عليها ليتناول كل قطعة منها. والمراد أنّهم اتفقوا على حبها.

وتشبيه الدنيا بالجيفة، هو تشبيه ورد في بعض الروايات، وذلك للتعفن الكامن في باطن الدنيا التي تختزن أنواع الظلم والذنب، أو لأنّ أصحاب الدنيا يهبون للتنازع والاقتتال بهدف سلبها من بعضهم البعض الآخر.


1. «المأدبة» بضم الدال وفتحها ما يصنع من الطعام للمدعوين في عرس ونحوه، والمراد هنا نعيم الجنّة، من مادة أدب التي تعني في الأصل الدعوة.

2. «جيفه» بمعنى الميتة، وأصلها من مادة «جَيَفَ» و «الأجيف» بمعنى الأنتن، ولذلك فان كل شيء فاسد ونتن يُشَبَهُ بـ «الجيفة»، ومن هنا فقد شَبهت الخطبة أعلاه الدنيا المادية بانها «جيفة».

[ 367 ]

ثم بيّن الإمام(عليه السلام) نتيجة هذا الحب للدنيا بشكل قاعدة كلية وعامة وهى: «ومن عشق(1)شيئاً أعشى(2) بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع باذن غير سميعة».

فقد ركز الإمام(عليه السلام) على نقطة يكشف فيها عن حقيقة وهى أنّ حب الدنيا وعشق زخرفها وزبرجها وزينتها المادية إنّما يسلب الإنسان اصدار الأحكام بصورة صحيحة، بحيث يحسب أنّ سعادته وموفقيته إنّما تتمثل بالوصول إلى هذه الدنيا المادية، مهما كان وكيفما كان الطريق المؤدي اليها.

ومن الطبيعي أن يتعذر على مثل هذا الفرد تشخيص الحق من الباطل والمصالح من المفاسد. فهو ينطلق بشكل جنوني نحو لذات الدنيا، فاذا أفاق رأى نفسه وقد فقد كل شيء.

وسنتحدث في البحث القادم ان شاء الله عن حقيقة العشق وآثاره.

وتختتم هذا البحث بالحديث النبوي الشريف: «من جعل الدنيا أكبر همه، فرق الله عليه همه، وجعل فقره بين عينيه»(3).

ثم قال(عليه السلام): «قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه».

فقد شبه الإمام(عليه السلام) العقل في العبارة الاولى بالثوب، الذي يمكنه أن يحفظ الإنسان ويكون له زينة، أمّا الشهوة فهى تمزق ثوب العقل الجميل. وفي العبارة الثانية وصف غلبة الشهوات على العقل بأنّه موت للعقل. كما أشار(عليه السلام) في العبارة الثالثة إلى أنّ حب الدنيا والرغبة فيها قد أحاط بجميع كيان أهل الدنيا وطلابها.

وعليه فمثل هذا الإنسان عبد للدنيا، ولمن في يده شيء من حطامها: «فهو عبد لها، ولمن يده شيء منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها».


1. «عَشَقَ» من مادة «عشق» على وزن فكر بمعنى العلاقة الشديدة بالشيء.

و«عشقه» على وزن ثمرة بمعنى الشجرة الخضراء اليانعة، والتي لا يمر عليها الا وقت قصير فتصبح صفراء وذابلة.

وبعضهم قال: ان العشق أشتق في الأصل من هذه المادة، وذلك لان العاشق يصبح نحيفاً ذابلا.

2. «أعشى» من مادة «عشو» على وزن «خشم» بمعنى ضعف النظر و عدم قدرة العين على الابصار بصورة جيدة، و تأتي أحيانا بمعنى العمى الليلي أو العشو ليلا.

3. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3/63.

[ 368 ]

فهو لاينزجر بأي زاجر ولا يكترث لأي ناهى، ولايتعظ بموعظة واعظ ولا يصغي إلى نصح ناصح، والحال يرى بأم عينيه من يؤخذ بغتة لاصفح ولاعقو ولارجعة «لا ينزجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ، وهو يرى المأخوذين على العزة(1) حيث لا إقالة(2)ولارجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون، فغير موصوف ما نزل بهم».

نعم فمن يرى بعينه كل يوم تقلب أحوال الدنيا وغدرها بأهلها لابدّ أنّ يكون يقظاً، يستمع إلى الوعظ والنصح وينتهى بنهي الآخرين، إلاّ أنّ المؤسف له هو أنّ حب الدنيا والتكالب عليها والاغترار بزخارفها ليعمي عين الإنسان ويصم سمعه ويستحوذ على فكره بحيث لايسمح له بأن يفيق إلى نفسه.

 

تأمّل : العشق المقدس والهجين

لقد أشار الإمام(عليه السلام) بعبارة قصيرة بليغة إلى حقيقة مهمة، طالما استغرق فيها العلماء والعرفاء والشعراء والاُدباء.

فقد قال(عليه السلام): «من عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع باذن غير سميعة»، وقد دفعتنا هذه العبارة لأن نتحدث عن العشق، المقدس منه الايجابي، والمستهجن السلبي. فقد قيل الكثير في العشق وعظمته وجنونه وأمراضه، ولعلها من الكلمات القل التي وردت بشأنها كل هذه التعبيرات والتعاريف المختلفة والمتناقضة. فقد سمى به بعض الكتاب إلى درجة جعلتهم يرونه بمثابة ضابط الحياة والسعادة الأبدية! أو أنّ العشق معمار عالم الوجود.

كما أنّ تحدثوا عن إعجازاته بالنسبة للإنسان حيث ينشط روح الإنسان ويملأ قلبه حيوية وحركة، بل قيل بانعدام طعم الحياة بدونه.


1. «غرة» بمعنى الغفلة من مادة «غرور» بمعنى الخداع، حيث يستغفل هذا الخداع الإنسان ويأخذه بغتة.

2. «إقالة» من مادة «قيل» على وزن سيل بمعنى فسخ المعاملة، وقيل معناها الأصلي انقاذ الإنسان من السقوط، ووردت في الخطبة بمعنى العفوعن الذنوب.

[ 369 ]

وبالمقابل فهناك طائفة من الكتاب والفلاسفة الذين صعدوا من حملاتهم واتهاماتهم للعشق ليصوره كمرض مقيت يدعو إلى التقزز. فقد قال أحد الكتاب المعروفين: علينا أن نرى العشق عبارة عن عصارة الأدمغة الخاوية إن لم نقل بأنّه نوع من الجنون.

وقال كاتب آخر: أنّ العشق كمرض السرطان والنقرس الذي ينبغي أنّ يفر منه الإنسان العاقل.

فالتفسيرات المتناقضة للعشق تشير إلى أنّ العلماء والمفكرين لم يتحدثوا جميعاً عن شيء واحد. فهناك من تكلم عن العشق المقدس الذي يضفي القدسية والطهارة على الإنسان، ويشده بقوته الفائقة نحو معشوقه الحقيقي خالق الوجود.

أمّا من ذمه منهم فانما قصد به ذلك العشق المادي والمفعم بالخطايا والرذائل والجنايات الذي يفضي غالباً إلى المرض والفضيحة والشقاء.

فالإنسان في العشق المادي يقبل بجنون على الشيء الذي يتعلق به ويعشقه، ويضحي بكل مالديه من أجله. فالمراد بهذا العشق هو تلك القوة السحرية التي تقود الإنسان إلى المعصية والذنب والخطيئة، وكل ما قيل في ذمه فهو قليل.

فهذه القوة الطاغية تخرب العقل وتشل حركته وفاعليته بحيث يقدم الإنسان على الأعمال الجنونية الطائشة.

وتتمثل اولى مخاطر ذلك بتعظيمه العيوب والقبائح. فمثل هؤلاء العشاق يبتكرون أنواع التفاسير المذهلة لأقبح العيوب.

فهم لايقبلون النصح ولا يصغون إلى الوعظ، بل يهبون أحياناً للوقوف بشدة بوجه الناصحين والوعاظ.

والغريب في الأمر أنّ الأشخاص الذين يعيشون مثل هذا العشق المادي الجنوني يشعرون أنّهم بلغوا إدراكاً حرم منه معظم الآخرين.

فهم يعيشون في هالة من الأوهام والخيالات ولايفهمون سوى لغة العشق الطائش، فلا يفهمون لسان العلم والمنطق الذي يحدثهم به الآخرون.

وبالطبع فان جذبة هذا العشق غالباً ما تطفىء بالمجامعة!

[ 370 ]

آنذاك تطرح الحجب فيلتفت إلى الواقع. وكان هذا العاشق قد نهض من سبات عميق ليتبدل لديه ذلك العشق إلى نفرة ومقت، وذلك لأنّه يرى نفسه قد فقد كل شيء مقابل ذلك المعشوق; الأمر الذي يقود بالتالي إلى الفضيحة والخزي.

الفضيحة التي لايمكن تلافيها بعد اليقظة.

وبالطبع فانّ أغلب حالات الانفصال والانتحار إنّما تفرزه هذه الحالة من العشق لعمق الهوة بين الخيال والواقع.

ولا تقتصر هذه النتائج المريرة على العشق الجنسي، بل تترتب نفسها على عشق المال والمقام والجاه والجلال المادي.

ولعل هذا هو المعنى الذي أشار إليه الإمام الصادق(عليه السلام) حين سأله أحد أصحابه فقال(عليه السلام): «قلوب خلت عن ذكر الله، فأذاقها الله حب غيره»(1).

وورد في حديث عن علي(عليه السلام) في عجز العاشق عن رؤية الحقائق إذ قال: «عين المحب عمية عن معايب المحبوب، وأذنه صماء عن قبح مساويه»(2).

وإلى هذا العشق المجازي أشار الحديث النبوي الشريف: «من عشق فعف ثم مات، مات شهيداً»(3).

كما قال(صلى الله عليه وآله): «من عشق وكتم وعف وصبر، غفر الله له، وأدخله الجنّة»(4).

وعلى العكس من ذلك في العشق الحقيقي والمقدس فانّ روح الإنسان تعيش حالة من الصفاء والنور، فلا يرى سوى معشوقه الحقيقي مظهر الكمال المطلق، فيتحمل في سبيله كافة الشدائد.

فقد ورد في الحديث القدسي: «إذا كان الغالب على العبد الاشتغال بي جعلت بغيته ولذته في ذكري، فاذا جعلت بغيته ولذته في ذكري، عشقني وعشقته، فاذا عشقني رفعت الحجاب فيما بيني وبينه»(5).


1. بحار الانوار 70/158.

2. غرر الحكم، 6314.

3. كنز العمال، 6999.

4. كنز العمال، 7002.

5. كنز العمال 1/433، ح 1772.

[ 371 ]

وما مناجاة أمير المؤمنين(عليه السلام) بالاسحار ودعاء الصباح ودعاء كميل وتضرع الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة في تلك الصحراء والمناجاة الخمس عشرة للإمام السجاد(عليه السلام) التي وردت في الصحيفة السجادية ودعاء الندبة الذي يلهج به لسان المنتظر لظهور إمام العصر والزمان(عليه السلام) الامعطيات وآثار هذا العشق الطاهر. وعليه يتضح ممّا مر معنا أنّ الذم الذي أورده بعض العلماء لمفردة العشق وتلك الحساسية التي ابدوها تجاهه إنّما مرادهم العشق الملوث المشوب بالخطيئة، وإلاّ فالعشق المقدس من أعظم القوى المحركة للإنسان والتي تدفع به نحو الله سبحانه والقيم والمثل الإنسانية النبيلة، ويخطىء كل من يتصور خلو كلمات المعصومين(عليهم السلام)من هذه المفردة التي كثرت في روايات النبي(صلى الله عليه وآله) وأئمة العصمة(عليهم السلام).

ومن ذلك مارواه المرحوم الكليني عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرغ لها»(1).

وورد في حديث آخر بشأن الصحابي الجليل سلمان: «إن الجنّة لأعشق لسلمان من سلمان للجنّة»(2).

قال العلامة المجلسي في ذيل الحديث الأول العشق يعني الإفراط في الحب و قد تصوروه يختص بالأمور الباطلة دون حب الله، بينما تفيد هذه الرواية ليس الأمر كذلك، و إن إقتضى الإحتياط أن لانستعمل مفردة العاشق و المعشوق على الله.

—–


1. الكافي 2/83، ح 3، باب العبادة.

2. بحار الانوار 22/341.

[ 372 ]

[ 373 ]

 

 

القسم الرابع

 

«اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّة مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاء مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّ حَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقَهِا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَالْعِبءُ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهُدُ فِيَما كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ! فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَيَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ ألْسِنَتِهِمْ، وَلاَيَسْمَعُ رَجْعَ كَلامِهِمْ. ثُمَّ ازْدَادَ زاد الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِه، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فيهِ اِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ».

—–

 

الشرح والتفسير

سكرات الموت

تطرق الإمام(عليه السلام) هنا إلى سكرات الموت بعبارات تهز أعماق الإنسان وتلفت انتباهه إلى

[ 374 ]

تلك الحقيقة: «اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت».

فالواقع هناك هجوم ثقيل على الإنسان وهو على أعتاب الموت: الأول هجوم سكرات الموت، وهو حالة تشبه السكر تحدث للإنسان حين يحل أجله، وقد تستولي أحياناً على عقله فتجعله يعيش حالة من الاضطراب والقلق العظيم.

والآخر حسرة فقد ان كل شيء كان قد أجهد نفسه عمراً طويلاً من أجل الحصول عليه وعانى في سبيله الأمرين.

وهى اُمور تعلق وشغف بها وكأنّها أصبحت جزءاً من وجوده وكيانه، وإذا به يرى الآن أنّه يودعها إلى غير رجعة، وهذا ما يضاعف من قلقه واضطرابه ثم خاض(عليه السلام) في شرح تفاصيل تلك السكرات، حيث تضعف حينها الأعضاء والجسد بعد أن يتغير لونها، ثم يدب فيها الموت بالتدريج، فيفصلها عن اللسان، والحال هو جالس بين أهله يراهم بعينه ويسمع كلامهم باذنه، وهو على سلامة من عقله: «ففترت لها أطرافهم، وتغيرت لها أطرافهم، ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع باذنه، على صحة من عقله، وبقاء من لبه».

فالذي يستفاد من هذه العبارات أنّ أول ما يتوقف عن العمل هو لسان الإنسان. اللسان الذي يعدّ أكبر سند للإنسان من أجل حل مشاكله، ويالها من حسرة وفاجعة أن يرى الإنسان بعينه ويسمع باذنه وهو على سلامة من عقله ولبه، لكنه لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة فيلهج بما يريد. ذكر أحد شراح نهج البلاغة هنا مثالا من التوراة عن الموت حيث شبهته بالشجرة ذات الأشواك التي تغوص في جميع البدن، و يغرس كل شوكة في عصب من عصبه فتمزقها جميعاً و تقضي عليه.

ثم واصل(عليه السلام) كلامه بشأن من هجم عليه سكرة الموت في أنّه فاق من غفلته واستغرق في التفكير فهو يفكر فيم أقضى عمره وذهب به أدراج الرياح وكيف أفنى دهره: «يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره».

يتذكر هنا الأموال والثروات التي جمعها وقد أغمض عينيه عن الكيفية التي جمعت بها

[ 375 ]

دون الاكتراث إلى الحلال والحرام والمحظور والممنوع: «ويتذكر أموالاً جمعها، أغمض(1) في مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها».

نعم فهو يفيق إلى نفسه وأول كابوس يقض مضجعه ويهيمن على كيانه هو كابوس أمواله; الأموال التي لم يفكر بالحلال والحرام في جمعها بعد أن أعماه حبّ الدنيا، أو أنّه اعتمد بعض التوجيهات المشبوهة ليستحوذ على بعض الأشياء، والآن بعد أن رفع عنه الحجاب فهو يرى العبىء الثقيل الذي طال عاتقه متمثلاً بحق الله وحق الناس، والأنكى من ذلك عدم وجود سبيل إلى الفرار. ليس له من لسان لبيان هذه المشكلة، وإن كان له من بيان، فليس هنالك من يسمع! ولو سمعه من حوله من قرابته ووارثيه اكتفوا بالقول (أنّه ليهجر حيث فقد عقله وفكره) ليتمكنوا من مصادرة أمواله بسهولة.

وهذا هو البؤس الحقيقي في أن يشقى الإنسان بجمع هذه الأموال وتبقى عليه تبعتها ومسؤوليتها، بينما يخلفها الآن إلى غيره ويفارقها إلى غير رجعة.

ومن هنا قال(عليه السلام): «تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، ويتمتعون بها، فيكون المهنأ لغيره، والعب(2) على ظهره، والمرء قد غلقت رهونه(3) بها».

يالها من مصيبة! أن يرى الإنسان كل هذه القصور الفخمة والأجهزة المتطورة والثياب الفاخرة ووسائل الراحة الراقية والأموال الوفيرة التي عانى ما عانى في الدنيا من أجل الحصول عليها وهو يهبها الان لقمة سائغة لمن وراءه! والأدهى من ذلك ذهبت لذتها لغيره وبقيت تبعتها عليه.

وليت شعري ليس له الآن سوى الحسرة والندم فلم تعد هناك من فرصة لتلافي ما فرط منه وتدارك ما قصر فيه ولذلك قال(عليه السلام): «فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له(4) عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره».


1. «أغمض» من مادة «غمض» على وزن نبض اطباق الجفن على العين، ثم اطلق على كل تساهل وغفلة.

2. «العب» بمعنى الحمل والثقل.

3. «رهون» جمع «رهن» حبس الشيء وهو عادة سند يسلم مقابل قرض لايعاد مالم يسدد «والمرء قد غلقت رهونه بها» استحقها مرتهنها وأعوزته القدرة على تخليصها، كناية عن تعذر الخلاص.

4. «أصحر» برز في الصحراء، أي على ما ظهر له وانكشف من أمره.

[ 376 ]

وهنا يتذكر الحساد الذين واجهوه في حياته وحاولوا الاستيلاء على أمواله وثرواته ويسلبوه ملكيتها، إلاّ أنّه حال دونهم بفكره وشطارته ولم يدعهم ينيلون منها، إذ ذاك تمنى حين هجم عليه الموت ألا يكون قد أخذها، وليتها صارت من نصيب من حسده وغبطه عليها: «ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه».