ثم يصف(عليه السلام) هذه الحكومة الجائرة بأنّها خارجة عن الإسلام، وقائمة على أساس الضلال والفساد: «قائدها خارج من الملة، قائم على الضلة».

هذه العبارة التي تشير إلى معاوية أو سائر حكام بني أمية، ناظرة إلى هذه المعنى وهو أنّ زعماء هذه الجماعة ليس فقط لايعملون على ضوء قوانين الإسلام ويتجاوزون ضروريات الدين فحسب، بل أساس عملهم ونشاطهم هو الضلال; الأمر الذي يشهد به التأريخ.

ثم أشار(عليه السلام) إلى النهاية المأ ساوية لهذه الأحداث في أنّه لا يبقى منكم آنذاك إلاّ النزر اليسير كالذي يتبقى في قعر القدر فاذا حرك وقع: «فلا يبقى يومئذ منكم إلا ثفالة(3) كثقالة القدر، أو نفاضة(4) كنفاضة الحكم(5)».


1. «تكيل» من مادة «كيل» على وزن ذيل بمعنى المكيال وتستعمل عادة في المواد الغذائية كاحنطة والشعير، كما تستعمل في غيرها مجازاً.

2. «باع» يعني في الأصل المسافة بين أصابع اليدين، حين يفتحها نحو اليمين أو اليسار بصورة تامة، كما يستعمل مجازاً بمعنى القدرة الكاملة للإنسان.

3. «ثفالة» من مادة «ثفل» هو ما استقر تحت الشيء من كدره.

4. «النفاضة» من مادة «نفض» على وزن نبض ما يسقط بالنفض.

5. «العكم» بمعنى الكيس الذي يحفظ فيه الأشياء.

[ 341 ]

فالعبارة تفيد عدم سلامتهم فيها سوى القلة القليلة منهم، لأنّ هؤلاء الظلمة لا يدعون بقاء أحد من المؤمنين الصالحين.

ولا يكتفون بذلك بل: «تعرككم(1) عرك الأديم(2) وتدوسكم(3) دوس الحصيد».

ويفصلون أهل الإيمان منكم فيقضون عليهم كما تلتقط الطيور الحبوب القوية من الضعيفة: «وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبّة البطينة(4) من بين هزيل(5) الحبّ».

في إشارة إلى أنّ ظلمهم يعم الجميع، إلاّ أنّ ظلمهم وجورهم يتضاعف تجاه المؤمنين من الأفراد.

 

تأمّل : الحكومات المستبدة

إنّ ما اورده الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة وإن كان أخباراً عن بني أمية وحكومتهم في المستقبل، إلاّ أنّه يبدو أنّ ذلك يمثل قانوناً عاماً كلياً بشأن كافة الحكومات المستبدة الجائرة، فهى تجهد من أجل ترسيخ دعائمها واعتماد المعايير اللازمة لضمان منافعها وديمومتها، والتعامل بمنتهى العنف والقوة مع من يهب لمعارضتها، فتقمع العناصر المؤمنة ولا سيما الناشطة منها، فهى لا تعرف أية قيمة لقانون أو رأفة ورحمة وإنسانية، كما لا تأبه بحقوق الناس; الأمر الذي نلمسه بوضوح في الحكومات المعاصرة.

—–


1. «تعرك» من مادة «عرك» شديد الدلك ومن هنا تطلق المعركة على ميدان القتال حيث يدك كل منها الطرف الآخر.

2. «الاديم» في الأصل بمعنى جلد أي شيء. ويستفاد من هذه الكلمة بشكل أكثر عند الحديث عن جلود الحيوانات.

3. «تدوس» من مادة «دوس» على وزن قوس.

4. «بطينة» من مادة «بطن» سمين.

5. «هزيل» ضد بطين بمعنى الضعيف وخفيف الوزن.

[ 342 ]

[ 343 ]

 

 

القسم السادس

 

«أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ، وَتَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ وَتَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ؟ وَمِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ، وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ فَلِكُلِّ أَجَلِ كِتَابٌ، وَلِكُلِّ غَيْبَة اِيَابٌ، فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيَّكُمْ، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ، وَاسْتَيِقِظُوا اِنْ هَتَفَ بِكُمْ. وَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، وَلْيَجْمَعْ شَمْلَهُ، وَلْيَحْضِرْ ذِهْنَهُ، فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ. فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ، وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ، وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُوم، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ، وَتَهاجَرُوا عَلَى الدِّينِ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ».

—–

 

الشرح والتفسير

احذروا المستقبل المشؤوم

خاطب(عليه السلام) صحبه من أجل الفات نظرهم إلى ما ينتظرهم من حوادث صعبة مأساوية ـ ستصيب المسلمين في المستقبل ـ بهدف كبس خسائرها واضرارها أو إرشادهم إلى طرق الإبتعاد عنها، فقال(عليه السلام): «أين تذهب بكم المذاهب، وتتيه(1) بكم الغياهب(2) وتخدعكم الكواذب؟ ومن أين تؤتون، وأنّى تؤفكون».

وهكذا قام(عليه السلام) هذا الزعيم الرباني بايقاظ مخاطبيه من نوم الغفلة واعدهم لسماع قول الحق، ثم لفت انتباهم إلى الموت وانتهاء أجل الإنسان، فقال(عليه السلام): «فلكل أجل كتاب، ولكل غيبة إياب».


1. «تتيه» من مادة «تيه» على وزن «بيه» بمعنى الضلال والحيرة.

2. «غياهب» جمع «غيهب» على وزن «حيرت» بمعنى شدة ظلام الليل.

[ 344 ]

فلا تتصوروا أنّ أعماركم ممتدة لانهاية لها وأنّ الفرصة سانحة على الدوام لتدارك مافرط، ولا تظنوا أنّ أعمالكم خافية مستترة ولا تعود عليكم، فالموت حق والعمر محدود والأعمال محفوظة عند الله تنتظر الثواب أو العقاب.

وعليه فالمراد بقوله: «لكل غيبة إياب» إمّا الموات وأعمال الإنسان!

كما نرى مثل هذا التعبير في سائر خطب نهج البلاغة. فقد خاطب(عليه السلام) الاُمّة في الخطبة 83 داعياً إياها إلى التوبة قبل حلول الموت الذي عبر عنه بالقول: «قبل قدوم الغائب المنتظر».

كما ورد مثل هذا المعنى في الخطبة 64(1).

ثم قال(عليه السلام): «فاستمعوا من ربانيكم، واحضروه قلوبكم، واستيقظوا إن هتف(2) بكم».

ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه بالنصح والوعظ والتحذيرات، على أنّ الزعيم لابدّ أن يتحدث بصدق إلى اتباعه، ويحرص على لم شملهم وجمع كلمتهم، ويحضر لديهم ذهنه بغية نجاتهم وانقاذهم وهذا ما عليه الحال بالنسبة لزعيمكم «وليصدق رائد(3) أهله، وليجمع شمله(4)، وليحضر ذهنه».

وخلاصة القول فانّ لزعيم الجماعة وظيفة، كما للاُمّة وظيفة أيضاً، فهو يجب عليه أنّ يبيّن للاُمّة الواقع والحقائق من جانب، ومن جانب آخر عليه أن يجمع أفراده وينظمهم ويمنحهم فكره وذهنه، فاذا قام الإمام بهذه الاُمور، كانت وظيفة الامة تتمثل بالجد والاجتهاد من أجل امتثال أوامره.

ثم قال(عليه السلام): «فلقد فلق(5) لكم الأمر فلق الخرزة(6)، وقرفه(7) قرف الصمغة».


1. ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى ان هذه العبارة منقطعة حيث لم يروا من إرتباط واضح بينها وبين العبارات السابقة على أنّ السيد الرضي فصلها طبق عادته في الانتخاب، والحال هذا ليس من عادة الرضي (ره) في ان يحذف عبارة دون أن يشير إليها كما مرمعنا ذلك بقوله (ومنها) وعليه وكما ذكرنا فان هناك علاقة معنوية وطيدة.

2. «هتف» من مادة «هتاف» صراخ.

3. «الرائد» من يتقدم القوم ليكشف لهم مواضع الكلأ ويتعرف سهولة الوصول اليها من صعوبته.

4. «شمل» بمعنى الجمع.

5. «فلق» بفتحتين بمعنى الشق.

6. «الخرزة» الجواهر القيمة النفيسة او قليلة الثمن.

7. «قرف» من مادة «قرف» على وزن حرف بمعنى التقشير.

[ 345 ]

فالعبارة كناية عن بيان الحقائق والواقعيات واظهار باطن الاُمور، والعبارة: «قرفه قرف الصمغة(1)» إشارة إلى أني أخرجت لكم عصارة المطالب وجوهرتها، كما تجري تلك المادة اللزجة من الأشجار. خاض الإمام(عليه السلام) هنا ثانية في الحديث عن الحوادث القادمة التي ذكرها سابقاً حيث أتمها ببيان الوقائع الإجتماعية و الأخلاقية و الدينية للحكومات المستبدة، و قد أوضح الآثار المختلفة الإجتماعية و الدينية لهذه الحكومات. و إرتباط هذا القسم من الخطبة بالأقسام السابقة واضح تماما، و إن تخللها بعض العبارات لإيقاظ أصحابه. و العجيب ما ذهب إليه بعض شراح نهج البلاغة من مجانبة هذا القسم للأقسام السابقة بفعل عادة السيد الرضي(ره) في الإقتطاف، و كأن هذا الإقتطاف الرائع للسيد أصبح ذريعة لمن لم يتأمل الإرتباط بين أقسام الخطبة ليحملها جامع نهج البلاغة.

ثم قال(عليه السلام): «فعند ذلك أخذ الباطل ماخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية، وقلت الداعية».

يمكن أن يكون للطاغية هنا معنى مصدري: أي أنّ الطغيان يكبر ويتسع على مستوى المجتمع، كما يمكن أن يكون لها معنى اسم الفاعل; أي يستفحل أمر طائفة طاغية، ويقل عدد دعاة الحق أمامها، فأمّا أن تقضي عليهم أو تقصيهم عن الساحة الاجتماعية، وهذه أهم الأخطار التي تنبثق من هذه الحكومات الباطلة المستبدة التي تجهد في كم أفواه دعاة الحق.

ثم قال(عليه السلام): «وصال الدهر صيال السبع العقور، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم».

نعم فقد اقتحمت الساحة ثانية من قبيل الجماعات المنافقة وسليلة الجاهلية ـ التي طردت من الميدان ـ أثر ضعف دعاة الحق. وعلى هذا الضوء تقلب كافة الموازين والقيم: «وتوافى الناس على الفجور، وتهاجروا على الدين، وتحابوا على الكذب، وتباغضوا على الصدق».

وهكذا وبمقتضى «الناس على دين ملوكهم» فانّ هؤلاء الحكام الفسقة والفجرة عديمي الدين يجدون في طبع الاُمّة بهذه الصفات الخبيثة بحيث يحيلون الساحة الإسلامية إلى جحيم لايطاق.


1. «صمغه» ما يجري من الشجرة من مادة لزجة.

[ 346 ]

ورغم أنّ الدين يشمل ترك الكذب والفجور، وهجر الدين يعني هجر القيم والمثل، إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام) يركز بالخصوص على مسألة الفجور والكذب، لأنّ هذه الرذائل لمن من أخطر الرذائل التي تفرزها طبيعة الحكومات المستبدة الفاقدة للدين، حيث تركز على الفساد والتحلل الأخلاقي والكذب.

أمّا التعبير «توافي وتهاجروا وتحابوا وتباغضوا» تشير إلى نقطة لطيفة وهى أنّ الناس في مثل هذه المجتمعات تتجه زرافات وجماعات نحو الكذب والفجور، وبعبارة اُخرى ليس لها من بعد فردي، بل بعد اجتماعي عظيم الخطر.

—–

[ 347 ]

 

 

 

القسم السابع

 

«فَاِذَا كَانَ ذلِكَ الوَلَدُ غَيْظاً، وَالْمَطَرُ قَيْظاً، وَتَفِيضُ اللِّئِامُ فَيْضاً، وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً، وَكَانَ أهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلاَطِينُهُ سِبَاعاً، وَأَوْ سَاطُهُ أُكَّالاً، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً; وَغَارَ الصِّدْقُ، وَفَاض الْكَذِبُ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ الفُسُوقُ نَسَباً، وَالْعَفَافُ عَجَباً، وَلُبِسَ الإسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً».

—–

 

الشرح والتفسير

   الانقلاب رأس على عقب

واصل الإمام(عليه السلام) بحثه السابق في الأخبار عن المستقبل وسيطرة الحكام الظلمة والأعمال الوحشية التي يمارسونها بحق الناس، في التعرض إلى جانب آخر من الآثار المشؤومة لهذه الحكومات، والوضع الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي للناس في ظل هذه الحكومات.

فتطرق(عليه السلام) بادى الأمر إلى الأولاد الذين يثيرون غضب آبائهم، وأصبح المطر قيظاً، وانتشر اللئام في كل مكان وقل الاخيار: «فاذا كان ذلك كان الولد غيظا(1) والمطر قيظاً(2)وتفيض اللئام فيضاً(3)وتغيض الكرام غيضاً(4)».

في إشارة إلى أنّ رذائل السوء للحكام الظلمة إنّما تخترق الأسر والعوائل، والأولاد الذين


1. «غيض» بمعنى الغضب، وقيل حالة أشد من الغضب.

2. «قبض» بمعنى وسط الصيف «قلب الاسد» واذا وردت بالمعنى المصدري فهي شدة الحرارة.

3. فيض سيل الماء أو المطر والدمع.

4. غيض الغور في الأرض والنقصان.

[ 348 ]

ينبغي أن يكونوا قرة أعين والديهم ومصدر سعادتهم وخيرهم، يكونون سبب شقائهم وبؤسهم.

من جانب آخر تتضح الآثار الوضعية لهذه الأعمال السيئة في عالم الطبيعة والنعم الإلهية، كما ينزل المطر في الصيف فيدعو إلى الانزعاج وضياع المحاصيل الزراعية بدلاً من نزوله في فصل الشتاء فيؤدي إلى برودة الجو وتلطيفه.

أضف إلى ذلك وإثر انقلاب القيم وضياعها يفتح الميدان لحثالة المجتمع فيصولون ويجولون فيه، الأمر الذي يعني إقصاء الأخيار والصالحين من الساحة، فهذه العناصر الأربعة تشاهد بوضوح في كل حكومة طاغية مستبدة.

ثم واصل كلامه(عليه السلام) بالإشارة إلى أربع صفات حيث قسم الفئات الاجتماعية آنذاك إلى أربع وقال: «وكان أهل ذلك الزمان ذئاباً، وسلاطينه سباعاً، وأوساطه أكالاً،(1) وفقراؤه أمواتاً».

والمراد بأهل ذلك الزمان أعوان الحكام الظلمة وعمالهم وولاتهم.

فاذا كان السلطان ذئباً ضارياً، كان من الطبيعي أن تكون هذه هى صفة بطانته، كما أنّ من الطبيعي أيضاً أن تكون الطبقة المتوسطة من المجتمع فريسة لهذه الذئاب، أمّا الفقراء فيعتريهم النسيان وكأنّهم أموات محوا من صفحة التاريخ.

وكأنّ الإمام(عليه السلام) قد طالع عن كثب كافة تفاصيل التاريخ البشري، فكشف النقاب بهذه العبارات القصيرة عن عمق مميزات الحكومات المستبدة الطاغية.

ثم إختتم(عليه السلام) خطبته بالاشارة إلى سبع ظواهر مقيتة في هذه المجتمعات والتي تمثل قمة البؤس والشقاء. حيث قال سيزول الصدق في ذلك الزمان ويكثر الكذب وظهرت المودة على اللسان في حين انطوت القلوب على البغض والعدوان، ويتفاخر بالذنب ويندهش من العفة والطهر،


1. «أُكال» جمع «آكل» مثل طلاب بمعنى الآكل، و على هذا المعنى يكون معنى الجملة «أوساطُه أكالا»، المقصود به الطبقة المتوسطة في ذلك الزمان والذين لاهم لهم غير الاكل والشرب وسلب ونهب الأموال، واذا جاءت بصيغة اسم فاعل، حيث نرى أنها جاءت على صيغة «اسم مفعول، وهو ما يناسب الجمل التي سبقتها، فيكون معناها، بالشكل الذي أوردناه في الشرح أعلاه.

[ 349 ]

فيلبس الإسلام ثوباً مقلوباً: «وغار(1) الصدق، وصار الفسوق نسبا، والعفاف عجباً، ولبس الإسلام لبس الفرو(2) مقلوباً».

يمكن أن تكون العبارة «غار الصدق، وفاض الكذب» وبالالتقات إلى معنى الغور الذي يعني الانتشار داخل الأرض وفاض من فيض بمعنى الماء الوفير أو المطر وأمثال وذلك، إشارة إلى ذلك الزمان وكأنّ عيون الصدق قد غارت فيه في الأرض بينما جفت بساتين الحياة الإنسانية اثر ابتعادها عن هذه المياه، وبدلا من ذلك فقد عم وانتشر الكذب وكأنه الماء المالح الذي يخرب كل شيء.

والعبارة «صار الفسوق نسباً» تفيد مدى اقتراب الفسقة من بعضهم وتوطيد أواصرهم وكأنهم قرابة ونسب.

وقد فسر بعض شرّاح نهج البلاغة الفسوق هنا بالزنا; أي يكثر أولاد الحرام في المجتمع، وينسجم هذا التفسير والعبارة: «والعفاف عجباً».

الاحتمال الآخر في تفسير هذه العبارة أنّ الفسقة يفتخرون بفسقهم، كما تفتخر العرب بنسبها، وعلى العكس من ذلك فانّ الأفراد من أهل الطهر والعفاف يشعرون بالخجل إثر ذم المجتمع وملامتهم لهم.

والعبارة: «لبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً» إشارة إلى نقطة لطيفة وهى أنّ حكام الجور والفسقة والفجرة لايسعون إلى القضاء على الإسلام وسلب الناس دينهم، بل يحرفون الإسلام ويقلبون محتواه من أجل تحقيق أطماعهم ومآربّهم. وشهد تاريخ الحكومات المستبدة ولاسيما حكومة بني أمية على صدق هذا الكلام.

طبيعي أنّ اللباس إذا قلب لم يعد له من شبه بثياب الناس، بل يبدو من يرتديه حيواناً، أما ذكر هذه العبارة بعد الحديث عن مفاسد ذلك الزمان يمكن أن يكون من قبيل ذكر العام بعد الخاص; لأنّ الإسلام إذا قلب كان الكذب بدل الصدق والفسوق بدل العفاف وسائر الرذائل بدل الفضائل والقيم.


1. «غار» من مادة «غور» الدخول في الشيء وإذا استعمل في الماء عنى غوره في الأرض، ومن هنا يستعمل بمعنى الانعدام أيضاً.

2. «فرو» ما يهيىء من جلد الحيوانات وله صوف عادة ما يلبس في الشتاء.

[ 350 ]

تأمّل : آثار سلطة الأوباش

لقد رسم الإمام(عليه السلام) في هذه الأقسام الثلاثة من الخطبة صورة واضحة ببيانه للاحداث القادمة التي ستواجه المجتمع الإسلامي عن كافة الحكومات الطاغية والمستبدة على مدى التاريخ.

حيث تسعى هذه الحكومات لتقوية دعائمها فان استتبت لها الاُمور واستقرت أقصت كافة الأخيار والشرفاء عن الميدان، واستقطبت بطانتها من حثالة المجتمع ليمارسوا أبشع الأساليب بحق الناس ولا سيما المؤمنين، كما يسعون إلى سوق الناس لأن يعيشوا في هالة من الجهل والتخبط.

الكذب هو السائد والصدق غائب، والفسوق عامر والطهر ضامر. أضف إلى ذلك فانّ الناس سرعان ما تكتسب رذائل الحاكم، ولاغرو فالناس على دين ملوكهم. وزبدة الكلام فانّ قيم المجتمع ومثله تقلب تماماً على سبيل المثال يكون الفسق والفجور فخراً، بينما يصبح الطهر والعفاف نقصاً.

وبالطبع فانّ مثل هذه الحكومات لا تقف بوجه الدين في الأوساط الدينية بل تسعى جاهدة لتحريفه واخلائه من محتواه بغية تمرير مخططاتها، إلى جانب تعبئة الرأي العام لصالحها من خلال ترويجها للخرافات التي تستهوي العوام.

والحق اننا إذا اعتمدنا هذه المعايير التي أوردها الإمام(عليه السلام) تجاه عالمنا المعاصر ولاسيما غالبية البلدان الإسلامية لرأيناها مصداقا واضحاً لما ذكر، وكأن الإمام(عليه السلام) كان ينظر لكافة الأحداث التي تشهدها مجتمعاتنا اليوم.

أمّا ما أورده الإمام(عليه السلام) من نبوءة في هذه الخطبة فانّما يشبه بعض مضامين الروايات التي نقلت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقد جاء في الحديث الشريف أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال:

«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وُجُوهُهُمْ وُجُوهُ الادَمِيِّينَ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينَ، كَأَمْثَالِ الذَّئَابِ الضَّوارِي، سَفَّاكُونَ لِلدِّمَاءِ، لاَيَتَنَاهَوْنَ عَنِ مُنْكَر فَعَلُوهُ، إنْ تَابَعْتَهُمْ ارْتَابُوكَ وَإِنْ حَدَّثْتَهُمْ كَذَّبُوكَ، إِنْ تَوَارَيْتَ عَنْهُمْ اغْتَابُوكَ. أَلسُّنَّةُ فِيِهمْ بِدْعَةُ والبدْعَةُ فِيهِمْ سُنَّةٌ،

[ 351 ]

والْحَلِيمُ مِنْهُمْ غَادِرٌ، وَالْغَادِرُ بَيْنَهُمْ حَلِيمٌ، ألْمُؤمِنُ فِيَما بَيْنَهُمْ مُسْتَضْعَفٌ، وَالْفَاسِقُ فِيَما بَيْنَهُمْ مُشَرَّفٌ... فَعِنْدَ ذلِكَ يَحْرِمُهُمُ اللهُ قَطْرِ السَّمَاءِ فِي أوانه، وِ يُنْزِلُهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ...»(1).

—–


1. سفينة البحار، مادة زمن.

[ 352 ]

[ 353 ]

 

 

الخطبة(1) 109

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

في بيان قدرة الله وانفراده بالعظمة وأمر البعث

 

نظرة إلى الخطبة

تعد هذه الخطبة من أفصح وأبلغ خطب نهج البلاغة إلى جانب عظم محتواها ومن هنا أسموها بالزهراء. حتى صرح ابن أبي الحديد قائلاً: من أراد أن يتعلم الفصاحة والبلاغة، ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض فليتأمل هذه الخطبة، فانّ نسبتها إلى كل فصيح من الكلام نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، ثم لينظر الناظر إلى ماعليها من البهاء، والجلالة والرواء والديباجة وما تحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشية; حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفي البعث والنشور لهدت قواه، وأرعبت قلبه، وأضعفت على نفسه، وزلزلت اعتقاده.(2)

والخطبة تتألف بصورة عامة من ثمانية أقسام:

القسم الأول: يتحدث عن عظمة قدرة الله وعجز المخلوقات أمامه حيث يورد بعض الاُمور الدقيقة بهذا الشأن.


1. سند الخطبة: جاء في مصادر نهج البلاغة أنّ المرحوم الرضي (ره) اقتطفها من الخطبة المعروفة بالزهراء، ورواها ابن عبد ربّه المالكي في العقد الفريد والزمحشري والآمدي (مصادر نهج البلاغة 2/235).

2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7/202.

[ 354 ]

القسم الثاني: في خلقة الملائكة وبعض صفاتها وخصائصها، التي ستحقر عبادتها تجاه عظمة الحق، لو اطلعت على اسرار الغيب، رغم اجتهادها وذوبانها في العبادة والطاعة.

القسم الثالث: عن غفلة العباد واقبالهم على الدنيا وابتعادهم عن دعوة الأنبياء مع وجود الآخرة ونعمها الدائمة.

القسم الرابع: يعالج عشاق الدنيا من أهل الذنوب والمعاصى حين الموت، بعبارات بليغة مؤثرة تسوق الغافل إلى التفكير وإعادة النظر في سلوكه وتصرفاته.

القسم الخامس والسادس: حول القيامة ومقدمات يوم الحساب وسؤال الإنسان عن أعماله، وسعادة المؤمنين، وتعاسة المذنبين وعاقبة كل من هاتين الطائفتين.

القسم السابع: عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وزهده بالدنيا ورغبته عنها. و كونه الأسوة التي ينبغي لأهل الايمان الاقتداء بها.

القسم الثامن: عن أهل البيت(عليهم السلام) واتباعهم وعظم منزلتهم.

—–

[ 355 ]

 

 

القسم الأول

 

«كُلُّ شَيْء خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْء قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف، وَمَفْزَعُ كُلِّ ملْهُوف. مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ. لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ. لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَة، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَة، وَلاَ يَسْبِقُكَ. مَنْ طلَبْتَ، وَلاَ يُفْلِتُكَ، مَنْ أَخَذْتَ، وَلاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَلاَيَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ، وَلاَيَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ، وَلاَ يَسْتَغْني عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ. كُلُّ سِرًّ عِنْدَكَ عَلانِيَةٌ، وكُلُّ غَيْب عِنْدَكَ شَهَادَةٌ. أَنْتَ الأَبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَكَ، وَأَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلاَ مَحِيصَ عَنْكَ، وَأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ. بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّة، وَإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَة. سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ! وَمَا أصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَة فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآخِرَةِ!».

—–

 

الشرح والتفسير

الصفات الكمالية لله

كما ذكرنا سابقاً فانّ هذه الخطبة من أعمق خطب نهج البلاغة و أروعها و أجملها، وقد تطرق(عليه السلام) في بداية الخطبة إلى أوصافه سبحانه وتعالى الجمالية والجلالية وصفات الأفعال بصورة واسعة جامعة.

[ 356 ]

فاشار(عليه السلام) إلى عشر صفات من صفات الكمال: «كل شيء خاشع له، وكل شيء قائم به: غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف».

فهذه الصفات الست تعود إلى قدرته المطلقة سبحانه ووجوده المطلق اللامحدود وحاجة جميع الممكنات إليه.

«خاشع» من مادة «خشوع» تعني في الأصل الخضوع; مع ذلك لها مفهوم أوسع يشمل الخضوع الظاهري والباطني والتشريعي والتكويني. وعليه فخشوع كل شيء له بمعنى التسليم لله والانصياع لقوانينه.

وقيام كل شيء بالله من حيث إنّه واجب الوجود وغيره ممكن الوجود، والممكن يتوقف على الواجب، كتوقف ضياء الشمس عليها. وإليه يعزى أيضاً غنى كل فقير وعز كل ذليل وقوة كل ضعيف; وذلك لأنّ الممكنات والمخلوقات لا تملك لنفسها شيئاً، وكل ما لديها من الله، وكل كمال تحصل عليه فانّما هو فيض من كماله المطلق.

ملهوف من مادة لهف تعني في الأصل الغم والهم الذي يعاني منه الإنسان اثر فقدانه لشيء: كما تستعل أحياناً لمن يظلم من الأفراد ويصرخ مستغيثاً. ولما كانت قدرة الناس زهيدة لا تمكنهم من تحقيق كافة رغباتهم أو الحفاظ على مالديهم، فان حالة الهم والغم والحزن تسيطر عليهم حين يفقدون سندهم المادي والمعنوي، فليس أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى تلك الذات القادرة المقتدرة من أجل حل مشاكلهم والتغلب على مصاعبهم.

والواقع هو أن ماورد سابقاً إنّما اقتبس من عدّة آيات قرآنية اشارت إلى هذه الصفات. فقد صرح القرآن في موضع: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّمـواتِ وَما فِي الأَرضِ)(1). وقال في موضع آخر: (اللّهُ لا إِلـهَ إِلاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ)(2). وقال: (يا أَيُّها النّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إِلى اللّهِ وَاللّهُ هُـوَ الغَنِىُّ الحَمِـيدُ)(3). وقال: (قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُـؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِـيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ)(4).


1. سورة النمل/49.

2. سورة البقرة/255.

3. سورة فاطر/15.

4. سورة آل عمران/26.

[ 357 ]

ثم اردفها(عليه السلام) بست صفات اُخرى: «ومن تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فاإليه منقلبه».

نعم فهو عليم بظاهرنا وباطننا، وهو العالم بحياتنا وموتنا، وإنا إليه راجعون لا محالة.

والحق لو عشنا الإيمان على مستوى القلب والعمل بهذه الصفات التي بينها الإمام(عليه السلام)لكفتنا في اصلاح أنفسنا، لابدّ أن نعلم بأنّ كل كالدينا منه سبحانه، وعلينا أن نسأله كل ما نريد، فهو العالم باسرارنا، وأنّ يوماً سنعود إليه ونمثل بين يديه في محكمته العادلة.

ثم قال(عليه السلام) و قد ذكر بعضا من صفات الخالق السلبية:«لم ترك(1) العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك».

فالعبارة «لم ترك العيون» إشارة إلى أنّه ليس بمخلوق ولا بجسم ليرى، وتبيّن صفاته من خلال الرؤية والمشاهدة.

والعبارة اللاحقة بمنزلة العلة; لأنّ الله كان منذ الأزل، ولا يمكن أن يكون جسماً. فالجسم حادث. وعليه فان أردنا أن نصف الذات المقدسة علينا ان نستعين بما أورده انبياء الله وكتبه السماوية.

ثم اشار(عليه السلام) إلى ثمان صفات اُخرى من صفات الجلال ذات البعد السلبي، وفي الواقع نتحدث عن غنى الحق المطلق.

«لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَة، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَة، وَلاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ، وَلاَ يُفْلِتُكَ(2)مَنْ أَخَذْتَ، وَلاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَلاَ يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ، وَلاَيَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ، وَلاَيَسْتَغْني عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ».

نعم فهو الغني عن الجميع، وكل كماله مصدره الحق سبحانه و ليس لشيء من قدرة على تحدي إرادته ـ و عليه فخلقه للمخلوقات يستند إلى فيضه لالدفع وحشة وحدة أو جلب منفعة، فلا عبادة العباد تزيد من جلاله، ولاكفرهم ينال من كبريائه، فمن تولى عنه لم يستغن


1. «لم تر» فعل، والكاف مفعوله، و فاعله «العيون» يعني «لا تبصرك الانظار».

2. «يفلت» من مادة «افلات» ينفك أويفر. ومنه الحديث المعروف لعمر في كتب الفريقين «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها».

[ 358 ]

عنه، و من إعترض على قضائه لم يسعه دفعه. ثم ذكر الإمام(عليه السلام) خمس من صفاته الجمالية فقال: «كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة، أنت الابد فلا أمد لك، وأنت المنتهى فلا محيص(1) عنك، وأنت الموعد فلا منجى منك إلا إليك».

قد تبدو للوهلة الاولى مفردة «سر» و«غيب» بمعنى واحد، وكذلك مفردتي «علانية» و«شهادة»، ولكن لايبعد أن يكون المراد بالسر، الأسرار الباطنية للعباد التي يعلمها الله، وبعبارة اُخرى فانّ كل سر علانية لديه، أمّا الغيب فيعني الحوادث الآتية، أو الماضية الغائبة على حسناً وشعورناً، أو الكائنات الموجودة حاليا في هذه السموات والأرض والتي لايبلغها حسنا.(2)

والعبارة أنت الأبد تأكيد لأبدية الله سبحانه. فهو على درجة من الأبدية وكأنه عينها وذاتها، فهو واجب الوجود، ومن هنا لابداية له ولا نهاية، فالبداية والنهاية من صفات المخلوقات المحدودة من مختلف الجهات.

والتعبير بالمنتهى والموعد صفتان متفاوتان بشأن الله سبحانه وتعالى. فهو المنتهى بمعنى كل شيء ينتهي إليه: «انا لله وانا إليه راجعون»، وليس لأحد القدرة على الفرار من محكمة عدله. وقد قال القرآن الكريم صراحة: (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّة بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)(3).

والرسالة التي تحملها هذه الصفات هو أن نعلم ونؤمن بان الله خبير عليم بكل شيء بما في ذلك بواطن أسرارنا وخفايانا، فما نكتمه على الخلق ليس بمكتوم على الخالق، واننا مرجعنا يوماً إلى محكمة العدل الإلهي، واخيراً لايخفى الدور التربوي والحيلولة دون الوقوع في الذنب والمعصية إذا ما التفتنا ألى هذه الصفات.

ثم واصل(عليه السلام) كلامه مؤكداً على قدرة الله وعودة جميع الكائنات الحية إليه فقال: «بيدك ناصية كل دابة، وإليك مصير كل نسمة».