والحال لا يليق هذا بكم «وأنتم لها ميم(1) العرب، ويا فيخ(2) الشرف، والانف(3) المقدم، والسنام الاعظم».

ولم أكن أتوقع هذا التراجع منكم، كما لا يليق بكم، إلاّ أنّ الذي اثلج صدري معاودتكم الكر وازاحتكم لهم عن مواضعهم: «ولقد شفى وحاوح(4) صدري أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم».

ثم وصف ذلك(عليه السلام) بقوله «حسا(5) بالنصال(6)، وشجراً(7) بالرماح، تركب أولاهم أخراهم كالابل الهيم(8) المطرودة، ترمى عن حياضها، وتذاد(9) عن مواردها».

وممّا لا شك فيه أن صفين كانت مقابلة بين عسكرين، ضم أحدهما أغلب الشخصيات الإسلامية من قبيل بعض صحابة النبي(صلى الله عليه وآله) وابناء الصحابة ومن البيوتات الصالحة السابقة إلى الإسلام والإيمان، وقد كانت هذه الجماعة تحت إمرة الإمام علي(عليه السلام). وبالمقابل كان الطرف الآخر يتمثل في الواقع ببقايا الجاهلية والشرك والاراذل والاوباش من طلاب الدنيا وعبدة الأهواء الذين قدموا الميدان بدينار معاوية ودرهمه واجزل لهم في العطاء، وفي مقدمتهم عمرو بن العاص الذي لم يبايع لمعاوية حتى اشترط عليه ولاية مصر.

وعليه فعبارات الإمام(عليه السلام) بشأن أهل الشام والعراق كانت تمثل عين الواقع، بعيداً عن اُسلوب الحث والتشجيع والمبالغة.

—–


1. «لهاميم» جمع «لهميم» و«لهموم» وهو السابق الجواد من الخيل والناس.

2. «يافيخ» جمع «يافوخ» وهو من الرأس حيث يلتقي عظم مقدمه مع مؤخره، ووردت هنا كناية عن القادة.

3. «الانف» المراد به الموضع البارز من الوجه، وتطلق العرب هذه الكلمة على المقدم.

4. «وحاوح» جمع «وحوح» صوت مع بحح يصدر عن المتألم.

5. «حس» بالفتح القتل.

6. «النصال» جمع «نصل» السهم.

7. «شجر» الطعن بالرمح.

8. «هيم» شدة العطش جمع «أهيم» أو «هائم».

9. «تذاد» من مادة «ذود» بمعنى الطرد و الدفع.

[ 323 ]

 

 

الخطبة(1) 108

 

 

 

ومن خطبة (عليه السلام)

 

وهى من خطب الملاحم

 

نظرة إلى الخطبة

تتالف هذه الخطبة من أقسام: استهل(عليه السلام) القسم الأول: كسائر الخطب بحمد الله والثناء عليه وبيان أوصاف الجلال والجمال وأدلة إثبات وجوده سبحانه. والقسم الثاني: جرى كسائر الخطب في الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وفضائله وكمالاته.

القسم الثالث: الحديث عن طبيب دوار يتفقد مرضاه وقد اعد كافة وسائل العلاج، وفسره أغلب شرّاح نهج البلاغة بان المراد شخصه(عليه السلام) أو النبي(صلى الله عليه وآله).

القسم الرابع: لوم الأصحاب الضعفاء وتذكيرهم بأنّ هذا الضعف والاختلاف يؤدي إلى عاقبة وخيمة يسلط فيها العدو عليكم، فيسدد ضرباته إليكم ولا يبقي لكم باقية.

القسم الخامس: وهو أهم قسم في الخطبة في الوعظ والنصح. والقسم السادس والأخير اخبار عن الحوادث المستقبلية في قطع الأرض والسماء لبركتهما، وظهور التحريف وتحول المعروف إلى منكر والمنكر إلى معروف.

—–


1. سند الخطبة: روى بعض هذه الخطبة الآمدي في الغرر والزمخشري في ربيع الأبرار وجانباً آخر رواه الآمدي في الغرر باختلاف مع ماورد في نهج البلاغة، وهذا يدل على أنّه نقلها من مصادر اُخرى غير نهج البلاغة. (مصادر نهج البلاغة 2/227).

[ 324 ]

[ 325 ]

 

 

القسم الأول

 

«الْحَمْدُ لِلّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ، وَالظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ. خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة، إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بَذَوي الضَّمائِرِ، وَلَيْسَ بِذِي ضَمِير فِي نَفْسِهِ. خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَات، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ».

—–

 

الشرح والتفسير

تجلى الله للعباد

كما أوردنا سابقاً فانّ الإمام(عليه السلام) استهل الخطبة بحمد الله والثناء عليه وذكر جماله وجلاله وأدلة وجوده سبحانه بعبارات قصار رائعة وهو يشير إلى أدلة التوحيد، فقال(عليه السلام): «الحمد لله المتجلي». والواقع هو أنّ العبارة تشير إلى برهان النظم الذي ورد في عدة آيات قرآنية التي تأخذ بيد الإنسان أحياناً إلى السموات والسيارات والثوابت والمجرات العظيمة كما تصحبه أحيانا اُخرى إلى عمق الذرة ودقة بنائها العجيب وتنتقل به تارة إلى عجيب خلقة الطيور، كما تريه تارة اُخرى اسرار البحار والمحيطات، فهى تريه عظمة الخالق من خلال المخلوقات، ويتضح ممّا تقدم ان الخلق في (لخلقه) تشير إلى الإنسان، وفي بخلقه إلى جميع المخلوقات فاحدها خاص والآخر عام.

ثم أشار(عليه السلام) فيما بعد إلى برهان الفطرة فقال: «والظاهر لقلوبهم بحجيته».

فأية حجة أعظم من هذه، وهى حين يعود الإنسان إلى قلبه وروحه يستمع نداء التوحيد يأتيه من كل مكان. ومن هنا مهما سعت الشياطين لانكار ذاته، وجهدت من أجل انحراف العباد، فبمجرّد زوال هذه التزيينات، وتلاشى السحب القاتمة للوساوس الشيطانية، تتجلى

[ 326 ]

هذه الفطرة التوحيدية في الإنسان فيعود إلى ربّه وخالقه.

ثم أشار في العبارة الثالثة إلى ما يمكن تسميته ببرهان الابداع فقال(عليه السلام): «خلق الخلق من غير روية، إذ كانت الرويات لاتليق إلاّ بذوي الضمائر(1)، وليس بذي ضمير في نفسه».

نعلم أنّ جميع المصنوعات البشرية إنّما تعود إلى الفكر والبرمجة والخطط والمشاريع المسبقة، وهذه بدورها إلى المخلوقات والمصنوعات في هذا العالم. أي كل ما يصنعه الإنسان فقد شاهد شبيهه في عالم الخلقة، كما قد يركب أحيانا بين عدة أشياء ليصنع منها شيئاً معيناً، فقد يحتذي بطيور البحر في صنعه للسفينة وبخلقة الطيور في صنعه للطائرة وهكذا، وعليه فهو يحتاج إلى التفكير في صناعته من جانب، ويحتاج إلى موجودات اُخرى لكي يقلدها ويستعين بها في صناعته من جانب آخر. أمّا الابداع بمعنى الخلق دون الحاجة إلى التفكير أو النموذج للاقتداء فانّما يختص به وحده سبحانه. ثبت اليوم أن على الأرض فقط ملايين الأنواع من النباتات و الحيوانات و الحشرات، حيث لم تكشتف بعد للإنسان لأنها تعيش فى أعمال البحار أو في متاهات الغايات أو في الصحاري النائية و المناطق القطبية، و كل ذلك يرمز إلى الإبداع الإلهي في عجائب خلقتها، و يشير هذا الإبداع إلى وجوده و علمه و قدرته.

و بغض النظر عن كل ذلك فإن الصناعات البشرية إنما تتكامل مع تقادم الزمان و الإنفتاح على تجارب الآخرين، و الحال مخلوقات الله ليست كذلك، فتكاملها يستند إلى ذاتها، لا إلى التجارب الجديدة.

ثم فسر قوله السابق(عليه السلام) قائلاً: «خرق علمه باطن غيب السترات(2)، وأحاط بغموض عقائد السريرات(3)».

فان كان غنياً سبحانه في تنويعه لخلقه عن التفكير والمثال الذي يحتذيه فانّما ذلك لعلمه المطلق النافذ في كل شىء والمحيط بكل شيء.


1. «ضمائر» جمع «ضمير» من مادة «ضمور» على وزن قبول تعني في الأصل الضعف كما يراد بها باطن الإنسان.

2. «سترات» جمع «ستره» على وزن قربة ما يستربه.

3. «سريرات» جمع «سريرة» ما يخفيه الإنسان ويكتمه، وقد تجمع سريرة جمع تكسير فيقال سرائر، كما تجمع جمع مؤنث سالم.

[ 327 ]

نعم فمن يحتاج إلى الفكر والانفتاح على تجارب الآخرين، من كان علمه محدوداً، جاهلاً بما غاب عنه.

والعبارة السابقة من قبيل ذكر الخاص بعد العام; أي أنّها تحدثت أولاً عن علم الله بباطن جميع الأشياء، ثم علمه بالعقائد الخفية للإنسان.

—–

 

تأمّل : في سعة علم الله

تعتبر مسألة علم الله من المسائل المهمة من خلال النظرة المعرفية، وكذلك من حيث الآثار الأخلاقية والتربوية.

وهى المسألة التي أورد القرآن بشأنها عدة أبحاث مهمة، وقد كشف عن سعتها بأمثلة رائعة، من ذلك: (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُـدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِـيمٌ)(1).

ولو تأملنا هذا المثال وتصورنا معناه، لا كتشفنا هذه الحقيقة وهى أنّ علمه سبحانه أوسع وأشمل ممّا نعتقد.

ومن البداهة أنّ هذا العلم ليس بعلم حصولي يتأتى عن طريق التصور والتصديق، بل هو علم حضوري. أي أن حضور الحق سبحانه في كل زمان ومكان وحضور جميع الأشياء لدى ذاته المطهرة يقتضى ألايخفى عليه شيء، لأنّ حقيقة العلم تعني حضور المعلوم لدى العالم. غير أنّه في العلم الحصولي لايحضر شخصاً لدى العالم، بل تحضر صورته في الذهن عن طريق التصور أو التصديق. أمّا في العلم الحضوري فالذي يحضر لدى العالم ذات المعلوم، وجميع الأشياء والحوادث في كل زمان ومكان، باطنها وظاهرها عن طريق هذا العلم الحضوري واضحة لدى الله. ومن هنا قال(عليه السلام): خرق علمه باطن غيب السترات، وأحاط بغموض عقائد السريرات.


1. سورة لقمان/27.

[ 328 ]

قد يتعذرفهم العلم الحضوري لدى البعض، ولكن توضيحه بمثال وهو: إنّ ممّا لا شك فيه أنّ علمنا بصورنا الذهنية والتصورات والتصديقات التي ترتسم في أذهاننا عن العالم الخارجي، والعلم الحضوري يعني أن هذه الصور الذهنية حاضرة لدى روحنا ولا تنفصل عنها.

نعم هذا هو علم الله بحميع عالم الوجود، لا أنّ لديه صور ذهنية عنها، بل وجودها العيني حاضر لديه، لأننا نعلم أنّه معنا في كل مكان: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)(1) و(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)(2).

ومن هنا نكتشف الآثار المهمة التربوية من خلال الالتفات إلى سعة علمه المطلق. لأنّ الإنسان إذا علم بأنّ العالم حاضر لدى الله وعلمه محيط بأسرار الأشياء وخفاياها فباليقين سيعيش حالة من مراقبة أعماله، بل حتى أفكاره ونياته.(3)

—–


1. سورة الحديد/4.

2. سورة ق/16.

3. راجع نفحات القرآن 4.

[ 329 ]

 

 

القسم الثاني

 

ومنها في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)

«إِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأَنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاءِ، وَذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ».

—–

 

الشرح والتفسير

وصف النبي(صلى الله عليه وآله)

بعد أنّ حمد الإمام(عليه السلام) الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه وأشار إلى أدلة وجوده، تطرق في القسم الثاني من الخطبة إلى ذكر فضائل النبي(صلى الله عليه وآله) حيث عدد فضائله الفريدة ببضع عبارات قصيرة و ستة تشبيهات فقال(عليه السلام):«إختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسرة البطحاء، ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة».

فكل تشبيه واستعارة في هذه العبارة تشير إلى فضيلة من فضائل رسول الله(صلى الله عليه وآله).

التشبيه الأول ـ حسب قول أغلب شرّاح نهج البلاغة ـ إشارة إلى آل ابراهيم(عليه السلام) الذي ظهر منه الأنبياء العظام، وينتمى رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى نبي الله ابراهيم(عليه السلام) عن طريق إسماعيل.

التشبيه الثاني: إشارة إلى أنّ أنوار المعارف الإلهية في مشكاة وجود الأنبياء، وحامل هذه الأنوار هو رسول الله(صلى الله عليه وآله). والمشكاة وعاء لحفظ السراج لاتطفأه الريح، وعليه فالأنبياء حفظة أنوار المعارف الإلهية.

التشبيه الثالث: بالالتفات إلى أنّ ذؤابة شعر مقدم الرأس، وعلياء المرتفع، فهى إشارة إلى أنّ نسب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ينتهي إلى أفضل السلالات البشرية وقد ورث عنها ذلك الشرف والمجد.

[ 330 ]

التشبيه الرابع: بالنظر إلى أنّ البطحاء جزء من مكة سكنته قبيلة قريش، والسرة تعني المركز، فهى إشارة إلى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله)قد انحدر من مركز قبيلة تعتبر أشرف القبائل (وإن دفع حب الدنيا البعض منها إلى عدم اجابة دعوة النبي(صلى الله عليه وآله) حتى عرفوا بكفار قريش).

التشبيه الخامس: أنّ الأنبياء والرسل هم مصابيح الهدى ومشكاة الأنوار التي تكشف ظلمات الكفر والجهل، وأنّه(صلى الله عليه وآله)مركز هذه الأنوار وحاملها.

التشبيه الأخير الذي شبه الأنبياء بينابيع العلم والحكمة وأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أحد هذه الينابيع.

—–

[ 331 ]

 

 

القسم الثالث

 

ومنها: «طَبيِبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ اِلَيْه،ِ مِنْ قُلُوبِ عُمْي، وَأذَان صُمًّ، وَأَلْسِنَة بُكْم; مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ; لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ; وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ; فَهُمْ فِي ذلِكَ كَالأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ».

—–

 

الشرح والتفسير

طبيب سيار

ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بهذه الصفات التي ذكرها الإمام(عليه السلام) إنّما تعود إليه، حيث خاض في بيان صفاته بعد أنّ بين صفات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، واصفا نفسه بأنّه طبيب سيار وقد حمل معه كافة أسباب العلاج التي تشفى المرضى ـ ولم يشذ من الشرّاح في نسب هذه الصفات إلى شخص الإمام(عليه السلام) سوى شخص واحد نسبها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ فقد صرح الآمدي في كتاب غرى الحكم قائلاً: «إنّه في ذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(1).

إلاّ أنّ ارتباط هذه العبارة بالعبارات السابقة من جهة، وانطباقها على الأوضاع التي كانت سائدة على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)من جهة اُخرى تؤيد أنّ هذه الصفات في رسول الله(صلى الله عليه وآله). وأننا لنتعجب كيف لم يطرح قاطبة الشرّاح هذا الأمر على الاقل ـ على نحو الاحتمال والحال أنّهم لم يقيموا أي دليل لاثبات صحة مدعاهم. صحيح أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) وعلي(عليه السلام) من شجرة واحدة، وهما


1. غرر الحكم ودرر العلم، الحكمة 6033.

[ 332 ]

روح واحدة في جسمين وعامة الصفات تصدق عليهما معا; غير أنّه لابدّ من الدقة في ارجاع الضمائر إلى أصولها.

على كل حال فقد قال(عليه السلام): «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمة(1) وأحمى مواسمه،(2)يضع ذلك حيث الحاجة إليه: من قلوب عمي، واذان صم، والسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة».

يا لها من تعبيرات رائعة تشبه النبي(صلى الله عليه وآله) (أو الإمام) بالطبيب!

لأنّ الأطباء يتولون علاج مرضى الأبدان، وينهمك هو في علاج مرضى الروح والأخلاق الذي يفوق بمراتب مرضى البدن.

حيث أشار إلى ثلاثة منها في العبارة: أولئك الذين تعمى أبصار قلوبهم ويفقدون السمع واستقبال الحق وعجز اللسان عن ذكر الحق بفعل الذنب والمعصية والغفلة واتباع الهوى.

ثم وصفه بأنّه (دوار) في إشارة إلى أنّه ليس على غرار أطباء الابدان الذين يجلسون في عياداتهم وينتظرون مراجعة المريض.

بل يحمل وسائله وعلاجه معه ويتجول بحثاً عن المريض، وهذا هو منهج الأنبياء والأوصياء وروثتهم من العلماء، الذين بنبغي لهم أن يقتدوا بالأنبياء ولايروا أنفسهم كالكعبة وأنّ أفراد الاُمّة مطالبون بالطواف حولهم، بل عليهم أن يكونوا كالصياد الذي يبحث عن صيده، فيفيضوا علومهم على الناس ويأخذوا بأيديهم إلى الحق.

ثم قال(عليه السلام) واصفاً ما أورده سابقا من مواضع الغفلة ومواطن الحيرة; وأصحابها من أهل الغفلة والحيرة: «لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا(3) بزناد(4) العلوم الثاقبة، فهم


1. مراهم جمع مرهم الدهون التي يداوى بها الجروح.

2. «مواسم» جمع «ميسم» بمعنى الآلات التي يوسم بها بدن الانسان أو الحيوان بعد أن يحمى عليها. و «وسم» على وزن رسم، و يطلق على العلامة التي تظهر على جسم الحيوان أو الانسان بعد وسمه بالآلات الحارة.

3. «يقدحوا» من مادة «قدح» على وزن «مدح» بمعنى إضرام النار بواسطة القداحة «وهى الآلة التي تحتوي على حجر خاص يستعمل في قديم الزمان، حيث يقدح عليه فيولد ناراً، و كانوا يستفيدون منه كما نستفيد في الوقت الحاضر من الشخاط الحاوي على الكبريت».

4. «زناد» جمع «زند» وهى آلات تستخدم لتوليد شرارة لغرض اضرام النار و اشعالها في الوقود، كالخشب والفحم و الحطب، و قد اعتاد العرب فى القديم على الاستفادة من هذه الوسيلة لاشعال النار في الوقود.

[ 333 ]

في ذلك كالانعام السائمة،(1) والصخور القاسية».

فالعبارة لم يستضيئوا ولم يقدحوا تفيد أنّهم كانوا يستطيعون حتى قبل قيام الأنبياء أنّ يتخلصوا من جانب من غفلتهم وحيرتهم بنور الحكمة والعلم ودليل العقل، إلاّ أنّهم لم يلتفتوا قط للعلم والعقل.

ولعل «لم يستضيئوا...» و«لم يقدحوا...» إشارة إلى طائفتين من الأفراد الضالين الذين كان يمكن أن يتبدل ضلالهم نوراً ولو لومضة من العلم والمعرفة التي تصل إلى قلوبهم، والطائفة الاُخرى التي كان لها أن تهدي نفسها وان عجزت عن هداية الآخرين.

كما يمكن أن تكون العبارة «أنعام سائمة» و«صخور قاسية» إشارة إلى فئتين: فئة ضالة وهى كالأنعام التي لها إلى حد امكانية التعليم والتربية، والفئة الاُخرى كالصخرة الصماء التي يصعب اختراقها.

جدير بالذكر هناك تفاوت بين مواضع الغفلة ومواطن الحيرة; فالغفلة تطلق حيث لايلتفت الإنسان إلى أمر ولايرى أخطاره المحدقة به; أو كالأمراض الخالية من الألم وفجأة يصاب بها الإنسان فلا يشفى منها.

أمّا مواطن الحيرة; فالإنسان يلتقت فيها إلى الأخطار، إلاّ أنّه لايعرف كيف يواجهها.

على كل حال فانّ هذا الطبيب الروحي السيار إنّما يتجول بحساب وبرنامج حيثما حل، فيشفي المرضى ويمنحهم العافية والسلامة.

—–


1. «سائمة» من مادة «سوم» على وزن «قوم» بمعنى حركة الحيوان في الصحراء.

وكذلك على هبوب الرياح المستمرة. و يطلق «الحيوانات السائمة» على الحيوانات التي ترعى و تحصل على علفها من الصحراء و هى سائبة في الصحراء.

[ 334 ]

[ 335 ]

 

 

القسم الرابع

 

«قَدِ انْجَابَتِ السَّرائِرُ لاَِهْلِ الْبَصَائِرِ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ لِخَابِطِهَا وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَظَهَرَتِ الْعَلامَةُ لِمَتَوسِّمِهَا. مَا لي أرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أرْوَاح، وَأرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاح، وَنُسَّاكاً بِلاَ صَلاَح، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاح، وَأيْقَاظاً نُوَّماً، وَشَهُوداً غُيَّباً، وَنَاظِرةً عَمْيَاءَ، وَسَامِعَةً صَمَّاءَ، وَنَاطِقَةً بَكْمَاءَ!».

—–

 

الشرح والتفسير

اشباح بلا أرواح

أشار الإمام(عليه السلام) في هذا الموضع من الخطبة إلى وضع المنافقين والمعاندين من بني أمية، فقال(عليه السلام) سرائرهم وبواطنهم ظاهرة لأهل البصائر، وقد إتضح سبيل الحق لسالكه (وعليه فقد تمت الحجة على الجميع) «قد انجابت(1) السرائر لأهل البصائر، ووضحت محجة الحق لخابطها(2)».

ثم قال(عليه السلام): «واسفرت(3) الساعة عن وجهها، وظهرت العلاّمة لمتوسمها».

يمكن أن يكون المراد من علامات ظهور القيامة، بعثة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) بصفته خاتم


1. «انْجابَت» من مادة «جوب» على وزن قَوّمَ. و «جوبه» على وزن توبه بمعنى قطع وفصل، وعلى هذا الاساس سمي الرد على الكلام بـ «الجواب»، و ذلك لان السؤال يُقطع و ينتهي بواسطة الجواب.

و اذا جاءت هذه الكلمة على وزن انفعال، فيكون معناها الانكشاف و الاعلان، وفي الخطبة أعلاه جاءت بهذا المعنى.

2. «خابط» من مادة خبط، و تأتي تارةً بمعنى القرب الشديد، وتارة بمعنى السير على غير هدىً، كالذي يسير ليلا بدون ضياء، وقد جاءت الكلمة هذه في الخطبة أعلاه بهذا المعنى.

3. «أسفرت» من مادة «سفور» بمعنى جلد أي شيء و يستفاد من هذه الكلمة بشكل أكثر عند الحديث عن جلود الحيوانات.

[ 336 ]

الأنبياء(عليه السلام) وآخر بني من أنبياء الله، وكذلك ظهور الفتن في العالم الإسلامي وعلى الأرض، وليست هناك من منافاة بين هذا الأمر ومرور آلاف السنين، لأنّ هذا الزمان قصير جداً إذا ماقورن بعمر الدنيا.

فقد ورد في الحديث النبوي أنّه(صلى الله عليه وآله) قال: «بعثت أنا والساعة كها يتن وضم السبابة والوسطى»(1).

ونخلص ممّا سبق إلى أن اتضاح السرائر ووضوح سبيل الحق واقتراب الساعة لمن دواعي يقظة الغافلين من نوم الغفلة والتوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي وسلوك طريق الحق والاستقامة عليه.

ومن هنا يتعجب الإمام(عليه السلام) لعدم وجود ردود الفعل المناسبة من قبل الناس ازاء هذه الاُمور فقال(عليه السلام): «مالي أراكم اشباحا بلا أرواح، وأرواحاً بلا أشباح، ونساكاً(2) بلا صلاح، وتجاراً بلا أرباح وأيقاظا(3) نوماً(4)، وشهوداً غيباً، وناظرة عمياء، وسامعة صماء، وناطقة بكماء».

العبارة: «أشباح بلا أرواح، وأرواح بلا أشباح» بعض الجماعات التي لها قدرة ظاهرية بينما ليس لها من تفكير أو تدبر، أو أنّها مفكرة ومدبرة لكنها تفتقر إلى قدرة الاستخدام. ومن الطبيعي ألا تكون كلا الجماعتين على صواب وليس من شأنها فعل شيء، كخواء الجسم الذي لاروح فيه والروح التي لاجسم لها. والعبارة: «نسا كابلا صلاح» إشارة إلى العبادات الجوفاء لعباد ذلك الزمان. لأنّ الأثر الأول للعبادة إنّما يتمثل بالتربية والصلاح الإنساني; فاذا لم يكن العبد صالحاً كان ذلك دليل على أنّ عبادته قشر لا لبّ فيه.

والعبارة «تجاراً بلا أرباح» يمكن أن تكون إشارة إلى ماورد في سورة العصر: (وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).


1. أورد أغلب مفسرين الفريقين هذا الحديث ذيل الآية 18 من سورة محمد(صلى الله عليه وآله).

2. «نساك» جمع «ناسك» العابد.

3. «أيقاظ» جمع «يقظان» ضد النائم.

4. «نوم» جمع «نائم».

[ 337 ]

والعبارة «أيقا ظانوماً» والعبارات الأربع القادمة إشارة إلى الأفراد اليقظين ظاهراً ولهم حضور في الساحة ويتمتعون بالسمع والبصر والنطق، إلاّ أنّهم لايبدون أي رد فعل تجاه الحوادث الحسنة والسيئة، وكأنّهم نيام غير شهود، ولا سمع لهم ولابصر ولا كلام.

نعم فالإسلام يرى وجود كل شيء في آثاره، والإنسان الحي الذي لا اثر له كأنّه في عداد الأموات، ومن لابصيرة له فهو أعمى، وقد ورد هذا المعنى كراراً في القرآن بشأن المنافقين من الأفراد عديمي الإيمان، كالاية: (صُمٌّ بُـكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَعْقِلونَ)(1) وما شابه ذلك فالذي يستفاد من كلامه(عليه السلام) أنّه وبخ بشدة أصحابه على عدم ابداء أي رد فعل تجاه بني أمية بعد أن اتضح لهم باطنهم وخبث مقاصدهم، وكأنّهم نيام فقدوا السمع والبصر والنطق، فلا يأبهون بجنايات بني أمية. و لا يعلمون أي مصير مظلم ينتظر الإسلام و المسلمين.

 

تأمّل : الوجود الباهت كالعدم

عادة ما ينظر إلى وجود الأشياء وعدمها من خلال عينيتها في الخارج، بينما ينظر إليها في المنطق القرآني والروائي على أساس الآثار والمعطيات. وعليه فقد يرى بعض الأحياء في عداد الموتى إذا ما انعدمت آثارهم والعكس الصحيح فقد يرى الموتى أحياءاً بفعل عطائهم وآثارهم.

وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى كراراً. فقد خاطب النبي الاكرام(صلى الله عليه وآله) بالقول: (إِنَّكَ لا تُسْمِـعُ المَوْتى وَلا تُسْمِـعُ الصُّـمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّـوْا مُدْبِـرِينَ)(2).

ومن المسلم به أنّ المراد بالموتى والصم هنا الأفراد الذين يتمتعون بظاهر والحياة لهم أذان سامعة; إلاّ أنّ القران عدهم أمواتاً حين اتخذوا موقف المتفرج ازاء دعوة النبي(صلى الله عليه وآله).

ثم قال في موضع آخر: (وَما عَلَّمْناهُ الشِّـعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ *لِـيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَـيّاً)(3).


1. سورة البقرة/171.

2. سورة النمل/80 .

3. سورة يس/69ـ 70.

[ 338 ]

قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) لكميل بن زياد: «هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر: أعيافهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة»(1).

ولو اعتمدنا المقياس القرآني والروائي في تقييم الأفراد والحضارات والمدنيات وسائر الاُمور، لرأينا العالم بحلة جديدة اُخرى، والحق لابدّ أن يكون هذا هو المعيار والمقايس، وذلك لأنّ الكائن الحي من كان له آثار حيوية، ومن افتقر لهذه الآثار فهو ميت. والأموات الذين يخلفون بعض الآثار فهم أحياء مادامت آثارهم الوجودية قائمة في المجتمع البشري. ولما كانت آثار الشهداء في سبيل الله باقية، فهم أحياء خالدون (بغض النظر عن الحياة البرزخية).ليس للظلمة والطغاة سوى الموت كيف لا وهم يخلفون هذا الفساد والدمار.

ومن هنا نعت الإمام(عليه السلام) تلك الجماعة من أهل الكوفة والعراق بأنّها أشباح بلا أرواح وايقاظ نوماً وشهود غيباً من خلال ذلك المعيار القرآني والروائى.

—–


1. نهج البلاغة، كلمات القصار 147.

[ 339 ]

 

 

القسم الخامس

 

«رَايَةُ ضَلاَل قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا، وَتَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا، تَكِيلُكُم بِصَاعِهَا، وَتَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا. قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنْ الْمِلَّةِ، قَائِمٌ عَلَى الضِّلَّةِ; فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذ مِنْكُمْ اِلاَّ ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ، أوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ، تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الأدِيمِ، وَتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ، وَتَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتِخْلاصَ الطَّيْرِ الَحَبَّةَ الْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ».

—–

 

الشرح والتفسير

طغاة بني أمية يأتون على الأخضر و اليابس

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ هذا المقطع من الخطبة منفصلا عن الاقسام السابقة، ويرون أنّ بينهما مطالب اُخرى حذفها السيد الرضي (ره) جريا على عادته في اقتطاف بعض المقاطع من الخطب على أساس فصاحتها وبلاغتها. ومن هنا اعتبر اولئك الشرّاح هذا المقطع إشارة إلى حوادث وفتن آخر الزمان. في حين لايرى البعض الآخر من الشرّاح انفصالاً بين هذه المقاطع، ومنهم ابن ميثم البحراني، فيرى هذا الكلام في طغاة بني أمية وحكامهم الظلمة، ويبدو هذا الاحتمال قريباً لأنّ عادة السيد الرضي (ره) حين يحذف بعض مقاطع الخطبة يذكرها بقوله (ومنها ومنها)، الأمر الذي شاهدناه بوضوح في الخطب السابقة.

على كل حال قال الإمام(عليه السلام): «راية ضلال قد قامت على قطبها، وتفرقت بشعبها».

ورغم أنّ ذلك اخبار عن الحوادث الآتية ليتأهب الناس ويقللوا من اضرارها وخسائرها إلى أقل حد ممكن، مع ذلك فقد أوردها بصيغة الفعل الماضي، أي أنّ مثل هذه الاُمور واقعه لا محالة!

[ 340 ]

كما صرّح بذلك الاُدباء بأنّ المضارع المتحقق الوقوع بمنزلة الماضي. والعبارة «قد قامت على قطبها» إشارة إلى أنّ راية الضلالة التي سترفعها الطغمة الفاسدة والمفسدة من بني اُمية على درجة من الثبات والرسوخ بحيث لايمكن الاطاحة بها بهذه السهولة.

والعبارة «تفرقت بشعبها» وإن بدت ظاهراً في تفرق فروع هذه الراية، إلاّ أنّ المراد في الواقع فرقة الانصار في البلاد الإسلامية، ثم قال(عليه السلام): «تكيلكم(1) بصاعها، وتخبطكم بباعها(2)»

في إشارة إلى أنّهم يحملونكم على أساس معاييرهم، فمن وافقها رغبوا فيه وإلاّ فلا، كما يحتمل أن يكون المراد بالعبارة الاولى أنّهم يمسكون بجميع مقدراتكم، ويعطون لكل شخص ما يريدون.