![]() |
![]() |
ثم واصل(عليه السلام) ذكره لسائر صفات الإسلام بصفته وسيلة النجاة لمن صدق به، والاطمئنان والثقة لمن استند إليه وتوكل عليه، كما يغرق الإنسان بالهدوء والراحة إذا ما وكلّ أعماله إليه وهو الجنّة الواقية لمن استقام وصبر: «ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل، وراحة لمن فوض، وجنّة لمن صبر».
فالعبارة تتحدث عن أربع فضائل أخلاقية هى: التصديق والتوكل والتفويض والصبر.
فتصديق الإسلام في الاعتقاد والعمل إنّما يودي بلا شك إلى النجاة، كما أن الاعتماد على المعارف الإسلامية يقود إلى الاطمئنان بالمستقبل والحاضر للدنيا والآخرة، وتفويض الاُمور إلى اُصول الإسلام وفروعه بمعنى الحركة في ظله هى سبب الهدوء والسكينة والاستقرار والراحة، وأخيراً فان الصبر والاستقامة في هذه المسيرة وتحمل الشدائد في سبيل حفظ العقيدة والعمل على ضوء أحكام الشريعة إنّما تجعل الفرد في جنّة وثيقة تجاه الاُمور التي تهدد سعادته أو سعادة المجتمع.
1. سورة الحجر/75.
والواقع هو أنّ الإنسان إنّما يطلب النجاة والاطمئنان والهدوء والراحة والأمن; وهى الاُمور التي لاتحصل الأمن خلال العمل بالبرامج الإسلامية وعلى ضوء التعاليم السماوية.
ثم تطرق(عليه السلام) إلى خمس صفات اُخرى تمثل في الواقع النتيجة لما سبق من أوصاف، وهى أنّ طرق الإسلام أوضح الطرق ومداخلها من أظهر المداخل، وعلاماتها جلية ظاهرة، ومسالكها بينه منيرة «فهو أبلج(1) المناهج(2) وأوضح الولائج(3); مشرف المنار(4) مشرق الجواد(5)، مضيىء المصابيح».
فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) رسم هنا صورة للجادة التي تضم كافة الامتيازات.
فهى على درجة من الوضوح بحيث يبلغها كل شخص بسهولة. ولها أبواب متعددة ماثلة امام اصحاب الحق واضحة لديهم. وتتطلب هذه الجادة بعض العلامات التي تبدو من بعيد; وهذه في الواقع جادة الإسلام.
(فقد كانوا يعمدون في السابق إلى بناء الأبراج في الطرق ثم ينصبون المصابيح فوقها لتبدو للعيان من مسافات بعيدة وتحول دون ضلال الطريق ويطلقون عليها اسم المنار; أي موضع النور، إلاّ أنّ المعنى الواسع لهذه الكلمة يشمل جميع العلامات التي تمنع السالكين من الانحراف).
ولعل هذه العبارات كناية عن محكمات الآيات القرآنية وصريح السنة النبوية والمعجزات والكرامات وأدلة العقل والنقل التي تضيئى معالم الطريق للموحدين السائرين على هدى الإسلام.
ثم شبه(عليه السلام) الإسلام بالمسابقة التي تمثل أركانها ذروة الحسن والكمال.
فللمسابقة عادة بعض الأركان من قبيل:
1 ـ ميدان التمرين 2 ـ نقطة انتهاء المسابقة 3 ـ الخيل الجاهزة 4 ـ الجائزة الكبيرة 5 ـ الفرسان النجباء.
1. «أبلج» من مادة «بلوج» على وزن بلوغ واضح ونير.
2. «المناهج» جمع «منهج» الطريق الواضح والمستقيم.
3. «ولائج» جمع «وليجة» من مادة «ولوج» بمعنى الدخول فولائج أبواب الدخول.
4. «مشرف» من مادة «اشراف» بمعنى المرتفع.
5. «جواد» جمع «جادة» الطريق الواسع الواضح، كما تطلق على مطلق الطريق.
فقال(عليه السلام) أنّ ميدان السباق الإسلامي طاهر مطهر وكريم، ونقطة انتهاء السباق هى نقطة رفيعة سامية، وفرسان هذه المسابقة معروفون بالاصالة والاستعداد، أمّا الجائزة المترتبة على هذه المسابقة فهى عظيمة للغاية، وأهلها من النجباء «كريم المضمار(1)، رفيع الغاية، جامع الحلبة(2)، متنافس(3)، السبقة(4)،شريف الفرسان».
ثم أضاف(عليه السلام) بأنّ التصديق واليقين هو سبيل (الوصول إلى الأهداف) الإسلام، وعلامة ذلك الأعمال الصالحة (فالواقع هو أنّ الإيمان والعمل الصالح هما العنصران الذان يؤديان إلى الفوز في هذا السباق).
«التصديق منهاجه، والصالحات مناره».
ثم اختتم(عليه السلام) كلامه بالقول: «والموت غايته، والدنيا مضماره، والقيامة حلبته، والجنّة سبقته». ليشخص بصورة جزئية ما ورد سابقاً بنحو الكلية.
أمّا عدم ذكر فرسان المسابقة فلوضوح الأمر; فهم ليسوا سوى المؤمنين من ذوي الأعمال الصالحة.
وقد مرعلينا مثل هذا التشبيه الرائع مع إختلاف طفيف في الخطبة 28 إذ قال(عليه السلام): «ألا وإنّ اليوم المضمار، وغدا السباق، والسبقة الجنّة والغاية النار».
تمثل الدنيا بالنسبة لطلابها ولاولئك الذين ينكرون الآخرة علماً أو عملاً منتهى الطموح والهدف، وعليه فهم يضحون بكافة القيم و المثل من أجلها.
ولعل البؤس والشقاء الذي يعيشه المجتمع العالمي هو وليد هذا النوع من التفكير. أمّا
1. «المضمار» موضع تضمير الخيل وزمان تضميرها.
2. «الحلبة» من مادة «حلب» على وزن قلب خيل تجمع من كل صوب للنصرة كما تطلق على حلب اللبن من الحيوان، ثم اطلقت على الخيل التي تتسابق في الميدان.
3. «متنافس» من مادة «تنافس» سعي الإنسان للحصول على شيء نفيس.
4. «سبقة» جزاء السابقين.
الإسلام فهو لايرى الدنيا سوى مرحلة عابرة ومقدمة للآخرة، حتى وردت الروايات والأخبار التي شبهتها بالمزرعة والقنطرة والمتجر (وقد مر شرح ذلك في الخطبة 28).
أمّا في هذه الخطبة والبعض الآخر من خطب نهج البلاغة فقد شبهت الدنيا بميدان التمرين والآخرة بميدان السباق; وهو تشبيه رائع غاية في الدقة والروعة. فالإنسان إنّما يتزود بالقوة والقدرة في هذا الميدان بواسطة التعاليم العقائديّة والتربوية والأخلاقية، بما يمكنه من إجتياز مسابقة الاُخرى بسرعة لدخول الجنّة والفوز برضوان الله وقربه. والتصديق الذي ورد في الخطبة بصفته المنهاج والصالحات بصفتها المنار إنّما يشيران إلى هذه التربية والتعليم الرباني.
فالذي نستفيده من هذا التشبيه مايلي!
1 ـ أنّ السعادة والنجاة في الآخرة ليست عبثاً; بل تتأتى في ظل البناء الفكري والأخلاقي والعقائدي.
2 ـ إنّما تغلق صحيفة الأعمال بانتهاء الدنيا، والقيامة يوم حساب ولا عمل، كما أنّ ميدان المسابقة للسباق لا للتمرين.
3 ـ جائزة هذه المسابقة من أعظم الجوائز، وذلك لان هذه المسابقة من أعظم المسابقات
4 ـ يعتمد تفاوت واختلاف درجات الناس ومقاماتهم على أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم. فقد يدخل الإنسان الجنّة إلاّ أنّ درجته تختلف عن غيره، على غرار الفائزين في السباق، فهناك الفائز الأول والثاني والثالث وهكذا.
5 ـ ليس هنالك أي عمل من أعمالنا في هذه الدنيا يمكنه أن يزول وأنّ آثاره باقية، على غرار آثار التمارين التي يقوم بها المتسابقون.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بالقول: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ)(1).
وجاء في الحديث عن الإمام الحسن(عليه السلام) بعد أنّ وصف شهر رمضان بصفته مضمار الخلق وميدان التمرين أنّه قال: «وايم الله لو كشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغول باحسانه، والمسيئى مشغول باسائته»(2).
1. سورة الزلزلة/7 ـ 8.
2. بحار الانوار 75/110.
كما أوردنا في الخطبة المذكورة والرواية التي نقلناها في شرحها أنّ الإسلام لشريعة سهلة سمحاء; أي ليس هنالك من تكلف ولا عسر ولا حرج في ممارسته وطقوسه فهى لاتدعو إلى الضجر والتعب.
والتمعن في أحكام الإسلام سواء في العبادات والمعاملات والروابط الإنسانية أو في العقوبات والجزاء يفيد أنّها برمجت على ذلك الأساس أيضاً. فقد روعي هذا الأصل حتى في أشد العقوبات الإسلامية من قبيل قتل الزاني بالمحصنة، وذلك لأنّ العقاب ان كان شديداً تعذر بسهولة إثبات الجرم. فعادة ما تثبت الدعاوى بشاهدين، بينما يلزم هنا اربعة شهود. وهكذا الحال في اجراء بعض الحدود من قبيل الجلد، فقد أوصي باجرائه في الجو البارد في فصل الصيف، والحار في فصل الشتاء، وعدم رفع اليد إلى مكان مرتفع وعدم ضرب المواضع الحساسة وما إلى ذلك من الأوامر.
من جانب آخر فانّ هؤلاء المجرمين ينالون العفو عما ارتكبوا فيما إذا تابوا قبل القبض عليهم، اضافة إلى العمل بقاعدة درء الحدود عند الشبهات في كافة الجرائم وعند بروز أدنى شك أو شبهة.
وقد جاء في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه كلفوا الناس من دينهم ما يطيقون، ثم نقل له(عليه السلام) قصة ذلك المسلم الذي كان له جار كافر رغب في الإسلام، فكان يحمله صباحا وظهراً وليلاً إلى المسجد، بحيث كان يقضي أغلب وقته فيه في أداء الواجبات والمستحبات. حتى فارق هذا الرجل الإسلام بعد أن شق عليه الأمر وقال: لا طاقة لي بهذا الدين. ثم قال الإمام(عليه السلام): «إن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعسف، وإن إمارتنا بالرفق، والوقار، والتقية، وحسن الخلطة، والورع، والاجتهاد. فرغبوا الناس في دينكم، وفيما أنتم فيه»(1).
1. الخصال للشيخ الصدوق 2/ الباب 7، ح 35.
ولا يخفى أن الحب والرفق والمداراة والخلطة الحسنة إنّما تكون مع الأفراد الذين لا يعملون بالشر وإلاّ فالإسلام صلب المعاملة لشديد فيها تجاه الظلمة والطغاة والاشرار والأوباش، بغية الحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه.
ومنها في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)
«حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لِقَابِس، وَأَنَارَ عَلَماً لِحَابِس، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ يِعْمةً وَرَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ، وَاجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ. اللَّهُمَّ أَعْلِ على بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَآءَهُ! وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ، وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ، وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ وَالْفَضِيلَةَ، وَاحْشُرْنَا فِى زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا، وَلاَ نَادِمينَ، وَلاَ نَاكِبِينَ، وَلاَ نَاكِثِينَ، وَلاَ ضَالِّينَ، وَلاَ مُضِلِّينَ، وَلاَ مَفْتُونِينَ».
—–
الشرح والتفسير
أشار(عليه السلام) في هذا الموضع من الخطبة إلى خصائص النبي(صلى الله عليه وآله) وعلو صفاته، ثم سأل الله تعالى له رفيع الدرجات، كما اختتم بالدعاء لنفسه ولجميع المؤمنين بالحشر في زمرة الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله). فقال(عليه السلام): «حتى أورى(1) قبساً(2) لقابس، وأنار علماً لحابس(3)».
وبالنظر إلى أنّ هذا القسم من الخطبة ـ كما صرح المرحوم السيد الرضي (ره) ـ رواية اُخرى للخطب السابقة (72)، فالذي يفهم أن «حتى» غائية بالنسبة لسعي النبي(صلى الله عليه وآله) وجهده،
1. «أورى» من مادة «ورى» على وزن نفى بمعنى التغطية والستر، وتستعمل بمعنى اشعال النار إذا جاءت من باب الأفعال; وكَأن النار التي كمنت في جوف المواد المشتعلة قد خرجت، وتشير في الخطبة إلى أنوار الهداية التي نصبها الرسول(صلى الله عليه وآله) لدعاة الحق.
2. «قبس» الشعلة من النار، والقابس آخذ النار من النار، وهى هنا إشارة إلى النور والهداية.
3. «الحابس» من حبس ناقته وعقلها حيرة منه لا يدري كيف يهتدي فيقف عن السير.
كما يمكن القول بأنّ الفاعل في عبارة أورى وأنار هو لشخص النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله). وعليه فقد قام(صلى الله عليه وآله) بعملين مهمين هما:
الأول: أنّه أمد طلاب الحق بقبسات النور، والثاني أنّه نصب مصابيح الهداية في طريق الحيارى.
وكأنّ العبارة الاولى إشارة إلى علماء الاُمّة الذين يأخذون بشعلة الهدى فيواصلون مسيرتهم ويحملون الآخرين معهم. والعبارة الثانية إشارة إلى الأفراد العاديين الذين ليست لديهم مثل هذه القبسات وعيونهم متطلعة إلى مصابيح الهدى الموضوعة على جانب الطريق. وبعبارة اُخرى فان النبي(صلى الله عليه وآله) قد أمد دعاة الحق بالهداية العامة والخاصة.
ثم قال(عليه السلام) على سبيل النتيجة الواضحة و الرائعة: «فهو أمينك المأمون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة ورسولك بالحق رحمة».
وقوله(عليه السلام) أمينك المأمون تأكيد لمطلق أمانته وكمالها، وشهيد يوم الدين ويوم الحساب والجزاء إشارة للآية الشريفة 89 من سورة النحل: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّة شَهِـيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْوَجِئْنا بِكَ شَهِـيداً عَلى هـؤُلاءِ).
ويمكن أن تكون هذه الشهادة على الاصول الكلية التي تضمنتها دعوة كافة الأنبياء، أو على جزئيات الأعمال، بفعل الشهود العلمي للنبي(صلى الله عليه وآله) بالنسبة لأعمال كافة الامُم.
وقوله(عليه السلام): «بعيثك نعمة» إشارة إلى أنّ بعثة النبي(صلى الله عليه وآله) كانت نعمة كبيرة من جانب الله سبحانه، كما كانت نموذجاً بارزاً لرحمته الواسعة سبحانه، فقد اهتدت به الملايين من أفراد البشرية وانقادت إلى الحق في ظل تعاليمه السامية، وهذا الكلام في الواقع اقتباس من الآيات القرآنية ومنها: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلى المُوْمِنِـينَ إِذ بَعَثَ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(1) و(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِـينَ)(2).
ثم واصل(عليه السلام) كلامه في إطار امتنانه وتقديره لجهود النبي(صلى الله عليه وآله) العظيمة، فرفع يده بالدعاء مبتهلاً إلى الله بافاضة نعمه على النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: «اللّهم اُقسم له مقسماً من عدلك، واجزه
1. سورة آل عمران/164.
2. سورة الأنبياء/107.
مضعفات الخير من فضلك، اللّهم أعل على اباء البانين بناءه وأكرم لديك نزله(1)، وشرف عندك منزله، وآته الوسيلة، واعطه السناء(2) والفضيلة».
ويختزن الدعاء الأول والثاني هذه النقطة، وهى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) يستحق مزيد الثواب بمقتضى العدل الإلهي، كما يتضاعف هذا الثواب بمقتضي الفضل الإلهي. قال القرآن الكريم: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(3).
وسؤال الله علو بناء النبي(صلى الله عليه وآله) على بناء جميع البانين إمّا إشارة إلى علو دينه على جميع الاديان بمقتضى (لِـيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ)(4).
وإمّا علو مقاماته في الجنّة، أو علو فضائله المعنوية(صلى الله عليه وآله).
ويبدو التفسير الأول أنسبها جميعاً.
والعبارة «آية الوسيلة» إشارة إلى المقام العالي للقرب ونتيجة ذلك الدرجات الرفيعة في الجنّة، فقد ورد في الحديث النبوي أنّه(صلى الله عليه وآله) خاطب أصحابه قائلاً: «سلوا الله لي الوسيلة»، ثم أضاف: «هى درجتي في الجنّة، وهى ألف مرقاة... فلا يبقى يومئذ نبي ولا صديق ولا شهيد إلاّ قال طوبى لمن كان هذه الدرجة درجته»(5).
ثم اختتم كلامه(عليه السلام) بهذا الدعاء: «واحشرنا في زمرته غير خزايا(6)، ولا نادمين، ولا ناكبين، ولا ناكثين، ولا ضالين، ولا مضلين، ولا مفتونين» في إشارة إلى أن الأفراد يسعهم بالعمل والعلم أن يكونوا في زمرة النبي(صلى الله عليه وآله) ويجتازوا هذه الفضائح السبع، فلا يندمون ويفتضحون يوم القيامة، وإذا رأوا أعمالهم لا يشعرون بالندم، فلا يكونوا في صف الناكثين، ولايحملون أوزار الآخرين ولايخدعون بالشياطين.
فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) اشار إلى طوائف أمة النبي(صلى الله عليه وآله) حين ترد المحشر حيث ترد كل
1. «نزل» بضمتين ما هيئى للضيف لينزل عليه.
2. «السناء» علو المقام والرفعة.
3. سورة الانعام/160.
4. سورة الصف/9.
5. تفسير نور الثقلين 1/626 ح 178.
6. «خزايا» جمع «خزيان» الخجل والافتضاح.
واحدة منها وادياً من الأودية المذكورة السبع، ولعل هذه الطوائف كانت موجودة وقد خاطبها(عليه السلام) محذراً إياها بهذا الدعاء.
كلام المرحوم السيد الرضي
قال المرحوم السيد الرضي (ره) ذيل هذا الكلام: «وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم; إلاّ أننا كررناه هنا لما في الروايتين من الاختلاف».(1)
قال ابن أبي الحديد في ذيل هذا المقطع من الخطبة: سألت استاذي النقيب أبا جعفر، وكان منصفاً بعيداً عن الهوى والعصبية عن هذا الموضع، فقلت له: وقد وقفت على كلام الصحابة وخطبهم فلم أر فيهم من يعظم رسول الله(صلى الله عليه وآله) تعظيم هذا الرجل، ولايدعو كدعائه: فانا قد وقفنا من نهج البلاغة ومن غيره على فصول كثيرة مناسبة لهذا الفصل، تدل على إجلال عظيم، وتبجيل شديد منه لرسول الله(صلى الله عليه وآله). فقال: ومن أين لغيره من الصحابة كلام مدون يتعلم منه كيفية ذكرهم للنبي(صلى الله عليه وآله) ؟
وهل وجد لهم إلاّ كلمات مبتدرة، لاطائل تحتها! ثم قال: إنّ علياً(عليه السلام) كان قوي الإيمان برسول الله(صلى الله عليه وآله) والتصديق له، ثابت اليقين، قاطعاً بالامر، متحققاً له، وكان مع ذلك يحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) لنسبته منه، وتربيته له، واختصاصه به من دون أصحابه، وبعد، فشرفه له، لانّهما نفس واحدة في جسمين، الأب واحد، والدار واحدة، والأخلاق متناسبة، فاذا عظمه فقد عظم نفسه، وإذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه، ولقد كان يود أن تطبق دعوة الإسلام مشارق الأرض ومغاربها; لأنّ جمال ذلك لا حق به، وعائد عليه، فكيف لا يعظمه ويبجله ويجتهد في إعلاء كلمته.(2)
1. الخطبة 72 في المجلد الثالث.
2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7/174.
ومنها في خطاب أصحابه
«وَقَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللهِ تَعَالى لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ وَتَوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ، وَيُعَظَّمُكُمْ مَنْ لاَفَضْلَ لَكُمْ عَلَيهِ، وَلاَ يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ، وَيَهَابُكُمْ مَنْ لاَ يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً، ولاَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ وَقَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللهِ مَنْقُوضَةً فَلاَ تَغْضَبُونَ! وَأَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ! وَكَانَتْ أُمُورُ اللهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ، وَعَنْكُمْ تَصْدُرُ، وَإِلَيْكُمْ تَرْجِعُ، فَمَكَّنْتُمْ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ، وَأَلْقَيْتَمْ إلَيْهمْ أَزِمَّتَكُمْ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللهِ فِي أَيْدِيهمْ، يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَب، لَجَمَعَكُمُ اللهُ لِشَرِّ يَوْم لَهُمْ!».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا الموضع من الخطبة إلى أمرين مهمين مرتبطين مع بعضهما ارتباطاً واضحاً وهما:
الأول: أنّ المجد والعظمة التي بلغها المسلمون في ظل الإسلام لهي عظمة فريدة لدى العدو والصديق.
الثاني: أنّ اولئك الناس لم يعرفوا قدر هذه النعمة، وقد آلت أمورهم إلى الحكام الظلمة من عديمي الإيمان وأصحاب الشهوات بفعل ضعفهم وذلهم وهو انهم، وهذا بحد ذاته جحود عظيم فقال(عليه السلام): «وقد بلغتم من كرامة الله تعالى لكم منزلة تكرم بها إماؤكم وتوصل بها جيرانكم».
واثر ذلك أخذ يعظكم من لستم خيرا منه، وليس لكم من حق عليه «ويعظمكم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده».
كما يهابكم ويبجلكم من ليس لكم قدرة عليه، ولا حكومة أو سيطرة عليه «ويها بكم(1)من لا يخاف لكم سطوة(2)، ولا لكم عليه إمرة» فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) قد بيّن بهده العبارات الرائعة البليغة منزلة المسلمين في ظل الإسلام، ولم تقتصر حرمة العدو والصديق لهم فحسب، بل شملت حتى جواريهم، كما عومل جيرانهم باللطف والرحمة كرامة لهم، كما كان يكبرهم ويجلهم من الأقوام من ليس لهم عليهم سطوة ولا قوة ولافضل ولا احسان، بل كان يهابهم حتى من لم يكن تابعاً لبلادهم.
فمن الواضح وعلى ضوء الحديث الشريف: «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء»(3)، أنّ المسلم إذا التزم بجوهر الإسلام وعمل باحكامه وما أمر به الله سبحانه واعتمد الورع والتقوى في مسيرته الدينية، يحظى باحترام الآخرين وإجلالهم. فهذه حقيقة لامبالغة فيها.
فقد أصبح المسلمون وفي ظل الإيمان يتمتعون بكافة معاني الشجاعة والاقدام والتضحية والقوة والمنعة.
أصنف إلى ذلك فقد حفتهم العناية الإلهية والامدادات الغيبية.
فقد نقل اين أبي الحديد قصة رائعة بهذا الشأن. حيث قال: قيل إنّ العرب لما عبرت دجلة إلى القصر الأبيض الشرقي بالمدائن عبرتها في أيام مدها، وهى كالبحر الزاخر على خيولها وبأيديها رماحها، ولا درع عليها ولا بيض; فهربت الفرس بعد رمي شديد منها للعرب بالسهام; وهم يقدمون ويحملون، ولا تهولهم السهام، فقال فلاح نبطي، بيده مسحاته وهو يفتح الماء إلى زرعه لأسوار من الاساورة معروف بالبأس وجودة الرماية: ويلكم! أمثلكم في سلاحكم يهرب من هؤلاء القوم الحاسرين! ولذعه باللوم والتعنيف: فقال له: أقم مسحاتك،
1. «يهاب» من مادة «هيبة» الاحترام المقرون بالخوف.
2. «سطوة» و أصله كما ورد في مفردات الراغب، من سطا الفرس اذا اقام على رجليه رافعاً يديه. القهر والغلبة والتسلط.
3. الكافي 2/68.
فأقامها فرماها، فخرق الحديد حتى عبر النصل إلى جانبها الآخر، ثم قال: انظر الآن، ثم رمى بعض العرب المارين عليه عشرين سهما لم يصبه ولا فرسه منها بسهم واحد; وأنّه لقريب منه غير بعيد. ولقد كان بعض السهام يسقط بين يدي الاسوار، فقال له بالفارسية: أعلمت أنّ القوم مصنوع لهم! قال: نعم.(1)
ثم أشار(عليه السلام) في القسم الأخير من هذا الموضع من الخطبة إلى جحد الناس لتلك النعم والقدرة، فقال(عليه السلام) رغم كل ذلك لاتهتز لكم قصبة وأنتم ترون كل هذه الانتها كات ونقض العهود والقوانين والأحكام الإلهية! في حين تشتاطون غضباً فيما إذا نقضت ذمم آبائكم: «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون! وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون(2)».
أي لو نقضت سنة قبلية أو طائفية كانت شائعة بينهم لارتفعت أصواتهم، في حين ينتهك بني أمية السنن الإلهية بمرأى ومسمع منهم دون أن ينبسوا ببنت شفة، وهذا قمة جحود النعم الإلهية.
ثم قال(عليه السلام): «وكانت اُمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، فمكنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم، وأسلمتم اُمور الله في أيديهم».
وهذا جحود آخر، فبعد كل تلك القوة والقدرة ـ بحيث كان كل شيء بأيديهم وتابع لارادتهم ـ أخلوا الساحة للظلمة ودعوهم يجلسون على منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويتحكموا بأمور المسلمين.
ثم قال(عليه السلام) في وصف هؤلاء: «يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات».
نعم فقد فوضت الاُمور على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الصالحين فكانوا يعملون على ضوء التعاليم الإسلامية، إلاّ أنّ الغفلة والضعف وجحود النعم أدى لأنّ يتزعم الاُمور تلك الثلة من سليلي الجاهلية وبقايا أهل الشرك والعصبية، حيث تربع ابن أبي سفيان ـ أعدى أعداء الإسلام ـ على عرش الحكومة الإسلامية فقلب اُمور الإسلام رأساً على عقب.
ذهب بعضى شرّاح نهج البلاغة إلى المراد بالعبارة 11: «وكانت اُمور الله عليكم ترد...»
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7/177.
2. «تأنفون» من مادة «أنف» على وزن شرف بمعنى الحمية و الغضب و العِزّة.
الأحكام الشرعية، لا الحكومة وقالوا: كانت الأحكام الشرعية اليكم ترد من رسول الله(صلى الله عليه وآله)ومن الإمام(عليه السلام)، ثم تصدر عنكم إلى من تعلمونه إيّاها من اتباعكم وتلامذتكم، ثم يرجع إليكم بأن يتعلمها بنوكم وإخوتكم من هؤلاء الاتباع. أو المراد الحكم في الأحكام الإلهية.
وتبدو هذه الاحتمالات ضعيفة، ولا تنسحجم والعبارة «فمكنتم الظلمة من منزلتكم» التي تشير إلى أمر الحكومة.
والمراد بالعبارة «يعملون بالشبهات» هو أنّ بني أمية كانوا يتمسكون بمتشابه القرآن أو كلمات النبي(صلى الله عليه وآله) ـ حيث كانوا يكيفونها بالاستعانة بالقراءات الجديدة على مقاصدهم الانحرافية ـ من أجل توجيه أعمالهم الشائتة، وهم لايفكرون سوى في حفظ مصالحهم وشهواتهم الحيوانية واحياء سنن الجاهلية.
ثم إختتم خطبته قائلاً: «وايم الله، لو فرقوكم تحت كل كوكب، لجمعكم الله لشر يوم لهم».
وقد ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بهذه العبارة قيام أبي مسلم الخراساني وقيام أهل العراق ضد بني أمية بحيث ينتقمون منهم شر انتقام ويجتثون جذورهم، بل قيل أنّهم ارتكبوا مالم يحفل التاريخ بمثيله.
ولايبدو صحيح الاحتمال الذي أورده بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ المراد بالعبارة المذكورة قيام المهدي(عليه السلام) حيث لاينسجم وسائر عبارات الخطبة.
وتشير العبارة: «لو فرقوكم تحت كل كوكب» كناية إلى ذروة التشتت والفرقة، وإلاّ لايمكن جعل كل إنسان تحت كوكب.
—–
ومن كلام له(عليه السلام)
في بعض أيام صفين
بالنظر إلى أنّ الإمام(عليه السلام) اورد هذه الخطبة في أحد أيام صفين، وأنّها ناظرة إلى حادثه في بداية صفين حيث انسحب أصحاب الإمام(عليه السلام) وتراجعوا ثم عادوا فانتصروا على العدو، فمقصود الإمام(عليه السلام) هو ذم تراجعهم بالفاظ لطيفة رقيقة، ومن ثم الإشارة بحملتهم ثانية إلى جانب حثهم وتشجيعهم على الصمود والمقاومة. ولايخفى التأثير الذي يلعبه الكلام حين يتصدر ببيان نقاط الضعف، ثم يتتابع بذكر عناصر القوة.
—–
1. سند الخطبة: رواه الطيبري في تاريخه في حوادث عام 37، والمرحوم الكليني في كتاب الجهاد من فروع الكافي، ونصرين مزاحم في كتاب صفين (باختلاف)، وفسر ابن أثير في كتاب النهاية بعض مفرداتها، ممّا يدل على عثوره عليها (مصادر نهج البلاغة 2/221).
«وَقَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ، وَانْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ، تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ، وَأَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ، وَيآفِيخُ الشَّرَفِ، وَالأَنْفُ الْمُقَدَّمُ، وَالسَّنَامُ الأعْظَمُ. وَلَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَة تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ، وَتُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ; حَسّاً بِالنِّصَالِ، وَشَجْراً بِالرَّمَاحِ، تَرْكَبُ أُولاهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالإِبِلِ الْهِيمِ المَطْرُودَةِ; تُرْمَى عَن حِيَاضِهَا; وَتُذَادُ عَن مَوَارِدِهَا!».
—–
الشرح والتفسير
ذكر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الإمام(عليه السلام) خطب هذه الخطبة حين تراجعت ميمنة أهل العراق، ثم عادت لتهجم ثانية بعد أن قادها مالك الاشتر وحمل على أهل الشام ففرقهم.(1)
فلما رأى ذلك الإمام(عليه السلام) خطب بهذا الكلام. فقد قال(عليه السلام): إنّي شاهدت فراركم وهزيمتكم وتراجعكم عن صفوفكم بعد أن ذادكم عنها الجفاة من العرب من أهل البادية: «وقد رأيت جولتكم(2)، وانحيازكم(3) عن صفوفكم تحوزكم الجفاة(4) الطغام(5) وأعراب أهل الشام».
1. جاء في كتاب «وقعة صفين» «لنصر بن مزاحم»، حول سبب ايراد هذه الخطبة قوله: كان ذلك في يوم السابع من صفر، و هو من الايام العصيبة في حرب صفين، في ذلك اليوم هاجم جيش معاوية قسماً من جيش الإمام اميرالمؤمنين(عليه السلام) و أجبروهم على التراجع إلى الخلف، فتألم الإمام على(عليه السلام) لذلك، و لام جيشه، وبعدها حرضهم و شجعهم على القتال، وقد قاد هجوماً شاملا بنفسه يصحبه مالك الاشتر، فهزم جيش معاوية و فرقهم، و بعدها خطب الإمام على(عليه السلام) في جيشه هذه الخطبة. (كتاب وقعة صفين، /243 إلى /254، طبعة بصيرتى ـ قم المقدسة).
2. «جولة» من مادة «جولان» تعني في الأصل الدوران في الميدان، ثم وردت بمعنى التراجع والحملة ثانية، وهكذا وردت في العبارة.
3. «انحياز» ترك المواضع.
4. «الجفاة» جمع «الجافي» بمعنى السفلة من الناس و ذوي الخلق السيء و الخشن.
![]() |
![]() |