صحائف

من نهج البلاغة

 

القسم الأول

صحيفة الأحداث العسكرية

محمّد جعفر الشيخ إبراهيم الكرباسي

الطبعة الأولى

منشورات دار الوفاق – النجف الأشرف

مطبعة الجاحظ - بغداد

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 3 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقدّمة

ما ظننتني أستطيع في يوم من الأيام أن أصيب توفيقاً من عند الله تعالى فاهتدي إلى ما يجعلني قادراً على ان اقتضب من كتاب (نهج البلاغة) أبعاضاً متمايزة في نسقها وفي طبيعتها من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما أعلنه في أوقات موضونة متوسمة، وقد آثرت أن أدعو بعضها الأول بـ (صحيفة الأحداث العسكرية) من جراء شمولها على المساعي العسكرية التي عاناها وخاض غمارها أمير المؤمنين (عليه السلام) حفظا أثيراً للوحدة الإسلامية وتشهيراً فاضحاً بذوي المطامع الأنفصالية عنها.

وها أنا ذا أعرض ها هنا قسمها الأول الذي دعوته بصحيفة الأحداث العسكرية من كتاب نهج البلاغة. طامحاً أصدق طموح لدى أخواني القراء إلى تغاضيهم عما عسى أن يروني قد غفلت عنه وقصرت فيه من جملة وتفصيل والله ولي التوفيق والثواب.

النجف الأشرف

محمّد جعفر الشيخ إبراهيم الكرباسي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 4 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت مكة المكرمة تتعرض في بعض الأعوام السالفة للجدب العسير عندما كانت السماء تمسك عن سخائها وبركتها لأنماء الزروع فتترك القبائل في بأساء وضراء لا يملكون لأنفسهم غير اليسير من ذريعة العيش.

وفي سنة من تلك السنين أصيبت قريش كأكثر الناس في مكة بقحط شامل، فانطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى مواجهة عميه... حمزة والعباس، واقترح عليهما أن يذهبا معاً ليخففا عن أبي طالب بعض ما يجهده من تكاليف ضرورية لمعيشة أبنائه. فلما ذهبوا جميعاً إليه قال لهم دعوا لي... عقيلاً. وخذوا من شئتم، فأخذ العباس طالباً وأخذ حمزة جعفرا، وأخذ محمّد بن عبد الله (عليّاً).

وكان عليّ يومذاك في حجر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) يكلؤه برعايته الفذة منذ كان عمره ست سنين ويشمله بكل عطف وكل هداية اجتماعية في حين كان هو نفسه ذا مواهب خصيبة ومدارك زاكية تستوعب في (مجالس عميه) وشيوخ قومه كل نخبة من الجد العقلي. وكل حديث بليغ صالح.

ولما بلغ العاشرة من عمره تقدم من تلقاء نفسه فحقق إسلامه على يد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأنه كان قد بلغ في ذلك الوقت من ادراكه الناضح المميز بين كثير من حقائق الوجود انه صار يرفض بوعاية عقله أن يؤمن كالمشركين بأن الأصنام الحجرية المنحوتة بأيدي النحاتين وبأيدي الصاغة هي ألهة مقدسة وانها قمينة بالتجلة والعبادة لكونها عندهم ترزق البشر وتسبغ على حياتهم كل ضروب البركات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 5 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فما أسخف عقيدتهم هذه حين كانوا يزعمون أن أساف ونائلة واللات ، والعزى، وهبل، وسواع، ومناة، والفلس وغيرها من الأصنام أرباب حجرية مقدسة ومسيطرة على نظم الحياة البشرية وعلى عواقب شؤونهم وأحوالهم في أناء الليل وأطراف النهار.

هذه ظاهرة اعتقادية شاذة كانت من جهة متوارثة بينهم على غير تحقيق منهم في سجيتها. وكانت راسخة في عقولهم فيؤكدونها بلا تمحيص وانتباه.

ولكن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان يشهدها بعينيه ويفكر في طبيعتها ويعجب منها ويشفأها ويعيبها في داخل نفسه ويبغضها بغضاً لن يتضاءل فيه أي ضئالة.

وأمّا من جهة أخرى فقد كان موقناً بأن شريعة المشركين الإجتماعية منكرة عند الراسخين في الإدراك. وان تضرعهم للأصنام وإيمانهم بجلالتها وهي في حقيقتها أحجار لا تصلح إلاّ للبناء في بيوتهم هي مجردة من كل حس ومن كل خصلة شعورية قمينة بأن تعلنها في يوم من الأيام لحادثة نافعة لهم أو مضرة بهم قط.

ذلك هو فرط الذكاء في الإنسان الرشيد بالطبع، والنابغ نبوغه المبكر يجعل صاحبه عبقرياً فياض التفكير والتعبير يبشر بمستقبل زمني بليغ مثلما صار شأن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) منذ أوائل عمره إلى أواخر عمره مخلداً في خلالها إلى ما وراءها أصداء نبوغه وأطوار شرافتها في كتاب نهج البلاغة.

وكتاب نهج البلاغة يمثل في شطر واسع من معانيه ومبانيه بعض الاستمرار السياسي والاعتقادي في أضواء الرسالة الإسلامية في أذهان الوعاة من الناس، لأنه ينحو بهم نحواً حصيفاً وراء القرآن الكريم. ويسلك معهم سلوك التابع للمتبوع في داخل بلاد الإسلام من أجل الأنتفاع بما يشمل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 6 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه من هدى وسداد لأثقف الحكام وأظرف المحكومين من الأمم على سطوح الأرض.

وقوام نهج البلاغة الثابت الآن ككتاب أثير في جملته وتفصيله كان محفوظاً في صدور المسلمين وأذهانهم، وفي بعض ما كان حاصلاً لديهم من رسائل الكتابة التاريخية، إذ كانوا يتوارثون حفظها اهتماماً بما كانوا يجدون فيها من حكم ومواعظ ومراشد سياسية واجتهادات حربية أو سلمية، ولكنها ظلت في زمان الدولة الأموية مكبوتة عن الذيوع بين ذوي الاهتمام وغير ذوي الأهتمام بمصائر المسلمين أينما كانوا حتى إذا ما انقرضت الدولة الأموية من وجودها الحاكم في الشام وفيما وراء الشام وقامت الدولة العباسية على أثرها في بغداد وفيما وراء بغداد انتعشت مواهب الناس  الأدبية والعلمية متجهة نحو التزود من العلوم والآداب التي أنثأت تنتشر أحدث انتشار بينهم في القرى والحواضر العربية والتي تظافرت في الحداثة والانتشار مع العلوم والآداب الواردة إليها من غير البلاد العربية فتمزج معها وتعرب عن حيويتها وقابليتها للخلود والبقاء. حينذاك، وحينذاك بالتعيين كان العالم المقدام (الشريف الرضي) رحمه الله في مقدّمة العلماء الأفذاذ حياً بين أكرم الأحياء، وكان يتصدر مع أنشط المتصدرين النهضة العباسية الأدبية التي بدأت تستعلن في الأقطار الإسلامية وتستلفت رقاب الأمم نحو بغداد عاصمة الأمبراطورية الإسلامية. ولم يكن نتاجه العلمي والأدبي مقتصراً على ما كان يجود به نبوغه الديني الذاتي المتدفق، وإنما انصرف بنبوغه كذلك إلى الاستئناس بمنتجات غيره من فحول القادة العلماء كعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) نتاجاً متفرعاً شاملاً في الحكمة والأدب والعلم والاقتصاد والموعظة الحسنة والمراشد السياسية العادلة في الحكم والقضاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 7 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والتشريع المنزه من الاستبداد أو الطموع وقد كان العلاّمة الشريف الرضي رحمه الله منذ ابتداء شغفه الناتج، واكبابه الرائع على مواصلة اعجابه بهوايات الأسفار الدينية وجدواها واستيعاب ما فيها من أحكام خالدة واجتهادات وشروح باهرة وتلذذ مواهبه الذواقة بها.. كان يكب كذلك على مطالعة الكتب اللغوية وآدابها المنظومة والمنثورة ويعالج بجدارة انشازها وعجراتها ويتقصى أخبار الشعراء والخطباء سواء أكانوا من القدامى أم المحدثين فيرى في غضونها فضائل متنوعة من أقوال الإمام (عليّ بن أبي طالب) ورسائله وخطبه الشاملة في أغراض شتى ومعاريض استشهادية جمة فينقاد لها ويعشق محاسنها ويتصاغر متضائلاً أمام فصاحتها وبلاغتها حتى لقد حمله تأثره الحازم فيها واتساع هواه نحوها على أن يتطوع أخيراً لجمع ما يتيسر له جمعه من تلك الخطب والرسائل والأقوال الحكيمة والأقضية الشرعية البارعة من شتى كتب الرواة المحققين وكتب المؤرخين الكبار.

فماذا كان بعد ذلك؟

لقد أضحى تطوع (الشريف الرضي) السالف ذكره حقيقة واقعة مشهودة أمام الأبصار في كتاب جد نفيس قد جمعه لأثقف الناس عقولاً وأصدقهم اعجاباً بالروائع العربية الخالدة والقرائح المرشدة والمسددة إلى معاريض الخير والبشري العام في الدنيا.

ان كتاب نهج البلاغة حافل كامل بضروب من الفوائد السياسية والشروح الفقهية أو القضائية مع التوجيهات الأسرية الرائعة والتبصر في الأسرار العسكرية ومحاسن الحياة المدنية في الأسواق التجارية والصناعية وإرشادات خلقية لمحامد الحضور في مجالس العلماء والأدباء وايثار الخيرات الصناعية والتجارية جميعها وتحذيرات الناس من عواقب المعاداة السلالية بين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 8 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأسرات والقبائل. وأيضا بث الدعوات الجليلة إلى ايثار السجايا الإسلامية على ما سواها في التعاضد والمناصحة والانسجام النزيه بين سائر المجتمعات أينما تكون من المسكونة.

ولعل رجلاً مسلماً أي رجل مسلم يتطوع في الأوقات الحالية ليستبطن باخلاص وحياء جميع هذه الأمور الواردة في كتاب نهج البلاغة ويبحث عن دواعي إيرادها من لدن (عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)  ) بشخصه على رؤوس الأشهاد سواء أكان تصريحاً أم تلميحاً يظفر من غير مراء بصور دقيقة جداً وحوادث متباينة لأحوال الكثيرين من رؤساء القبائل وغيرهم فيأسف لوقوعها منهم وبينهم وأصبحت كنتيجة غير مفاجئة من جراء الخلاف الانتهازي الذي أحدثه معاوية بن أبي سفيان تجاه الخليفة الشرعي يومذاك واصطناعه المبررات للمطالبة بدم الخليفة (عثمان بن عفان) واستمالة القبائل والأسرات إليه ضمنا بأساليب شبحية وغير مشروعة في مستوجبات أو مستحبات الدين الإسلامي لتزكية مزاعمه ولتوكيد مطالبته بدم عثمان بن عفان من إمام مسلم بريء حقاً ظاهراً وباطناً من المشاركة في مقتله. وجذير بالذكر على كل حق واحتمال ان هذا الخليفة البريء الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان قد أسبغ على وجود عثمان بن عفان عطفاً جريئاً ومهما في خلال الفتنة أو الثورة على عثمان بن عفان نفسه حتى أنه أرسل ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) تحقيقاً لعطفه ذلك إلى دار الخليفة لكي يقفا بثبات مع فريق المدافعين عنه ولتبصير الثائرين بكراهة أبيهما وسخطه المكتوم وغير المكتوم على أي اعتداء جرمي قد يحاولون انزاله به. على حين كان ثمة اناس كثيرون من القبائل في مدينة يثرب حاضرين يشاهدون بهدوء على سوانح أعمال المتخاصمين فيها، فأخرج مقصد الثائرين احراجاً شديداً في أيديهم ولم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 9 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعودوا يجدون سبيلاً ممهداً لهم إلى داخل دار الخليفة إلاّ من سوره الخلفي فتسورا من فوقه إلى غرفة الخليفة من غير أن يشهد واقع مقتله من ذوي قرباه إلاّ زوجته (نائلة بنت الفرافصة) التي دافعت عنه بكل ما أتيح لها من إمكان في وقت مقتله.

وهاهنا ينبغي لنا التوكيد على ان الإمام عليّ بن أبي طالب لو كان قاتلاً بيده عثمان بن عفان أو أمر بقتله لصار عند المسلمين في عداد القتلة المجرمين، وأيضاً لو كان ناهياً عن قتله بلسانه الناطق المهدد على مسامع الناس لصار في عداد المؤيدين المناصرين له ولأعماله التي دانه بها الثائرون عليه، ولكنه كان بريئاً جداً من كل ذلك إطلاقاً، بل كان في أثناء ذلك الوقت يعاني الحيرة واشتداد العجب في نفسه من كثير من التهويشات الأهوائية ومساعي مروان بن الحكم لضمان مستقبله المنشود عنده، في تنفيذ مطامعه السياسية ليضارع سلوك (معاوية بن أبي سفيان) في الشام خاصة إذا ما أصاب نجاحاً ما في دس الانشقاق بين الهاشميين والأمويين وأنصارهما وما إلى هذه المصائب والمطامع من نظير وسبيل.

لقد كان الثائرون على عثمان بن عفان يتهامسون عليه في تلك الاباء مع الناس الآخرين ويصارحونهم تارة أخرى بأمور غير سائغة قد وقعت منه في انفاقه الأموال العامة اعتباطاً واختيار فئة من غير المستحقين لمناصب الحكم في بعض البلاد وتأمير بني أمية على غيرهم من القبائل في تمثيله بينهم وثوقاً بأخلاصهم لمقامه الرفيع وغير هذه من أمور يأباها مركز الخلافة.

ولقد لقى وقتذاك جماعة من المصريين الذين كانوا قد جاءوا إلى يثرب (عليّ بن أبي طالب) متقلداً سيفه عند أحجار الزيت قرب المدينة المنورة فسلموا عليه وعرضوا عليه ولاءهم وأمرهم.

- فصاح بهم وطردهم وقال: لقد علم الصالحون ان جيش – المروة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 10 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) (1).

فانصرفوا عنه خائبين.

وقبيل مقتل (عثمان بن عفان) – اقبل عليّ وطلحة والزبير فدخلوا معاً على عثمان يعودونه، ويشكون إليه ما يجدون من أجله وكان عند عثمان نفر من بني أمية منهم (مروان بن الحكم) فقالوا لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (أهلكتنا وصنعت هذا الذي صنعت والله ان بلغت هذا الأمر الذي تريده لتمر عليك الدنيا) فقام مغضباً وخرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم(2) وفي آخر خطبة خطبها عثمان بن عفان وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال لهم: أنا أول من اتعظ واستغفر الله عما فعلت وأتوب إليه فمثلى نزع وتاب. فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليرون رأيهم، وليذكر كل واحد ظلالته لأكشفها وحاجته لأقضيها، ولما نزل وجد مروان بن الحكم وسوراً ونفراً من بني أمية في منزله قعوداً لم يكونوا شهدوا خطبته ولكنها بلغتهم، فلما جلس ليستريح قال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين أأتكلم أم أسكت فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان لا بل تسكت فوالله أنتم قاتلوه، وميتموا أطفاله، انه قد قال مقالة لا ينبغي أن ينزع عنها فقال مروان بن الحكم: وما أنت وذاك، والله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ. فقالت مهلاً يا مروان عن ذكر أبي إلاّ بخير والله لولا ان أباك عم عثمان – وانه ينال غمه وعيبه لأخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه. فأعرض عثمان حينذاك عن مروان(3). وروى أبو


 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  ص 11 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جعفر الطبري ان عليّ بن أبي طالب كان خارجاً إلى ماله في (خيبر) لما حصر عثمان، فقدم إلى المدينة والناس مجتمعون على طلحة وكان لطلحة في حصار عثمان أثر واضح. فلما قدم عليّ (عليه السلام) أتاه عثمان وقال له: أمّا بعد فإن لي حق الإسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر ولو لم يكن من ذلك شيء وكنا في جاهلية لكان عاراً على عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم – يعني طلحة فقال له عليّ (عليه السلام) أنا أكفيك، فاذهب أنت. ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة بن زيد، فتوكأ على يده حتى دخل دار – طلحة – وهي مملؤة بالناس فقال له يا طلحة ما هذا الأمر الذي صنعت بعثمان؟

قال: يا أبا الحسن أبعد أن مس الحزام الطيبين!! فانصرف عليّ (عليه السلام) حتى أتى بيت المال فقال: افتحوه. فلم يجدوا المفاتيح فكسر الباب وفرق ما فيه من مال على الناس فانصرف الناس من عند طلحة، حتى بقي وحده وسر عثمان بذلك(4).

وجاء طلحة فدخل على عثمان فقال له، يا أمير المؤمنين إنّي أردت أمراً فحال الله بيني وبينه، وقد جئتك تائباً. فقال عثمان والله ما جئت تائباً ولكن جئت مغلوباً. حسبي الله يا طلحة.

ثم قال الطبري كان عثمان مستضعفاً طمع فيه الناس، وأعان على نفسه بأفعاله وباستيلاء بني أمية عليه(5)،  وكان ابتداء الجرأة عليه. ان ابلا من ابل الصدقة جيىء بها إليه، فوهبها لبعض ولد الحكم بن أبي العاص دون سواهم  . فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها وقسمها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 12 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بين الناس وعثمان في داره. فكان ذلك أول وهن دخل على خلافة عثمان بن عفان، وقيل انه خطب يوماً وبيده عصا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر وعمر يخطبون عليها. فأخذها جهجاه الغفاري من يده وكسرها على ركبتيه، فلما تكاثرت أحداثه وتكاثر طمع الناس فيه كتب جمع أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق من المسلمين، أنكم كنتم تريدون الجهاد فهلموا إلينا فإن دين محمّد قد أفسده خليفتكم فاخلعوه، فاختلفت عليه القلوب، وجاء المصريون وغيرهم إلى المدينة حتى حدث ما حدث. أمّا مروان بن الحكم بن أبي أمية بن عبد شمس. فقد كان قد خرج من المدينة إلى الطائف مع أبيه (الحكم) بعدما طرده رسول الله إليها من جراء استخفافه به ومحاكاته له في مشيته وحركات يده حتى كان يشير النبي في الطرق وحده أو مع بعض المسلمين. وكان بلا ريب مناوئاً وشانئاً وحاسداً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن انه كان يبغضه وينفث مثال بغضه في أبنائه منذ صغر أسنانهم وبقي على هذا الغرار حتى عاد إلى المدينة من طرده بعدما انتخب عثمان بن عفان خليفة على المسلمين عقيب وفاة عمر بن الخطاب، وبدأ مروان بن الحكم يطمح من يومذاك إلى منصب الخلافة تعويضاً نفسياً عما يشعر به من ضئالة اجتماعية ما بين الناس بعدما طرد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) إياه إلى الطائف وهو معه.

ولما رجع مروان بن الحكم مع أبيه إلى المدينة بموافقة عثمان بن عفان اتفق ذات يوم أن نظر إليه عليّ بن أبي طالب، اتفاقاً فقال له كما يروي ذلك صاحب كتاب الاستيعاب: ويل لك ويل لأمة محمّد منك ومن بنيك إذا شاب صدغاك.

وروى الواقدي والمدائني والكلبي وغيرهم من المؤرخين ان عليّاًً (عليه السلام) لما أرجع المصريين إلى بلادهم خرجوا من المدينة ثم رجعوا إليها بعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 13 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثلاثة أيام. فأخرجوا صحيفة في انبوبة رصاص وقالوا وجدنا غلام عثمان بن عفان وهو أبو الأعور السلمي في البويب(6) على بعير من ابل الصدقة ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الصحيفة وفيها أمر صريح من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن حمق الخزاعي وحلق رأسيهما ولحاهما وحبسهما وصلب قوم آخرين من أهل مصر.

وجاء الناس إلى عليّ بن أبي طالب وسألوه أن يدخل إلى عثمان بن عفان فيسأله عن هذه الحال فلم يجد بدا من الدخول عليه. فأقسم بالله ما كتبته ولا علمته ولا أمرت به فقال محمّد بن مسلمة وكان حاضرا صدق. هذا من مروان بن الحكم فقال: لا أدري، وكان أولئك المصريون في ذلك الوقت حضروا فقالوا له: أفيجرأ عليك ويبعث غلامك على جمل من ابل الصدقة وينقش على خاتمك ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تدري؟

قال: نعم، قالوا: انك أمّا صادق أو كاذب فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت من قتلنا وعقوبتنا من غير حق ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته وخبث بطانته. فأخلع نفسك منه فقال عثمان إني لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله ولكني أتوب. قالوا لو كان هذا أول ذنب نبت منه لقبلنا. ولكنا رأيناك تتوب. ثم تعود ولسنا بمنصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله فقال: أما ان ابرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلى نفسي من ذلك، وأمّا قتالكم من يمنع عني فإني لا آمر أحداً بقتالكم فمن قاتلكم فبغير أمري. ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا عليَّ أو لحقت ببعض الأطراف.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 14 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم بدأ السر يتسع بين الناس (واصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري في التاريخ، وخلاصة ذلك ان عثمان أحدث أحداثاً مشهورة نقمها الناس عليه من تأمير بني أمية. ولا سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين واخراج مال الفيىء إليهم وما جرى في أمر عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود وغير ذلك من الأمور التي جرت في أواخر خلافته ثم اتفق ان الوليد بن عقبة لما كان متولياً على الكوفة وشهد عليه بشرب الخمر صرفه وولى سعيد بن العاص – مكانه – فقدم سعيد الكوفة واستخلص قوماً من أهلها يسمرون عنده ويقضون أوقاتهم هباء فقال سعيد بن العاص انّ السواد بستان لقريش وبني أمية فقال الأشتر النخعي وتزعم ان السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك!! فقال صاحب شرطته وكان حاضرا:ً أترد على الأمير مقالته؟ وأغلظ له فقال الأشتر لمن حوله من النخع، وغيرهم من أشراف الكوفة: ألا تسمعون؟ فوثبوا على صاحب الشرطة بحضرة سعيد بن العاص فوطئوه وطئاً عنيفاً وجروا ببرجله، فغلظ ذلك على سعيد وأبعد سماره، ولم يأذن بعد لهم. فجعلوا يشتمون سعيد بن العاص في مجالسهم. ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان بن عفان لاعتماده على سعيد ، واجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم، فكتب سعيد إلى عثمان بشأنهم فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى الشام لئلا يفسدوا أهل الكوفة، ان نفراً من أهل الكوفة قد هموا باثارة الفتنة وقد سيرتهم إليك فإن أنت منهم رشداً فأحسن إليهم فارددهم إلى بلادهم. وروى أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ان سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة احدى عشرة من سني خلافته، فلما دخل المدينة اجتمع قوم من الصحابة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 15 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فذكروا سعيداً وأعماله وذكروا قرابات عثمان وما سوغهم وأباح لهم من أموال المسلمين وعابوا أفعال عثمان فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس، وهو من بني تميم فدخل على عثمان فقال له: ان اناساً من الصحابة اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً. فاتق الله حق تقاته وتب إليه. فقال عثمان لمن حوله: انظروا إلى هذا تزعم الناس انه قارئ ثم يجيىء هو إليَّ فيكلمني فيما لا يعلمه، والله ما تدري أين الله؟ فقال له عامر بن عبد القيس: بلى والله إني أدري ان الله لبالمرصاد. فأخرجه عثمان عنه وأرسل إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى معاوية وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص وعبيد الله بن عامر، وكان قد استقدم الأمراء من أعمالهم فشاورهم، وقال : ان لكل أمير وزراء ونصحاء وانكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي(7).

وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إليَّّ أن أعزل أعمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون، فاجتهدوا رأيكم؟ فقال عبد الله بن عامر: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذلوا لك ولا تكون همة أحدهم إلاّ في نفسه وما هو دبر دابته وقمل فروته.

وقال سعيد بن العاص: أحسم عنك الداء. وأقطع عنك الذي تخاف ان لكل قوم قادة، حتى يهلكوا يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر فقال عثمان، ان هذا لهو الرأي لولا ما فيه.

وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله، فأنا أكفيك أهل الشام.

وقال عبد الله بن سعد: ان الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 16 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعطف عليك قلوبهم.

فقال عمر بن العاص: يا أمير المؤمنين، انك قد ركبت الناس ببني أمية فقلت وقالوا. وزغت وزاغوا. فاعتدل واعتزل فإن أبيت فاعزم عزماً وأمضي قدما.

فقال له عثمان. ما لك قمل فروك أهذا يجد منك؟

فسكت عمرو حتى تفرقوا ثم قال: يا أمير المؤمنين : لأنت أكرم عليَّ من ذلك ولكن علمت ان بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيراً وأدفع عنك شراً.

فرد عثمان عماله إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث وعزم على أن يحرمهم أعطياتهم ليطيعوه(8).

ورد سعيد بن العاص إلى الكوفة، فتلقاه أهلها بالجرعة(9) وكانوا قد كرهوا أمارته وذموا سيرته فقال له: ارجع إلى صاحبك فلا حاجة لنا فيك، فهم بأن يمضي لوجهه ولا يرجع، فكثر الناس عليه فقال له قائل منهم ما هذا؟ أترد السيل عن أدراجه؟ والله لا يسكن الغوغاء إلاّ المشرفية ويوشك تنتضى بعد اليوم. ثم يتمنون ما هم اليوم فيه فلا يرد عليهم. فارجع إلى المدينة فإن الكوفة ليست لك بدار(10).

لقد كان هذا الاجتماع خائباً بين الخليفة عثمان بن عفان وبين رؤساء الأعمال الأدارية الإسلامية لأنهم منذ حضروا إلى المدينة أحيطوا علماً قبل الاجتماع بكل الأحوال السياسية التي يعاني منها الخليفة في داخل المدينة وخارجها. فاعدوا لها من غير شك حلولا اقناعية وانتهازية ولما اكتمل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 17 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اجتماعهم وعرفوا ان مناصبهم معرضة لكثير من المخاطر عرضوا على عثمان بن عفان حلولاً رجراجة. ترضي مطامعهم المالية وتضمن بقاءهم في مناصبهم وتهيىء لهم فرصة التصرف في قمع الناس ولا سيما المعارضين منهم لسياستهم الأدارية.

ثم انتقى عثمان بن عفان (أبا موسى الأشعري) أميراً على أهل الكوفة وكتب إليهم. أما بعد فقد أرسلت إليكم أبا موسى الأشعري أميراً واعفيتكم من سعيد بن العاص ووالله لأقوضنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولاستصلحنكم جهدي فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يعصي الله فيه إلاّ ما سألتموه ولا شيئاً كرهتموه لا يعصي الله فيه إلاّ استعفيتم منه لأكون فيه عندما أحببتم وكرهتم حتى لا يكون لكم على الله حجة والله لتصبرن كما أمرنا وسيجزي الصابرين(11). وكتب عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان وابن عامر وأمراء الأجناد يستنجدهم سراً ويأمرهم بالعجل والبدار وارسال الجنود إليه فتربص به معاوية(12)  فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري فتبعه خلق كثير فسار بهم إلى عثمان، فلما كانوا بوادي القرى، بلغهم قتل عثمان فرجعوا لأنهم تأخروا عن أنجاده. وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي فلما وصلوا إلى (قرية الربذة) (13) ونزلت مقدمتهم في الموضع المسمى (صرار) في ناحية المدينة آتاهم خبر قتل عثمان فرجعوا(14).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 18 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو جعفر الطبري ان محاصري عثمان كانوا قد أشفقوا من وصول أجناد من الشام والبصرة تمنعه، فحالوا بين عثمان والناس ومنعوه كل شيء حتى الماء فأرسل عثمان سراً إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وإلى أزواج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قد منعونا الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا. فجاء عليّ بن أبي طالب في الغلس وأم حبيبة بنت أبي سفيان فوقف عليّ (عليه السلام) على الناس فوعظهم قائلاً: أيها الناس ان الذي تفعلون لا يشبه أمر أمير المؤمنين ولا أمر الكافرين، ان فارس والروم لتأسر فتطعم وتسقي فالله ، الله.. لا تقطعوا الماء عن الرجل. فأغلظوا له القول. وقالوا: لا نعم ولا نغمة عين قلما رأى منهم الجد والعناد نزع عمامته عن رأسه ورمي بها إلى دار عثمان يعلمه انه قد نهض وعاد يائساً من غوغاء الثائرين وأما أم حبيبة وكانت مشتملة على أداوة فضربوا وجه بغلتها فقالت ان وصايا أيتام بني أمية عند هذا الرجل فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال اليتامى فشتموها وقالوا أنت كاذبة وقطعوا حبل البغلة بالسيف(15).

فتفرقت وكادت تسقط عنها فتلقاها الناس فحملوها إلى منزلها.

قال أبو جعفر الطبري: فلما طال الأمر وعلم المصريون انهم قد أجرموا جرماً كجرم القتل وانه لا فرق بين قتله وما أتوا إليه وخافوا على أنفسهم من تركه حياً، راموا الدخول عليه من باب داره فأغلقت الباب ووقف الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) في صدورهم وأعانه على وقفته هذه عبد الله بن الزبير ومحمّد بن طلحة. ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وجماعة من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان وقال أنتم في حل من نصرتي. فأبوا ولم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 19 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يرجعوا، ولم يتقدم غيرهم للدفاع عنه من بني أمية ومن أقارب الآخرين.

وقام في خلال تلك الأثناء رجل من بني أسلم يقال له (نيار بن عياض) وكان من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فنادى عثمان وأمره أن يخلع نفسه وبينما هو يناشده ويسومه خلع نفسه رماه (كثير بن الصلت الكندي) وكان من أصحاب عثمان من أهل الدار بسهم فقتله فصاح المصريون وغيرهم عند ذلك: ادفعوا إلينا ابن عياض لنقتله به فقال عثمان، لم أكن لأدفع إليكم رجلاً نصرني، وأنتم تريدون قتلي.

فثاروا إلى الباب فأغلق دونهم فجاءوا بنار فأحرقوه وأحرقوا السقيفة التي عليها، فقال لمن عنده من أنصاره: ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عهد إليَّ عهداً فأنا صابر عليه ثم قال للحسن بن عليّ (عليهما السلام) ان أباك الآن لفي أمر عظيم من أجلك فاخرج إليه أقسمت عليك لما خرجت إليه؟ فلم يفعل إذ كان يدافع عن خليفة وقته، ووقف محامياً عنه. ولما سمع مروان بن الحكم ذلك من الحسن بن عليّ (عليهما السلام) داخلته الحماسة. وخرج بسيفه يجالد الناس فضربه رجل من بني ليث على رقبته فأثبته وقطع احدى عليّاًويه العصبتين. فعاش مروان بقية حياته أوقص الرقبة وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي يجهز عليه فقامت دونه فاطمة أم إبراهيم بن عدي وكانت أرضعت مروان فقالت له ان كنت تريد قتله فقد قتل. وإن كنت إنما تريد أن تعبث بلحمه فأقبح بذلك فخجل وتركه فخلصته وأدخلته بيتها(16).

وقتل المغيرة بن الأخنس بن شريق وهو يحامي عن عثمان بالسيف، واقتحم الثائرون الدار، ودخل كثير منهم الدور المجاورة لها وتسوروا من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 20 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دار (عمرو بن حزم) إليها حتى ملئوها وغلب الناس على عثمان فدخل محمّد بن أبي بكر فقال له عثمان: ويحك أعلى الله تغضب؟ هل لي إليك جرم؟ إلا اني أخذت حق الله منك؟ فقال أما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان؟ فقال استنصر الله عليك وأستعين به فتركه وخرج.

فثار حينئذ رجل اسمه (سودان بن حمران) وأبو حرب الغافقي وقتيرة بن وهب السكسكي فضرب الغافقي بعمود كان في يده وضرب المصحف برجله في حجر عثمان فسال عليه الدم وجاء سودان بن حمران ليضربه بالسيف فأكبت عليه امرأته (نائلة بنت الفرافصة) الكلبية واتقت السيف بيدها فنفح أصابعها فقطعها فنزل السيف على عثمان بن عفان فقتله، فدخل غلمان عثمان ومواليه عليه فوجدوه قتيلاً فقتلوا سودان بن حمران فوثب قتيرة بن وهب على ذلك الغلام فقتله فوثب غلام آخر على قتيرة فقتله ونهبت دار عثمان وسلبوا ما كان على النساء ونهبوا غرارتين من الدراهم. وأقبل عمير بن ضابي البرجم. فوثب عليه وكسر ضعلين من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن(17).

ولقد أجمع المؤرخون المعتمدون على ان مقتله كان في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين وبقي جثمانه مطروحاً أرضاً لم يدفن مدى ثلاثة أيام إلى أن جاء (حكيم بن حزام وجبير بن مطعم) إلى عليّ بن أبي طالب في داره فوجداه مستعيراً فأستغراه للخروج معهما ليدفنوا الجثمان معاً. فإن وجوده معهما في غضون التشيع وازع ورادع لأعداء عثمان وقتذاك، فنهض عليّ بن أبي طالب متقلداً سيفه ومن حوله الحسن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 21 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحسين والزبير وحكيم بن حزام وجبير بن مطعم، فلما سمع فريق من أعداء عثمان بذلك قعدوا في الطريق بالحجارة فلم يكترث لهم المشيعون ولا اهتموا بجمعهم إذا كان معهم عليّ بن أبي طالب ومن وراءه بقية المشيعين. فأحسن عليّ بن أبي طالب ببعض الحجارة ترمى نحو الجنازة فأمر المشيعين بالوقوف ثم أرسل ابنه الحسن إلى رماة الحجارة ليمتنعوا عن الرمي، ثم ساروا مستأنفين حتى بلغوا حائطاً من حيطان المدينة قرب البقيع يعرف عند الناس باسم حش كوكب(18).

فأنزلوا الجنازة أرضاً وصلّى عليها الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومرافقوه قبل الفجر ثم واروها في التراب مع ما كان عليها من ملابس ملوثة بالدم، وعادوا جميعاً إلى منازلهم أما أكثر أقرباء الخليفة القتيل مع أخص خصائصه المقربين إليه فقد لبثوا في بيوتهم قاعدين متخاذلين ولم يغادروا ويتشجعوا على الخروج بأسلحتهم لدفن الخليفة القتيل الذي كانوا يستفيدون من وجوده بينهم في أيام حياته. أما انّه وبعد ما مضى عنهم إلى رحمة الله تعالى، فصاروا يفكرون من جديد فيمن عسى أن يخلفه في منصب الخلافة؟ وكيف يتيسر لهم ترشيحه في تلكم الأوقات غير المستقرة الخطرة في معظم الأصقاع.

أمّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقد عاد إلى داره مع ولديه الحسن والحسين بعد اضطلاعه بأداء شعائر الدفن وهو يفكر باكتآب واضطراب في شتى مصائر المسلمين في بلادهم خاصة، بعد شعورها من خليفة قائم يتولى بحزم ادارة شؤونهم بتمام الروية والحياد بأصدق ما يملك من الحيطة والتقوى، وماذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 22 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عسى أن تصير إليه أحوالهم الإجتماعية والسياسية والمالية بعد ذلك اليوم إذا ما اختلفوا في مسالكهم فتحزبوا أحزاباً عشائرية وتكتلوا تكتلات دنيوية مع ما عند بعضهم على بعض من غل حاقد يتعسر للاشتعال عند سنوح الاضطرام في حين ان أعدائهم من غير المسلمين يفرحون في دخائلهم لكل نائبة تنوبهم وتفرق شملهم شذر مذر. وأيضاً كان الإمام عليّ بن أبي طالب يرجو من الله العزيز القدير أن يجعله في تلك الأثناء بمنأى شاسع عن مجتمعات الناس المريبة وأن يجعل الأشياخ الوادعين من المسلمين النزهاء الزهاد بعيد عنه ممسكين بأسباب اخلاصهم عن التسرع بانتخابه خليفة للمسلمين وهم في الواقع لا يعفرون ما يضمره معاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وطلحة بن عبيد الله وأحزابهم وأتباعهم من أساليب ماكرة لاستخلاف عثمان واستيلاء على رقاب المسلمين بكل ذريعة ميسورة.

وبدأ الناس في اليوم التالي لمدفن عثمان بن عفان يخرجون من بيوتهم أفراداً وجماعات يتحدثون عن الفتنة الكبرى التي وقعت وانتهت في ظاهرها بمقتل عثمان بن عفان. فمنهم من يعزو أسبابها إليه بعينه أو الى الفئة المحيطة به ليل نهار، ومنهم من يجرده تجريداً شاملاً منها فليس هو يعلم بها ولا يجيزها ومنهم من يدينه من جراء جملة من قضاياه فإنه قد أوى الحكم بن أبي العاص وأعطاه مئة ألف درهم بعدا كان قد أبعده رسوله الله إلى الطائف من جراء مساوئه ولم يوافق بعدئذ أبو بكر الصديق ولا عمر بن الخطاب على عودته إلى المدينة في أبان خلافتهما وانه قد أعطى الحارث بن الحكم وهو أخو مروان بن الحكم أرض (مهرزور) وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد جعلها وقفاً لتكون سوقاً لأهل المدينة خاصة وانه قد أقطع (روان بن الحكم) تمام ضيعة فدك اقطافاً وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد جعلها وقفاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 23 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خاصاً كذلك، وانه أعطى الخمس من مغانم المسلمين لمروان بن الحكم بعد فتح أفريقية، وانه قد أعطى (عبد الله بن خالد بن أسد) صلة مالية أربعمائة ألف درهم. ثم انه قد أمر بابعاد الشيخ الصالح (ابي ذر الغفاري) إلى قبعة (الربذة) النائية حتى مات فيها، وأبعد من البصرة (عامر بن عبد القيس) إلى الشام فانطلق إليه قوم من أهل مصر فيهم محمّد بن أبي حذيفة بن عتبة في جند، وكنانة بن بشر التجيبي في جند. وابن عديس البلوي في جند، وحكيم بن جبلة العبدي، وسدوس بن عبيس الشني ونفر من أهل الكوفة بينهم (الأشتر بن الحارث النخعي) في شهر شوال من السنة الخامسة والثلاثن فلما قابلوه واستعتبوه فأعتبهم وأرضاهم فانصرفوا عنه، ولكنهم في خلال انصرافهم إلى مصر وجدوا كتاباً من عثمان أو منسوباً إليه بخط كاتبه وعليه خاتمه إلى أمير مصر يقول فيه إذا أتاك القوم فاضرب أعناقهم فعادوا به إلى عثمان في المدينة(19) ولبث الإمام عليّ بن أبي طالب طوال خمسة أيام متوالية، قاعداً في داره بعد مدفن عثمان بن عفان وهو يستقبل ناساً بعد آخرين من غير أن يعلن لهم موافقته الأيجابية على قبول منصب الخلافة الإسلامية إذ كان يتحاشى تعريض نفسه وقتئذ لمشكلات خاصة به ومشكلات عامة مع بعض الطامعين في سرائرهم في استخلاف عثمان بن عفان بدعاوى مصنوعة وحجج واهية النسج ما أنزل الله بها من سلطان. وفي ضحى اليوم الخامس بعد مدفن عثمان اقتل إليه فريق من علية المسلمين فيهم (طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام) فاقتنعوه بعد اصراره ونقاش هادئ بضرورة الرضوخ لقبول منصب الخلافة الإسلامية المعروضة عليه

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 24 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فاشترط عليهم أخيراً أن تكون (المبايعة له) عامة في المسجد الجامع فأذعنوا لشرطه وبايعوه خليفة على المسلمين كافة. وكان في مقدمة المبايعين له من غير اكراه طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وخطب الإمام عليّ (عليه السلام) بعد انتخابه خليفة للمسلمين فقال: أيها الناس، ان أحق الناس بهذا الأمر (الإمامة) أقواهم عليه لا وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى، قوتل، ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها الناس عامة وا  إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس الشاهد أن يرجع ولا الغائب أن يختار(20).

وأيضاً خطب في يوم آخر فقال: (اللّهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحكام ولكن لنرد المعالم من دنيك وتظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك) (21).

وكذلك خطب في الناس بشأن بيعتهم له فقال: (لم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس امري وأمركم واحدا، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم، أيها الناس أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها)(22).

ومن الجدير بنا أن نذكر هاهنا لعثمان بن عفان بعضاً من فضائله التي أخلدت ذكرى حياته فجعلتها محترمة في جانب من تاريخ الإسلام الحنيف، فهو من غير شك انه اشترى بئر معونة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 25 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من رجل يهودي في يثرب بمبلغ عشرين ألف درهم وتصدق بها على المسلمين ليستسقوا منها ما شاء لهم الاستسقاء مجاناً. واضطلع بتجهيز جيش العسرة بثلاثمائة بعير بكامل أقتابها وأحلاسها مع خمسين فرساً زيادة على تزويد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بألف دينار نقداً ليخفف بها عن الحاجة إلى اقتناء شتى لوازم الحرب للظهور يومذاك على المشركين وغير ذلك.

ومن الحوادث التاريخية غير المنسجمة مع حسن التصرف الفكري أن يبرئ فريق من المسلمين عقيب انتخابهم الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) خليفة للمسلمين فيطلبوا منه شيئاً أن يدعوا جميع الذين باشروا مقتل عثمان بن عفان في داره فيحاكمهم ويقتص منهم جزاء وفاقاً في حين انّ هؤلاء المطالبين بتنفيذ الاقتصاص يعلمون تمام العلم ان الذين أجلبوا عليه فقتلوه في داره أرهاطاً متفرقة جاءوا من بلاد متباعدة فتعارفوا مع الذين ناصروهم من أهل المدينة نفسها وان التحقيق في أمر جريمتهم يقتضي زمناً طويلاً ليس باليسير كما هم يظنون. فمن بين هؤلاء المجرمين ناس كانوا محتشدين خارج الدار يحرضون سواهم على اقتحام الدار على عثمان. ومنهم الذين تسلقوا إليه الجدار المجاور لداره وأحدثوا قتله، ومنهم الذين نفذوا فعلاً جريمة القتل ابتداء وانتهاء وكأن من بينهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وتظهيرهما من ذوي المقاصد الخفية لنيل الزعامة أو اقتناء المغانم وقد ذهبوا مع عائشة بنت أبي بكر إلى البصرة يطالبون بالثأر لإراقة دم عثمان. ومنهم مروان بن الحكم ومن ناصره من عشيرته وأنداده المتهورين وقد التجاؤا بادئ ذي بدء إلى معاوية في الشام ثم انصرفوا عنه إلى البصرة ليشاركوا عائشة ويناصروها على الثأر لمقتل عثمان ومنهم ناس قد نهبوا ما كان على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 26 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نساء عثمان وقريباته من حلي وما كان في داخل الدار من نفائس اخر وأموال مختلفة فكيف يستجيب الإمام لطلبهم في خلال تلك المدة العصيبة فهل يترك منطقة البصرة ليقع فيها ما يقع؟ أو يترك معاوية يمكر في الشام ما يمكر؟ أو يتيح السبيل لأنصار معاوية أن يتسللوا إلى اليمن لتخذيل المسلمين فيه عن المشاركة في نصرته عسكرياً وان نصرته لنصرة الدين الحنيف.

لكن الإمام عليّ (عليه السلام) بقي داخل المدينة راسخ الكيان قوي الإيمان لتنبيه أعداء المسلمين صمتا إلى ان الحكومة الإسلامية حازمة عارمة دائماً لن تنتكس لمجرد مقتل عثمان في المدينة أو عصيان معاوية في الشام وليس من مراء أبداً في ان الإمام عليّ (عليه السلام) هو رجل حرب وسياسة وتقوى أي انه ارتكب ولن يتركب في يوم من أيام حياته ذريعة من ذرائع الغدر أو التذلل أو المكر لبلوغ هدف من أهدافه الإسلامية المجيدة ولذلك تهيأ يومذاك بأسرع مدة اغتنمها للسير إلى البصرة بجيش إسلامي مخلص ليخضد شوكة الثائرين فيها للمطالبة بدم عثمان بن عفان. ولا شك عندي في قليل أو كثير بأن (طلحة والزبير ومعاوية ومروان بن الحكم هم الذين استدرجوا أم المؤمنين (عائشة بنت أبي بكر) لكي تتولى قيادة الجيش في البصرة استغلالاً لمكانتها الدينية بين الناس وارتكازاً على سمعتها لكسب المعركة على التوكيد إلاّ ان الحرب ما كادت تنشب بين الفريقين المتبارزين حتى كشفت منها للعيان حقائق مهمة ففي اليوم الثاني انهزم من الميدان (أبان بن عثمان) مرتكباً ثم قتل (طلحة بن عبد الله ) بسهم قتال أطلقه عليه (مروان بن الحكم) فدفن في منطقة (الهجريين) في منطقة البصرة ولا يزال قبره الآن معروفاً عند الناس. وأمّا الزبير بن العوام فقد خرج من المعركة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 27 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نادماً واتجه إلى واد السباع خارج البصرة ناوياً أن يبلغ المدينة فلقيه في الطريق عمرو بن جروز وانتهز مهلة لقتله فقتله غيلة جبانة ثم دفن في ذلك الوادي وعمره إذاك أربع وستون سنة.

واستدراكاً لسياق الحديث نذكر بأن الخليفة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنفذ عبد الله بن عباس قبيل وقعة الجمل إلى مقابلة الزبير بن العوام وأوصاه قائلاً: لا تلقين طلحة فإنك ان تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه يركب الصعب ويقول هو الذلول ولكن، الق الزبير فإنه ألين عريكة. فقل له: يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا، فأجابه الزبير قائلاً: انا مع الخوف الشديد لنطمع(23).

وخطب الإمام عليّ (عليه السلام) في الناس قبل مسيره فقال: ان الله سبحانه بعث محمّداً وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي النبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم، وبلغهم منجاتهم فاستقامت قتاتهم واطمأنت صفاتهم. أما والله ان كنت لفي ساقتها حتى تولت بحذافيرها ، ما عجزت ولا جبنت وان مسيري هذا لمثلها فلاتقين الباطل حتى يخرج الحق من جنبه، ما لقريش ومالي؟ والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقتلهم مفتونين وإنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم ما تنقم منا قريش إلاّ ان الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا(24)؟:

قال أبو جعفر الطبري: وسار عليّ (عليه السلام) نحو البصرة، ورايته مع ابنه محمّد بن الحنفية، وعلى ميمنته عبد الله بن عباس وعلى ميسرته عمر بن أبي سلمة، وعلي في القلب على ناقة حمراء يقود فرساً كميتا فلتقاه في (فيد)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 28 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

غلام من بني سعد بن ثعلبة يدعى (مرة) فقال من هؤلاء؟ قيل هذا أمير المؤمنين، فقال سفره قانية فيها دماء من نفوس فانية، فسمعها أمير المؤمنين عليه السلام فدعاه فقال:

ما اسمك؟ قال: مرة قال (عليه السلام) أمر الله عيشك، أكاهن سائر اليوم بل عائف، فخلى سبيله ونزل في فيد قاتنه اسد وطيىء فعرضوا عليه أنفسهم فقال (عليه السلام): الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية. وقدم رجل من الكوفة (فيدا) فأتي عليّاً (عليه السلام) فقال له من الرجل؟ قال عامر بن مطرف قال الليثي: قال الشيباني. قال: أخبرني ما وراءك؟ قال: أردت الصلح (فأبو موسى صاحبك وإن أردت القتال فأبو موسى الأشعري لك بصاحب فقال (عليه السلام) ما أريد إلاّ الصلح، إلاّ أن يرد علينا.

قال أبو جعفر الطبري: وقدم عليه عثمان بن حنيف، وقد نتف طلحة والزبير شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال: يا أمير المؤمنين، بعثتني ذا لحية وجئتك أمرد؟ فقال (عليه السلام): أصبت خيراً وأجراً ثم قال: أيها الناس ان طلحة والزبير بايعاني ثم نكثاني بيعتي، وألبا عليَّ الناس، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما عليّ. والله انهما ليعلما أني لست من دونهما اللّهم فاحلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملا(25).

ولما انتهى القتال بين الفريقين انطلق الإمام (عليه السلام) نحو الميدان ومن حوله جمهور كبير من أصحابه فأقام الصلاة على جميع القتلى من أصحابه ومن أعدائه. وكان عدد القتلى مجهولاً من يومذاك حتى يومنا هذا.

ثم انصرف نحو البصرة يوم الأثنين أي بعد الوقعة بثلاثة أيام فانتهى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 29 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى المسجد الجامع فصلى فيه فأتاه الناس يهرعون مستخبرين فارتقى المنبر وخطبهم فقال(26): أما بعد فإن الله ذو رحمة واسعة ومغفرة دائمة وعقوجم وعقاب أليم قضى ان رحمته ومغفرة وعفوه لأهل الطاعة من خلقه وبرحمته اهتدى المهتدون. وقضى ان نقمته وسطوته وعقابه على أهل معصيته من خلقه بعد الهدى والبينات ما ضل الضالون.

فما ظنكم يا أهل البصرة، وقد نكثتم بيعتي وظاهرتم عليَّ عدو عدوي؟ فقام إليه رجل فقال: تظن خيراً. ونراك قد ظهرت وقدرت فإن عافيت فقد اجترمنا، وإن عفوت فالعفو أحب إلى الله تعالى فقال الإمام (عليه السلام) قد عفوت عنكم، وإياكم والفتنة فإنكم أول الرعية نفث التيعة وشق عصا هذه الأمة. ثم جلس للناس فبايعوه على راياتهم حتى الجرحي والمستأمتة.

ثم راح إلى عائشة بنت أبي بكر على بغلته، فلما انتهى إليها في دار عبد الله بن حلف ودخل إليها سلم عليها وقعد عندها ودار بينهما بعض الحديث، ثم قام لينصرف أشار إلى أبواب مغلقة في الدار فقال: لو فتحتها وجدت فيها لاجئين إلى حماك مثل (مروان بن الحكم) وعبد الله بن الزبير. ثم أمسك عن الكلام وانصرف لشأنه إلى بيت المال. ولما نظر فيه وجد حواياته الجاهزة ستمائة ألف درهم فقسمها على من شهد المعركة منهم فأصاب كل واحد خمسمائة درهم على السواء، ثم جلس فكتب بالفتح إلى الكوفة:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة. سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد. فإن الله حكم عادل لا يغيروا ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. أخبركم عنا وعمن سرنا إليهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 30 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من جموع أهل البصرة وان تأشب إليهم من قريش وغيرهم من طلحة والزبير ونكثهم صفقة ايمانهم فنهضت من المدينة حتى انتهى إليَّ خبر من سار إليها وجمالعتهم ما فعلوه بعاملي (عثمان بن حنيف) حتى قدمت (ذاقار) فبعثت الحسن بن عليّ وعمار بن ياسر وقيس بن سعد فاستنفرتكم بحق الله وحق رسول الله وحقي. فأقبل إليَّ اخوانكم سراعاً فسرت إليهم حتى نزلت ظهر البصرة، فأعذرت بالدعاء، وقمت بالحجة، واقلت العثرة والزلة من أهل الردة من قريش وغيرهم واستعتبتهم من نكثهم بيعتي وعهد الله عليهم، فأبوا إلاّ قتالي وقتال من معي، والتمادي في الغي فناهضتهم بالجهاد. فقتل الله من قتل منهم ناكثاً، وولى من ولى إلى مصرعهم وقتل طلحة والزبير وخذلوا وادبروا وتقطعت بهم الأسباب ولما راوا ما حل بهم سالوني العفو عنهم فقبلت منهم وغمدت السيف عنهم وأجريت الحق والسنة فيهم واستعملت (عبد الله بن عباس) على البصرة وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى، وقد بعثت إليكم زجر بن قيس الجعفي لتسألوه فيخبركم عنا وعنهم وردهم الحق علينا ورد الله لهم وهم كارهون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(27).

ثم جهز عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عائشة بنت أبي بكر بكل  شيء ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع. وأخرج معها كل من نجا فمن خرج معها إلاّ من أحب المقام. وأختار لها الإمام (عليه السلام) أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات وأرسل معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر، وخرجت إلى المدينة يوم السبت أول أيام رجب سنة ست وثلاثين هـ . وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الكوفة وقد استخلف على البصرة عبد الله بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 31 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عباس. وولى على الخراج وبيت المال زياد بن أبيه(28).

وكتب إلى أمراء جنوده أن لكم عندي خير ما تتوقعون. لكم عندي إلاّ احتجز دونكم سراً إلاّ في حرب ولا أطوي عنكم أمراً إلاّ في حكم ولا أوخر حقاً لكم عن محله ولا أرزاكم شيئاً, وان تكونوا عندي في الحق سواء فإن أبيتم أن تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أمون عليَّ ممن فعل ذلك منكم. ثم أعاقبه عقوبة لا يجد عندي فيها هوادة.

وكتب إلى أمراء الخراج: أرحموا ترحموا ولا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم وأنصفوا الناس من أنفسكم وأصبروا لحاجاتهم. فإنكم خزان الرعية لا تتخذن حجاباً ولا تحجبن أحداً عن حاجة حتى ينهيها إليكم لا تأخذوا بأحد إلاّ كفيلاً عمن كفل عنه، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير إلا كفيلاً عمن كفل عنه. وإياكم وتأخر العمل ودفع الخير فإن في ذلك الندم.. والسلام(29).

ومن كتاب من الإمام عليّ (عليه السلام) إلى معاوية قال: فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتبعة مع تضيع الحقائق واطراح الوثائق التي هي لله طلبة، وعلى عبادةه حجة، فأما اكثارك الحجاج في عثمان وقتلته فغنك انما نصرت عثمان حين كان النصر لك وخذلته حيث كان النصر له(30).

ولما بلغ معاوية ما انتهت إليه (معركة الجمل) وما نزل بالزبير بن العوام وطلحة بن عبيد خاصة وكيف انصرفت عائشة غير موفقة إلى مدينة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 32 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(يثرب). خامرته أحاسيس وشكوك مربكة جعلته مضطراً في آخر الأمر أن ينشر (قميص عثمان الملطخ بدمه) على رمح شاهق في الشام فيجتمع في كل يوم حواليه جموع حاشدة من الرجال والنساء يتباكون على مقتله. ثم اهتدى بعد ذلك إلى ذريعة أخرى موائمة لخفايا نياته الدنيئة فدعا الناس إلى التضامن والتجرد للانتقام الفعلي في الكوفة من قتلة عثمان فشرعوا يناصرون ويتوافدون جماعات إلى جماعات من أجل الانتقام الشامل في حين كان معاوية بالذات لا ينفك يثير عواطفهم. ويخطب في جموعهم ويصور لهم كيف القوة بعد مقتلة في الطريق مدى ثلاثة أيام متوالية متوالية من غير دفن ولث معاوية يثيرهم بكل وسيلة ويستجمعهم حتى بلغ عددهم ثمانين ألف متطوع وفيهم كثير من شيوخ القبائل وأصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة وبايعوه أميراً عليهم وليس خليفة على جميع المسلمين، وكان من بينهم عمرو بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن ذي الكلاع ومن على شاكلتهم. ومن المعلوم ان الناس في بلاد الشام كانوا منسجمين يومذاك مع سياسة معاوية المالية والقضائية والدينية والعشائرية منذ أمد سابق في حين انهم لم يكونوا كذلك مع ما يسمعونه من سياسة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إن لم يكن عليّ بن أبي طالب في الواقع يتساهل مع أحد في أي حق اجتماعي أو ديني أو غيرهما على الإطلاق ولم يكن ليتخذ من خزانة أموال المسلمين مجلبة لقلوب الناس أو ينفق منها على الشعءار وعلى المولين لسياسته السلسلة المنقلبة في الشام.

وغني عن التوكيد ان الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قد حاول كثيراً أن يحوي قتلة عثمان عن حق ويحصيهم عدداً مع حرصه على نفسه ألا ينحرف ضمناً ساخطاً عليهم فيقع من جراء ذلك في اثم هو بريء منه. وكان كلما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 33 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يحاول كشف الجناة الحقيقيين وتشخيصهم يرى ان الذين يتقدمون أمام عينيه للاعتراف أو الإقرار يبلغون زهاء ألف شخص ولديهم من المزاعم والمبررات ما يجعله في حيرة وشكوك مربكة ولا يتيح له مجالاً خالصاً منيراً لمقاضاتهم ولا سيما بين قبائل ذوي آراء غامضة ونيات متباينة بشأن مقتل عثمان وأسباب مقتله. ويخشى في الوقت نفسه أن يسبب اضطراباً بينهم أو يستحدث مشكلة دامية بعد أمد قريب وبعيد من الزمن. لقد كان معاوية من دأبه أن يتحين كل فرصة تفيده لتحقيق ما كان يتمنى معاوية بعد وفاة الخليفة (عمر بن الخطاب) للوصول إلى دست الخلافة الإسلامية ولو في قطر إسلامي صغير بمعونة من الرجال الكبراء ذوي المطامع ويتخذهم أعواناً له يتعاظم بهم على سوية الناس. وها هي ذي قد أتيحت له تلك الفرصة خاصة في الشام نفسها ليتادي بالثأر لمقتل الخليفة عثمان بن عفان فاستغلها بصورة مقنعة للناس ولا تدعو إلى الشك وانطلق يبذل أقصى امكاناته ليجمع من حوله الوف الناس وقد أصاب حميم هدفه حينذاك واستغل ذكاءه المريب في اهمال أبناء عثمان بن عفان عن تقريبهم إليه لينادوا معه بطلب الثأر لمقتل أبيهم في مدينة يثرب لئلا يحق لهم في الأخير أن يحوزوا منفعة أو اشتراكاً في من مواقع الحكم بعد انتهاء الحرب إذا ما انتهت الحرب في مصلحتهم ضد قتلة عثمان بن عفان.

لقد خرج معاوية بن أبي سفيان من الشام على رأس ثمانين ألف مقاتل نحو الكوفة ليثأر بهم لمقتل عثمان بن عفان كما زعم يومذاك، ولما بلغ أراضي صفين ما بين العراق والشام أمر أتباعه فنزلوا بأثقالهم عليها وأقاموا خيامهم على شريعة الفرات. ثم أقبل الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 34 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكوفة على رأس سبعين ألف مقاتل فأمر بأن يقيموا خيامهم على مقربة من خيام أهل الشام ولكن الذي زعجهم حينذاك ألا يجدوا مقربة منهم سبيلاً ميسوراً للوصول إلى شريعة الماء الذي لا غنى عنه على الإطلاق، فاستدعى الإمام (عليه السلام) قادة جيشه واستوضحهم عن تيسر سبيل الماء من غير البدء بمعركة دامية، فلم يجدوا أبداً من غير الاستعانة بالسيوف للوصول إلى حيازة الماء، فانتدب لذلك قائداً من قادة جيشه هو (الأشتر النخعي) وأيده بمئة مقاتل لتيسير حيازة الماء دائماً لجيش الإمام (عليه السلام) من غير معارضة فقاتلهم مالك الأشتر فطردهم من الشريعة وغلبهم عليها ولما أخذوا ما يكفيهم من الماء سمحوا لجيش معاوية أن يأخذوا بعدهم ما يشاؤون من ماء الفرات فانطلق عمر بن العاص إلى معاوية وقال له: ألم أقل لك لا تمنع الماء عن جيش عليّ بن أبي طالب وإلاّ فانهم سوف يخزونك بارغام جيشك على الفرار من الشريعة وينقلون ما يشاؤون من الماء من غير مخافة أو اصطبار؟ فلم ينبس معاوية ببنت اعتذار معقول فلبثوا كجيش الإمام عليّ (عليه السلام) يأخذون من ماء الفرات ما شاؤوا ومتى شاؤوا ليدرك الأذكياء المدركون ان (عليّ بن أبي طالب) ليس قاسياً ولا منحرفاً بذاته ولا ينبغي الفرقة بين المسلمين أو التنكيل بطائفة منهم في مقام الاصلاح فاستدعى عليّ (عليه السلام) (بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري) وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن الربعي التميمي وأوكل إليهم أن يذهبوا إلى مواجهة (معاوية) يوجاهروه بالحسنى عسى أن يستدرجوه إلى الطاعة والجماعة قبل سفك الدماء، فانصرفوا إلى معاوية حتى دخلوا عليه استفؤهم القعود بادر  (أبو عمرو بن محصن) فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد يا معاوية فإن الدنيا عنك زائلة، وانك راجع إلى الآخرة وان الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 35 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجازيك بعملك ومحاسبك بما قدمت يداك وانني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الأمة، وألا تسفك دماءها بينها. فقطع عليه معاوية الكلام وقال فهلا أوصيت صاحبك فقال سبحان الله صاحبي لا يوصى. ان صاحبي ليس مثلك صاحبي أحق الناس بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول. قال معاوية فنقول ماذا قال: أدعوك إلى تقوى ربك، واجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دينك. وخير لك في عاقبة أمرك. قال معاوية ويظل دم عثمان؟ لا والرحمان لا أفعل ذلك أبداً(31) . فعقب على ذلك الحديث (شبث بن الربعي) وقال: بعد حمد الله والثناء عليه، يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن، انه لا يخفى علينا ما تقر وما تطلب، غنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس ولا شيئاً تستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا انه قلت لهم، قتل إمامكم مظلوماً فهلموا نطلب بدمه فاستجاب لك سفهاء طغام رذال، وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر عامداً لمآرب في نفسك وأجبت له القتل لهذه المنزلة التي تطلب. ورب مبتغ أمراً وطالب له يحول الله دونه، وربما أوتى المتمني أمنيته وربما لم يؤتها وواله مالك في واحدة منها خير. والله لئن أخطأك ما ترجو انك لشر العرب حالاً، ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلي النار، فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله(32).

فتقلقل معاوية في مجلسه ثم قال بعد حمد الله والثناء عليه. (أما بعد فإن أول ما عرفت من سفهك وخفة حلمك قطعك على الحسيب الشريف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 36 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيد قومه منطقه. ثم عبثت بعدئذ فيما لا علم لك به، وقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الحليف الجافي في كل ما وصت وذكرت. انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف وغضب فخرج القوم وشبث يقول: أعلينا تهول بالسيف، أما والله لنجعله إليك) (33) ولما حضروا بين يدي عليّ بن أبي طالب شرحوا كل الذي دار بينهم وبين معاوية وذلك في شهر ربيع الآخر من السنة السادسة والثلاثين.

وخرج قراء أهل العراق وقراء أهل الشام فعسكروا ناحية صفين في ثلاثين ألفاً وعسكر عليّ (عليه السلام) على الماء وعسكر معاوية أعلى منه على الماء ومشت القراء فيما بين عليّ (عليه السلام) ومعاوية منهم عبيد السلماني وعلقمة بن قيس النخعي وعبد الله بن عتبة وعامر بن عبد القيس، فدخلوا على معاوية فقالوا: يا معاوية ما الذي تطلب قال: أطلب بدم عثمان، قالوا ممن تطلب بدم عثمان قال: أطلبه من عليّ، قالوا : هو قتله؟ قال: نعم هو قتله.

وأوى قتلته، فانصرفوا من عنده فدخلوا إلى عليّ (ع ) فقالوا: ان معاوية يزعم انك قتلت عثمان. فقال: اللههم لكذب فيما قاله، لم أقتله، فرجعوا إلى معاوية فأخبروه. فقال لهم: انه لم يكن قتله بيده وأنه أمر ومالأ. فرجعوا إلى عليّ فقالوا إن معاوية يزعم انك لم تكن قتلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان فقال: أللهم لكذب فيما قال. فرجعوا إلى معاوية فقالوا ان عليّاًً يزعم انه لم يفعل، فقال معاوية: ان كان صادقاً فليقدنا من قتلة عثمان فانهم في عسكره وجنده وأصحابه وعنده، فرجعوا إلى عليّ (عليه السلام) فقالوا: ان معاوية يقول لك ان كنت صادقاً فادفع إلينا قتلة عثمان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 37 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أو مكنا منهم، فقال لهم ان القوم تأولوا عليه القرآن ووقعت الفرقة.. فقتلوه في سلطانه، وليس على ضربهم مثلهم قود. فخصم (رد أو نفي) على معاوية(34).

لقد كان معاوية مصمماً يومذاك على الحرب منذ خروجه من الشام، مؤملاً أن ينتصر أخيراً فيصيب قسطاً من السلطة في الشام وهو يعلم ان قتلة عثمان الحقيقين هما اثنان (قتيرة بن وهب، وسودان بن حمران) وكلاهما قتلا في يوم الدار نفسه على أيدي (عبيد عثمان بن عفان) ولم يبق لهما وجود في جيش الإمام عليّ (عليه السلام) يومذاك. وأما من سواهما من الحضور فلم يكونوا قتلة بالفعل وإنما شاركوا في الاغراء به وحصره والهجوم على داره وهم: (عمرو بن الحمق الخزاعي والأشتر النخعي ومحمّد بن أبي بكر) وآخرون على شاكلتهم على هؤلاء قود يحكم الشرع.

ولذلك عاد معاوية فاعترض بقوله: ما دام الأمر كما تزعمون فلماذا ابتز الأر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا؟

فقال الإمام (عليه السلام) ان الناس تبع المهاجرين والأنصار – في مثل هذا الأمر – وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني ولست أستحل أن ادع ضرب (مثل) معاوية يحكم بيده على الأمة ويشق عصاهم،فرجعوا إلى معاوية وأخبروه بذلك، فقال ليس كا يقول، فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر ويؤمروا فيه؟ فانصرفوا إلى عليّ بن أبي طالب فأخبروه بقوله، فقال ويحكم هذا (للبدريين حسب) دون الصحابة، وليس في الأرض بدري إلا وقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 38 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بايعني وهو معي وقد رضي، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم.

ولبثوا على تلك الحال ثلاثة أشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة وهم مع ذلك يفزعون الفزعة فيما بينهم ونحجز القراء بينهم وقد بلغ عدد تلك الفزعات خمساً وثمانين فزعة لا يقع بينهم قتال(35).

ولما استقبل الناس شهر صفر من السنة السابعة والثلاثين للهجرة جمع الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قادة جيشه وقال لهم: إني لأخشى أن يزعم معاوية لجيشه بأننا نحن نروم أن نتجنب الحرب بهذا الصمت خوفا من أن يصيبنا دحر أمام جيشهم خاصة بعد خروجنا نحن منذ قريب من حرب الجمل ولذلك فإني سوف أرسل غداً وهو اليوم الأول من صفر نفراً من أصحابنا لينادوا في أزاء معسكر أهل الشام بأنني قد استأنيت بكم لتراجعوا الحق وتثبتوا إليه وتعتصموا به واحتججت عليكم بكتاب الله ودعوتكم إليه فلم تحيدوا عن غلوائكم ولم تجيبوا إلى حق. وإني قد نبذت إليكم على سواء، ان الله لا يحب الخائنين. وفي صباح اليوم التالي بادر الجانبان المتعاديان إلى تعبئة عساكرهم وكتبوا كتائبهم وانطلق الإمام (عليه السلام) يدور بين صفوف عساكرهم يوصيهم (أن لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فهي حجة أخرى لكم عليهم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة. ولا تسئلوا قتيلاً، فإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً إلاّ بإذني، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم ولا تهجوا امرأة إلاّ بإذني وان شتمن أعراضكم، وتناولن أمراءكم وصلحاءكم فانهن ضعاف القوى والأنفس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 39 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والعقول، ولقد كنا وانا لنؤمر بالكف عنهن وهو مشركات، وان كان الرجل ليناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده. عباد الله: اتقوا الله وغضوا أبصاركم واخفظوا الأصوات. واقلعوا الكلام ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجادلة والمبارزة والمعانقة، واثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) (36).

وكان ترتيب عسكر (عليّ عليه السلام) بموجب ما رواه عمرو بن شمر عنه جملة الرواة انه جعل على الخيل (عمار بن ياسر) وعلى الرجالة (عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي) ودفع اللواء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري، وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس وعلى الميسرة عبد الله بن العباس. وجعل على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزكاعي وعلى رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبيدي وجعل القلب مضر الكوفة والبصرة جميعاً وجعل على ميمنة القلب اليمنى وعلى ميسرته ربيعة، وعقد ألوية القبائل أيضاً... وهكذا انتظمت القبائل تحت ألويتها المعقودة تحت قيادة رؤسائها وأمرائها باشراف عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وأما معاوية فاستعمل على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب وعلى الرجالة مسلم بن عقبة المري وجعل على الميمنة عبد الله بن عمر بن العاص وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة الفهري وأعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وجعل على أهل دمشق وهم القلب الضحاك بن قيس الفهري. وعلى أهل حمص وهم الميمنة ذا الكلاع الحميري، وعلى أهل قنسرين وهم في الميمنة أيضاً زفر بن الحارث الكلابي وعلى أهل الأردن ومم في الميسرة سفيان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 40 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بن عمرو أب الأعور السلمي، وعلى أهل فلسطين. وهم في الميسرة أيضاً مسلمة بن مخلد وعلى رجالة أهل دمشق بشر بن أبي ارطاة العامري وعلى رجالة أهل حمص (حوشبا ذا ظليم) وعلى رجالة قيس – طريف بن حابس الألهاني .. وهكذا انظمت القبائل تحت ألويتها المعقودة تحت قيادة رؤسائها وأمرائها باشراف معاوية بن أبي سفيان.

وفي اليوم الأول من شهر صفر سنة سبع وثلاثين وكان يوم الأربعاء اقتتل رجال من هؤلاء ورجال من هؤلاء قتالاً شديداً ثم توقف القتال بينهم بعد منتصف النهار من غير أن يفوق أحدهما على الآخر وكان الشمرف على تنظيم الرجال العراقيين في ذلك اليوم (الأشتر النخعي) وعلى تنظيم الرجال الشاميين  (حبيب بن مسلمة) ثم برز هاشم بن عتبة في اليوم الثاني يتقدم رجالاً من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وهم على خيل حسنة فبرز له أبو الأعور السلمي بجماعة من أهل الشام فاقتتلوا جميعاً ثم اقتتلوا نهارهم كله حتى انصرفوا إلى معسكراتهم لأداء الصلاة من غير أن يفوق أحد الجانبين على الآخر، وفي اليوم الثالث وكان يوم الثلاثاء برز عمار بن ياسر على الرجالة ومعه على الخيل زياد بن النظر, وكان عمر بن العاص على متقدمي جيش معاوية للحرب، فالتحم خيل الجانبين أول الأمر فلم يظهر أحدهما على الآخر فحمل عمار بن ياسر بمن معه من الرجال فتقهقر عمرو بن العاص عن موقفه. وفي المساء انصرف عمار بن ياسر مع مرافقيه لأداء الصلاة من غير أن يحرر نصراً على أعدائه وروى نصر بن مزاحم في كتابه (صفين) ان (عليّ بن أبي طالب) نظر إلى رايات معاوية وأهل الشام فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انهم ما أسلموا ولكن استسلموا يوم الفتح للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولما وجدوا أعواناً لهم اليوم رجعوا إلى عدواتهم لنا، ألا انهم لهم يتركوا الصلاة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 41 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروى نصر بن مزاحم أيضاً عن عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال: لما كان قتال صفين قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقضان.. ألم يقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): قاتلوا الناس حتى يسلموا فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم؟ قال: بلي, ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً.

وروى نصر في كتاب صفين ان عمرو بن العاص كان عدواً للحارث بن نضر الخثعمي صاحب عليّ بن أبي طالب، وكان عليّ (عليه السلام) معروفاً بغاية الشجاعة بين أهل الشام فلا يبارزه أحد إلاّ في الندرة القليلة، وكان عمرو بن العاص قلما يجلس مجلساً إلاّ ذكر فيه الحارث بن نضر وعابه معابة جارحة فقال فيه الحارث بن نضر الخثعمي:

ليس عمرو نبارك ذكره الحارث *** بالسؤ أو يلاقي عليّاً

واضع السيف فوق منكبه الأيمن*** لا يحسب الفوارس شيا

ليت عمرا يلقاه في حومة النقع*** وقد أمست السيوف عصيا

... إلخ.

فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمرا فأقسم بالله ليلقين عليّاً ولو مات ألف موتة. فلما اختلطت الصفوف لقيه (عمرو) فحمل عليه برمحه فرجع إليه الإمام (عليه السلام) شاهراً سيفه فألقى عمرو نفسه عن فرسه كاشفاً عورته فانصرف عنه الإمام(37).

وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب استيعاب ان (بسر بن ارطاة) من الأبطال الطغاة وكان مع معاوية في صفين فأمره أن يلقى عليّاًً (عليه السلام) في القتال، وقال له: إني سمعتك تتمنى لقاءه فلو أظفرك الله به وصرعته حصلت على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 42 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدنيا والآخرة ولم يزل يشجعه ويمنيه حتى رأى عليّاً (عليه السلام) في الحرب فقصده، فالتقيا فقصده عليّ بن أبي طالب فصرعه أرضاً فرفع ساقيا وكشف عن عورته. ولما بدت سوأته انصرف عنه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وعسكر معاوية يضحكون ثم قال أبو عمر بن عبد البر وللشعراء أشعار مذكورة في موضعها فمنها ذكر ابن الكلبي والمدائني:

أفي كل يوم فارس لك ينتهي*** وعورته وسط العجاجة بادية

يكف لها عنه عليّ سنانه*** ويضحك منها في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه*** وعورة بسر مثلها حذو حاذيه(38)

وجملة القول ان الحرب استمرت بين الفريقين أربعين صباحاً بين حرب متصلة ومنقطعة وما بين شديدة منهكة وبين واهنة غير منهكة حتى قتل من أهل الشام خمسة وأربعين ألف مقاتل. ومن العراقين خمسة وعشرين ألف مقاتل، ثم خرج عليّ بن أبي طالب وقال لمعاوية للمرة الثانية علام تقتل الناس بيني وبينك لحاكمك إلى الله عز وجل فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر فقال معاوية لأصحابه: يعلم انه لا يبارزه أحد إلا قتله(39).

وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين ج 8 ص 10 :ان عماراً بن ياسر نادى في صفين قبل مقتله بيوم أو يومين أين من يبغي رضوان الله عز وجل ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟ فأتته عصابة من الناس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 43 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم الذين يتبعون دم عثمان ويزعمون ان قتل مظلوما. والله ان كان إلاّ ظالماً لنفسه. الحاكم بغير ما أنزل الله.

ودفع عليّ (عليه السلام) الراية إلى (هاشم بن عتبة بن أبي وقاص) وكان عليه ذلك اليوم درعان، فقال له عليّ (عليه السلام) كهيأة المازح – أبا هاشم، أما تخشى على نفسك أن تكون أعور جباناً؟ قال ستعلم يا أمير المؤمنين والله لألفن جماجم هؤلاء لف رجل ينوي الآخرة. فأخذ رمحاً فهزه فانكسر. ثم أخذ آخر فوجد جاسياً فالقاه. ثم عاد برمح لين فشد به اللواء(40).

وروى نصر بن مزاحم قال حدثنا عمر بن سعد قال: بينما عليّ بن أبي طالب كان واقفاً بين جماعة همدان وحمير وغيرهم من افناء واخلاط قحطان إذ نادى رجل من أهل الشام من دل على أبي نوح الحميري فقيل له قد وجدته فماذا تريد؟ فحسر عن لثامه فإذا هو ذو الكلاع الحميري ومعه جماعة من أهله ورهطه.. فقال لأبي نوح سر معي؟ قال إلى أين؟ قال: إلى أن نخرج عن الصف، قال: ما شأنك قال: ان لي إليك لحاجة(41).

قال أبو نوح... معاذ الله أن أسير إليك إلاّ في كتيبة. قال ذو الكلاع بلى: فسر فلك ذمة الله وذمة رسوله وذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك، فإنّي أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه.  فسار أبو نوح وسار ذو الكلاع فقال له: إنما دعوتك أحدثك حديثاً حدثاه عمرو بن العاص قديما في خلافة عمر بن الخطاب ثم اذكرناه الآن به فأعاده، انه يزعم انه سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: يلتقي أهل الشام وأهل العراق في احدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر. فقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 44 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبو نوح: نعم والله انه لفينا قال: نشدتك الله أجاد هو على قتالنا؟ قال أبو نوح: نعم ورب الكعبة، لهو أشد على قتالكم مني ولوددت انكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم... وأنت ابن عمي قال ذو الكلاع: ويلك علام تمني ذلك منا؟ فوالله ما قطعتك فيما بيني وبينك قط. وان رحمك لقريبة، وما يسرني أن أقتلك. قال أبو نوح ان الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبة،ووصل به أرحاماً متباعدة وإني قاتلك وأصحابك لأنا على الحق وأنتم على الباطل. قال ذو الكلاع: فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام فأنا لك جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص. فتخيره بحال عمار وجده في قتالنا لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين؟

قلت: واعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار. ولا يعتريهم الشك لمكان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ويستدلون على ان الحق مع أهل العراق يكون عمار بين أظهرهم، ولا يعبأون بمكان عليّ (عليه السلام) ويحذرون من قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (تقتلك الفئة الباغية) ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في عليّ (عليه السلام): (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) ولا لقوله: (لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق)(42).

كان عليّ بن أبي طالب في أشد أيم صفين يباشر الحرب بنفسه مع جنوده الأبطال حتى لقد صارحوه إلاّ بخامر الغمرات السود ما داموا قائمين حواليه، فيجيبهم قائلاً: ألست معكم من جند الله أما معاوية بن أبي سفيان فلم يكن كذلك ولا يخترمه أسف باهظ على مقتل بطل بريء من أبطال المسلمين إذ كان يجلس في أقصى الحومة تحت قبة من الكرابيس السميكة ومن حوله الرجال الأشداء يحمونه ويحمون مصالحهم معه من كل

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 45 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأواء ومن كل أذى.

وفي هذا اليوم وهو اليوم السابع من أيام صفين كان أول فارسين التقيا فيه (حجر الخير، حجر بن عدي، وحجر الشر الكنده بن عمه) وهو من أصحاب معاوية قاطعنا برمحيهما وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة الأسدي من عسكر معاوية فضرب حجر بن عدي ضربة شديدة برمحه فحمل أصحاب عليّ (عليه السلام) فهرب ناجياً نحو معسكر معاوية بعدما قتل حجر الخير، ثم برز حجر الشر من جديد فبرز إليه الحكم بن أزهر. من أهل العراق فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري من جيش العراق فقتله وعاد إلى أصحابه يقول: الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر(43).

ثم ان عليّاً (عليه السلام) دعا أصحابه أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده إلى الشام فقال: من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في المصحف هذا؟ فسكت الناس وأقبل فتى اسمه سعيد فقال: أنا صاحبه وأعاد القول ثانية، فسكت الناس وتقدم الفتى سعيد فقال: أنا صاحبه، فسلمه إليه فقبضه الفتى ثم أتاهم فناشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه، فقال عليّ (عليه السلام) لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي احمل عليهم الآن، فحمل بمن معه من أهل الميمنة عليهم وجعل يضرب بسيفه قدما ويقول:

لم يبق غير الصبر والتوكل*** والترس والرمح وسيف مقصل

ثم التمشي في الرعيل الأول*** مشي الجمال في حياض المنهل

فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية والذين بايعوه على الموت فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل، وبعث مضطراً إلى حبيب بن مسلمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 46 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه واختلط الناس واضطرم الفيلق، ميمنة أهل العراب وميسرة أهل الشام وأقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدما حتى أزال معاوية عن موقفه منهزماً وجعل عبد الله ينادي يا لثارات عثمان وإنما يعني أخا له قد قتل، وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان وتراجع معاوية القهقري كثيراً وأشفق على نفسه وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية يستنجده ويستصرخه ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فكشفها حتى لم يبق مع بن بديل إلاّ نحو مئة إنسان من القراء فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم وأمر ابن بديل في الناس وصمم على مقتل معاوية، وهو يطلب موقعه ويصمد نحوه حتى انتهى إليه فاضطرب معاوية غاية الاضطراب فنادى في الناس.. ويلكم: الصخر والحجار إذا عجزتم وكللتم عن السلاح!! فرضخه الناس بالصخر والحجارة جميعاً حتى أثخنوه فسقط أرضاً فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه(44).

قال الراوي نصر بن مزاحم في كتاب (صفين) ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة صفين: حدثنا عمر بن سعد عن سليمان الأعمش عن إبراهيم النخعي قال : حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوي، قال: والله اني لواقف قريبا من عليّ (عليه السلام) بصفين يوم (وقعة الخميس) وقد التفت،مذحج وكانوا في ميمنة عليّ (عليه السلام) وعك ولخم وجذام والأشعريون، فلقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس وخبط الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى ما الجبال تهد ولا الصواعق تصعق بأعظم من هؤلاء من الصدور من تلك الأصوات، ونظرت إلى عليّ (عليه السلام) وهو قائم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 47 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فدنوت منه فأسمعه يقول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله اللهم إليك الشكوى وأنت المستعان. ثم نهض حين قام فأتم الظهيرة وهو يقول: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وحمل على الناس بنفسه وسيفه مجرد بيده، فلا والله ما حجز عن الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين.. في قريب من ثلث الليل الأول وقتلت يومئذ أعلام العرب.. وكان في رأس عليّ (عليه السلام) ثلاث ضربات وفي وجهه ضربتان وقتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وقتل أهل الشام عبد الله بن ذي الكلاع الحميري. وقال معقل بن نهيك بن يساف الأنصاري:

يا لهف نفسي ومن يشفى حزازتها*** إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقا

وأفلت الخيل عمرو وهي شاحبة*** تحت العجاج تحت الركض والعنقا

وافت منية عبدالله إذ لحقت*** قب الخيول به أعجز بمن لحقا

وانساب مروان في الظلماء مستترا*** تحت الدجى كلما خاف الردى ارقا

وقال الأشتر:

نحن قتلنا حوشبا*** لما غدا قد أعلما

وذو الكلاع قبله*** ومعيدا إذ أقدما

إن تقتلوا منا أبا اليقظان*** شيخا مسلما

فقد قتلنا منكم*** سبعين كهلا مجرما

اضحوا بصفين وقد*** لاقوا نكالا مؤثما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 48 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقالت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها:

عيني جودي على خزيمة بالدمع*** قتيل الأحزاب يوم الفرات

قتلوا ذا الشهادتين عتوا*** أدرك الله منهم بالترات

قتلوه في فتية غير عزل*** يسرعون الركوب في الدعوات

نصروا السيد الموفق ذا العد*** ل ودانوا بذلك حتى الممت

لعن الله معشرا قتلوه*** ورماهم بالخزي والآفات

قال نصر بن مزاحم:وحدثنا عمر بن سعد عن الأعمش قال: كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب منزل رسول الله وكان سيداً معظماً من سادات الأنصار ومن شيعة عليّ (عليه السلام) كتاباً، وكتب إلى زياد بن سمية. وكان عاملاً لعلي بن أبي طالب على بعض فارس كتاباً ثانياً. فأما كتابه إلى أبي أيوب فكان سطرا واحداً (حاجتك لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها) فلم يدر أيوب ما هو!؟ فأتى به عليّاً فقال: يا أمير المؤمنين ان معاوية كهف المنافقين كتب إليَّ بكتاب لا أدري ما هو؟

قال عليّ (عليه السلام) فأين الكتاب؟ فدفعه إليه فقرأه وقال: نعم، هذا مثل ضربه لك، يقول لا تنسى الشيباء أبا عذرها. والشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها لا تنسى بعلها الذي افترعها أبداً ولا تنسى قاتل بكر وهو أول ولدها, وكذلك أنا لا أنسى قتل عثمان.

وأما الكتاب الذي كتبه إلى زياد، فإنه كان وعيداً وتهديداً فقال زياد ويلي على معاوية كهف المنافقين وبقية الأحزاب يتهددني ويتوعدني وبيني وبينه ابن عم محمّد ومعه سبعون ألفاً سيوفهم على عواتقهم يطيعون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 49 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في جميع ما يأمرهم به لا يلتفت رجل منهم وراءه حتى يموت. أما والله لو نظرتم ثم خلص إليًّ ليجدني أحمر ضراباً بالسيف(45).

قال نصر بن مزاحم أيضاً: وروى عمرو بن شمران ان معاوية في أسفل كتابه إلى أبي أيوب:

ما بلغ لديك أبا أيوب مالكة*** أنا وقوفك مثل الذنب والنقد

أما قتلتم أمير المؤمنين فلا*** ترجو الهوادة منا آخر الأبد

ان الذي نلتموه ظالمين له*** أبقت حزازته صدعاً على كبدي

إني حلفت يميناً غير كاذبة*** لقد قتلتم إماماً غير ذي أود

لا تحسبوا إنني أنسى مصيبته*** وفي البلاد من الأنصار من أحد

ان العراق لنا فقع بقرقرة*** أو شحمة برزها شاءو ولم يكد

والشام ينزلها الأبرار بلدتها*** أمن، وبيضتها عريسة الأسد

فلما قرأ الكتاب على عليّ (عليه السلام) لشد ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل، فقال أبو أيوب: يا أمير المؤمنين إني ما أشاء أن أقول شيئاً من الشعر يعبأ به الرجال إلاّ قلته فقال فأنت اذن أنت. فكتب أبو أيوب إلى معاوية: أما بعد فإنك كتبت (لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها) فضربتها مثلاً بقتل عثمان، وما نحن وقتل عثمان ان الذي تربص بعثمان وثبط يزيد بن أسد وأهل الشام عن نصرته لأنت وان الذين قتلوه لغير الأنصار وكتب في آخر كتابه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 50 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا توعدنا ابن حرب اننا نفر*** لا ينبغي ود ذي البغضاء من أحد

واسعوا جميعاً بني الأحزاب كلكم*** لسنا نريد رضاكم آخر الأبد

نحن الذين ضربنا الناس كلهم*** حتى استقاموا وكانوا عرضة الأود

والعام قصرك منا ان ثبت لنا*** ضرب يزيل بين الروح والجسد

اما عليّ فإنا لا نفارقه*** ما رفرف الآل في الدوية الجرد

اما تبدلت منا بعد نصرتنا*** دين الرسول أناسا ساكني الجند

لا يعرفون افعل الله سعيهم*** الا اتباعكم يا راعي النقد

فقد بغى الحق هضما شر ذي كلع*** واليحصبيون طرا بيضة البلد(46)

قال نصر بن مزاحم حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني مجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال: شهدت مع عليّ (عليه السلام) حرب صفين فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى تكسرت الرماح ونفذت السهام. ثم صرنا إلى المسابقة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضا. ولقد قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح فلم يبق شيء من السلاح إلاّ قاتلت به حتى تحاثينا بالتراب يرمي أحدنا وجه الآخر وتكادمنا بالأفواه حتى صرنا قياماً ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع أحد من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه... ولا يقاتل فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف، وغلب عليّ (عليه السلام) على القتلى فلما أصحب اقبل على أصحابه يدفنهم وقد قتل كثير منهم، وقتل من أصحاب معاوية أكثر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 51 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بكثير وقتل فيهم شمر بن أبرهة(47).

قال: وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن تيم، قال: والله إني لمع عليّ (عليه السلام) إذ أتاه علقمة بن زهير الأنصاري فقال: يا أمير المؤمنين ان عمرو بن العاص يرتجز في الصف بشعرا فأسمعه اياك.

قال: نعم. قال: انه يقول:

إذا تخازرت وما بي من حرز*** ثم كسرت العين من غير عور

الفيتني الوى بعبد المستمر*** ذا صولة في المصمئلات الكبر

أحمل ما حملت من خير وشر*** كالحبة الصماء في أصل الحجر

 

فقال عليّ (عليه السلام) اللهم العنه فإن رسول الله عنه، فقال علقمة وانه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر فأنشدك إياه قال: قل. فقال:

أنا الغلام القرشي المؤتمن*** الماجد الأبلح ليث كالشطن

ترضى بي الشام إلى أرض عدن*** يا قادة الكوفة يا أهل الفتن

أضربكم ولا أرى أبا الحسن*** كفى بهذا حزنا على حزن

فضحك عليّ (عليه السلام) وقال: أنه لكاذب، وانه بمكاني هذا لعالم كما قال العربي غير الوهي الممزق ترقعين وأنت مبصرة؟ -

وفي اليوم السادس عشر من أيام صفين أرسل الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) رجلاً من فرسان جيشه إلى معاوية بن أبي سفيان أن أبرز لي في وسط الميدان ونترك عساكرنا جانباً فأينا قتل صاحبه بقيت شؤون المسلمين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 52 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جميعها مجموعة للآخر. ولما أبلغ الرجل رسالة الإمام (عليه السلام) إلى معاوية قال: (عمرو بن العاص) لمعاوية لقد أنصفك ابن أبي طالب، فقال معاوية (أنا أبارزه وهو الشجاع الأخرق) أظنك يا عمرو طمعت فيها؟

فانصرف الرجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخبره بما دار، فقال الإمام (عليه السلام): وانفساه، أيطاع معاوية وأخيب أنا معه فيما أقترح عليه.

فما هو بتارك صقع المندان بعساكره ولا هو يبارزني وهو يلمع في السيطرة على مصائر المسلمين بحجة المطالبة بدم عثمان بن عفان والمسلمون يتساقطون قتلى وهو لا ينفك يثير عساكره بالمطالبة بدم عثمان.

ولما انصرف رسول الإمام (عليه السلام) إلى ناحية عسكره نظر عمرو بن العاص نحن جيش عثمان في الميدان فرأى القتال قائماً على أشده ولا سيما في بقعة ثائرة القترة فقال عليّ من هذا الرهج الساطع؟ قالوا: على ابنيك عبد الله ومحمّد ليثيروا فيه عواطفه ومشاعره على ابنيه عبد الله بن العاص ومحمّد بن عمرو بن العاص فارتبك أشد الارتباك وصاح لخادمه وردان يا وردان قدم لوائي. فقال معاوية ليس على ابنبك بأس فلا تربك صفوف جيشنا فأجاب ابن العاص هيهات هيها.

الليث يحمي شبليه*** ما خيره بعد ابنيه

وتوجه إلى الميدان فجاءه رسول معاوية ليبلغه ألا يحمل على الميدان فقال : قل له: انك لم تلدهما وإني أنا ولدتهما وحينما قارب مشارف الميدان أخبروه أن ولديه في مكان أمين وطمأنه وردان على ملامتهما. حينذاك أمر عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أهل الكوفة وأهل البصرة أن احملوا فحمل الناس من كل جانب واقتتلوا قتالاً شديداً وخرج رجل من أهل الشام وقال من يبارز؟ فبرز إليه رجل من أهل العراق فاقتتلا ساعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 53 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وضرب العراقي الشامي(48) على رجله فأسقط قدمه فقاتل ولم يسقط الشامي فرجع إليه العراقي فأسقط يده فرمى الشامي حينئذ سيفه إلى أهل الشام وقال: استعينوان به على قتال عدوكم فاشتراه معاوية من أوليائه بعشرة الاف درهم من المسلمين(49) قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين ص 444 و445 كان عليّ (عليه السلام) إذا أراد الحملة هلل وكبر ثم قال:

من أي يومي من الموت أفر*** أيوم لم يقدر أو يوم قدر

فجعل معاوية لواءه الأعظم في ذلك اليوم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فأمر عليّ (عليه السلام) جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه وأقبل عمرو بن العاص حينذاك في خيل ومعه لواء ثان فتقدم حتى خالط صفوف العراق، فقال الإمام (عليه السلام) لابنه محمّد: امش نحو هذا اللواء رويدا رويداً حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري. ففعل. وكان الإمام (عليه السلام) أعد مثلهم مع الأشتر النخعي، فلما أشرع محمّد الرماح في صدور القوم أمر عليّ (عليه السلام) الأشتر أن يحمل فحمل فأزالهم عن مواقفهم وأصاب منهم رجالاً واقتتل الناس قتالاً شديداً ، فقال النجاشي الشاعر في ذلك اليوم يذكر الأشتر:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 54 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولما رأينا اللواء العقاب*** يقحمه الشاتيء الاخزر

كليث العرين خلال العجاج*** وأقبل في خيله الأبتر

دعونا لها الكبش كبش العراق*** وقد أضمر الفشل العسكر

فرد اللواء على عقبه*** وفاز بخظوتها الأشتر

كما كان يفعل في مثلها*** إذا ناب معصوصب منكسر

قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين يحدثنا عمرو بن شمر عن السدي ان الناس قد اختلط أمرهم تلك الليلة، وزال أهل الرايات عن مراكزهم وتفرق أصحاب عليّ عنه إذ كان قد أتى ربيعة ليلاً يتفقدهم ويدور بينهم فأقبل (عدي بن حاتم) يبحث عن موقعه فأصابه بني رماح ربيعة فقال له: يا أمير المؤمنين: أما إذا كنت حياً فالأمر أمم. جئتك وما مشيت إلاّ على قتيل، وما أبقيت هذه الوقعة في هذا اليوم عميداً ماجداً فقاتل من هنالك منهم حتى يفتح الله عليك فإن في عساكرنا بقية محمودة. وأقبل الأشعث يلهث جزعاً مما غشيه من أجل أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما راه هلل وكبر ودعاه إلى استئناف القتال وأن يرجع إلى المكان الذي تركوك واقفاً فيه... وبينما كانا يتحادثان بعث إليه (سعيد بن قيس الهمداني) سائلاً إياه ان كان يحتاج إلى امداد ليمده به فصرفه إلى سعيد بن قيس. ثم أقبل على ربيعة فقال  أنتم درعي ورمحي فهاتوني بفرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) المرتجز – فركبه فلم يستجم بركوبه، ثم قال: بل البغلة بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقدمت له فركبها وتعصب بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكانت سوداء ثم نادى: أيها الناس من باع نفسه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 55 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لله أفلح وإن لهذا اليوم ما بعده وها هم أعداؤكم قد مسهم الأعياء فانتهزوا اصلاح أمركم فأحاط به اثنا عشر ألف مقاتل بكامل أسلحتهم فهاجم بهم أعداءه وهو يرتجز:

دبوا دبيب النمل لا تفوتوا*** وأصبحوا في حربكم وبيتوا

حتى تنالوا النصر أو تموتوا*** او لا فإني طالما عصيت

قد قلتموا لو جئتنا فجيت*** ليس لكم ما شئتم وشيئت

وتعبه عدي بن حاتم وهو يرتجز:

أبعد عمار وبعد هاشم*** وابن بديل فارس الملاحم

نرجو البقاء حلم الحالم*** لقد عضضنا أمس بالاباهم

فاليوم لا تقرع سن نادم*** ليس امرؤ من حتفه بسالم

واشتدت عزيمة الأشتر فهجم وراءهما بجميع من معه من أهل العراق فلم يتركوا لأهل الشام صفوفهم متساندة ولا قائمة امامهم فاضطرب معاوية ودعا بفرسه لينجو عليه فسمع أصواتاً من قومه تدعوه إلى الثبات فأخرج قدمه من الركاب واستنجد بعمرو بن العاص وقال له ياعمرو بن العاص اليوم صبر وغدا فخرز فاجله قائلا انك وما أنت فيه كقول القائل:

ما علتي وانني لنابل*** والقوس فيها وتر عنابل

تزل عن صفحتها المعابل*** الموت حق والحياة باطل

فثنى رجله من الركاب واستصرخ بقبائل عك والأشعرين فوقفوا يحمونه ويدافعون عنه حتى كره المتقاتلون القتال وتحاجزوا من فرض الأعياء، وان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 56 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لهذه الوقعة حديث جدير بالذكر وها هو ذا؟ (لما انتهت معركة صفين وعاد معاوية إلى الشام حضر لديه رجل وقال له: ان لي عليك حقا؟ قال: ما هو؟ قال: أتذكر في يوم من أيام صفين استدعيت إليك فرسك لتهرب إذ رأيت عليّ بن أبي طالب ومالك الأشتر يوشكان أن يصلا إليك فدنوت أنا وأمسكت بعنان فرسك وقلت لك انه لؤم ومعابة أن تذهب وتترك هؤلاء العرب تجود بنفوسها أمامك مدى شهرين ولا تسمح أنت بنفسك ساعة؟ ثم أنشدت شعراً لا أحفظه وعدلت عن الهرب؟ فقال معاوية ويحك فأنت لأنت هو؟ والله ما أحلني هذا المحل إلاّ أنت وأمر له بثلاثين ألف درهم من خزينة المسلمين.

وروى النخعي عن ابن عباس قال: تعرض عمرو بن العاص لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يوماً من أيام صفين وهو يحسب انه يغتاتله على حين غرة فحمل عليه الإمام عليّ (عليه السلام) فلم يجد لنفسه منجاة إلاّ أن ألقى بنفسه أرضاً وكشف عن عورته فصرف عنه الإمام وجهه ورجع عمرو بن العاص إلى معاوية فسأله ما صنعت؟ قال لقيني (عليّ) فصرعني. قال معاوية فأحمد عورتك على سلامتك.

قال نصر بن مزاحم: حدثنا عمر بن سعد فقال: لما اشتد الأمر وعظم أهل الشام قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي سفيان ألق الأشعث فانه ان رضي رضيت العامة، فخرج عتبة فنادى الأشعث، فقال الأشعث: سلوا من هو المنادي؟ قالوا: انه عتبة بن أبي سفيان، قال غلام مترف: ولابدّ من لقائه. فخرج إليه فقال: ما عندك يا عتبة؟ فقال: أيها الرجل، ان معاوية لو كان لاقياً رجلاً غير عليّ للقيك انك رأس أهل العراق، وسيد أهل اليمن، وقد سلف إليك عثمان ما سلف من الصهر والعمل، ولست كأصحابك وأما الأشتر فقتل عثمان، وأما عدي فحرض عليه، وأما سعيد بن قيس فقلد عليّاًً ديته، وأما شريح وزحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى وانك حاميت عن أهل العراق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 57 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تكرما، وحاربت أهل الشام حمية وقد بلغنا منك وبلغت منا ما أردت، وأنا لا أدعوك إلى ترك عليّ، ونصرة معاوية، ولكنا ندعوك إلى البقية الباقية التي فيها صلاحك وصلاحنا فتكلم الأشعث فقال: يا عتبة أما قولك: ان معاوية لا يلقى إلاّ عليّاًً، فلو لقيني والله لما عظم مني ولا صغرت عنه وان أحب أن أجمع بينه وبين عليّ فعلت، وأما قولك (إني رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن) فإن الرأس المتبع والسيد المطاع هو عليّ بن أبي طالب وأما الذي سلف من عثمان إليَّ فوالله ما زادني صهره شرفاً ولا عمله عزاً، وأما عيبك أصحابي فإنه لا يقربك مني ولا يباعدني عنهم، وأما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بيتاً حماه. وأما البقية فلستم بأحوج إليها منا وسنرى رأينا فيها.

فلما عاد عتبة إلى معاوية وأبلغه قوله، قال له: لا تلقه بعدها فإن الرجل عظيم عند نفسه وإن كان قد جنح للسلم وشاع في أهل العراق ما قاله عتبة للأشعث وما رده الأشعث عليه فقال النجاشي بمدحه:

يابن قيس وحارث ويزيد*** أنت والله رأس أهل العراق

أنت والله حية تنفث السم*** قليل منها غنا الراقي

أنت كالشمس والرجال نجوم*** لا يرى ضؤها مع الأشراق

قد حميت العراق بالأسل السمر*** وبالبيض كالبروق الرقاق

وسعرت القتال في الشام بالبيض*** المواضي وبالرماح الدقاق

لا ترى غير أذرع وأكف*** ورؤوس بهامها الأفلاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 58 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلما قلت قد تصرمت الهيجا*** سقيتهم بكأس دهاق

قد قضيت الذي عليك من لاحق*** وسارت به الفلاس المناقي

أنت حلو من تقرب باللود*** وللشاتئيين مر المذاق

بئسما ظنه ابن هند ومن مثلك*** في الناس عند ضيق الخناق

قال نصر بن مزاحم: فقال معاوية لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص ان رأس الناس بعد عليّ هو عبد الله بن عباس فلو كتب إليه كتاباً لعلك ترفقه ولعله لو قال شيئاً لم يخرج عليّ منه، وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلاّ بهلاك أهل الشام، فقال عمرو ان ابن عباس لا يخدع ولو طمعت فيه لطمعت في عليّ، قال معاوية على ذلك فاكتب، فكتب عمرو إليه:

أما بعد، فإنّ ألذي نحن فيه وأنتم ليس بأول أمر قاده البلاد وأنت رأس هذا الجمع بعد عليّ، فانظر فيما بقي ودع ما مضى، فوالله ما أبقيت هذه الحرب لنا ولكم حياة ولا صبرا فاعلم انّ الشام لا تهلك إلاّ بهلاك العراق وإن العراق لا يهلك إلاّ بهلاك الشام فما خيرنا بعد هلاك أعدادهما، ولسنا نقول: ليت الحرب عادة ولكنا نقول: ليتها لم تكن، وان فينا من يكره اللقاء، كما ان فيكم من يكرهه، وإنما هو أمير مطاع ومأمور مطيع أو مؤمن مشاور وهو أنت وأما الأشتر الغليظ الطبع.. القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواص أهل النجوى، وفي أسفل الكتاب كتب هذا الشعر(50):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 59 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طال البلاء وما يرجى له آس*** بعد الإله سوى رفق ابن عباس

قولا له قول من يرجو مودته*** لا تنس حظك ان الخاسر الناس

انظر فدى لك قبل قاصمة*** للظهر ليس لها راق ولا آس

ان العراق وأهل الشام لن يجدوا*** طعم الحياة مع المستغلق القاسي

يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له*** أعظم بذلك من فخر على الناس

إني أرى الخير في سلم الشام لكم*** والله يعلم ما بالسلم من باس

فيها التقى وامور ليس يجهلها*** إلاّ الجهول، وما نوكى كأكياس

فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس عرضه على أمير المؤمنين (عليه السلام) فضحك وقال: قاتل الله ابن العاص ما أغراه بك يا عبد الله. أجبه وليرد عليه شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر، فكتب ابن عباس إلى عمرو:

أما بعد، فإني لا أعلم أحداً من العرب أقل حياء منك، انه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير، ثم خبطت الناس في عشوة طمعاً في الدينا فأعظمتها باعظام أهل الدنيا ثم تزعم انك تتنزه عنها تنزه أهل الورع، فإن كنت صادقاً فارجع إلى بيتك، ودع الطمع في مصر، والركون إلى الدنيا الفانية واعلم ان هذه الحرب ما معاوية فيها كعليّ... بدأها عليّ بالحق وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي فانتهى فيها إلى السرف. وليس أهل العراق فيها كأهل الشام بايع أهل العراق عليّاًً وهو خير منهم. وبايع أهل الشامع معاوية وهم خير منه. ولست أنا وأنت فيها سواء، إني أردت الله، وأنت أردت مصر وقد عرفت الشيء الذي باعدك عني، ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 60 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أعرف الشيء الذي قربك من معاوية فإن ترد شراً لا نسبقك به، وان ترد خيراً لاستبقنا إليه والسلام. ثم دعا أخاه الفضل بن عباس فقال: يا ابن أم: أجيب عمرا، فقال الفضل:

يا عمرو حسبك من مكر ووسواس*** فاذهب فليس نداء الجهل من آس

ألا تواتر طعن في نحوركم*** يشجي النفوس ويشفي نحوه الرأس

اما عليّ فاز الله فضله*** بفضل ذي شرف عال على الناس

ان تعقلوا الحرب نعقلها مخية*** أو تبعثوها فانا غير انكاس

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة*** هذا بهذا وما بالحق من بأس

ثم عرض الشعر والكتاب على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: لا أراه يجيبك بعدها أبداً بشيء ان كان يعقل وإن عاد عدت عليه. فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاوية فقال: ان قلب ابن عباس وقلب عليّ واحد، وكلاهما ولد عبدالمطلب. وإن كان قد خشن فقد لان، وإن كان قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد قارب وجنح إلى السلم.

وقال معاوية لأكتبن إلى ابن عباس كتاباً استعرض فيه عقله وانظر ما في نفسه فكتب إليه:

أما بعد فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار ابن عفان، حتى أنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه واستعظامهما ما نيل منه، فإن كان ذلك منافسة لبني أمية في السلطان فقد وليها عدي وتيم، فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة، وقد وقع من الأمر ما ترى، وأكلت هذه الحروب بعضها بعضاً حتى استوينا فيها فما يطمعكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 61 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فينا يطمعنا فيكم وما يوئسنا منكم يوئسكم منا، ولقد رجونا غير ما كان، وخشينا دون ما وقع، ولست ملاقينا اليوم بأحد من حد أمس، ولا غدا بأحد من حد اليوم، وقد قنعنا بما في أيدينا في ملك الشام فاقتنعوا بما في أيديكم من ملك العراق، وأبقوا على قريش، فإنّما بقي من رجالها ستة، رجلان في الشام ورجلان في العراق ورجلان في الحجاز، فأما اللذان في الشام فأنا وعمرو، وأما اللذان في العراق فأنت وعلي، وأما اللذان في الحجاز فسعد وابن عمر، فأننا من السنة ناصبان لك واثنان واقفان فيك، وأنت رأس هذا الجمع ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع منا إلى عليّ.

فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس أسخطه وقال: حتى مني يخطب ابن هند إلى عقلي وحتى متى اجمجم على ما في نفسي؟ وكتب إليه:

أما بعد، فقد أتاني كتابك... وقرأته، فأما ما ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة إلى أنصار ابن عفان وكراهتنا لسلطان بني أمية فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان... وهو الوليد بن عقبة، وأما طلحة والزبير فإنهما أجليا عليه وضيقا خناقه، ثم خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك فقاتلناهما على النكث كما قاتلناهما على البغي، وأما قولك: انه لم يبق من قريش غير ستة فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ولم يخذلنا إلاّ من خذلك، وأما اغراؤك أبانا بعدي وتيم فإن أبا بكر وعمر خير من عثمان كما ان عثمان خير منك، وقد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده، وأما قولك لو بايع الناس لي لاستقاموا، فقد بايع الناس عليّاًً وهو خير مني فلم يستقيموا له، وما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 62 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنت والخلافة يا معاوية، وإنما أنت طليق وابن طليق، والخلافة للمهاجرين الأولين وليس الطلقاء منها في شيء والسلام.

فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال: هذا عملي بنفسي لا أكتب والله إليه كتاباً سنة كاملة وقال:

دعوت ابن عباس إلى جل حظه*** وكان امرءا أهدى إليه رسائلي

فأخلف ظني والحوادث جمة*** وما زاد ان أغلى عليه مراجلي

فقل لابن عباس: أراك مخوفا*** بجهلك حلمي انني غير غافل

فابرق وارعد ما استطعت فإنني*** إليك بما يشجيك سبط الأنامل(51)

وقال نصر بن مزاحم: حدثنا عمر بن سعد، قال: عقد معاوية يوماً من أيام صفين الرياسة على اليمن من قريش – قصد بذلك أكرمهم ورفع منازلهم وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ومحمّد وعتبة ابنا أبي سفيان وبسر بن أبي أرطاة وذلك في الوقعات الأولى من صفين فكدر ذلك أهل اليمن فأرادوا أن لا يناصر عليهم أحد إلاّ منهم فقام إليه عبد الله بن الحارث السكوني وهو رجل من كندة، فقال : أيها الأمير إني قد قلت شيئاً فأسمعه وضعه مني على النصيحة، قال: هات، فأنشده:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 63 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

معاوى أحييت فينا الأحسن*** وأحدثت بالشام ما لم يكن

عقدان لبسر وأصحابه*** وما الناس حولك إلاّ اليمن

فلا تخلطن بنا غيرنا*** كما شبيب بالماء صفو اللبن

وإلاّ فدعنا على حالنا*** فانا وانا إذا لم نهن

ستعلم ان جاس بحر العراق*** وأبدى نواجذه في الفتن

وشد عليّ بأصحابه*** ونفسك إذ ذاك عند الذقن

بأنا شعارك دون الدثار*** وانا الرماح وانا الجنن

وانا السيوف، وانا الحتوف*** وانا الدروع وانا المجن

قال: فبكى معاوية متظاهراً بالتأثر ونظر إلى وجوه أهل اليمن، وقال: أعز رضاكم يقول ما قال؟ قالوا لا مرحبا بما قال... إنما الأمر إليك، فاصنع ما احببت فقال معاوية: إنما خلطت بكم أهل ثقتي، وما كان لي فهو لكم، ومن كان لكم فهو لي فرضي القوم وسكتوا. ولما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية فيمن عقد له من رؤوس أهل الشام قال الأعور الشنى إلى عليّ بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين أنا لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية ولكن تقول: زاد الله في سرورك وهداك، نظرت بنور الله، فقدمت رجالاً وأخرت رجالاً عليك أن تقول، وعلينا أن نفعل، أنت الإمام فإن هلكت فهذان ولداك من بعدك، يعني حسناً وحسيناً عليهما السلام وقد قلت شيئاً فأسمعه، قال: هات فأنشده:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 64 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبا حسن أنت شمس النهار*** وهذان في الحادثات القمر

وأنت وهاذان حتى الممات*** بمنزلة السمع بعد البصر

وأنتم أناس لكم سورة*** تقصر عنها أكف البشر

يخبرنا الناس عن فضلكم*** وفضلكم اليوم فوق الخبر

عقدت لقوم أولي نجدة*** من أهل الحياء وأهل الخطر

مساميح بالموت عند اللقا*** ء منا واخواننا من مضر

ومن حي ذي يمن جلة*** يقيمون في النائبات الصعر

فكل يسرك في قومه*** ومن قال: لا، فبفيه الحجر

ونحن الفوارس يوم الزبير*** وطلحة إذ قيل أودى عذر

ضرناهم قبل نصف النهار*** إلى الليل حتى قضينا الوطر

ولم يأخذ الضرب إلاّ الرؤوس*** ولم يأخذ الطعن إلاّ الثغر

فنحن أولئك في أمسنا*** ونحن كذلك فيما غبر

وقال نصر بن مزاحم: حدثنا عمر بن سعد فقال: لما تعاظمت الأمور على معاوية قبل مقتل عبد الله بن عمر بن الخطاب، دعا عمرو بن العاص وبسر بن أبي أرطاة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد فقال لهم:

انه قد غمني مقام رجال من أصحاب عليّ، منهم سعيد بن قيس الهمداني في قومه، والأشتر النخعي في قومه، والمرقال في بني زهرة، وعدي بن حاتم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 65 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في بني طيء ، وقيس بن سعد في الأنصار، وقد علمتم ان بما نيتكم وقتكم غير وقاية بأنفسنا أياما كثيرة، حتى لقد استحييت لكم وأنتم عدتهم من قريش، وأنا أحب أن يعلم الناس انكم أهل غناء وقد عبأت لكل رجل منهم رجلاً منكم ، فاجعلوا ذلك إليَّ قالوا ذاك إليك، قال: فأنا أكفيكم غدا سعيد بن قيس وقومه وأنت يا عمرو للمرقال أعور بني زهرة، وأنت يا بسر لقبس بن سعيد، وأنت يا عبيد الله للأشتر النخعي.

وأنت يا عبد الرحمن لأعور طيء، يعني عدي بن حاتم وقد جعلتها نوبا في خمسة أيام لكل رجل منكم يوم، فكونوا على أعنة الخيل! قالوا: نعم فأصبح معاوية في غده فلم يدع فارساً إلاّ حشده، ثم قصد همدان بنفسه وارتجز فقال:

لن تمنع الحرمة بعد العام*** بين قتيل وجريح دام

سأملك العراق بعد الشام*** أنعى ابن عفان مدى الأيام

فطعن في عرض الخيل ملياً، ثم ان همدان تنادت بشعارها، وأقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية واشتد القتال، وكاد سعيد أن يقتنص معاوية إلاّ انه اندس بين خيل أصحابه وراء الغبار الكثيف، وقال سعيد في ذلك:

يالهف نفسي فاتني معاوية*** فوق طمر كالعقاب هاوية

والراقصات لا يعود ثانية

قال نصر: وانصرف معاوية ذلك اليوم ولم يصنع شيئاً وغدا عمرو بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل فقصد المرقال وكان حاملاً لواء عليّ (عليه السلام) وهو اللواء الأعظم في حياة الناس فارتجز عمرو ابن العاص:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 66 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

لا عيش ان لم ألق يوماً هاشما*** ذاك الذي جشمني المجاشما

ذاك الذي يشتم عرضي ظالما*** ذاك الذي ان ينج مني سالما

يكن شجى حتى الممات لازما

فطعن في أعراض الخيل مزيدا، وحمل المرقال عليه وارتجز فقال:

لا عيش ان لم ألق يوما عمرا*** ذاك الذي أحدث فينا الغدرا

أو يبدل الله بأمر أمرا*** لا تجزعي يا نفس صبرا صبرا

ضربا هذا ذيك وطعنا شزرا*** يا ليث ما تجني يكون القبرا

فطاعن عمرا حتى رجع، وانصرف الفريقان بعد شدة القتال ولم يسر معاوية ذلك وغدا بسر بن أبي أرطاة في اليوم الثالث عن حماة الخيل فلقي قيس بن سعد بن عبادة في كمأة الأنصار فاشتدت الحرب بينهما وبرز قيس كأنه فتيق مقرم يرتجز ويقول:

أنا بن سعد زانه عباده*** والخزرجيون كماة سادة

ليس فراري بالوغى بعاده*** ان الفرار للفتى قلادة

يا ربّ أنت لقني الشهادة*** فالقتل خير من عناق غادة

حتى متى تثني لي الوسادة

وطاعن سعد خيل بسر وبرز بسر فارتجز:

أنا ابن أرطاة العظيم القدر*** مردد في غالب وقهر

ليس الفرار من طباع بسر*** ان أرجع اليوم بغير وتر

وقد قضيت في العدو نذري*** يا ليت شعري كم بقي من عمري

ويطعن بسر قيساً، ويضربه قيس بالسيف فرده على عقيبه، ورجع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 67 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القوم جميعاً ولقيس الفضل، وتقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع لم يترك فارساً مذكوراً إلاّ جمعه إليه واستكثر ما استطاع، فقال معاوية: انك تلقى أفعى العراق، فارفق واتئذ، فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا، وكان الأشتر إذا أراد القتال أزبد، وهو يرتجز قائلاً:

يا ربّ قيض لي سيوف الكفرة*** واجعل وفاتي بأكف الفجرة

فالقتل خير من ثياب الحبرة*** لا تعدل الدنيا جميعا وبره

ولا يعوضا في ثواب البرره

وشد على خيل الشام فردها، فاستحيا عبيد الله وبرز أمام الخيل وكان فارساً شجاعاً وقال:

أنعى بن عفان وارجو ربّي*** ذاك الذي يخرجني من ذنبي

ذاك الذي يكشف عني كربي*** ان ابن عفان عظيم الخطب

يأبى له حبي بكل قلبي*** الا طعاني دونه وضربي

حسبي الذي أنويه حسبي حسبي

فحمل عليه الأشتر وطعنه، فاشتد الأمر، وانصرف القوم وللأشتر الفضل فغم ذلك معاوية وغدا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في اليوم الخامس وكان رجاء معاوية ان ينال حاجته فقواه بالخيل والسلاح وكان معاوية يعده ولدا. فلقيه عدي في كماة مذحج وقضاعة فبرز عبد الرحمن أمام الخيل وقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 68 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قل لعدي ذهب الوعيد*** انا ابن سيف الله لا مزيد

وخالد يزينه الوليد*** ذاك الذي قيل له الوحيد

ثم حمل فطعن الناس، فقصده عدي بن حاتم وسدد إليه الرمح وقال:

أرجو إلهي وأخاف ذنبي*** ولست أرجو غير عفو ربّي

يا ابن الوليد بغضكم في قلبي*** كالهضب بل فوق قنال الهضب

فلما كاد أن يخالطه بالرمح توارى عبد الرحمن في العجاج واستتر بأسنة أصحابه واختلط القوم، ثم تحاجزوا ورجع عبد الرحمن مقهوراً وانكسر معاوية وبلغ أيمن بن خزيم ما لقي معاوية وأصحابه... فشمت بهم وكان ناسكاً من أنسك أهل الشام، وكان معتزلاً للحرب منفرداً في ناحية عنها، فقال:

معاوى ان الأمر لله وحده*** وانك لا تستطيع ضراً ولا نفعا

عبأت رجالاً من قريش لعصبة*** بما نية لا تستطيع لها دفعا

فكيف رأيت الأمر إذ جد جده*** لقد زارك الأمر الذي جئته جدعا

تعي لقيس أو عدي بن حاتم*** والأشتر باللناس أعمارك الجدعا

وتجعل للمرقا ل عمراً وانه*** لليث لفي من دون غايته ضبعا

وان سعيداً إذ برزت لرمحه*** لفارس همدان الذي يشعب الصرعا

ملي يضرب الدار عين بسيفه*** إذ الخيل أبدت من سنابكها نقعا

رجع فلم تظفر بشيء تريده*** سوى فرس أعيت وأبت بها ظلما

فدعهم فلا والله لا تستطيعهم*** مجاهرة فاعمل لقهرهم خدعا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 69 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: ان معاوية أظهر لعمرو شماتة وجعل يقرعه ويوبخه وقال: لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان وفررتم وانك لجبان يا عمرو فغضب عمرو وقال: فهلا برزت إلى عليّ بن أبي طالب إذ دعاك إن كنت شجاعاً كما تزعم وقال:

تسير إلى أين ذي يزن سعيد*** وتترك في العجاجة من دعاكا

فهل لك في أبي حسن عليّ*** لعل الله يمكن من قفاكا

دعاك إلى البراز فلم تجبه*** ولو نازلته تربت يداكا

وكنت اسم إذ ناداك عنها*** وكان سكونه عنها مناكا

فآب الكبش قد طحنت رحاه*** بنجدته وما طحنت رحاكا

فما أنصفت صحبك يا ابن هند*** أتفرقه وتغضب من كفاكا

فما والله ما اضمرت خيرا*** ولا أظهرت لي إلاّ هواكا

قال: ان القرشين استحبوا ما صنعوا وشمت بهم اليمانية من أهل الشام فقال معاوية: يا معشر قريش والله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح، ولكن لا مرد لأمر الله، ولم تستحيون؟ انما لقيتم كباش العراق فقتلتم منهم وقتلوا منكم وما لكم عليَّ من حجة. لقد عبأت نفسي لسيدهم وشجاعهم سعيد بن قيس، فانقطعوا عن معاوية أياماً فقال معاوية في ذلك:

لعمري لقد انصف والنصف عادتي*** وعاين طعنا في العجاج المعاين

ولولا رجائي أن تثوبوا بنهرة*** وان تغسلوا عاراً وعته الكنائس

لناديت للهجيا رجالاً سواكم*** ولكنما تحمي الملوك البطائن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 70 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتدرون من لاقيتم فل جيشكم*** لقيتم ليوثاً أصحرتها العرائن

لقيتم صناديد العراق ومن بهم*** إذا جاشت الهيجاء تحمي الضعائن

وما كان منكم فارس دون فارس*** ولكنه ما قدر الله كائن(52)

فلما سمع القوم ما قاله معاوية، أتوه فاعتذروا إليه اعتذاراً شاملاً واستقاموا إليه عما ما يحب إليه ولما اشتد القتال وعظم الخطب أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص ان قدم عكا والأشعريين إلى من بازائهم فأجابه عمرو ان بأزاء عك همدان فبعث إليه ان قدم عكا. فأتاهم عمرو فقال: يا معشر عك : إن عليّاًً قد عرف انكم حيّ أهل الشام فعبأ لكم حي أهل العراق همدان، فاصبروا وهبوا إليَّ جماجمكم ساعة من النهار فقد بلغ الحق مقطعه فقال ابن مسروق العكي: أمهلني حتى أتي معاوية، فأتاه فقال يا معاوية: اجعل لنا فريضة ألفين رجل في ألفين ألفين، ومن هلك فأبن عمه مكانه – لنقر اليوم عينك، فقال لك ذلك، فرجع ابن مسروق إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقالت عك، نحن لهمدان، ثم تقدمت عك ونادى سعيد بن قيس(53) يا همدان... ان تقدموا، فشدت همدان على عك رجالة فأخذت السيوف أرجل عك فنادى ابن مسروق يا لعك بركا كيرك الكمل. فبركوا تحت الحجف (الأفراس) فشجرته همدان بالرماح وتقدم شيخ من همدان وهو يقول:

يا لتبكيل لخمها وحاشد*** نفسي فداكم طاعنوا وجالدوا

حتى تخر منكم الفما حد (إلى الرقاب)*** وارجل يتبعها سواعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 71 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بذاك أوصى جدكم والوالد

وقام رجل من عك فارتجز فقال:

تدعون همدان وتدعو عكا*** بكوا الرجال بالعك بكا

ان خدم القوم فبركا بركا*** لا تدخلوا اليوم عليكم شكا

قد محك القوم فزيدوا محكا

فالتقى القوم جميعاً بالرماح وصاروا إلى السيوف وتجالدوا حتى أدركهم الليل فقالت همدان يا معشر عك: نحن نقسم بالله اننا لا ننصرف حتى تنصرفوا. وقالت عك مثل ذلك فأرسل معاوية إلى عك أبروا قسم أخوتكم وهلموا. فانصرفت عك فلما انصرفت همدان فقال عمرو بن العاص يا معاوية، والله لقد لقيت أسد أسدا، ولم أر والله كهذا اليوم قط.

كانت معركة صفين في أيامها كلها وبالاً عسكرياً واجتماعياً وسياسياً على الأمة الإسلامية في كل مكان، فلقد ثار معاوية بن أبي سفيان على الخليفة عليّ بن أبي طالب في بلاد الشام زاعماً انه يثأر من دون بقية الأمة الإسلامية لمقتل عثمان بن عفان وكان في خلال زعمه هذا يراقب من بعيد عاقبة الثورة السريعة التي شرع بايقادها طلحة والزبير وعائشة في البصرة ولكن لما ان بلغه فشلها ومقتل طلحة والزبير وانصراف عائشة إلى (مدينة يثرب) استدرك حينذاك سوء مصيره المحتمل ان لم يكن محققا فشرع ينادي بالنكير والثبور على قاتل عثمان، زاعماً بأنهم من أعوان الخليفة الجديد عليّ بن أبي طالب صاحب السلطة الإسلامية العامة يومذاك، فجمع بذلك حواليه ثمانين ألف مقاتل من بين أقربائه وأنداده وغيرهم من المسلمين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 72 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآخرين. وفتح لهم خزانة أموال المسلمين فتحاً باذخاً وهو ينادي على رؤوسهم بالويل والتحريض والانتقام لمقتل عثمان بن عفان، ثم سار بجميعهم نحو الكوفة (مقر الخلافة الإسلامية الجديد)، وإذ وصل بقاع صفين أقام معسكره على شاطئ الفرات يتجيذ من عمر بن العاص. فأقبل الخليفة عليّ بن أبي طالب بجيشه ليصرفه عن قصده الباطن صيانة لحرمة الخلافة الإسلامية وتحذيراً مشروعاً لمعاوية ولغيره من المجامشين ألا يستهينوا بمقام الخلافة، أو يتجزأوا في مستقبل الأيام على استضعافها طمعاً في الاستيلاء عليها وعلى خزانة أموالها والتحكم في رقاب المسلمين، وهكذا دواليك شرع القتال فعلاً بين الجيشين في بداية ذي الحجة من السنة السادسة والثلاثين بعد الهجرة ولم يكن معاوية ليجرؤ في ظاهره وباطنه على مواجهة الخليفة عليّ بن أبي طالب في صفين لاستعراض مقتل عثمان وتعين أشخاص القتلة أينما كانوا أو يكونون.

والذي يجب ذكره في هذا الصدد ان معاوية بن أبي سفيان لم يكن قد بايع الخليفة كبيعة غيره من سائر المسلمين ليستقيم له شرعاً أن يحضر مع أولئك المسلمين المزعومين جناة أو مجرمين أمام جماهير مسلمة ليتم أمامها تحديد المسؤولية الجنائية بالضبط والصدق أما ان المسؤوولية الجنائية لم تتحدد بعد ولم يتقدم يومذاك مطالبون حقيقيون أو تدعون أمناء بأجراء التحقيق فيها فإن أمرها الواسع الأطراف يبقى منقوص الأسانيد وقابلاً للمراء والطعن في أركانها بعد حين.

ولقد طالما تقدم الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في الميدان نحو معاوية بن أبي سفيان وعرض عليه اجراء التحقيق جهاراً نهاراً في صفين بحضوره وحضور جيشه أجمعين أو البروز إليه توكيداً وتفاضلاً بينهما في منتصف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 73 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعركة، فإن الذي يقتل صاحبه يتولى زمام الحكومة الإسلامية الكبرى في يديه من غير أن تهلك فئات الجيشين المتقابلين جزافاً في صفين. فهل كان معاوية يستجيب لدعوة الإمام (عليه السلام) أقل استجابة.

كلا... وانما كان يلوذ بالصمت الحاسم فيعود الإمام (عليه السلام) إلى معكسره يائساً من استجابة معاوية لأحد المطلبين في تحقيق الحق بينما كانت الجثث تناثر أشلاء ممزقة فوق التراب ويبقى معاوية مرائياً على النداء في جيشه (مطالباً بالثأر لمقتل عثمان) مع استشارة عمر بن العاص في تدبير مشكلاته العسكرية الطارئة فهل استجاب مرة من المرات لدعوة الإمام (عليه السلام).

كلا.. وانما كان يلوذ بالصمت العميق.. فيعود الإمام (عليه السلام) معسكره متألماً ويائساً من عدم استجابة معاوية لتحقيق الحق المجرد وأعلانه على رؤوس المعسكرين، بينما كانت الجثث حينذاك تناثر أشلاء من كلا الجيشين فوق التراب أمام عينيه ولا لا يبرح هو دائباً على النداء في جيشه يحضهم على المطالبة بالثأر لمقتل عثمان وهو في الواقع يروم أن يستقل بالحكم في بلاد الشام منفصلاً عن سيطرة الدولة الإسلامية الكبرى وتمهيد السبيل لمكافأة عمرو بن العاص ببلا مصر كلها ويبقى مستشار له قريباً منه عند الملمات الحربية والسياسية.

لم تكن أيام صفين تمضي بأسرها على وتيرة واحدة بين الجيشين وإنما كانت تمضي وفيها أيام المعارك الشديدة تبعث على الجزع في النفوس وتسلب الأرواح سلباً لا يكاد يحيط يحصره إمكان وكانت فيها أيام الهدنة اليسيرة تحيل المتحاربين إلى الورع ومضاعفة التبتل والعبادة والاستغفار العميق فمن بين تلك الأيام الشديدة ما ذكره نصر بن مزاحم في كتاب (صفين) قال: حدثنا عمر بن سعد، قال: لما كان غداة الخميس لسبع خلون من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 74 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صفر سنة سبع وثلاثين صلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)الغداة فغلس، وما رأيت عليّاًً غلس الغداة في صفين أشد من تغليسه يومئذ، وخرد بالناس إلى أهل الشام فزحف نحوهم، وكان يبدؤهم فيسير إليهم. فإذا رأوه قد زحف استقبلوه يزحونهم.

قال نصر فحدثني عمر بن سعد قال: لما خرج عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إليهم غداة ذلك اليوم، واستقبلوه رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم ربّ هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطاً بالليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل الكواكب والنجوم وجعلت سكانه سبطاً (أي أمة) من الملائكة لا يسأمون العبارة. وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما يرى. ومما لا يرى من خلقك العظيم. وربّ الفلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس وربّ السحاب المسخر بين السماء والأرض وربّ البحر المسجور المحيط بالعالمين، وربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً ,للخلق متاعاً.. أن أظهرتنا على عدونا مجنبنا البغي وسددنا للحق وان أظهرتم علينا فارزقنا الشهادة واعصم بقية أصحابي من الفتنة قال، فلما رأوه قد أقبل تقدموا إليه بزحوفهم، وكان على ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعلى ميسرته عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وقراء العراق مع ثلاثة نفر عمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة(54) وعبد الله بن بديل، والناس على راياتهم ومراكزهم وعلي (عليه السلام) في القلب في أهل المدينة جمهورهم الأنصار، ومعه من خزاعة من كنانة عدد حسن. قال نصر بن مزاحم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 75 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الكرابيس وهي قطع من القماش وجلس تحتها. قال نصر بن مزاحم وقد كان لهم قبل هذا اليوم ثلاثة أيام متوالية ليس فيها الكثير من الشدة الحربية، فأما اليوم الرابع فإن محمّد بن الحنفية (عليه السلام) خرج في جمع من أهل العراق، فأخرج إليه معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمع من أهل الشام فاقتتلوا غير ان عبيد الله بن عمر أرسل إلى محمّد بن الحنفية ان أخرج إليَّ أبارزك فقال نعم، ثم خرج إليه فبصر بهما عليّ (عليه السلام) فقال من هذان المتبارزان؟ قيل: محمّد بن الحنف ية وعبيد الله بن عمر. فحرك دابته ثم دعا محمّداً إليه فجاءه فقال: أمسك أمسك دابتي فأمسكها فمشى راجلاً بيده سيفه نحو عبيد الله وقال له: أنا أبارزك، فهلم إليَّ.. فقال عبيد الله: لا حاجة بي إلى مبارزتك قال: بلى فهلم إليَّ، قال: لا أبارزك ثم رجع إلى صفه فرجع عليّ (عليه السلام) فقال له ابن الحنفية يا أبتي. منعتني من مبارزته، فو الله لو تركتني لرجوت لك أن تقتله وما كنت آمن أن يقتلك. فقال يا أبت انبرز بنفسك إلى هذا اللئيم؟ والله لو ان أباه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه فقال الإمام (عليه السلام) يا بني لا تذكر أباه، ولا تقل فيه إلاّ خيراً(55).

قال نصر بن مزاحم(56) وأما اليوم الخامس فإنه خرج فيه عبد الله بن العباس فخرج إليه الوليد بن عقبة فأكثر من سب بني عبد المطلب وقال العباس قطعتم أرحامكم وقتلتم أمامكم، فكيف رأيتم صنع الله بكم لم تعطوا ما طلبتم ولم تدركوا ما أملتم.

أملتم والله.. ان شاء مهلككم.. وناصرنا عليكم. فأرسل إليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 76 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبدالله بن عباس، ان ابرز إليَّ؟ فأبى أن يبرز إليه فقاتل عبد الله بن العباس ذلك اليوم قتالاً شديداً ثم انصرفوا وكل جانب غير غالب.

قال نصر بن مزاحم: وخرج في ذلك اليوم شمر بن ابرهة ابن الصياح الحميري مستنكراً فلحق بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في ناس من قراء أهل الشام.

ففتّ ذلك في عضد معاوية وعمرو بن العاص وقال عمرو: يا معاوية : أنك تريد أن تقاتل أهل الشام رجلاً له من محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) قرابة قريبة ورحم ماسة وقدم في الإسلام لا يعتد أحد بمثله وهذه في الحرب لم يكن لأحد من أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وانه قد سار إليك بأصحاب محمّد المعدودين وفرسانهم وقرائهم وأشرافهم وقدمائهم في الإسلام ولهم في النفوس مهابة، فبادر بأهل الشام مخاشن الأوعار ومضايق الغياض. واحملهم على الجهد، وأئتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم، فيحدث طول المقام مللا فتظهر فيهم كآية الخذلان. ومهما نسيت فلا تنس انك على باطل، وان عليّاًً على حق، فبادر إلى الأمر قبل اضطرابه عليك فقام معاوية في أهل الشام خطيباً فقال: أيها الناس أعيرونا جماجمكم وأنفسكم لا تقتتلوا ولا تتجادلوا فإن اليوم يوم خطارة ويوم حقيقة وحفاظ. انكم لعى حق وبأيديكم حجة إنما تقاتلون من نكث البيعة وسفك الدم الحرام فليس له في السماء عاذر.

قدموا أصحاب السلاح المستلئمة واخروا الحاسر واحملوا بأجمعكم فقد بلغ الحق مقطعه وانما هو ظالم ومظلوم.

قال نصر بن مزاحم: وخطب عليّ (عليه السلام) أصحابه فيما حدثنا به عمر بن سعد وقد جمع أصحاب رسول الله عنده فهم يلونه كانه أحب أن يعلم الناس ان الصحابة صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) متوافرون معه، فحمد الله وأثنى عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 77 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال وهو متوكئ على قومه: أما بعد فإن الخيلاء من التجبر، وان النخوة من التكبر وان الشيطان عدو حاضر يعدكم بالباطل. الا ان المسلم اخو المسلم فلا تنابذوا، ولا تخاذلوا إلا ان شرائع الدين واحدة وسبله مقصودة من أخذ بها لحق ومن فارقها محق ومن تركها مرق. ليس المسلم بالخائن ان ائتمن ولا بالمخلف إذا وعد ولا بالكذاب إذا نطق. نحن أهل بيت الرحمة وقولنا الصدق وفعلنا القصد، ومنا خاتم النبيين وفينا قادة الإسلام وفينا حملة الكتاب. ألا انا ندوكم إلى الله وإلى رسوله وإلى جهاد عدوه والشدة في أمره وابتغاء مرضاته وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وتوفير الفيىء على أهله الا ان من أعجب العجب ان معاوية بن أبي سفيان الأموي وعمرو بن العاص أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما. ولقد علمتم اني لم أخالف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قط، ولم أعصه في أمر. أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال، وترعد فيها الفرائص بنجدة أكرمني الله سبحانه بها وله الحمد، وقد قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وان رأسه لفي حجري ولقد وليت غسله بيدي وحدي وتقلبه المقربون معي، وايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلاّ ما شاء الله قال أبو سنان الأسلمي: فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسريقول للناس : أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم ان الأمة لم تستقم عليه أولا، وانها لن تستقيم عليه آخراً.

قال: ثم تفرق الناس وقد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم فتأهبوا واستعدوا.

قال نصر بن مزاحم(57) : وحدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 78 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زيد بن وهب ان عليّاً (عليه السلام) قال في هذه الليلة: حتى متى لا تناهض القوم بأجمعنا؟ ثم قال في الناس فقال:

الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض ولا ينقض ما أبرم، ولو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة، ولا من خلفه ولا تنازع البشر في شيء من أمره ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله. وقد ساقتنا الأقدار وهؤلاء القوم، حتى لفت بيننا في هذا الموضوع ونحن من ربّنا بمرأى ومسمع ولو شاء لعجل النقمة ولكان منه النصر، حتى يكذب الله ويعلم الحق أين مصيره.

قال نصر بن مزاحم: وحدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال كان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة المرادي المكنى (أبا أحمر) وكان فارس أهل الكوفة الكعبر بن حدير الأسد. فقام الكعبر إلى عليّ (عليه السلام) وكان منطيقاً فقال يا أمير المؤمنين ان في أيدينا عهداً من الله لا تحتاج فيه إلى الناس وقد ظننا بأهل الشام الصبر وظنوا بنا، وصبرنا وصبروا وقد عجبت من صبرنا أهل الدنيا (ألم أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (58).

فقال له عليّ (عليه السلام) خيراً وخرج الناس إلى مصافهم، وخرج عوف بن مجزأة المرادي نادراً من الناس... وكذا كان يصنع. وقد كان قتل نفراً من أهل العراق مبارزة، فنادى يا أهل العراق هل من رجل عصاه سيف يبارزني؟ ولا أغركم من نفسي أنا عوف بن مجزأة فنادى الناس بالعكبر فخرج إليه منقطعاً عن أصحابه ليبارزه فقال عوف:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 79 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالشام أمن ليس فيه خوف*** بالشام عدل ليس فيه حيف

بالشام جود ليس فيه سوف*** أنا ابن مجزاة واسمي عوف

فقال له العكبر:

الشام محل والعراق ممطر*** بها إمام طاهر مطهر

والشام فيها أعور معور*** أنا العراقي واسمي عكبر

ابن حدير وأبوه المنذر*** ادن فإنّي في البراز قسور(59)

فتطاعنا ملياً فصرعه العكبر وقتله، وكان معاوية على التل في وجوه قريش ونفر قليل من الناس. فوجه العكبر فرسه يملأ فروجه ركضا ويضربه بالسوط مسرعاً نحو التل فنظر معاوية إليه فقال هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن. فأسألوه فـاه رجل وهو في حمو فرسه فناداه فلم يجبه ومضى مبادراً حتى انتهى قارب معاوية فجعل يطعن في أعراض الخيل ورجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله فاستقبله رجال قتل منهم قوماً. وحال الباقون بينه وبين معاوية بسيوفهم ورماحهم. فلما لم يصل إليه قال: أولى لك يا ابن هند. أنا الغلام الأسدي ورجع إلى صف العراق ولم يكلم، فقال له عليّ (عليه السلام) ما دعاك إلى ما صنعت لا تلق نفسك إلى التهلكة، قال: يا أمير المؤمنين، أردت غرة ابن هند فحيل بيني وبينه وكان العكبر شاعراً فقال:

قتلت المرادي الذي كان باغياً*** ينادي وقد ثار العجاج نزال

يقول أنا عوف بن مجزاة والمنى*** لقاء ابن مجزاة بيوم قتال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 80 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقلت له لما علا القوم صوته*** منيت بمشيوح اليدين طوال

فأوجرته في ملتقى الحرب صعدة*** ملأت بها رعباً صدور رجال

فغادرته يكبوا صريعاً لوجهه*** ينوء مراراً في مكر مجال

وقدمت مهري راكضاً نحو صفهم*** أصرفه في جريه بشمالي

أريد به التل الذي في رأسه*** معاوية الجاسي لكل خبال

فقام رجال دونه بسيوفهم*** وقام رجال دونه بعوالي

ولو مت في نيل المنى ألف موتة*** لفت إذا ما مت لست أبالي

فقال العكبر يد الله فوق يده، فأين الله جل جلاله ودفاعه عن المؤمنين(60).

قال نصر بن مزاحم عن الحارث بن حصين عن أبي الكنود، جزع أهل الشام يومئذ على قتلاهم جزعاً شديداً فقال معاوية بن خديج قبح الله ملكاً يملكه المرء بعد حوشب وذي الكلاع، والله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مؤنة ما كان ظفراً.

وقال يزيد بن أسد يخاطب معاوية بن أبي سفيان، لا خير في أمير لا يشبه آخره أوله. ولا يدمى جريح ولا يبكى قتيل تنجلي هذه الفتنة. فإن يكن الأمر لك أو أوصيت وبكيت على قرار وإن يكن لغيرك فما أصبت به أعظم. فقال معاوية يا أهل الشام ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم والله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 81 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيهم، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم المرقال فيهم وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من (ابن بديل فيهم) وما الرجال إلاّ أشباه، وما التمحيص إلاّ من عند الله فابشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة : قتل عمار وكان فتاهم، وقتل هاشماً وكان حمزتهم وقتل ابن بديل وهو الذي فعل الأفاعيل، وبقى الأشتر والأشعث وعدي بن حاتم وأما الأشعث قائماً حمي عنه مصره، وأما الأشتر وعدي فغضبا والله للفتنة، قاتلهما غداً إن شاء الله تعالى! فقال معاوية بن خديج : ان يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك وغضب.

وروي نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عن عبيد الرحمن بن كعب قال: لما قتل عبد الله بن بديل يوم صفين مر به الأسود بن بديل طهمان الخزاعي وهو باخر رمق فقال له: عز عليَّ والله مصرعك، أما والله لو شهدتك لأسيتك ولدافعت عنك، ولو رأيت الذي أشعرك وطعنك لأحببت الا أزايله ولا يزايلني حتى أقتله أو يلحقني بك. ثم نزل إليه فقال يا عبد الله، والله إن كان جارك ليأمن قال: أوصيك بتقوى الله رحمك الله وان تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله، وأبلغ أمير المؤمنين عني السلام وقل له قاتل على المعركة خلف ظهره حتى تجعلها خلف ظهره فان أصبح والمعركة خلف ظهره، كان الغالب ثم لم يلبث ان مات عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة(61).

قال نصر بن مزاحم : وحدثني عمر بن شمر عن جابر ، عن عامر عن صعصعة بن صوحان : ان ابرهة بن الصياح الحميري قام في قومه بصفين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 82 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقال: ويحكم يا معشر أهل اليمن، إني لأظن الله قد أذن بفنائكم ويحلم! خلوا بين الرجلين فليقتتلا. فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعاً. وكان ابرهة من رؤساء أصحاب معاوية فبلغ قوله عليّاً (عليه السلام) فقال: صدق ابرهة والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام، أنا بها أشد سروراً مني بهذه الخطبة قال: وبلغ معاوية كلام ابرهة، فتأخر إلى آخر الصفوف وقال لمن حوله إني لا أظن ابرهة مصاباًً في عقله فأقبل أهل الشام يقولون:     والله ان ابرهة لأكملنا ديناً وعقلاً ورأياً وبأساً ولكن الأمر كره مبارزة عليّ(62) وسمع ما دار من الكلام أبو داود (عروة بن داود العامري) وكان من فرسان معاوية، فقال ان كان معاوية كره مبارزة أبي الحسن فأنا أبارزه، ثم خرج بين الصفين فنادى. أنا أبو داود فابرز إليَّ يا أبا الحسن. فتقدم عليّ (عليه السلام) نحوه فناداه الناس ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب، فليس لك بخطر، فقال: والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه دعوني وإياه ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين سقطت احداهما يمنية والأخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة وصرخ ابن عم لأبي داود واسوء صباحاه وفتح الله البقاء بعد أبي داود. وحمل على عليّ (عليه السلام) فطعنه (عليه السلام) فيراه ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود ومعاوية واقف على التل يبصر ويشاهد، فقال تبا لهذه الرجال وقبحاً أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع؟

فقال له الوليد بن عقبة أبرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته، فقال والله لقد دعاني إلى البراز حي لقد استحييت من قريش وإني والله لا أبرز إليه ما جعل العسكر من يدي الرئيس إلا وقاية له. فقال عتبة بن أبي سفيان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 83 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ألهو عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه. فقد علمتم أنه قتل حريثاً وفضح عمراً ولا أرى أحداً يتحكك به إلاّ قتله فقال معاوية لبسر بن ارطاة أتقوم لمبارزته؟ فقال: ما أحد أحق بها منك. أما إذا بيتموه فأنا له. قال معاوية : انك ستلقاه غداً في أول الخليل وكان عند بسر بن أرطاة ابن عم له قدم من الحجاز يخطب ابنته، فأتى بسراً فقال له إني سمعت انك وعدت من نفسك أن تبارز عليّاًً أما تعلم ان الوالي من بعد معاوية عتبة ثم بعده محمّداً أخوه وكل من هؤلاء قرن عليّ، فما يدعوك إلى ما أرى؟ قال: الحياء... خرج مني كلام، فأنا أستحي أن أرجع عنه فضحك الغلام وقال:

تنازله يا بسر إن كنت مثله*** وإلاّ فإن الليث للشاه آكل

كأنك يا بسر إن كنت جاهل*** بآثاره في الحرب أو متجاهل

معاوية الوالي وصنواه بعده*** وليس سواء مستعار وثآكل

أولئك هم  أولى به منك انه*** عليّ فلا تقربه اننك هابل

متى تلقه فالموت في رأس رمحه*** وفي سيفه شغل لنفسك شاغل

وما بعده في آخر الخيل عاطف*** ولا قبله في أول الخيل حامل

فقال بسر : هل هو إلاّ الموت؟ لابدّ من لقاء الله فغدا عليّ (عليه السلام) التل ليقف عليه إذ برز له بسر مقنعا في الحديد لا يعرف فناداه أبرز إليَّ يا أبا الحسن فانحدر إليه عليّ تؤدة غير مكترث له حتى إذا قاربه طعنه وهو رادع فالقاه إلى الأرض ومنع الدرع السنان أن يصل إليه. فاتقاه بسر بعورته وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه، فانصرف عنه بوجهه (عليه السلام) مستدبراً له فعرفه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 84 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأشتر حين سقط فقال: يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أرطاة هذا عدو الله وعدوك فقال: دعه عليه لعنة الله. . أبعد أن فعلها؟ فحمل ابن عم بسر من أهل الشام وهو شاب على عليّ (عليه السلام) وقال:

أرديت بسراً والغلام ثائره*** أرديت شيخاً غاب عنه ناصره

وكلنا حام لبسر واثره

فلم يلتفت إليه عليّ (عليه السلام) وتلقاه الأشتر فقال:

في كل يوم رجل شيخ شاغره*** وعورة وسط العجاج ظاهرة

تبرزها طعنة كف واتره*** عمرو وبسر منيا بالعاقرة

فطعنه الأشتر فكسر صلبه. وقام بسر من طعنة عليّ (عليه السلام) هارباً وفرت خيله.. وناداه عليّ (عليه السلام) يا بسر. معاوية كان أحق بها منك، فرجع بسر إلى معاوية.. فقال له معاوية، ارفع طرفك فقد أدال الله عمرا منك وقال الشاعر في ذلك:

أفي كل يوم فارس تندبونه*** له عورة تحت العجاجة بادية

يكف بها عنه عليّ سنانه*** ويضحك منها في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه*** وعورة بسر مثلها حذو حاذية

فقولا لعمر وابن ارطاة أبصرا*** سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية

ولا تحمد إلا الحيا وخصاكما*** هما كانتا للناس والله واقية

فلولاهما لم تنجوا من سنانه*** وتلك بما فيها عن العود ناهية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 85 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

متى تلقيا الخيل المغبرة صبحة*** وفيها عليّ فاتركا الخيل ناحية

وكونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا*** ونار الوغى... ان التجارب كافة

وان كان منه بعد للنفس حاجة*** قعودا إلى ما شئتما هي ماهية

قال: فكما بسر بعد ذلك اليوم إذا لقي الخيل التي فيها عليّ نتحي ناحية وتحامى فرسان الشام بعدها عليّاً (عليه السلام)(63).

قال نصر: وحدثنا عمر عن سعد عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جمع معاوية كل قرشي ممن كان في الشام . وقال لهم: يا معشر قريش انه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول بها لسانه غدا ماعدا عمرا فما بالكم؟ أين حمية قريش؟ فغضب الوليد بن عقبة وقال: أي فعال تريد. والله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغنى غناءنا باللسان ولا باليد فقال معاوية، بلى ان أولئك وقوا عليّاًً بأنفسهم. قال الوليد: كلا، بل وقاهم عليّ بنفسه قال: ويحكم.. أما فيكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة ومفاخرة؟ فقال: مروان بن الحكم، أما البراز فإن عليّاًً لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمّد بنيه فيه ولا ابن عباس واخوانه، ويصلى بالحرب دونهم فلأبهم تلبرز؟ واما المفاخرة فبماذا مفاخرة؟ أبالإسلام أم بالجاهلية. فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة وإن كان بالجاهلية فاليتملك فيه لليمن. فإن قلنا قريش قالوا لنا عبد المطلب.

فقال عتبة بن أبي سفيان، اللهوا عن هذا، فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة فقال معاوية: بخ بخ قومه بنو مخزوم وامه ام هاني بنت أبي طالب كف كريم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 86 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكثر العتاب والخصام بين القوم حتى اغلظوا لمروان واغلظ لهم فقال مروان أما والله لولا كان مني إلى عليّ (عليه السلام) في أيام عثمان ومشهدي بالبصرة لكان لي في عليّ رأي يكفر امرءاً ذا حسب ودين، ولكن ولعل ونابذ معاوية الوليد بن عقبة (دون القوم) فاغلظ له الوليد فقا لمعاوية انك إنما تجترئ عليّ بنسبك من عثمان. ولقد ضربك الحد وعزلك عن الكوفة.

ثم انهم ما امسوا حتى اصطلحوا وأرضاهم معاوية من نفسه ووصلهم بأموال جليلة من بيت المال.

وكان لجعدة في قريش شرف عظيم، وكان له لسان، وكان أحب الناس إلى (عليّ)، فغدا عليه عتبه فنادى: يا أبا جعدة، لها جعددة ، فاستأذن عليّاًً (عليه السلام) في الخروج إليه فأذن له واجتمع الناس، فقال عتبة يا جعدة. والله ما أخرجك علينا إلاّ حب حالك وعمك عامل البحرين، وأنا والله ما تزعم ان معاوية أحق بالخلافة من عليّ، ولا أمره في عثمان، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها فوالله ما بالشام رجل له طرق ولا قوة إلاّ أجد من معاوية في القتال وليس بالعراق رجل له مثل جد عليّ (عليه السلام) في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم، وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس حتى إذا أصاب سلطاناً أفنى العرب.

فقال جعدة: أما حبي لخالي فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك.

وأما ابن أبي سلمة فلم يصيب أعظم من قدره، والجهاد أحب إليَّ من العمل. وأما فضل عليّ على معاوية، فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، وأما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم تقبل، وأما قولك ليس بالشام أحد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 87 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلاّ هو أجدّ من معاوية، وليس بالعراق رجل مثل عليّ، فهكذا ينبغي له أن يكون مضى بعلي يقينه، وقصر بمعاوية شكه وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل، وأما قولك: نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي فوالله ما نسأله ان سكت ولا نرد عليه.. ان قال وأما قتل العرب فإنّ الله كتب القتل والقتال فمن قتل الحق فإلى الله.

فغضب عتبة وفحش على جعدة فلم يجبه. وأعرض عنه فلما انصرف عنه جمع خيله فلم يستبق منها شيئاً وجل أصحابه السكون، والأزد والصدف وتهيأ جعدة بما استطاع، والتقوا فصبر القوم جميعاً.. وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه، وجزع عتبة، فأسلم خيله وأسرع هارباً إلى معاوية. فقال له: فضحك جعدة وهزمتك لا تغسل رأسك منها أبداً فقال: والله لقد أعذرت ولكن والله أبى بديلنا منهم فما أصنع؟ وحظي جعدة بعدها عند عليّ (عليه السلام).

وقال الأعور الشني في ذلك يخاطب عتبة بن أبي سفيان:

ما زلت تظهر في عطفيك أبهة*** لا يرفع الطرف منك التيه والصلف

لا تحسب القوم ألا ققع قرقرة*** أو شحمة بزها شاء لها نطف

حتى لقيت ان مخزوم وأي فتى*** أحيا مآثر اباء له سلفوا

أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه*** حاموا عن الدين والدنيا فما وقفوا

هلا عطفت على قوم بمصرعة*** فيها السكون وفيها الأزد والصدف

قال نصر بن مزاحم: وكان رجل من أهل الشام يقال له (الأصبغ بن ضرار الأزدي) من مسالح معاوية وطلائعه فندب له عليّ (عليه السلام) الأشتر فأخذه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 88 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أسيراً من غير قتال فجاء به ليلاً فشده وثاقاً وألقاه عند أصحابه ينتظر الصبح وكان الأصبغ هذا شاعراً مفوهاً فأيقن بالقتل ونام أصحابه فرفع صوته فأسمع الأشتر وقال:

أولئك قومي لا عدمت حياتهم*** على الناس لا يأتيهم بنهار

فلو انني كنت الأسير لبعضهم*** أحاذر في الأصباح يوم يواري

وجار المرادي الكريم وهانىء*** وفي الصبح قتلي أو فكاك أساري

ألا ليت هذا الليل أصبح سرمداً*** لما رد عن ما أخاف حذاري

يكون كذا حتى القيامة انني*** فصبراً على ما ناب يا ابن ضرار

فيا ليل أطبق ان في الليل راحة*** إلى الله أاخشى ومالك جاري

ولو كنت تحت الأرض ستين واديا*** أطاع بها، شمرت ذيل أزاري

فيا نفس مهلاً ان للموت غاية*** وجار شريح الخير قر قراري

أاخشى ولي في القوم رحم قريبة*** وزجر بن قيس ما كرهت نهاري

ولو انه كان الأسير ببلدة*** دعوت فتى منهم وستر عواري

وجار سعيد أو عدي بن حاتم*** وعضوهم عني وستر عواري

قال: فغدا به الأشتر إلى عليّ (عليه السلام) فقال يا أمير المؤمنين ان هذا رجل من مسالح معاوية، أصبته أمس وبات عندنا الليل فحركنا بشعره وله رحم، فإن كان فيه القتل فاقتله وان ساغ بك العفو عنه فهبه لنا؟ فقال: هو لك يا مالك، وإذا أصبت منهم أسيراً فلا تقتله فإنّ أسير أهل القبلة لا يقتل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 89 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فرجع الأشتر إلى منزله وخلى سبيله(64).

وحميد بالذكر ان الخليفة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان ينفق الأموال من خزينة بيت المال على ذوي الاستحقاق فيها من جنود الإسلام في صفين وما وراء صفين وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية العادلة كما كان يفعل (ابو بكر الصديق) أيام خلافته في حروبه لأهل الردة. وهيهات كان للخليفة عليّ (عليه السلام) أن ينفق درهماً واحداً على منافعه الخاصة لئلا يجعل بعضهم يسييء الاحتمال والظن من حيث عنصر الأمارة بأمارة المؤمنين، وبوظيفة العمال المسلمين الآخرين بينما كان معاوية بن أبي سفيان... وهو عامل موظف لدى الرئاسة الإسلامية العليّاً. يستغل أموال الخزينة الإسلامية في الشام استغلالاً منحرفاً من تلقاء هواه كيفما يشاء ويبددها منحاً باطلة لاسكات الأشخاص الجرئين ممن كانوا يتطاولون عليه في كثير من المناسبات بالكلام المهين أو ممن كانوا يمدحونه ويثنون عليه بالأشعار في (أيام صفين) أو الذين يتجسسون له من أجل دعمه وتحقيق مصالحه وأهوائه المنشودة أو لاثارة المطامع في نفوس الأبعاض من جيش الخليفة في صفين لكي يطالبوه بأن منحهم عطايا من الأموال الإسلامية مثلما يمنحه معاوية للكثير من جنوده فيستوي بذلك مع الخليفة في تبذير أموال الخزينة الإسلامية في غير وجوهها فينجو هو حينئذ من تهمة التبذير والإسراف المحذور هكذا كان معاوية يتصرف تصرفه الانتهازي المريب مع أنصاره وغير أنصاره في أيام صفين على انه لم يكن تصرفه هذا غريباً شاذا من طبيعة أهوائه الدنيوية ان كان يروم أن يصنع مسالك نفسه في حكم الشام كما يرومه وهو بمساعدة أنصاره وليس كما يقتضيه الإسلام المجرد عن كل أساليب المكر والخداع.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 90 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولما أشتدت ظروف الحرب على معاوية أصبح ولم يعد يرى بدا من الركون إلى المرك ولو بقادة جيشه الكبار، فدعاهم إلى الاجتماع به ليتخذوا معاً مسلكاً جديداً موحداً للنكاية بجيش الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فاستدعى إليه عمرو بن العاص وبسر بن أرطاة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليى فقال لهم: إني أصبحت اليوم مكروباً جداً إلى أبعد الحدود من وجود فئة باغية من رجال ابن أبي طالب وهم: سعيد بن قيس في همدان، ومالك الأشتر في قومه، وهاشم المرقال وعدي بن حاتم وقيس بن سعد في الأنصار.

أما أنتم فقد صان أطرافكم أهل اليمن وأهل الشام، وآخرون من أهل مكة والبصرة وأنتم عدتهم من قريش، وقد أحببت أن يرى الناس غناكم وجدواكم رؤية فسيحة وبصورة أعظم في هذه الحرب فهل تتركون لي حرية الأختيار والتوجيه فيكم؟ فقالوا: نعم ذلك اليك فقال: أنا أكفيكم غدا. سعيد بن قيس وقومه وأنت يا عمرو تكفينا في اليوم التالي (هاشم المرقال) وقومه، وأنت يا عبد الله بن عمر تكفينا بعدئذ مالك الأشتر وأصحابه، وأنت يا عبد الرحمن بن خالد تكفينا أخيراً (عدي بن حاتم) فإذا لم ينقبض لنا أن تخضد شوكة الأعداء بهذا الأسلوب نلجأ إلى الأسلوب آخر حتى يتم لنا الفوز المبين بالمستقبل من الأيام ثم انتقض اجتماعهم على هذا الاتفاق.

وبلغ جيش الشام تصميم معاوية على اقتحام جيش الإمام عليّ (عليه السلام) في صباح اليوم التبيان فوجدوا حينذاك في ذلك فرصة يتيمة ليراهم معاوية بعينه كيف يتسابقون إلى التفاني والقتال بين يديه فيرضى عن اخلاصهم له في أشد الأوقات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 91 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم كان الصباح المنتظر، فخرج معاوية واختار بنفسه أبرز الفرسان وأشجعهم على احتمال المصاعب ليخوض قدامهم ظلمات الحرب ثم ما عتم ان هجم على مواقع همدان تتقدمه أسراب كثيفة من الخيل وهو يقول:

لا عيش إلا فلق قحف الهام*** لن تمنع الحرمة بعد العام

سأملك العراق بالشام*** أنعى ابن عفان مدى الأيام

فطعن في أعراض الخيل ملياً فتنادت همدان بشعارها فاشتد الكر العظيم والفر الحكيم حتى لم يعد قائدهم (سعيد بن قيس) يملك اصطباراً فأقحم فرسه ناقماً على معاوية وهو يرتجز:

يا لهف نفسي فاتني معاوية*** فوق طمر كالعقاب هاوية

والرقصات لا تعود ثانية*** إلاّ على ذات خصيل طاوية

وان يعد اليوم فكفي عالية

وانطلقت مع سعيد بن قيس فرسانه انطلاقة محمومة إلا ان معاوية انصرف مع جيشه إلى خارج الميدان وحجز بينهم ظلام الغروب دون أن يدرك مأربا مشرفا على كل حال.

وأصبح صباح اليوم التالي فخرج عمرو بن العاص يختال في أسراب من الحيل قاصداً (هاشم المرقا). وكان المرقال هذا يحمل لواء الإمام (عليه السلام) خفاقاً على رأسه فسمع من بعبد عمرو بن العاص يقول:

لا عيش ان لم ألق يوماً هاشما*** ذاك الذي ان ينج مني سالما

يكن شجى حتى الممات لازما

فتغلغل بعض التغلغل في خيل المرقال ضرباً وتجريحاً فحمل عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 92 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المرقال وهو يرتجز:

لا عيش ان لم ألق يومي عمرا*** ذاك الذي أحدث فينا الغدرا

ويحدث الله لأمر أمرا*** لا تجزعي يا نفس صبرا صبرا

ضرباً مداريك وطعنا شزرا*** يا ليت ما تحي يكون قبرا

ثم أدرك عمرا فطعنه في جنبه حتى أوشك أن يأتي عليه لولا انه راغ عن الطعنة واندس بين أرتال جيشه ثم انصرف الاثنان من غير أن يحرز أحدهما فضيلة مرمومة على الآخر ثم كان صباح اليوم الثالث فبرز بسر بن أرطاة في غمامة سوداء من أسراب الخيل وجحافل الرجال فانبرى إليه قيس بن سعد بن عبادة في لهاميم من الأنصار فاشتبك الجيشان معاً أفضع اشتباك وأوحشه فارتجز قيس بن سعد بن عبادة قائلاً:

أنا ابن سعد زانه عباده*** والخزرجيون رجال سادة

ليس فراري في الوغى بعادة*** ان الفرار للفتى قلادة

يا ربّ أنت لقني الشهادة*** والقتل خير من عناق غادة

حتى متى تثنى لي الوسادة

فبرز إليه بسر بن أرطاة وهو يرتجز:

أنا ابن أرطاة عظيم القدر*** مراود في غالب بن فهر

ليس الفرار من طباع بسر*** ان يرجع اليوم بغير وتر

وقد قضيت في عدوي نذري*** يا ليت شعري ما بقى من عمري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 93 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وطعن بسر قيساً طعنة سهلة في جنبه فضربه قيس بسيفه ضربة غير عميقة ارتد منها بسر إلى الوراء ورجع بجيشه إلى حيث جاء منه، ولقيس بن عبادة ضربة من الفضل على بسر وجيشه يومذاك، ثم كان صباح الرابع فبرز عبيد الله بن عمر بجيش كثيف يضم أبرز فرسان معاوية وأصبرهم على احتمال المكاره فقال له معاوية انك ذاهب يا عبيد الله لتقمع شموخ الفتاكين من أفاعي أهل العراق وان لي فيك أعز الأمال فارفق واتئد بينك وبينهم فانصرف عبد الله إلى ميدان القتال، فلقيه مالك الأشتر مزبداً كعادته كلما انطلق إلى قتال أعدائه وارتجز قائلاً:

في كل يوم هامتي مقتره*** بالضرب أبغي منة مؤخرة

والدرع خير من يرود حيره*** يا ربّي جنبني سبيل الكفرة

واجعل وفاتي بأكف الفجرة*** ما تعدل الدنيا جميعاً وبره

ولا بعوضاً في ثواب البررة

فتراجعت من أمامه خيول عبد الله فاستاء عبيد الله من تراجعها فبرر أمامها عسى أن يسترجعها من جديد فحمل عليه الأشتر من غير توئدة فطعنه في جنبه فانصرف على أثرها نحو موقف معاوية وللأشتر مزية التفوق الميداني على عبيد الله في ذلك اليوم فتضاءل افتخار معاوية بقادة جيشه.

ثم كان صباح اليوم الخامس فغدا عبد الرحمن خالد بن الوليد إلى معاوية ليتلقى ما يتلقى منه قبيل انطلاقه إلى ميادين القتال كما ان الاتفاق عليه قبلئذ عند اجتمع معاوية بقادة جيشه الكبار، فأشعر معاوية عبد الرحمن بأنه أمله الباقي ورجاؤه الأخير بعد أيام أقرانه الأربعة الذين سبقوه إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 94 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ميادين الفروسية فلم يصيبوا فوزا على جيوش أعدائه يستأهل الاعتزاز ثم زوده بكامل حاجته إلى الخيل والسلاح وسرايا الأبطال وشيعه إلى المعركة.

لقد كان عدي بن حاتم ينظر لقاءه منذ صباح ذلك اليوم حتى انه لم يتمالك رباطة جأشه حين رآه مقبلاً على ساحة القتال، فلقيه في أبطال مذحج وقضاعة وسمعه يقول مرتجزاً:

قل لعدي ذهب الوعيد*** أنا ابن سيف الله لا مزيد

وخالد يزينه الوليد*** فما لنا ولا لكم محيد

عن يومنا ويومكم قعودوا

قال نصر بن مزاحم المنقري(65) ثم حمل فطعن الناس فقصده عدي بن حاتم وهو يقول:

أرجو إلهي وأخاف ذنبي*** وليس شيء مثل عفو ربّي

يا ابن الوليد بغضكم في قلبي*** كالهضب بل فوق قنان الهضب

فلما قاربه وكاد أن يخالطه بالرمح توارى عبد الرحمن مضطرباً في العجاج وبين أسنة جيشه واختلط الجيشان رويداً ثم رجع عبد الرحمن إلى معاوية مقهوراً فشمت بذلك أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي وكان رجلاً شاعراً من شعراء أهل الشام المشهورين وكان عمرو بن العاص حاضراً في تلك الساعة عند معاوية فقال له معاوية وهو مغيظ محنق لقد أنصفتكم إذ لقيت

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم 2: 142.

2 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ص 2: 126 - 145.

3 ـ شرح نهج البلاغة 2:  145.

4 ـ شرح نهج البلاغة   2 : 148 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

5 ـ الطبري 5 : 114 .

6 ـ البويب : مدخل أهل الحجاز إلى مصر .

7 ـ شرح نهج البلاغة  2 : 134 – 135 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

8 ـ شرح نهج البلاغة   2 : 135 – 136 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

9 ـ الجرعة: موقع بين النجف والحيرة.

10 ـ شرح نهج البلاغة 2 : 136 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

11 ـ الطبري 5 : 94 – 96.

12 ـ أبو جعفر الطبري في نهج البلاغة   2 : 151 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

13 ـ الربذة : قرية على ثلاثة أميال من المدينة.

14 ـ صرار: قرية قرب المدينة على طريق العراق.

15 ـ شرح نهج البلاغة  2 : 154 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم والطبري ص 127.

16 ـ تاريخ الطبري  5 : 124.

17 ـ شرح نهج البلاغة 2 :156 - 158 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم بتصرف.

18 ـ حش معناه بستان، وكوكب اسم رجل من الأنصار.

19 ـ كتاب المعارف لابن قتيبة : 194 – 195 تحقيق ثروة عكاشة ثم كتاب انصاف عثمان : 57 وللأستاذ محمّد أحمد جاد المولى بك.

20 ـ شرح نهج البلاغة 9 : 328 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

21 ـ شرح نهج البلاغة  8 : 263 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

22 ـ شرح نهج البلاغة  9 : 31 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

23 ـ شرح نهج البلاغة  2 : 162 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

24 ـ كتاب نهج البلاغة  2 : 185 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

25 ـ كتاب نهج البلاغة 14: 18 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

26 ـ كتاب حرب الجمل : 58 – 59 للسيد محسن الأمين العاملي.

27 ـ كتاب حرب الجمل :   60  - 61 للسيد محسن الأمين العاملي.

28 ـ كتاب حرب الجمل للسيد محسن الأمين العاملي.

29 ـ كتاب حرب الجمل :64 للسيد محسن الأمين العاملي.

30 ـ كتاب الفضائح الكافية لمن يتولى معاوية: 20 تأليف العلامة المحقق الجليل الشريف السيد محمّد بن عقيل بن عبد الله بن عمر.

31 ـ شرح نهج البلاغة: 4: 15 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

32 ـ شرح نهج البلاغة  4 : 14 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

33 ـ شرح نهج البلاغة  4 : 15 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

34 ـ شرح نهج البلاغة 4 : 16 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

35 ـ شرح نهج البلاغة  4 : 17 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

36 ـ شرح نهج البلاغة  4 : 26 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

37 ـ شرح نهج البلاغة  6 :313 - 314 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

38 ـ الأستيعاب : 67.

39 ـ مختصر تاريخ الدول لابن العيري غريفويوس أبو الفرج بن أهرون الطبعة الكاثوليكية سنة 1890.

40 ـ كتاب صفين لنصر بن هشام مزاحم: 369، 370.

41 ـ شرح نهج البلاغة  8 : 16.

42 ـ شرح نهج البلاغة  8 : 17 - 18 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

43 ـ شرح نهج البلاغة  5 : 196.

44 ـ شرح نهج البلاغة 5 : 196.

45 ـ شرح نهج البلاغة  8 : 42 - 43 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

46 ـ شرح نهج البلاغة  8 : 145.

47 ـ شرح نهج البلاغة 8 :46.

48 ـ شرح نهج البلاغة   8 :52 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

49 ـ شرح نهج البلاغة 8 : 52 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

50 ـ شرح نهج البلاغة  8 :2 6 – 63 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

51 ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 472، 473 وكتاب شرح نهج البلاغة   8 : 65، 67 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

52 ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم : 482 - 492.

53 ـ شرح نهج البلاغة  8 : 74 ، 75 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

54 ـ شرح نهج البلاغة   5 : 177 ، 178 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

55  و 56 ـ شرح نهج البلاغة  5 :177 ، 178 تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

57 ـ وقعة صفين : 252، 253.

58 ـ العنكبوت: 2، 3.

59 ـ كتاب صفين: 507، 512 وما يليها.

60 ـ كتاب صفين: 512 - 516.

61 ـ كتاب صفين: 520 - 521.

62 ـ كتاب صفين: 448 - 449.

63 ـ كتاب صفين: 521 - 527.

64 ـ كتاب صفين: 533 - 534.

65 ـ كتاب صفين.