ومن كلام له (عليه السلام): [ في العرفان والسلوك إلى الله]

«قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَأَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ وَلَطُفَ غَلِيظُهُ وَبَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ وَتَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ وَدَارِ الْإِقَامَةِ وَثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَأَرْضَى رَبَّهُ». (ابن أبي الحديد مج 3 ص 42 ط الاولى).

* * *

ضبط الألفاظ اللغوية:

«دقّ» الشيء يدقّ دقّة ـ من باب ضرّ ـ خلاف غلظ فهو دقيق، وغَلُظ الشيء بالضم غلظاً ـ وزان عنب ـ والاسم الغلظة وهو غليظ، و(أبان) وبيّن وتبيّن واستبان كلّها بمعنى الوضوح والانكشاف، وجميعها تستعمل لازماً معتدّياً، إلاّ بأنّ الثلاثيّ فلا يستعمل إلا لازماً، قاله الفيّومي.

* * *

الشرح:

جاء في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (مج 14 ص 192):

إنّ هذا الكلام على غاية وجازته جامع لجميع صفات العارف الكامل، لكيفيّة سلوكه وكمال أمره، ولعمري إنّه لا يوجد كلام أوجز من هذا الكلام في أداء هذا المعنى، وهو في الحقيقة قطب دائرة العرفان وعليه مدارها، وفي الإيجاز الذي هو فنّ نفيس من علم البلاغة تالي كلام الملك الرحمن، مثل قوله: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ»(1) الجامع للزهد كلّه، وقوله: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ»(2) الجامع لمكارم الأخلاق جميعاً، وشرحه يحتاج إلى بسط في المقال، فأقول مستعيناً بالله ووليّه (عليه السلام):

قوله (عليه السلام): «قد أحيا عقله وأمات نفسه» المراد بعقله العقل النظريّ والعمليّ، وبنفسه النفس الأمّارة بالسوء، والمراد بحياة الأوّل كونه منشئاً للآثار المترتّبة عليه، مقتدراً على تحصيل الكمالات والمعارف الحقّة ومكارم الأخلاق المحصّلة للقُرب والزلفى لديه تعالى، وبموت الثاني بطلان تصرّفاته وآثاره المبعدّة عنه (عز وجل) بحذافيرها، فإنّ الحياة والموت عبارة أخرى عن الوجود والعدم لا أثر له أصلاً.

وأراد بإحيائه الأوّل وإماتته الثاني تقويته وتغليبه له عليه، بحيث يكون الأوّل بمنـزلة سلطان قادر قاهر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والثاني بمنـزلة عبد ذليل مقهور لا يرد ولا يصدر إلاّ بإذن مولاه.

ولا يحصل تقوية الأوّل وتذليل الثاني إلاّ بملازمة الكمالات العقلانّية والمجاهدة والرياضة النفسانيّة، والمجاهدة عبارة عن ذبح النفس بسيوف المخالفة، كما قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى»،(3) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا بعث سرية ورجعوا: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس.(4)

وقال بعض أهل العرفان: جاهد نفسك بأسياف الرياضة، والرياضة على أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام، وحمل الأذى من جميع الأنام، فيتولّد من قلّة الطعام موت الشهوات، ومن قلّة المنام صفو الإرادات، ومن قلّة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات، وليس على العبد شيء أشدّ من الحلم عند الجفاء، والصبر على الأذى، وإذا تحرّكت من النفس إرادة الشهوات والآثام، وهاجت منها حلاوة فضول الكلام، جرّدت عليها سيوف قلّة الطعام من غمد التهجّد وقلّة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلّة الكلام، حتّى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها، فتصير عند ذلك نظيفة ونوريّة خفيفة روحانية، فتجوّل في ميدان الخير، وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفاره في الميدان، وكالملك المتنـزّه في البستان.

وقال أيضاً: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات.

 

[شروط السالك]:

وتفصيل ذلك على ما قُرّر في علم السلوك أنّ للسالك لطريق الحقّ المريد للوصول إلى حظيرة القدس شروطاً ووظائف لابدّ من ملازمتها.

أمّا الشروط التي لابدّ من تقديمها في الارادة: فهي رفع الموانع والحجب التي بينه وبين الحقّ، فإنّ حرمان الخلق من الحقّ سببه تراكم الحجب ووقوع السدّ على الطريق، قال الله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ».(5)

والسدّ بين المريد وبين الحقّ ثلاثة: المال، والجاه، والمعصية، ورفع حجاب المال إنّما يحصل بالخروج منه إلاّ قدر الضرورة، فما دام يبقى له درهم ملتفت إليه فهو مقيّد به محجوب عن الله (عز وجل)، ورفع حجاب الجاه إنّما يحصل بالبعد من موضع الجاه والهرب منه وإيثار خمول الذكر، ورفع حجاب المعصية إنّما يحصل بالتوبة والندم على ما مضى من المعاصي وتدارك ما فات من العبادات وردّ المظالم وإرضاء الخصوم.

 

[وظائف السالك]:

وإذا قدّم هذه الشروط فلا بدّ له من المواظبة على وظائف السلوك، وهي خمس: الجوع، والصمت، والسهر، والعزلة، والذكر.

[الجوع]:

أمّا الجوع فإنّه يُنقص دم القلب ويبيّضه ويلطّفه، وفي بياضه وتلطيفه نوره، ويذيب شحم الفؤاد، وفي ذوبانه رقّته، ورقّته مفتاح انكشاف الحجب، كما أنّ قساوته سبب الحجاب، ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدوّ الشيطان، فإنّ مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فضيّقوا مجاريه بالجوع.(6)

ففائدة الجوع في كسر شهوات المعاصي كلّها والاستيلاء على النفس الأمّارة بالسوء أمر ظاهر، لأنّ منشأ المعاصي كلّها الشهوات والقوى، ومادّة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كلّ شهوة وقوّة، ويكسر سَورة النفس الأمّارة، كالدابّة الجموح إذا شبعت شردت وجمحت لا يمكن ضبطها باللجام، وإذا جاعت ذللت وانقادت، وكان يقال: ينابيع الحكمة من الجوع وكسر عادية النفس بالمجاهدة، وقال يحيى بن معاذ: لو أنّ الجوع يُباع في السوق لما كان ينبغي لطلاّب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره.

وقال سهل بن عبد الله: لمّا خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل، وجعل في الجوع الطاعة والحكمة. وقال يحيى بن معاذ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين تكرمة.

قال ابن أبي الحديد: واعلم أنّ السبب الطبيعي في كون الجوع مؤثّراً في صفاء النفس، أنّ البلغم الغالب على مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة وإبطاء الفهم لكثرة الأرضيّة فيه وثقل جوهره وكثرة ما يتولّد عنه من البخارات التي تسدّ المجاري وتمنع نفوذ الأرواح، ولا ريب أنّ الجوع يقتضي تقليل البلغم، لأنّ القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد، فكلّما انقطع الغذاء استمر عملها في البلغم الموجود في البدن، فلا تزال تعمل فيه وتذيبه الحرارة الكائنة في البدن حتّى يفنى كلّ ما في البدن من الرطوبات الغريبة، ولا يبقى إلاّ الرطوبات الأصليّة، فإن استمر انقطاع الغذاء أخذت الحرارة والقوة الهاضمة في تنقيص الرطوبات الأصليّة من جوهر البدن، فإن كان ذلك يسيراً وإلى حدّ ليس بمفرط لم يضرّ ذلك بالبدن كلّ الاضرار، وكان ذلك هو غاية الرياضة التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «حتّى دقّ جليلُه ولَطُف غليظُه» وإن أفرط وقع الحيف والاجحاف على الرطوبة الأصليّة وعطب البدن ووقع صاحبه في الدقّ والذبول، وذلك منهيّ عنه لأنّه قتل النفس، فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكّين.(7)

وبالتالي فالشبع يورث القسوة والشهوة والسبعيّة، والجوع يوجب الرقّة وانكسار الشهوة والصولة، وهو مشاهد بالتجربة، ومن هنا قيل: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه،(8) وقال أيضاً: أحيوا قلوبكم بقلّة الضحك وقلّة الشبع، وطهّروها بالجوع تصفو وترقّ.(9)

[الصمت]:

وأمّا الصمت فينبغي أن لا يتكلّم إلاّ بقدر الضرورة، لأنّ الكلام يشغل القلب، وميل القلوب إلى الكلام عظيم، فإنّه يستروح إليه ويستثقل التجرّد للذكر والفكر. وفي الحديث: طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه.(10) هذا في الكلام المباح وأمّا الكلام الغير المباح من الكذب والنميمة والبهت وغيرها فبينه وبين السلوك إلى الحقّ بَون بعيد بُعد المشرقَين.

[السهر]:

وأمّا السهر فإنّه يجلو القلب ويصفّيه وينوّره، ولذلك مدح الله سبحانه المستغفرين بالأسحار، لأنّها أوقات صفاء الذهن ونزول الرحمة والألطاف الإلهية، فيضاف صفاء السهر إلى الصفاء الحاصل من الجوع، فيصير القلب كالكوكب الدّريّ والمرآة المجلّوة مستعدّاً لإفاضة الأنوار الإلهيّة، فيلوح فيه سبحات جمال الحقّ، ويشاهد رفعة الدرجات الأُخرويّة وعظم خطرها وخسّة الزخارف الدنيويّة وحقارتها، فتتمّ بذلك رغبته عن الدنيا وشوقه إلى الآخرة، والسهر أيضاً من خواصّ الجوع، وبالشبع غير ممكن.

[العزلة والخلوة]:

وأمّا العزلة والخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر، فإنّهما دهليز القلب، والقلب بمنـزلة حوض تنصبّ إليه مياه كريهة كدرة من مجاري الحواس، والمقصود بالرياضة تفريغ مياه الحوض من الطين الحاصل منها، فينفجر أصل الحوض فينبع منه ماء نظيف سائغ صاف، ولا يمكن نزح ماء الحوض والأنهار إليه مفتوحة، فيتجدّد في كلّ حال أكثر ممّا ينتقص.

قال الرضا (عليه التحية والثناء): إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: «طوبى لمن أخلص لله العبادة ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسع أُذناه الحديث».(11)

فلا بدّ من ضبط الحواس إلاّ عن قدر الضرورة، ولا يتمّ ذلك إلا بالعزلة والخلوة.

قال بعض السياحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلى الحقّ؟ قال: أن تكون في الدنيا كأنّك عابر طريق. وقلت له مرّة: دُلّني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام، فقال لي: لا تنظر إلى الخلق، فإنّ النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بدّ لي من ذلك، قال: فلا تسمع كلامهم، فإنّ في سماع كلامهم قسوة، قلت: لا بدّ لي من ذلك، قال: فلا تعاملهم فإنّ معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بدّ لي من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإنّ السكون إليهم هلكة، قال: قلت: لعلّه يكون، قال: يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطّالين وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام؟! ولا يمكن ذلك إلاّ بأن يخلو عن غيره ولا يخلو عن غيره إلاّ بطول المجاهدة.

وقد عرفت أنّ طريق المجاهدة مضادّة الشهوات ومخالفة هوى النفس، فإذا حصل للسالك هذه المقدّمات اشتغل بذكر الله تعالى بالأذكار الشرعيّة، من الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية المأثورة والتسبيح والتهليل وغير ذلك بلسانه وقلبه، فلا يزال يواظب عليها حتّى لا يبقى على قلبه ولسانه غير ذكره تعالى، ولا يكون له منظور غيره أصلاً، فعند ذلك يتجلّى له من أنوار جماله وسبحات عظمته وجلاله ما لا يحيط به لسان الواصفين، ويقصر عنه نعت الناعتين.

 

[شعر عرفاني]:

وممّا يُنسب للإمام زين العابدين وسيد الساجدين في هذا المقام:

نسمات هواك لها أرجُ
وبنشر حديثك يُطوى الغمّ
وببهجة وجه جمال جلال
لا كان فؤاد ليس يهيم
لا أعتب قلب الغافل عنك
ما الناس سوى قوم عرفوك
قوم فعلوا خيراً فعلوا
فَهِموا المعنى فَهُمُ المعنى
دخلَ الفقراء إلى الدنيا
شربوا بكؤوس تفكّرهم
يا مدّعياً لطريقهمُ
تهوى ليلى وتنام الليل

 

تحيى وتعيش بها المهجُ
عن الأرواح ويندرج
كمال صفاتك أبتهج
على ذكراك وينـزعج
فليس على الأعمى حرج
وغيرهم همج همج
وعلى درج العليا درجوا
فبذكر الله لهم لَهَجوا
وكما دخلوا منها خرجوا
من صرف هواه وما مزجوا
قوِّم فطريقك منعوج
وحقّك ذا طلب سمج

* * *

 

[سيماء الشيعة]:

جاء في كتابنا «مسند الإمام علي (عليه السلام)»:

روى صاحب الوسائل من أمالي ابن الشيخ قال: روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خرج ذات ليلة من المسجد وكانت ليلة قمراء، فأمّ الجبانة ولحقه جماعة يقفون أثره، فوقف عليهم ثمّ قال: من أنتم؟ قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين، فتفرّس في وجوههم قال: فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟ قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟ قال (عليه السلام): صُفر الوجوه من السهر، عُمش العيون من البكاء، حُدب الظهور من القيام، خُمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين.(12)

وقال (عليه السلام): «فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ وَسَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ».(13)

ثم لا يخفى أنّ مطلوبيّة الاعتزال والخلوة إنّما هي للفراغ للذكر والخلوة والعبادة وكون المعاشرة مانعة منه، وأمّا إذا تكن لم المعاشرة مانعة منه بل تبعثه على سلوك الصراط المستقيم، كالجمعة والجماعة وزيارة الاخوان المؤمنين والاجتماع في مجالس الذكر ونحوها فهي من أعظم العبادات، وسلوك نهج الحق.

وأمّا غيرها ممّا ذكره الصوفيّة من الآداب والوظائف في المجاهدة والرياضة وكيفيّة السلوك، مثل قولهم بالجلوس في بيت مظلم والخلوة أربعين يوماً واشتراطهم الاعتصام بالشيخ وكون السلوك بإرشاده، وقولهم بالمداومة على ذكرٍ مخصوص ألقاه الشيخ إلى المريد من الأذكار الفتحيّة أو غيرها من الأذكار المبتدعة أو من الأذكار الشرعيّة لكن على هيئة مخصوصة وعدد مخصوص لم يرد به نصّ، وقولهم بأنّ المريد إذا أتمّ مجاهدته ولم يبق في قلبه علاقة تشغله يلزم قلبه علىالدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة، بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده ورداً واحداً وهو ملازمة القلب لذكر الله بعد الخلو عن ذكر غيره، فعند ذلك يلزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويلقّنه ذكراً من الأذكار حتّى يشغل به لسانه وقلبه، فيجلس ويقول مثلاً: الله الله، أو سبحان الله، أو ما يراه الشيخ من الكلمات، فلا يزال يواظب عليه حتّى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنّها جارية على اللسان من غير تحريك، ثمّ لا يزال يواظب عليه حتّى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب، ثمّ لا يزال كذلك حتّى تمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ من كلّ ما سواه ونحو ذلك ممّا قالوه فشيء لم يرد به إذن من الشارع، بل هو من مبتدعاتهم التي أبدعوها، اللهمّ إلاّ أن يُستدلّ على الأخير ـ أعني المواظبة على الذكر باللسان والقلب ـ على ما وصل بعمومات أدلّة الإكثار من ذكر الله والتفكّر في الله.

* * *

(1) الحديد: 23.

(2) الأعراف: 199.

(3) النازعات: 40 و41.

(4) الكافي 5: 12/ ح3.

(5) يس: 9.

(6) عوالي اللئالي 1: 273/ ح97؛ بحار الأنوار 60: 332.

(7) شرح نهج البلاغة 11: 137.

(8) وجاء في بحار الأنوار 74: 29: يا أحمد، إنّ العبد إذا أجاع بطنه وحفظ لسانه علّمته الحكمة، وإن كان كافراً تكون حكمته حجّة عليه ووبالاً.

(9) تذكرة الموضوعات للفتني: 151.

(10) مستدرك الوسائل 9: 27؛ بحار الأنوار 68: 283/ ح34.

(11) بحار الأنوار 67: 229.

(12) وسائل الشيعة للحر العاملي 1: 92/ ح218، نقلاً عن أمالي الشيخ الطوسي ص: 219.

(13) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 263.