ومن خطبة له (عليه السلام):[ في التحذير من الدنيا والاعتبار بالامم السالفة ووحشة
القبر]
«دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ
لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَلَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ
وَتَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَالْأَمَانُ مِنْهَا
مَعْدُومٌ وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرْمِيهِمْ
بِسِهَامِهَا وَتُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّكُمْ
وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى
قَبْلَكُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وَأَعْمَرَ دِيَاراً
وَأَبْعَدَ آثَاراً أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً وَرِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً
وَأَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً وَدِيَارُهُمْ خَالِيَةً وَآثَارُهُمْ عَافِيَةً
فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ وَالنَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ
الصُّخُورَ وَالْأَحْجَارَ الْمُسَنَّدَةَ وَالْقُبُورَ اللَّاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ
الَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا وَشُيِّدَ بِالتُّرَابِ
بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ بَيْنَ أَهْلِ
مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَأَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ لا يَسْتَأْنِسُونَ
بِالْأَوْطَانِ وَلَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ عَلَى مَا بَيْنَهُمْ
مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ وَدُنُوِّ الدَّارِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ
وَقَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى وَأَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَالثَّرَى
وَكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ وَارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ
الْمَضْجَعُ وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ
بِكُمُ الْأُمُورُ وَبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ، «وَرُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ»».(1) (شرح ابن أبي الحديد مج 3،
ص 8، ط الأُولى).
* * *
ضبط الألفاظ الغريبة:
(بالبلى محفوفة) أي قد أحاط بها من كلّ جانب. وسلم المسافر
يسلم: نجا وخلص من الآفات. و(تارات) جمع تارة وهي المرّة الواحدة، و(الأغراض) جمع
الغرض وهو الهدف تُرمى إليه السهام. و( المستهدَفة) أي منتصبة للرمي إليها.
و(المشيّدة) بضم الميم وتشديد الياء وفتحها كما في قوله تعالى «وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ»(2) أي قصور مصونة وقيل محصنة، و(النمرق) والنمرقة بتثليث
النون وضمّ الراء: الوسادة وهي المتّكأ، والجمع نمارق، قال تعالى: «وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ».(3) والقبور الملحدة ذوات اللحود.
الشرح:
إنّ الغرض من هذه الخطبة الشريفة التنفير عن الدنيا والتحذير
منها والتنبيه على مساويها ومخازيها الموجبة للنفرة والحذر.
[خداع الدنيا]:
قال (عليه السلام): «دار بالبلاء محفوفة» أي حُفّت بالمكاره
والبليّات، وأحاطت بها من كلّ جانب الآلام والآفات، وفي نسبة «محفوفة» إلى الدار
توسّع، والمراد كون أهلها محفوفة بها.
«وبالغدر معروفة» قال الشارح البحراني: استعار لفظ الغدر
عمّا يتوهم الإنسان دوامها عليه من أحوالها المعجبة له، كالمال والصحّة والشباب،
فكأنّه في مدّة بقاء تلك الأحوال قد أخذ منها عهداً، فكأنّ التغيّر العارض لها
المستلزم لزوال تلك الأحوال أشبه شيء بالغدر.
قال الميرزا الخوئي صاحب منهاج البراعة: مراده (عليه السلام)
أنّها مشهورة بالغدر والخداع، معروفة بالمكر والغرور، غير مختفية حيلتها ومكيدتها
على أهل البصيرة، لأنّها بكونها حلوة خضرة محفوفة بالشهوات ومهيّأة للآمال
والأمنيات، أعجبت الناس بشهوتها العاجلة، وتحبّبت اليهم بلذّاتها الحاضرة، وتزّينت
بالغرور، فاغترّ بها كلّ من كان غافلاً عن مكيدتها، وافتتن بحبّها كلّ من كان
جاهلاً بحقيقتها، حتّى إذا أوقعتهم في حبائل محبّتها أبدت كلّ ما كان مضمراً في
باطنها من مكرها وحيلتها، فلم يكن امرؤ منها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة، ولم
يلق من سرّائها بطناً إلا منحته من ضرّائها ظهراً، ولم ينل أحد من غضارتها رغباً
إلاّ أرهقته من نوائبها تعباً، فكم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة قد صرعته،
وذي أُبهّة قد جعلته حقيراً، وذي نخوة قد ردّته ذليلاً.
وكفى في إيضاح غدرها ما قاله بعض قدماء أهل الحقيقة
والبصيرة: من أنّها الآخذة ما تُعطي والمورثة بعد ذلك التبعة، السلاّبة لمن تكسو
والمورثة بعد ذلك العري، الواضعة لمن ترفع والمورثة بعد ذلك الجزع، التاركة لمن
يعشقها والمورثة بعد ذلك الشقوة، المغوية لمن أطاعها، الغدّارة بمن ائتمنها، هي
المحبوبة التي لا تحبّ أحداً، الملزومة التي لا تلزم أحداً، يوف إليها وتغدر، ويصدق
لها وتكذب، وينجز لها فتختلف، هي المعوجّة لمن استقام بها، والمتلاعبة بمن استمكنت
منه.
بينا هي تُطعمه إذ حوّلته مأكولاً، وبينا هي تخدمه إذ جعلته
خادماً، وبينا هي تُضحكه إذ ضحكت منه، وبينا هي تشمّه إذ شمّت منه، وبينا هي تبكيه
إذ بكت عليه، وبينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة، وبينا هو فيها عزيز
إذ أذلّته، وبينا هو فيها مكرم إذ أهانته، وبينا هو فيها معظّم إذ حقّرته، وبينا هو
فيها شبعان إذ أجاعته، وبينا هو فيها حيّ إذ أماتته.
فأفٍّ لها من دار هذه صفتها، تضع التاج على رأسه غدوة وتعفّر
خدّه بالتراب عشيّة، وتحلّي الأيدي بالأسورة عشيّة، وتجعلها في الأغلال غدوة، تعقد
الرجل على السرير غدوة، وترمي به في السجن عشيّة، تفرش له الديباج عشيّة، وتفرش له
التراب غدوة، وتجمع له الملاهي والمعازف غدوة، وتجمع عليه النوائح والنوادب عشيّة،
تحبّب إلى أهله قُربه عشيّة، وتحبّب إليهم بُعده غدوة، تطيّب ريحه غدوة، وتنتن ريحه
عشيّة.
فهو في كلّ ساعة متوقّع لسطوتها، غير آمن غدرها وخديعتها،
غير ناجٍ من بلائها وفتنتها، تمتّع نفسه من أحاديثها وعينه من أعاجيبها ويده مملوءة
من جمعها، ثمّ تصبح الكفّ صفراً والعين هامدة ذهب ما ذهب، وهوى ما هوى...(4)
ومن ذلك كلّه علم أنّها (لا تدوم أحوالها) بل تصير حياتها
موتاً، وغناؤها فقراً، وفرحها ترحاً، وصحّتها سقماً، وقوّتها ضعفاً، وعزّها ذلاًّ،
إلى غير هذه من حالاتها المتبدّلة المتغيّرة.
قوله (عليه السلام): «ولا تسلم نزّالها» أي لا يسلم النازل
في تلك الدار من آلامها وآفاتها وصدماتها، بل هو في كلّ آن مترقّب لاصابة مكروه،
وَجِلٌ من كل بلاء.
فإن كلّ ذي جسد فيها لا ينفكّ جسده من أنّ الحرّ يذيبه،
والبرد يجمده، والسموم يتخلّله، والماء يغرقه، والشمس تحرقه، والهواء يُسقمه،
والسباع تفترسه، والطير تنقره، والحديد يقطعه، والصدم يحطمه.
ثمّ هو معجون بطينة من ألوان الأسقام والأوجاع والأمراض، فهو
مرتهن بها مترصّد لها دائماً، لكونه مخلوقاً من الأخلاط الأربعة التي لو غلب أحدها
على الآخر أحدث أنواعاً من المرض، ألا ترى أنّ أصحّ الأخلاط وأقربها إلى الحياة هو
الدم، فإذا خرج عن حدّ الاعتدال يموت صاحبه بموت الفجأة والطاعون والأكلة والسرسام.
هذه كلّه مع ما له من مقارنة الآفات السبع التي لا يتخلّص
منها ذو جسد، وهي الجوع، والظمأ، والحرّ، والبرد، والخوف، والجوع، والمرض، والموت.
أحوالها (أحوال مختلفة) إن اعذوذب منها جانب واحلولى أمرّ
منها جانب فأوبى، لم تطل على أحد فيها ديمة رخاء إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء، ولم
يُمسِ امرؤ منها في جناح أمن إلاّ أصبح على قوادم خوف.
(وتارات متصرّفة) يعني أنّ حالاتها تتغيّر بأهلها تارة بعد
أخرى، ومرّة بعد مرّة، فإنّها تنقل أقواماً من الجدب إلى الخصب، ومن الرجلة إلى
الركب، ومن البؤس إلى النعمة، ومن الشدّة إلى الرخاء، ومن الشقاء إلى الراحة، ثم
تنقلب بهم فتسلبهم الخصب، وتنـزع منهم النعمة والراحة.
ومحصّله أنّها دار تصرّف وانتقال وتقلّب من حال إلى حال،
صحّتها تتبدّل بالسقم، وشبابها بالهرم، وغناها بالفقر، وفرحها بالترح، وسرورها
بالحزن، وعزّها بالذّل، وأمنها بالخوف.
بينا يرى المرء فيها مغتبطاً محبوراً وملكاً مسروراً في خفض
ودعة ونعمة ولذّة وأمن وسعة، في بهجة من شبابه وحداثة من سنّه، وبهاء من سلطانه،
وصحّة من بدنه، إذ انقلبت به الدنيا أشرّ ما كان فيها قلباً، وأطيب ما كان فيها
نفساً، وأقرّ ما كان فيها عيناً، وألذّ ما كان فيها عيشاً، فأخرجته من ملكها
وغبطتها وخفضها ودعتها وبهجتها، فأبدلته بالعزّ ذلاًّ، وبالسرور حزناً، وبالنعمة
نقمة، وبالغنى فقراً، وبالسعة ضيقاً، وبالشباب هرماً، وبالشرف ضعة، وبالحياة موتاً.
ففارق الأحبّة وفارقوه، وخذله إخوانه وتركوه، وصار ما جمع
فيها مفرّقاً، وما عمل فيها متبرّءاً، وما شيّد فيها خراباً، وصار اسمه مجهولاً،
وذِكره منسيّاً، وحسبه خاملاً، وجسده بالياً، وشرفه وضيعاً، ونعمته وبالاً، وكسبه
خساراً، وورث أعداؤه سلطانه، واستذلّوا عقبه، واستباحوا حريمه، وتملّكوا أمواله،
ونقضوا عهده، وملكوا جنوده، فأفٍّ لدار حالها هذا وشأن ساكنها ذلك، وفّقنا الله
تعالى للزهد فيها والاعراض عنها.
وبما ذكرنا ظهر أنّ (العيش فيها مذموم) وأراد بالعيش الترفّه
فيها والتنعّم بلذّاتها والالتذاذ بشهواتها، وإنّما كان هذا مذموماً لكونه شاغلاً
عن التوجّه إلى الحقّ وعن الالتفات إلى الآخرة، ومعقباً للندم والحسرة الطويلة
والعذاب الشديد يوم القيامة.
وقد وقع ذمّ هذا في كتاب الله تعالى وعلى ألسنة الأنبياء
والرسل متجاوزاً عن حدّ الاحصاء، قال تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي
الأَْمْوالِ وَالأَْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الآْخِرَةِ عَذابٌ
شَدِيدٌ».(5) وقال أيضاً: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا
فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».(6)
[مثال الدنيا]:
وقد وقع تشبيه المتنعّم باللذّات الدنيويّة والمتلذّذ
بشهوتها، الملهية له عن التوجّه إلى عاقبة أمره والالتفات إلى مآل حاله في كلام
الحكماء، برجل حمل عليه فيلٌ مغتلم، فانطلق مولّياً هارباً، فاتبعه الفيل فغشيه
حتّى اضطّره إلى بئر، فتدلّى فيها وتعلّق بغصنَين نابتَين على شفير البئر، فإذا في
أصلها جرذان يقرضان الغصنين، أحدهما أبيض والآخر أسود، فلمّا نظر إلى تحت قدميه
فإذا رؤوس أربع أفاعٍ قد طلعن من حجرهنّ، فلمّا نظر إلى قعر البئر إذا تنين فاغر
فاه نحوه يريد التقامه، فلمّا رفع رأسه إلى الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل،
فألهاه ما طعم منه وما نال من لذّة العسل وحلاوته عن الفكر في أمر الأفاعي اللواتي
لا يدري متى يبادرنه، وألهاه عن التنين الذي لا يدري كيف مصيره بعد وقوعه في
لهواته.
أمّا الفيل فهو الأجل، وأمّا البئر فالدنيا المملوءة من
الآفات والبلايا والشرور، وأمّا الغصنان فالعمر، وأمّا الجرذان فالليل والنهار
يسرعان في قطع العمر، وأمّا الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة التي هي السموم
القاتلة من المرّة والبلغم والريح والدم التي لا يدري صاحبها متى تهيج به، وأمّا
التنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب، وأمّا العسل الذي اغترّ بأكله فما
ينال الناس من عيش الدنيا ولذّتها وشهواتها ونعيمها ودعتها، من لذّة الطعام والشراب
واللباس والشمّ واللمس والبصر، هذا هو العيش المذموم.
[العيش الممدوح]:
ويقابله العيش الممدوح: وهو العيش الهنيء الذي أشير إليه في
الحديث القدسيّ المرويّ في البحار من إرشاد القلوب للديلميّ، عن أمير المؤمنين
(عليه السلام): إنّ الله تعالى شأنه قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج
في جملة مخاطباته: «يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهنى وأيّ حياة أبقى؟ قال: اللهمّ لا،
قال: أمّا العيش الهنيء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذِكري، ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل
حقّي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأمّا الحياة الباقية فهي التي تعمل لنفسه حتّى
تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه، ويبتغي
مرضاتي، ويعظم حقّ عظمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيئة أو
معصية، وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره، ويبغض الشيطان ووسواسه، ولا يجعل لإبليس على
قلبه سلطاناً ولا سبيلاً، فإذا فعل ذلك أسكنتُ قلبه حبّاً، حتّى أجعل قلبه لي
وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي،
وأفتح عين قلبه وسمعه، حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، وأضيّق عليه
الدنيا وأبغّض إليه ما فيها من اللذّات، وأحذّره من الدنيا وما فيها كما يحذر
الراعي على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفرّ من الناس فراراً، وينقل من دار
الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن. يا أحمد لأزيّننّه بالهيبة
والعظمة، فهذا هو العيش الهنيء والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين... الحديث.(7)
[عدم الأمان في الدنيا]:
(والأمان فيها معدوم) لأنّها إذا كانت بالبلاء محفوفة
وبالخديعة موصوفة، مختلفة الحالات ـ متصرّفة التارات ـ حسبما عرفت تفصيلاً وتوضيحاً
ـ فكيف يُؤمن من بوائقها ويطمئنّ من طوارقها؟ وكيف يسلم من فجعتها ويستراح من
خدعتها، ويتخلّص من غيلتها؟!
فهي غرّارة ضرّارة حائلة زائلة نافذة بائدة أكّالة غوّالة،
حيُّها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، مُلكها مسلوب، ومالها منهوب، وعزيزها مغلوب،
وموقورها منكوب، كيف لا وقد رأينا تنكّرها لمن أمن بها ودان لها واطمئنّ إليها حتّى
ظعنوا عنها فراق الأبد، هل زوّدتهم إلاّ السغب، أو أحلّتهم إلا الضنك، أو تورث لهم
الظلمة، أو أعقبتهم إلاّ الحسرة والندامة، فبئست الدار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها
على وجل.
قوله (عليه السلام) «وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم
بسهامها، وتُفنيهم بحمامها، واعلموا عباد الله أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا»
من متاعها وحطامها وزبرجها وزخارفها (على سبيل مَن قد مضى قبلكم) من أهل الديار
الخالية والربوع الخاوية.
[التاريخ وطول العمر]:
(ممّن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً،
أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية».
منهم عوج بن عناق كان جبّاراً عدوّاً لله، له بسطة في الجسم
والخلق.(8)
ومنهم عاد قوم هود، فقد كانت بلادهم في البادية وكان لهم زرع
ونخل كثير، ولهم أعمار طويلة، فعبدوا الأصنام وبعث الله إليهم هوداً يدعوهم إلى
الإسلام وخلع الأنداد، فأبوا فأهلكهم الله.(9)
ومنهم شدّاد بن عاد الذي بنى إرم ذات العماد في مدة ثلاثمائة
سنة،وكان عمره تسعمائة سنة، قال في إكمال الدين: وجدت في كتب معمر أنّه ذكر عن هشام
بن سعيد الرحّال، قال: إنّا وجدنا حجراً بالاسكندرية مكتوباً فيه: أنا شدّاد بن
عاد، أنا شيّدت إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد، وجنّدت الأجناد،
وشددت بساعديّ الواد.(10)
ومنهم لقمان بن عاد وكان من بقيّة عاد الأولى، فقد روي أنّه
عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة.(11)
ومنهم فرعون ذو الأوتاد، قال في مجمع البيان: قال الضحّاك:
إنّه عاش أربعمائة سنة، وكان قصيراً ذميماً، وهو أوّل من خضب السواد.(12)
ومنهم عمرو بن عامر الملقّب بمزيقنا وماء السماء، ملك أرض
سبأ، فقد عاش ثمانمائة سنة، أربعمائة سنة سوقة في حياة أبيه، وأربعمائة سنة ملكاً،
وكان يلبس كلّ يوم حليتين في سنيّ ملكه، فإذا كان بالعشيّ مزّق الحليتين حتّى لا
يلبسها أحد غيره، سُمّي مزيقيا وسمّي بماء السماء أيضاً لأنّه كان حياة أينما نزل
كمثل ماء السماء.(13)
ومنهم هبل بن عبد الله بن كنانة، عاش ستمائة سنة.(14)
ومنهم جلهمة بن أدد، ويقال له طيء وإليه تُنسب قبيلة طيء
كلها، وكان له ابن أخ يقال له: يحابر بن ملك بن أود، وقد عاش كلّ منهما خمسمائة
سنة.(15)
ومنهم عبيد بن الأبرص، عاش ثلاثمائة سنة حتّى قال:
فنيت وأفناني الزمان وأصبحت لديّ بنو نعش وزهر الفراقد(16)
ومنهم عزيز مصر الذي كان في زمن يوسف وأبوه وجدّه، وهو
الوليد بن الريّان بن دومغ، وكان عمر العزيز سبعمائة سنة وعمر الريّان ألف وسبعمائة
سنة، وعمر دومع ثلاثة آلاف سنة.(17)
ومنهم الضحّاك صاحب الحيّتين عاش ألفاً ومأتي سنة.(18)
ومنهم أفريدون العادل عاش فوق ألف سنة.(19)
ومنهم الملك الذي أحدث المهرجان، فقد زعمت الفرس أنّه عاش
ألفي سنة وخمسمائة سنة.(20)
[ذو القرنين]:
ومنهم الاسكندر عاش خمسمائة عام، وقد ملك الدنيا بأسرها وأخذ
بقرني الشمس شرقها ومغربها، وقد ذكر الله تعالى قصّته في القرآن في سورة الكهف
بقوله: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ
ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَْرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ
أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ
عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى
وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ
دُونِها سِتْراً كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا
يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ
تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا
جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا
جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا».(21)
تفسير: قال الطبرسي (رحمه الله) في قوله تعالى: «إِنَّا
مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَْرْضِ»، أي بسطنا يده في الأرض وملّكناه حتّى استولى عليها.
وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: سخّر الله له السحاب فحمله عليها، ومدّ له في
الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، فهذا معنى تمكينه في الأرض،
«وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ سَبَباً» أي وأعطيناه من كلّ شيء علماً وقدرة وآلة
يتسبّب بها إلى إرادته «فَأَتْبَعَ سَبَباً »أي فأتبع طريقاً وأخذ في سلوكه، أو
فأتبع سبباً من الأسباب التي أوتيها في المسير إلى المغرب «حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ »أي آخر العمارة من جانب المغرب، وبلغ قوماً لم يكن وراءهم أحد
إلى موضع غرب الشمس «وَجَدَها تَغْرُبُ »أي كأنّها تغرب «فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ »وإن
كانت تغرب وراءها، لأنّ الشمس لا تزايل الفلك ولا تدخل عين الماء، ولكن لمّا بلغ
ذلك الموضع تراءى له كأنّ الشمس تغرب في عين، كما أنّ من كان في البحر يراها كأنّها
تغرب في الماء، ومن كان في البرّ يراها كأنّها تغرب في الأرض الملساء، والعين
الحمئة: هي ذات الحمأ، وهي الطين الأسود المنتن، والحامية الحارة «إِمَّا أَنْ
تُعَذِّبَ »أي بالقتل من أقام منهم على الشرك «وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ
حُسْناً» أي تأسرهم وتمسكهم بعد الأسر لتعلّمهم الهدى «أَمَّا مَنْ ظَلَمَ »أي أشرك
«فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ» أي نقتله إذا لم يُسلم «ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ
فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً »أي منكراً غير معهود في النار «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى» أي المثوبة الحسنى، جزاءاً «وَسَنَقُولُ
لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً »أي قولاً جميلاً، وسنأمره بما يتيسّر عليه، «ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَباً» أي طريقاً آخر من الأرض يوصله إلى مطلع الشمس «حَتَّى إِذا
بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ »أي إبتداء العمارة من جانب المشرق.(22)
وكذلك قال البيضاوي: أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة
المكان وبسطة الملك، أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار
«وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ» من الجنود والآلات والعدد والأسباب «خُبْراً» أي
علماً تعلق بظواهره وخفاياه، والمراد أنّ كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيط به إلاّ علم
اللطيف الخبير «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» يعني طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق
والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال «حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» بين
الجبلين المبنيّ عليهما سدّه، وهما جبلا أرمينية وأذربايجان، وقيل: جبلان في أواخر
الشمال في منقطع أرض الترك، من ورائهما يأجوج ومأجوج «لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ
قَوْلاً »لغرابة لغتهم وقلّة فطنتهم «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ» أي قال مترجمهم
«فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً» أي جعلاً نخرجه من أموالنا؟ «قالَ ما مَكَّنِّي
فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ »أي ما جعلني فيه مكيناً من المال والملك خير ممّا تبذلون لي
من الخراج ولا حاجة بي إليه «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ »أي بفعلة، أو بما أتقوّى به
من الآلات «رَدْماً» أي حاجزاً حصيناً وهو أكبر من السد «زُبَرَ الْحَدِيدِ» أي
قطعه «بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» أي بين جانبي الجبلين بتنضيدها «قالَ انْفُخُوا» أي
قال للعملة: انفخوا في الأكوار والحديد «حَتَّى إِذا جَعَلَهُ» أي جعل المنفوخ فيه
«ناراً» أي كالنار بالاحماء «قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» أي آتوني
قطراً، أي نحاساً مذاباً أفرغ عليه قطراً، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه «فَمَا
اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ» أي أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وانملاسه «وَمَا
اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» لثخنه وصلابته، قيل حفر للأساس حتّى بلغ الماء، وجعله من
الصخرة والنحاس المذاب عليها فاختلط والتصق بعضها ببعض وصار جبلاً صلداً، وقيل بناه
من الصخور مرتبطاً بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها «قالَ هذا»
السد أو الإقدار على تسويته «رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» على عباده «فَإِذا جاءَ وَعْدُ
رَبِّي »وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة
«جَعَلَهُ دَكَّا» مدكوكاً مسويّاً بالأرض.(23)
قال الطبرسي (رحمه الله): قيل: إنّ هذا السد وراء بحر الروم
بين جبلين هناك يلي مؤخّرهما البحر المحيط، وقيل إنّه وراء دربند وخزران من ناحية
أرمينية وآذربيجان، وقيل: إنّ مقدار ارتفاع السدّ مائتا ذراع، وعرض الحائط نحو من
خمسين ذراعاً... وجاء في الحديث أنّهم يدأبون في حفره نهارهم، حتّى إذا أمسوا
وكادوا يُبصرون شعاع الشمس قالوا: نرجع غداً ونفتحه ولا يستثنون، فيعودون من الغد
وقد استوى كما كان، حتّى إذا جاء وعد الله قالوا: غداً نفتح ونخرج إن شاء الله،
فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه بالأمس فيخرقونه فيخرجون على الناس فينشفون
المياه، وتتحصّن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع وفيها كهيئة
الدماء فيقولون: قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً (أي
دود يدخل في أنوف الإبل والغنم) في أقفائهم فتدخل في آذانهم فيهلكون بها، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): والذي نفس محمّد بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتسكر من
لحومهم سكراً.(24)
محمد بن هارون الزنجاني، عن معاذ بن المثنى العنبري، عن عبد
الله بن أسماء، عن جويرية، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن وهب قال: وجدت في
بعض كتب الله (عز وجل) أنّ ذا القرنين لما فرغ من عمل السدّ انطلق على وجهه، فبينا
هو يسير وجنوده إذ مرّ على شيخ يصلّي، فوقف عليه بجنوده حتّى انصرف من صلاته، فقال
له ذو القرنين: كيف لم يردعك ما حضرك من جنودي؟ قال: كنت أناجي من هو أكبر جنوداً
منك وأعزّ سلطاناً وأشدّ قوة، ولو صرفت وجهي إليك لم أُدرك حاجتي قبله، فقال له ذو
القرنين: هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي، وأستعين بك على بعض أمري؟ قال: نعم
إن ضمنتَ لي أربع خصال: نعيماً لا يزول، وصحّة لا سقم فيها، وشباباً لا هرم فيه،
وحياة لا موت فيها، فقال ذو القرنين: وأيّ مخلوق يقدر على هذه الخصال؟ فقال الشيخ:
فإنّي مع من يقدر عليها ويملكها وإيّاك.
ثم مرّ برجل عالم فقال لذي القرنين: أخبرني عن شيئين منذ
خلقهما الله (عز وجل) قائمين، وعن شيئين جاريين، وشيئين مختلفين، وشيئين متباغضين.
فقال له ذو القرنين: أمّا الشيئان القائمان فالسماوات والأرض، وأمّا الشيئان
الجاريان فالشمس والقمر، وأمّا الشيئان المختلفان فالليل والنهار، وأمّا الشيئان
المتباغضان فالموت والحياة. فقال: انطلق فإنّك عالم، فانطلق ذو القرنين يسير في
البلاد حتّى مر بشيخ يقلّب جماجم الموتى، فوقف عليه بجنوده فقال له: أخبرني أيّها
الشيخ لأيّ شيء تقلّب هذه الجماجم؟
قال: لأعرف الشريف من الوضيع، والغنيّ من الفقير فما عرفت،
وإنّي لأقلّبها منذ عشرين سنة. فانطلق ذو القرنين وتركه فقال: ما عنيت بهذا أحداً
غيري.
فبينا هو يسير إذ وقع على الأمّة العالمة من قوم موسى الذين
يهدون بالحقّ وبه يعدلون، فلمّا رآهم قال لهم: أيّها القوم أخبروني بخبركم فإنّي قد
دُرت الأرض شرقها وغربها وبرّها وبحرها وسهلها وجبلها ونورها وظلمتها فلم ألقَ
مثلكم، فأخبروني ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: فعلنا ذلك لئلاّ ننسى
الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا، قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟
قالوا: ليس فينا لصّ ولا ظنين، وليس فينا إلاّ أمين. قال:
فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالم. قال: فما بالكم ليس بينكم حكّام؟
قالو: لا نختصم. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكاثر. قال: فما بالكم
لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا: من قِبل أنّا متواسون متراحمون. قال: فما بالكم
لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم
لا تستبّون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قِبل أنّا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا أنفسنا
بالحلم. قال: فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل أنا لا
نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً. قال: فأخبروني لم ليس فيكم مسكين ولا
فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقسم بالسويّة. قال: فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ؟
قالوا: من قِبل الذلّ والتواضع. قال: فلم جعلكم الله (عز وجل) أطول الناس أعماراً؟
قالوا: من قبل أنّا نتعاطى الحقّ ونحكم بالعدل. قال: ما بالكم لا تقحطون؟ قالوا: من
قبل أنا لا نغفل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا: من قبل أنا وطّنّا
أنفسنا على البلاء فقوينا أنفسنا. قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات؟ قالوا: من قبل
أنا لا نتوكّل على غير الله (عز وجل)، ولا نستمطر بالأنواء والنجوم. قال: فحدّثوني
أيّها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالو: وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم، ويواسون
فقيرهم، ويعفون عمّن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويستغفرون لمسيئهم، ويصلون
أرحامهم، ويؤدّون أمانتهم، ويصدقون ولا يكذبون، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم. فأقام
عندهم ذو القرنين حتّى قُبض، وكان له خمسمائة عام.(25)
روى الصدوق عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: حجّ ذو القرنين
في ستمائة ألف فارس، فلمّا دخل الحرم سبقه بعض أصحابه إلى البيت، فلمّا انصرف قال:
رأيت رجلاً ما رأيت رجلاً أكثر نوراً ووجهاً منه، قالوا: ذلك إبراهيم خليل الرحمن
(عليه السلام) قال: أسرجوا فأسرجوا ستمائة ألف دابة في مقدار ما يسرج دابّة واحدة،
ثم قال ذو القرنين: نمشي إلى خليل الرحمن، فمشى ومشى معه أصحابه حتّى التقيا، قال
إبراهيم (عليه السلام): بِم قطعت الدهر؟ قال: بإحدى عشرة كلمة: سُبحان من هو باق لا
يفنى، سبحان من هو عالم لا ينسى، سبحان من هو حافظ لا يسقط، سبحان من هو بصير لا
يرتاب، سبحان من هو قيّوم لا ينام، سبحان من هو مَلِك لا يُرام، سبحان من هو عزيز
لا يُضام، سبحان من هو محتجب لا يُرى، سبحان من هو واسع لا يتكلّف، سبحان من هو
قائم لا يلهو، سبحان من هو دائم لا يسهو.(26)
وجاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ملك الأرض كلّها
أربعة: مؤمنان، وكافران، فأمّا المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، والكافران:
نمرود وبخت نصر.(27)
[الاسكندر والملكة الذكية]:
فالاسكندر ملك الأرض شرقها وغربها ولم يبق قطر إلاّ وقد
استولى عليه، فذكروا له يوماً بأنّ مملكة في الاقليم الفُلاني لم تملكه ولم تستولي
عليه، فقال: نسير إليه، وكان الذي يملك ذلك الاقليم امرأة بصيرة حاذقة من الفهم
والذكاء فوق ما يوصف، فعرفت أنّ الاسكندر لا يتركها وشأنها، فقالت يوماً للمصوّرين:
من رأى منكم الاسكندر فليصوِّر لي صورته، فخطّوا لها صورته، فجعلتها أمامها في
المقصورة المطلّة على مدخل البلد، فكانت تنظر مرّة إلى الصورة ومرّة إلى الشارع
الرئيسي حذراً من أن يدخل الاسكندر البلد من غير أن تظفر به، فسار الاسكندر بجيشه
الجرّار الذي لا يقابله شيء حتّى حاذى المملكة، فأقام الجيش على بعد مسافة وغيّر
لباس الملك ولبس ملبوس الناس المتعارف كي لا يُعرف، وكانت هذه عادته ليختبر القطر
الذي يقصده فيعلم معدّاته واستعداده وقواه الحربيّة، فدخل بهذه الهيئة البلد، ولما
نظرت إليه عرفته، فقالت للشرطة: انزلوا إلى ذلك الرجل بسرعة واقبضوا عليه قبل أن
يدخل البلد، فزجّوه في السجن وامنعوا عنه الطعام والشراب ليله ونهاره، وما أسرع ما
أُلقي القبض عليه وزُجّ في السجن من دون معرفة سابقة، ولا يعلم السبب لذلك، فكان
يطلب منهم الطعام والشراب فلا يُعيروه سمعاً، حتى ضعف وأخذ بالارتعاش، فأخبروها
بذلك، وكان في قصرها غُرف واسعة فأمرت بأن توضع في إحداهن مائدة ويملؤوها بنفائس
المجوهرات من اليواقيت والفلزات، ووضعت في آخرها قرص شعير يابس وإناء فيه قليل من
الماء، وأمرت بأن توضع في إحدى الغرف مائدة تملئ بأنواع الطعام وما خلق الله من
أنواع الفواكه، ولمّا كمل ذلك أخبروها بأن هُيّئ جميع ما أمرت به، فقالت: عليَّ به،
فلما مثل بين يديها قالت له: من أنت؟ قال: رجل سائح، فقالت: أفهم ما تقول رجل سائح
فمن أنت؟ فقال أيضاً: رجل سائح في البلدان، فقالت: سبحان الله أقول له من أنت فيجيب
رجل سائح في البلدان، فقالت: أنت رجل سائح؟ قال: بلى، قالت: فهل رأيت أثناء سياحتك
صاحب هذه الصورة وهل تعرفه؟ قال: لا ـ أي لا أخبرك ـ فقالت: عليَّ بمرآة، ثم قالت:
ضعوها إلى جنب الصورة، فقالت له: قف أمام المرآة وانظر الصورتين هل تحسّ بفارق
بينهما، فقال: دعينا من هذا القول وعجّلي لنا بالطعام والشراب فقد ضعفت، فقالت: ولم
لم تقل من أوّل الأمر إنّي الاسكندر لتدفع عنك هذه المشقّة، ثم جائت به إلى المائدة
التي فيها المجوهرات فقالت له: كُل، فقال: إن هذه لا تؤكل، ولمّا وقع بصره على قرص
الشعير في آخر المائدة أسرع إليه فأكله وشرب عليه الماء، فانتظرته إلى أن فرغ،
فأسرعت إليه وقالت: ما صنعت؟ هذا ليس بطعام لك ولا مأكولك، فذهبت به إلى مائدة
الطعام وقالت: له كُل، فقال: إنّي شبعت، فقالت له: كيف وقد أعطاك الله الدنيا
بأسرها فلم تشبع حتّى جئت تزاحمني على ما أملك؟! فقال: والله لقد جبتُ الدنيا
بأسرها فما رأيت أذكى منك ولا أبصر بالأمور، فالقطر وما فيه لك وها أنا منصرف عنك،
فقالت: احملوا معه هذه المجوهرات لعلّه يشبع.
[ذو القرنين وبلقيس]:
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن مجاهد قال: إنّ ذا القرنين
ملك الأرض كلّها إلاّ بلقيس صاحبة مأرب، فإنّ ذا القرنين كان يلبس ثياب المساكين
ثمّ يدخل المدائن فينظر من عورتها قبل أن يقتل أهلها، فأُخبرت بذلك بلقيس، فبعثت
رسولاً ينظر إليه فيصوّر لها صورته في مُلكه حين يقعد، وصورته في ثياب المساكين،
ثمّ جعلت كلّ يوم تُطعم المساكين وتجمعهم، فجاءها رسولها في صورته، فجعلت إحدى
صورتَيه تليها والأخرى على باب الأسطوانة، فكانت تطعم المساكين كلّ يوم فإذا فرغوا
عرضتهم واحداً واحداً فيخرجون، حتّى جاء ذو القرنين في ثياب المساكين فدخل مدينتها
ثمّ جلس مع المساكين إلى طعامها، فقّربت إليهم الطعام فلمّا فرغوا أخرجتهم واحداً
واحداً وهي تنظر إلى صورته في ثياب المساكين، حتّى مرّ ذو القرنين فنظرت إلى صورته
فقالت: أجلسوا هذا وأخرجوا من بقي من المساكين، فقال لها: لم أجلستيني وإنّما أنا
مسكين؟ قالت: لا أنت ذو القرنين، هذه صورتك في ثياب المساكين، والله لا تفارقني
حتّى تكتب لي أماناً بمُلكي أو أضرب عنقك، فلمّا رأى ذلك كتب لها أماناً، فلم ينجُ
أحد منه غيرها» (تفسير السيوطي مج 4 ص 247 ط 1).
[الاسكندر وفيلسوف الهند]:
وذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب (مج 1 ص 182 ط سنة 1346
هـ مطبعة البهية بمصر): ولمّا قتل الاسكندر فور صاحب مدينة المانكير من ملوك الهند،
وانقاد إليه جميع ملوك الهند حسب ما ذكرنا من حمل الأموال والخراج إليه، بلغه أنّ
في أقاصي أرض الهند ملكاً من ملوكهم ذا حكمة وسياسة وديانة وإنصاف للرعيّة، وأنّه
قد أتى عليه من عمره مئون من السنين، وأنّه ليس بأرض الهند من فلاسفتهم وحكمائهم
مثله، يقال له كند، وكان قاهراً لنفسه، مُميتاً لصفاته من الشهوة الغضبيّة وغيرها،
حاملاً لها على خُلق كريم وأدب زائن، فكتب إليه كتاباً يقول فيه: أمّا بعد، فإذا
أتاك كتابي هذا، فإن كنت قائماً فلا تقعد، وإن كنت ماشياً فلا تلتفتُ، وإلاّ مزقتُ
ملكك وألحقتك بمن مضى من ملوك الهند.
فلمّا ورد عليه الكتاب أجاب الاسكندر بأحسن جواب وخاطبه بملك
الملوك، وأعلمه أنّه قد اجتمع له قِبله أشياء لا يجتمع عند غيره مثلها إلاّ من صارت
إليه عنده، فمن ذلك ابنة له لم تطلع الشمس على أحسن صورة منها، وفيلسوف يُخبرك
بمرادك قبل أن تسأله، لحدّة مزاجه وحسن قريحته واعتدال بُنيته واتّساعه في علمه،
وطبيب لا تخشى معه داء ولا شيئاً من العوارض إلاّ ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع
بهذه البنية وحلّ العقدة التي عقدها المبدع لها المخترع لهذا الجسم الحيّ، وإن كانت
بنية الإنسان وهيكله قد نُصبت في هذا العالم عرضاً للآفات والحتوف والبلايا، وقدح
عندي إذا أنا ملأته شرب منه عسكرك بجميعه ولا ينقص شيء، ولا يزيده الوارد عليه إلاّ
دهاقاً، وأنا مُنفذ جميع ذلك إلى الملك وصائر إليه.
فلمّا قرأ الاسكندر الكتاب ووقف على ما فيه، قال: تكون هذه
الأشياء الأربعة عندي ونجاة هذا الحكيم من صولتي أحبّ إلي من أن لا تكون عندي
ويهلك.
فأنفذ إليه الاسكندر جماعة من حكماء اليونانيّين في عدّة من
الرجال، وتقدّم إليهم: إن كان صادقاً فيما كتب به فاحملوا ذلك إليّ ودعوا الرجل في
موضعه، وإن تبيّنتم أنّ الامر بخلاف من ذلك وأنّه أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به
فقد خرج عن حدّ الحكمة، فأشخصوه إليّ، فمضى القوم حتّى انتهوا إلى الملك، فتلّقاهم
بأحسن لقاء وأنزلهم أحسن منـزل، فلمّا كان في اليوم الثالث جلس لهم مجلساً خاصّاً
للحكماء منهم دون من كان معهم من المقاتلة، فقال بعض الحكماء لبعض: إن صدقنا في
الأولى صدقنا فيما بعدها ممّا ذكر.
فلمّا أخذت الحكماء مراتبها واستقرّت بها مجالسها، أقبل
عليهم مباحثاً لهم في أصول الفلسفة والكلام في الطبيعيّات وما فوقها من الإلهيّات،
وعلى شماله جماعة من حكمائه وفلاسفته، فطال الخطب في المبادي الأول وتشاح القوم
ونظروا في موضوعات العلماء وترتيبات الحكماء على غير مراء، وتناهى بهم الحكماء إلى
غاية كان إليها صدورهم من العلويّات، ثمّ أخرج الجارية فلمّا ظهرت لأبصارهم رمقوها
بأعينهم، فلم يقع طرف واحد منهم على عضو من أعضائها ممّا ظهر فأمكنه أن يتعدّى
ببصره إلى غيره، وشغله تأمّل ذلك وحسنه عن تأمّل حسن شكلها وإتقان صورتها، فخاف
القوم على عقولهم لما ورد عليهم عند النظر إليها، ثمّ إنّ كلّ واحد منهم رجع إلى
نفسه وفهمه وقهر سلطان هواه ودواعي طبعه، ثمّ أراهم بعد ذلك ما تقدّم الوعد به،
وسيّرهم وسيّر الفيلسوف والطبيب والجارية والقدح معهم وشيّعهم مسافة من أرضه.
فلمّا وردوا على الاسكندر وأمر بإنزال الطبيب والفيلسوف،
ونظر إلى الجارية فحار عند مشاهدتها وبهرت عقله، وأمر قيّمة جواريه بالقيام عليها،
ثمّ صرف همّته إلى الفيلسوف وإلى علم ما عنده وإلى علم الطبيب ومحلّه من صنعة الطب
وحفظ الصحّة، وقصّ الحكماء عليه ما جرى لهم من المباحثة مع الملك الهندي ومن أحضره
من فلاسفته وحكمائه، فأعجبه ذلك وتأمّل أغراض القوم ومقاصدهم والغاية التي إليها
كان أصدرهم، وأقبل ينظر إلى مطاردة الهند في عللها ومعلولاتها ومايصفه اليونانيّون
من عللها وصحة قياسها على ما قدّمنا من أوضاعها، ثمّ أراد محنة الفيلسوف على حسب ما
أُخبر عنه، فخلا بنفسه وأجال فكره، فسنح له سانح من الفكر بإيقاع معنىً يختبره به،
فدعا بقدح فملأه سمناً وأدهقه ولم يجعل للزيادة عليه سبيلاً ودفعه إلى رسولٍ له
وقال له: امضِ به إلى الفيلسوف ولا تُخبره بشيء، فلمّا ورد الرسول بالقدح ودفعه إلى
الفيلسوف قال بصحّة فهمه وتبيّنه للأمور المتقنة المحكمة في نفسه: لأمرٍ ما بعث هذا
الملك الحكيم بهذا السمن إليّ، وأجال فكره وسبر المراد به، ثم دعا بنحو ألف ابرة
فغرز أطرافها في السمن وأنفذها إلى الاسكندر، فأمر الاسكندر بسبكها كرة مدوّرة
ململمة متساوية الأجزاء وأمر بردّها إلى الفيلسوف، فلمّا نظر إليها الفيلسوف وتأمّل
فِعل الاسكندر فيها، أمر ببسطها وبأن يُتّخذ منها مرآة بحضرته وصقلها، فصارت جسماً
صقيلاً تردّ صورة من قابلها من الأشخاص لشدّة صفائها وزوال الدون عنها وأمر بردّها
إلى الاسكندر، فلمّا نظر إليها وتأمّل حسن صورته فيها، دعا بطست فجعل المرآة فيه
وأمر بإراقة الماء فيه عليها حتّى رسبت وأمر بحمل ذلك إلى الفيلسوف.
فلمّا نظر الفيلسوف إلى ذلك أمر بالمرآة فجعل منها مشربة
كالطرجهارة وجعلها في الطست فوق الماء فطفت فوقه وأمر بردّها إلى الاسكندر، فلمّا
نظر الاسكندر إلى ذلك أمر بتراب ناعم فمُلئت منه وردّها إلى الفيلسوف، فلمّا نظر
الفيلسوف إلى ذلك تغيّر لونه وحاله وجزع وتغيّرت صفاته وأسبل دموعه على خدّه وكثر
شهيقه وطال أنينه وظهر حنينه، وأقام بقيّة يومه غير منتفع بنفسه، ثمّ أفاق من ذلك
الحال وزجر نفسه وأقبل عليها كالمعاتب لها وقال: ويحك يا نفسي ما الذي قذف بك في
هذه السلافة؟ وأصار بك إلى هذه الغمّة؟ ووصلك بهذه الظلمة؟ أنسيتِ وأنت في النور
تسرحين وفي العلوم تمرحين، وتنظرين في الضياء الصادق وتتفسّحين في العالم المشرق،
أنزلت إلى عالم الظلم والمعاندة والغشم والمفاسدة، تخطفك الخواطف وتنتهرك العواصف،
قد حرمت علم الغيوب والكون في العالم المحبوب، ورميت بشدائد الخطوب ورفضت كلّ
مطلوب، أين مصادرك الطبّيّة وراحتك القوية، حللت في الأجساد فقوى عليك الكون
والفساد. حللت يا نفس بين السباع القاتلة والأفاعي المهلكة والنيران المحرقة والريح
العاصفة، وصيّرتك الأعمار علي قرارات الأجسام، لا تشاهدين إلاّ غافلاً، ولا ترين
إلاّ جاهلاً قد زهد في الخيرات ورغب عن الحسنات.
ثمّ رفع طرفه نحو السماء فرأى النجوم تزهر، فقال بأعلى صوته:
يا لك من نجوم سائرة وأجسام زاهرة، من عالم شريف طلعتِ، ولشيءٍ ما وُضعت، إنّك من
عالم نفيس قد كانت النفس في أعاليه ساكنة وفي أكنافه قاطنة، فقد أصبحت عنه ظاعنة.
ثمّ أقبل على الرسول وقال: خُذه وردّه إلى الملك ـ يعني
التراب ـ ولم يُحدث فيه حادثة، فلمّا ورد الرسول على الاسكندر وأخبره بجميع ما شاهد
فتعجّب الاسكندر من ذلك وعلم مرامي الفيلسوف ومقاصده وغاية مراده فيما وقع بالنفوس
من النقلة ممّا علا من العوالم إلى هذا العالم، ولمّا كان في صبيحة تلك الليلة، جلس
له الاسكندر جلوساً خاصاً ودعا به ولم يكن رآه قبل ذلك، فلمّا أقبل ونظر إلى صورته
وتأمّل قامته وخلقته، نظر إلى رجل طويل الجسم رحب الجبين معتدل البنية، فقال في
نفسه: هذه بنية تضادّ الحكمة، فإذا اجتمع حُسن الصورة وحُسن الفهم كان أوحد زمانه،
ولست أشكّ أنّ هذا الشخص قد علم كلّ ما راسلته به وأجابني عليه من غير مخاطبة ولا
موافقة ولا مباحثة، فليس في وقته أحد يدانيه في حكمته، ولا يلحقه في علمه.
وتأمّل الفيلسوف الاسكندر فأدار اصبعه السبّابة على وجهه
ووضعها على أرنبة أنفه وأسرع نحو الاسكندر وهو جالس على غير سرير ملكه، فحيّاه
بتحيّة الملوك، فأشار إليه الاسكندر بالجلوس، فجلس حيث أمره، فقال له الاسكندر: ما
بالك حين نظرت إليَّ ورميتَ بطرفك نحوي أدرت اصبعك حول وجهك ووضعتها على أرنبة
أنفك؟ قال: تأمّلتُك أيّها الملك بنوريّة عقلي وصفاء مزاجي فتبيّنت فكرتك وتأمّلك
لصورتي وأنّها قلّما تجتمع مع الحكمة، فإذا كان ذلك كان صاحبها أوحد زمانه، فأدرت
أصبعي مصداقاً لما سنح لك، وأريتك مثالاً شاهداً، كما أنّه ليس في الوجه إلاّ أنف
واحد، فكذلك ليس في دار مملكة الهند غيري، ولا يلحق أحد من الناس بي في حكمتي.
فقال له الاسكندر: ما أحسن ما تأتى لك ما ذكرت وانتظم لك
بحسن الخاطر ما صنعت، فدع عنك هذا. ما بالك حين أنفذت إليك قدحاً مملوءاً سمناً
غرزت فيه إبراً ورددته إلي؟ قال الفيلسوف: علمت أيها الملك أنّك تقول: إنّ قلبي
امتلأ، وعلمي قد انتهى كامتلاء هذا الإناء من السمن، فليس لأحد من الحكماء فيه
مستزاداً، فأخبرت الملك أنّ علمي يستزيد في علمه ويدخل فيه دخول هذه الابر في هذا
الإناء، قال: فأخبرني ما بالك حين عُمل من الابر كرة وأقدمتها إليك صيّرتها مرآة
ورددتها إلي صقيلة؟ قال: علمت أيّها الملك أنّك تريد أنّ قلبك قد قسا من سفك الدماء
والشغل بسياسة هذا العالم كقسوة هذه الكرة، فلا يقبل العلم ولا يرغب في فهم الغايات
والعلوم والحكمة، فأخبرتك مجيباً ممثّلاً بسبك الكرة والحيلة في أمرها بجعلي منها
مرآة صقيلة مؤدّية إلى الاجسام عند المقابلة لحسن الصفاء، قال له الاسكندر: صدقتَ،
قد أجبتني عن مرادي، فأخبرني أيّها الفيلسوف حين جعلت المرآة في الطست ورسبت في
الماء جعلتها قدحاً فوق الماء طافية ثمّ رددتها إليَّ؟ قال الفيلسوف: علمتُ أنّك
تريد بذلك أنّ الأيام قد انقضت وقصرت، وأنّ الأجل قد قرب، ولا يدرك العلم الكثير في
المهل القليل إلى قلبه وتقريبه من فهمه كاحتيالي للمرآة من بعد كونها راسبة في
الماء حتّى جعلتها طافية عليه، قال له الاسكندر: وصدقت، فأخبرني ما بالك حين ملأتُ
الاناء تراباً رددتَه إليّ ولم تحدث فيه حادثة كفعلتك فيما سلف؟ قال: علمت أنّك
تقول: ثمّ الموت وإنّه لا بدّ منه، ثمّ لحوق هذه البنية بهذا العنصر البارد اليابس
المعتلّ الذي هو الأرض ودثورها وتفرّق أجزائها، ومفارقة النفس الناطقة الصافية
الشريفة اللطيفة لهذا الجسد المرئيّ.
قال الاسكندر: صدقت، ولأحسننّ إلى الهند من أجلك، وأمر له
بجوائز كثيرة، وأقطعه قطائع واسعة، فقال له الفيلسوف: لو أحببتُ المال لما أردت
العلم، ولست أُدخل على علمي ما يضاده وينافيه، واعلم أيّها الملك أنّ الغنية توجب
الخدمة، ولسنا نجد عاقلاً من خدم غير ذاته واستعمل غير ما يصلح نفسه، والذي يصلح
النفس الفلسفة، وهي صقالها وغذاؤها، وتناول الحيوانيّة وغيرها من الموجودات ضدّ
لها، والحكمة سبيل إلى العلوّ وسلّم إليه، ومن عدم ذلك عدم القربة من بارئه.
واعلم أيّها الملك أنّ بالعدل رُكّب جميع العالم بجزئيّاته
ولا يقوم بالجور، والعدل ميزان البارئ جلّ وعزّ، فكذلك حكمته مبرّأة عن كلّ ميل
وزلل، وأشبه الأشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم الاحسان إلى الناس، وقد ملكتَ
أيّها الملك بسيفك وصولة ملكك وتأنّيك في أمورك وانتظام سياستك أجسام رعيتك، فتحرّ
أن تملك قلوبهم بإحسانك إليهم وإنصافك لهم وعدلك فيهم، فهي خزانة سلطانك، فإنّك إن
قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فاحترز من أن تقول تأمن من أن تفعل.
فالملك السعيد من تمّت له رياسة أيامه، والملك الشقيّ من
انقطعت عنه، فمن تحرّى في سيرته العدل استنار قلبه بعذوبة الطهارة. وأمّا القدح
فامتحنه حين أدهقه بالماء وأورد عليه الناس فلم ينقص شربهم منه شيئاً وكان معمولاً
بضرب من خواص الهند والروحانيّة والطبايع التامّة والتوهّم وغير ذلك من العلم ممّا
يدّعيه الهند، وقد قيل أنّه كان لآدم أبي البشر (عليه السلام) بأرض سرنديب من بلاد
الهند مبارك له فيها، فورث عنه وتداولته الملوك إلى أن انتهى إلى كند هذا الملك
العظيم سلطانه وما كان عليه من الحكمة، وقيل غير ذلك من الوجوه».
(في المجلد الثاني من كتاب الشاهنامه للفردوسي ص 16 ط مصر
وقد ترجمها إلى اللغة العربية نثراً الفتح بن علي البنداري).
* * *
|