ومن خطبة له (عليه السلام): [ وفيها يسبح الله ويذكر نعيم الجنة]

«سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَمَطْعَماً وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً وَقُصُوراً وَأَنْهَاراً وَزُرُوعاً وَثِمَاراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا وَلَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا وَلَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا لا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ وَلَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ وَهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ حَيْثُ لا إِقَالَةَ وَلَا رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وَقَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَالْعِبْ‏ءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَيَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَلَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لا يُسْعِدُ بَاكِياً وَلَا يُجِيبُ دَاعِياً ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ».(1)

أخبر صلوات الله عليه عن الجنة وثمارها وأشجارها وأنهارها وقصورها وتنعّم الإنسان فيها.

* * *

ضبط الألفاظ اللغوية:

جاء في منهاج البراعة: المأدبة بفتح الدال وضمّها طعام صنع لدعوة أو عرس، و(وله) الرجل إذا تحيّر من شدّة الوجد، (والغِرّة) بكسر الغين المعجمة الاغترار والغفلة، يقال اغترّه فلان أي أتاه على غرّة منه و(أطراف البدن) الرأس واليدان والرجلان، و(ولج) يلج ولوجاً أي دخل، و(المصرّح) خلاف المشتبه وهو الظاهر البيّن، و(التبعات) جمع التبعة وهو الاثم، و(المهنأ) المصدر من هنأ الطعام يهنأ إذا صار هنيئاً، و(العبء) الثقل، و(أصحر) أي ظهر وانكشف، و(رجع) الكلام ما يتراجع منه، و(الالتياط) الالتصاق، و(الاسعاد) الاعانة، و(المخطّ من الأرض) كناية عن القبر يُخطّ أوّلاً ثم يُحفر.

* * *

الشرح:

إنّ هذا الفصل من كلامه تحذير للمتمرّدين من العصاة والمذنبين الغواة، وتنفير لهم عن الركون إلى الدنيا وإلى زخارفها وما فيها، وتذكير لهم بما يحلّ بساحتهم من سكرات الموت وينـزل بفنائهم من حسرات الفناء والفوت.

وافتتح صلوات الله عليه بتسبيح الله تعالى وتقديسه فقال: «سبحانك خالقاً ومعبوداً» أي أنزّهك تنـزيهاً عن الشركاء والأمثال في حالة خلقك ومعبوديّتك، لا موجد غيرك ولا معبود سواك.

«بحسن بلائك عند خلقك خلقت داراً» أي خلقت داراً بسبب ابتلاء عبادك وامتحاناً لهم وتمييزاً بينهم، وتفرقة بين السعداء، أعني الطالبين المشتاقين إلى ملك الدار، وبين الأشقياء وهم الراغبون المعرضون عنها، والمراد بالدار دار الآخرة.

والمراد بالمأدبة الجنّة التي هُيّأت للمتّقين ودُعي إليها عباد الله الصالحون، وأعدّ الله سبحانه لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما تشتهيه أنفسهم.

«مشرباً ومطعماً» أي شراباً وطعاماً، «وأزواجاً» من الحور العين، «وخدماً» من الولدان المخلّدين، «وقصوراً» عالية «وأنهاراً» جارية «وزروعاً» زاكية «وثماراً» طيبة.

«ثمّ أرسلت داعياً يدعو» الناس «إليها» أي إلى هذه الدار أو المأدبة، وأراد بالداعي محمّداً (صلى الله عليه وآله) «فلا الداعي أجابوا ولا فيما رغّبت إليه» من الدار الآخرة الباقية ونعيمها «رغبوا ولا إلى ما شوّقت إليه» من حور الجنّة وقصورها وأنهارها وثمارها وسائر ما أُعدّ فيها، «اشتاقوا».

 

[عالم الآخرة]:

لطالما شغلت المفكّرين والمتأمّلين مسألة الآخرة...

ولطالما احتار فيها العلماء والمتعلّمون...

حتى طلّ علينا العصر الحديث، فإذا النداء يأتينا من الغرب بضرورة مراجعة الفكر الإنسانّي للالتفات إلى مسألة الحياة الأخرى.

فأقرّها فطاحلة العلماء ممّن لا ينتمي إلى دين، أو يتحيّز إلى فكر... أمثال كيركجارد، وبرجسون، ودوكاس.

وكلّ قضية عادلة تعرض على مسرح العقل البشريّ يؤيّدها العقلاء ويتنكّر لها الجهال والمتطفّلون على العلم، وكانت الآخرة من إحدى الفكر التي هزأ بها المتغافلون عن البراهين الساطعة، ولم نسمع من هؤلاء دليلاً مقنعاً لإنكار الآخرة، فاستنتجنا سبباً لهذا الاصرار، هو التمادي في تحذير الضمير للتخلّص من وخزه وتأنيبه، ومحاولة الهرب من رقابة الخالق، والتخلّص من الالتزام بالمباديء والقيم السامية، وإطلاق العنان للأهواء والرغائب الشيطانيّة الطائشة.

وأزاء كلّ هذا الطمس لهذه الحقيقة الملحّة... فقد دلّت الأبحاث على ضرورة الآخرة.

فمن الجانب النفسّي شوهدت النفس الإنسانيّة وهي تشتاق إلى عالم آخر طالما انتظرته بفارغ الصبر.

ومن الجانب الأخلاقيّ فقد أكّدت الأدلة العقليّة بأنّ كلّ شيء في الكون يدلّ على العدل، وكيف يموت الظالم وهو ظالم، والمظلوم وهو مظلوم بدون حساب؟ إذاً لا بدّ أنّ هناك عالماً آخراً يُثاب فيه المحسن ويُعاقب فيه المسيء، وإلاّ فإنّ التاريخ البشريّ يفقد كلّ معنى.

أمّا الضرورة الكونيّة فقد تحقّقت بالأدلّة القطعيّة لدى علماء الطبيعة بنفي الأزليّة عن المادّة، ولا بدّ لهذا العالم من نهاية حتميّة وقيامة كبرى تكون خاتمة للقيامات الصغرى التي تمرّ بها عوالم الإنسان والحيوان، والنجوم والحضارات المتلاشية، والحقب الزمنيّة الفانية.

 

[العلم التجريبـي وإثبات الآخرة]:

وأخيراً تحقّقت علميّة إثبات الآخرة عن طريق الشهادة التجريبيّة، فإنّ الحياة التي ظهرت مرّة واحدة يمكن أن تُعيد نفسها، وإنّ الخالق ـ بالتأكيد ـ يستطيع من جديد خلق الحياة التي أنشأها للمرة الأولى، وهذا الدليل قد صرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى:

«أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَْرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».(2)

ولذلك قال البروفسور دوكاس: إنّ بقاء الحياة بعد الموت لعلّها الوحيدة من عقائد الدين الكثيرة التي يمكن إثباتها بالدليل التجريبـّي.

وتظلّ مشكلة الضبط الاجتماعيّ محيرّة لعقليّات الفلاسفة ورجال السياسة وعلماء النفس والاجتماع... وعلى امتداد التاريخ تبقى معضلة السلوك الاجتماعي مادّة تفكير المفكّرين، لا سيّما وإن جميع وسائل الإرهاب والتحذير والإغراء قد فشلت في تحقيق المهمّة.

حتّى انتبهت الأبحاث الاجتماعيّة إلى سلوكيّات صريحة اجتماعيّة واعية عرفت بالالتزام الدينيّ والتفكير الأُخرويّ، وافتراض الرقابة الدائميّة على الذات ومحاسبة النفس بوازع الضمير المتيقّظ. وهذا هو الحلّ الوحيد الذي يستطيع معالجة التدهور الحضاريّ بصورة صحيحة، محافظاً على إنسانيّة الإنسان، ودافعاً إيّاه نحو الخير والإخاء... وإلاّ أصبحت الحياة مسرحاً مأساويّاً بشعاً.

وهذا ما اعترف به أحد مفكّري الغرب وهو (برتراند رسل) حيث يقول: إنّ حيوانات عالمنا يغمرها السرور، على حين كان الناس أجدر من الحيوان بهذه السعادة، ولكنّهم محرومون من نعمتها في عالمنا الحديث.

ولأجل تحقيق السعادة الدنيويّة أسدل الباري (عز وجل) عناية واهتماماً بعرض الآخرة وتبيانها للناس كي يُفيقوا من غفلاتهم ويتّبعوا الحكمة في أمورهم، ولتكون الدنيا دار أمل كبير في نيل رضوانه وثوابه (عز وجل) وكما قال الإمام علي (عليه السلام):

«إن الدنيا دارُ صدقٍ لمن صدقها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، ودار عافية لمن فهم عنها، ومسجد أحباب الله ومتجر أوليائه، اكتسبوا منها الرحمة، وربحوا منها الجنّة»...(3)

والآخرة أصل من أصول ديننا، وقد حذّر الله سبحانه وتعالى منها من ألقى السمع وهو شهيد، فقال عزّ من قائل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ».(4)

وقال (عز وجل) أيضاً: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ».(5)

وأمرنا بالاستعداد لها «وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ»،(6) وقال أيضاً:

«تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى».(7)

ولذلك أجاب الإمام علي (عليه السلام) رجلاً يهوديّاً كان يسأله: ما الصعب وما الأصعب؟

قائلا له: الصعب القبر، والأصعب: الذهاب بلا زاد.(8)

فلكي نستمتع برضا الله جلّ وعلا، وننال ثوابه... تعالوا نتذكّر الآخرة.

* * *

الجنّة:

الجنّة لغة: البستان المتكاثفة الأشجار.

وقد ورد للجنّة ـ في القرآن الكريم ـ أسماء عدّة، منها:

دار السلام، الفردوس، دار الخلود، دار المقامة، جنّات عدن.

يخلد أهل الجنّة فيها فلا موت، ولا منغّصات، ولا بؤس، ولا مرض، ولا هرم:

«لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُْولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ».(9)

«وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ».(10)

لا يسمع منهم إلاّ الكلام الطيب، إخوان متحابّون، فلا لغو ولا فحش ولا كذب، ولا بغضاء ولا شحناء ولا حسد، ولا كلّ ما يعتري أهل الدنيا من السوء.

«وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ».(11)

«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً».(12)

«وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ»(13).

وفي الجنّة ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكلّ ما نسمع ويُقال عن نعيم الجنّة وما فيها من لذّة ومتعة، فهي فوق كلّ ذلك وأجلّ ممّا نتصوره، وأعظم ممّا نتخيله.

والبشر في دار الدنيا لا قدرة لهم على الاستمتاع بذلك النعيم وتلك اللذّة ولا طاقة لهم عليه.

فأشجارها غير هذه الاشجار، وأنهارها غير هذه الأنهار، نساؤها الحور العين، وشرابها العسل المصفّى، وخمرة لذّة للشاربين، دائم نعيمها، أبديّ بقاؤها.

«هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَْبْوابُ مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ».(14)

وفي كتاب ربّنا الكريم مزيد تفصيل.

وما ورد عن نبيّنا (صلى الله عليه وآله) لنا على ذلك خير دليل:

فعنه (صلى الله عليه وآله) يذكر بعض متع الجنّة ونعيمها قال (صلى الله عليه وآله):

«ما من عبد يدخل الجنة إلاّ ويجلس عند رأسه وعند رجليه اثنتان من الحور العين تغنّيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجنّ، وليس بمزمار الشيطان، ولكن بتمجيد الله وتقديسه».(15)

وعنه (صلى الله عليه وآله) كان يذكر الناس فذكر الجنّة وما فيها من الأزواج والنعيم، وفي القوم أعرابيّ، فجثا لركبته وقال: يا رسول الله هل في الجنّة من سماع؟ قال: نعم يا أعرابي، في الجنة نهر حافّتاه الأبكار من كلّ بيضاء يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قطّ، فذلك أفضل نعيم الجنّة».(16)

وورد: «إنّ في الجنّة لأشجاراً عليها أجراس من فضّة، فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرّك تلك الأجراس، لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً».(17)

ومن نعيم الجنّة الرفقة الحسنة، رفقة النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين.

«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً».(18)

ومن متع الجنّة التنازع، يتنازعون بينهم، ولكن لا كتنازع أهل الدنيا، إنّه نزاع مزاح ومتعة، نزاع تلذّذ وتفكّه:

«يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ».(19)

والاجتماعات واللقاءات بينهم مستمرّة دائمة ـ إذ لا عمل ولا عبادة ـ وهم يتسامرون ويتحادثون، وقد يذكرون معارفهم في الدنيا، فيقول قائلهم محدّثاً أصحابه عن جليس له في الدنيا، ولطالما نصحه فلم ينفع فيه ذلك النصح.

«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ».(20)

ويتساءلون بينهم عن المجرمين فإذا هم في النار يصطلون.

«إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ».(21)

 

[لذّات الخلد]:

وفي الجنّة من الرزق الكريم ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين:

«الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَْنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَْعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ».(22)

ولهم فيها ما يشاؤون وما يدّعون:

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ».(23)

«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ».(24)

«لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ».(25)

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تعدّد أنواعاً من الطعام والشراب، وتصف النساء في الجنّة، واللباس الذي يلبسونه، والحليّ التي يُحلّون بها، نذكر بعضها عسى أن ينتفع بها من شاء، ويرغب إليها من أراد، فيعملوا جهدهم للوصول إليها والحصول عليها، والله عنده حسن الثواب.

«وَلأَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ».(26)

«كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ».(27)

«إِنَّ الأَْبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً».(28)

«وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأَْرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً».(29)

«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ».(30)

ومن نعيم الجنّة هدوء النفس وراحة البال، وعدم القيل والقال، فلا تعب ولا نصب، ولا فحش في القول ولا ابتذال، وإنّما سكينة واطمئنان ومحبّة ووئام، وتحيّة وسلام، ولا سأم من الخلود، وهذا ما لم يتوفّر لأحد في الدنيا.

«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ».(31)

«جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا».(32)

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ».(33)

«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ».(34)

«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُْولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيم».(35)

«دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».(36)

من خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام):

«دار بالبلاء محفوفة وبالغدر موصوفة» إلى قوله (عليه السلام): «وتفنيهم بحمامها».(37)

وقال (عليه السلام) في خطبة أخرى:

«فاحذروا الدنيا فإنّها غدّارة غرّارة خدوع، معطية مَنُوع، ملبسة نزوع، لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي محناؤها، ولا يركد بلاؤها».(38)

الدنيا خير دار لمن لم يتّخذها داراً، أو كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يصف الزهّاد: «كانوا قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهلها، فكانوا فيها كمن ليس منها»(39) لأنّها دار عمل، دار امتحان واختبار، وهي الطريق إلى الآخرة، إلى دار الخلود حيث النار أبداً أو الجنّة أبداً، فالعمل فيها بالصالحات يوصل إلى مرضاة الربّ، فيؤتيهم ثواب الدنيا والآخرة:

«فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الآْخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».(40)

وفي الدنيا الظفر والنصر على الأعداء:

«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَْشْهادُ».(41)

والرضا بما قسم، والقناعة ذلك الكنـز الذي لا يفنى، والمُلك الذي لا يبلى، وراحة البال:

«وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً».(42)

ويشرح صدورهم ولا يجعلها ضيّقة، وليس كالكافر الضّالّ الذي وصف ـ سبحانه ـ حاله في الدنيا، فقال عنه:

«وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ».(43)

ويدفع عنهم بلاء النار فيها وينجيهم منه، كما أنجى أُمماً آمنت بربّها وصدّقت بأنبيائها، فقد أنجى نوحاً والذين آمنوا معه:

«فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ».(44)

وكما أنجى هوداً ومن آمن من قومه:

«فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ».(45)

وكذلك يُنجي الله المؤمنين، هذا في الدنيا، وفي الآخرة الفوز والخلود في الجنة، والنعيم الدائم، ولولا هذه الدنيا لما استحقّ الإنسان كلّ هذا الجزاء العظيم، فطوبى للعاملين فيها بأوامره، المنتهين عن نواهيه، وحسن مآب.

أمّا غير المؤمن، أمّا الذين غرّتهم الدنيا فركنوا إليها وأصبحت كلّ همهم، أمّا الذين يحرصون كلّ الحرص فيتمنّون لو يعمّرون فيها:

«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ».(46)

ومهما أُوتوا فيها من المال والجاه والسطوة والسلطان فهم في ضنك من العيش:

«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً».(47)

رضوا بالأرذل الأدنى، وفتنوا أنفسهم بالشهوات والملذّات الزائلة، وبالذهب والفضّة:

«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَْنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ».(48)

وما ذلك إلاّ متاع الحياة الدنيا، ومتاع الدنيا قليل:

«قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالآْخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى».(49)

«نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ».(50)

«لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ».(51)

فالمغرور من غرّته هذه النعم الزائلة الفانية وشُغل بها وجعلها الغاية، ولم يجعلها الوسيلة إلى بلوغ رضوان الله ونعيمه الدائم الذي لا انقضاء له ولا زوال.

وغير المؤمن إذا ملك المال طغى، وإذا ملك السلطان سعى في الأرض الفساد:

«إِنَّ الإِْنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى».(52)

«وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الأَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ».(53)

المال والسلطان نعمة يُنعمها الله سبحانه على الإنسان، تستوجب الشكر، فيبدلها الكافر كفراً وطغياناً عن سبيل الله:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ».(54)

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ».(55)

لا تنفعهم نصيحة ولا يفيدهم إنذار:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ».(56)

واذا ما أملى لهم ـ سبحانه ـ في هذه الدنيا فليس حبّاً بهم ولا كرامة لهم ولكن!؟

«وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ».(57)

ولأنّ الدنيا وما فيها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فما قيمة ما يُعطى فيها الكافر مهما كثر، ولولا أن يُساق الناس سوقاً إلى الكفر لجعل الله سبحانه لمن يكفر به:

«لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ * وَزُخْرُفاً».(58)

رُبّ سائل يسأل: وهل يُترك هؤلاء بدون عقاب في هذه الدنيا؟! أم أنهم يُعاقَبون ليكونوا عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتّعظ؟

كلاّ، فلقد انتقم ـ سبحانه ـ من الكافرين والظالمين على مرّ العصور والأعوام وكرّ الدهور والأيام، فلم ينصرهم من الله ناصر، ولم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولا سلطانهم، وإليك نبؤهم، ولا ينبّؤك مثلُ خبير، قال تعالى:

«فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ».(59)

وقال تعالى يصف حالهم في الدنيا بأنّهم خائفون مرعوبون، وإن ملكوا كلّ شيء!!

«سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ».(60)

وكم نصّ علينا القرآن الكريم من قصصهم، وكيف أخذهم الله نَكال الدنيا والآخرة، فاعتبروا يا أولي الألباب:

«وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ * فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».(61)

«وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَْرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ * فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الأَْرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».(62)

ولنا بما فعل الله بالذين كذّبوا الرسل ـ من قبلنا ـ عبرة وعظة:

«لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ».(63)

فهؤلاء قوم صالح وقوم شعيب (عليه السلام):

«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ».(64)

وهؤلاء قوم لوط (عليه السلام):

«فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ *وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ».(65)

وأما الذين كذّبوا موسى (عليه السلام):

«فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ».(66)

«فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ».(67)

وإكراماً لنبيّنا نبيّ الرحمة، ولبيان فضله على سائر الأنبياء والمرسلين، رفع سبحانه وتعالى عن أمّته العذاب في الدنيا لسببين:

الأول: لوجوده ـ عليه وعلى آله الصلاة والسلام ـ بينهم.

الثاني: لاستغفارهم من الذنوب التي يقترفونها، قال عزّ اسمه:

«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ».(68)

* * *

[من عشق شيئاً أعشى بصره]:

قال الأستاذ محمد علي الحوماني في كتابه (دين وتمدين) مج 2 ص 264، عند قوله (عليه السلام):

«من عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذنٍ غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه».

«هذه كلمات واضحة صريحة لاتحتاج إلى بيان في عرضها بين يدي قراء هذا السفر، إلاّ كلمة «أعشى بصره» فقد كان إمام البلغاء حريّاً بأن يقول: «أعمى بصره» قياساً على المثل القائل:«الحبّ يُعمي ويصمّ»، والمثل الآخر «صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلاّ قضاها» فلماذا عدل الإمام عن كلمة «أعمى» إلى كلمة «أعشى» يا ترى؟ إنّه أراد العمى القريب لا البعيد، والعمى الجزئيّ لا الكليّ، فإنّ الأعشى والعشواء من لا يبصر أمامه، وهو الذي لا يبصر ليلاً، من العشوة التي هي ظلمة الليل، فلم يُرد الإمام بالعشوة الحقيقيّة وإنّما أراد مجازيها، بأن شاء أن ينسب للعاشق العمى الجزئيّ، وهو عدم الرؤية في الليل، أو العمى القريب الذي هو عدم رؤيته ما بين يديه، وترك العمى الكليّ الذي هو عمى الليل والنهار، كما ترك العمى البعيد وهو فقد البصر رؤية ما يكشفه النور من جميع الآفاق التي تحدق به.

أقول: لقد ترك الإمام هذا النوع من العمى للحقيقة واكتفى بالمجاز منها.

ففي الحقيقة أنّ العاشق لا يعمى بصره عن كلّ شيء قريبه وبعيده، جزئيّه وكلّيّه، لأنّه يرى مناط عشقه وهو حبيبه الذي أعماه عن أن يرى غيره، إذن فهو أعشى لا أعمى، فكأنّ هذا العاشق لا يرى في الحياة شيئاً غير ما يعشق، فعينه ـ وهي تبصر الأشياء دونه ـ تصوّر له كلّ شيء في شكل حبيبه، وأذنه ـ وهي تسمع كلّ صوت حوله ـ لا توقع غير صوت حبيبه على سمعه، إذن فالعاشق يرى بعينه العاشقة شخصاً واحداً هو عنده كلّ شخص، ويسمع بأذنه العاشقة صوتا واحداً هو عنده كلّ صوت، ذلك الشخص هو شخص حبيبه، وذلك الصوت هو صوته.

من أجل هذا عبّر عن عينه التي تعشو عن رؤية كلّ شخص غير ما يعشق، عبّر عنها بأنّها غير صحيحة، وعبّر عن أذنه التي تصمّ عن سماع كلّ صوت إلاّ صوت عشيقه، عبّر عنها بأنّها غير سميعة، ذلك ليدلّنا على أنّ الاسترسال في رؤية غير الحقّ عمى، وأنّ الاسترسال في استماع غير الحقّ صمم، فالرائي ـ وإن كان جدّ بصير ـ هو أعمى، إلاّ إذا أمعن في النظر إلى ما يفيض بنور الحقّ في الحياة، والواعي ـ وإن كان جدّ سميع ـ فهو أصمّ إلاّ إذا أصغى بسمعه إلى ما يفصح عن صوت الحقّ في الحياة.

هذا هو عليّ تلميذ محمّد في بلاغته وحكمته وتقواه، ثمّ في إخلاصه بكلّ ما يقول ويعمل.

أقول: هذا عليّ عدنا إليه بما يلقي علينا من تعاليم أخيه ومعلّمه محمّد صاحب المعجزات، ومُنقذ العالم من هوة الانحدار إلى ظلام الوحشية، هذا عليّ يقول في مضمون هذه الجمل الصغيرة: إنّ الشهوات قد تخرق العقل مهما كان هذا العقل جبّاراً، وإنّ الدنيا قد تُميت القلب مهما كان هذا القلب كبيراً، إنّه (عليه السلام) يحذّر كثيراً من استرسال النفس مع الشهوات، ويؤمن كثيراً بأنّ الشهوة قد تُميت القلب وهو يزخر بالحياة، وإنّ صاحب الشهوة عبد قنّ لنفسه حيث يقول: عبد الشهوة أذل من عبد الرقّ».(69)

هذا العقل الكبير الجبّار المنـزل من السماء على الأرض رحمة بالإنسان الضعيف بين يدي شهواته، أقول: إنّ هذا العقل يضعف ويتضاءل بين يدي النفس الأمّارة بالسوء، فما هي إذن هذه النفس العاصفة بجبابرة العقول؟؟ وما هو هذا العقل الجبار الذي يخسأ وينكص ويستكين بين يدي طغيان هذه النفس العاتية؟؟ إنّا لنشعر جميعاً بضعف العقل أمام شهوة الإنسان الدنيا، ونحن على إيمان قوي بأنّ العقل أشرف ما يحمله الإنسان من صفات الخير والنبل والكمال، إنّا لنشعر بذلك، ثمّ نؤمن بأنّ العقل مرشد هادٍ، وأنّ الشرائع السماويّة إنّما نزلت لتعزيزه، ثمّ نرى عقولنا أحياناً كثيرة تخضع لشهوات أنفسنا بمحض اختيارنا وإرادتنا، فما هو السرّ في ذلك كلّه يا ترى؟؟

هل لأنّ الإنسان منطلق بنفسه في متع الحياة الدنيا ومقيّد بعقله فيها؟؟ ولأنّ النفس تبعث على تغذية الجسم في حياته القصيرة، والعقل يبعث على تغذية الروح في حياتها الطويلة؟! أم لأنّ الإنسان مفطور على شهواته بطبعه، ومفطور على عقله بتطبّعه، من أجل ذلك نراه يتهافت على الشهوات منذ طفولته وقبل تعقّله، بينما نراه يتّزن بعقله من وراء تديّنه وتعلّمه وتثقّفه، فلا يخضع للعقل إلا بمعلّم يرشده أو سلطان يقوّمه أو مجتمع يثقّفه، وأمّا النفس الشريرة فلها سلطانها الطبيعيّ الذي يخضع له ويأتمر به دونما قاسر أو آسر من خارج كيانه الذاتي؟؟

المرء بعقله كبير إذا ملك إرادته وسيطر على شهواته، وهو كذلك بهذه الشهوات كبير إذا عهد بتوجيهها إلى عقله، فإنّ الإنسان إذا سيطر عليه عقله بما لا يخمد عاطفته كان مصدراً للعلوم، وإذا سيطرت عليه عواطفه بما لا يكبت عقله كان مصدراً للفنون، فإذا ملك هاتين السيطرتين كان الرجلَ الكامل، وإذا فقد إحداهما نقصت رجولته، وأما إذا فقد كليهما فقد هلك.

كلّ ذلك يعنيه الإمام إذ يدعو إلى تفادي الشهوات وتحامي سلطانها على العقل، وتهافت الإنسان بين يدي شهواته إذا لم يستعن بعقله على توجيهها والتحرّر من سلطانها الجائر.

كان الإمام أديباً وعالماً وحكيماً، كان أديباً إذ تثور عاطفته فيعصمها بنضج عقله من التهافت، فتنفجر فتطلع بأسمى أنواع الأدب الحزين علينا، كخطبته المسماة (بالشقشقيّة)، وكخطبه التي كان يقرع بها جنده وهم يستعصون عليه، فيما يأمرهم به وينهاهم عنه.

وكان الإمام عالماً إذ يعالج بعقله الكبير قضايا السياسة أو الفلسفة أو الثقافة، كعهده لعامله مالك الأشتر إذ ولاّه مصر، وكوصيّته لولديه عند احتضاره.

وكان الإمام حكيماً في كثير من أقواله التي يراها القاريء مدار البحث في هذا الكتاب.

 

[الشهوة الجامحة]:

الشهوة التي يعنيها الإمام بقوله، هذه هي الشهوة الجامحة التي تنـزو على العقل فلا يكبتها ضمير ولا يكبحها وازع، هذه الشهوة هي التي تطمح بالإنسان الضعيف العقل فتجرّده من شرفه وإنسانيّته ودينه وأدبه في سبيل حطام الدنيا، هذا الحطام الذي يتكالب عليه الناس بين يدي منصب زائل أو لذّة من متع الحياة عمرها قصير، أو ملك يتهالك في سبيله من وراء حياة قصيرة الأجل؟

هذه الشهوة التي تدفع بالإنسان الكبير بكلّ ما فيه من جوهر تخيّره الله له وجعله خليفته في أرضه، تدفع هذه الشهوة به إلى هوّة ينحدر فيها عن الحيوان المسخّر له.

أقول: هذه الشهوة الجامحة المتحلّلة الطاغية هي التي يعنيها الإمام بقوله: «قد خرقت الشهوات عقله وأماتت قلبه».

وهي التي عناها بقوله:«عبد الشهوة أذلّ من عبد الرقّ»،(70) هذه الشهوة هي المعبّر عنها في القرآن بقوله عزّ من قائل: «إِنَّ النَّفْسَ لأََمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»،(71) وأمّا الشهوة التي يطمح بها الإنسان إلى معالي الأمور من متع الجسد والروح ثمّ يعمل بعقله ودينه وما أوتيه من قوّة عادلة في تفكيره وتدبيره.

هذه الشهوة التي هي مثار العاطفة في الإنسان الذي لا يعيش بلا عاطفة.

أقول: إنّ هذه الشهوة هي التي يخاطب الله من ورائها عباده بقوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ»(72) وقوله: «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ»(73) وهذه الشهوة هي التي غضب لها الامام عندما بلغه أن بعض الموسرين من أصحابه يكبحون من شهواتهم زهداً في الحياة الدنيا وتشبّهاً به، فانهال عليهم بالتأنيب والتقريع إذ يقول:«لم تحرّمون ما أحلّ الله»؟؟ ولمن يقول الله تعالى: «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ».(74)

ثم يلتفت (عليه السلام) ويقول: ـ من مضمون قوله لا من نصّه ـ أمّا أنا الذي تتشبّهون بي في هذا الحرمان، فأنا أمير المؤمنين، وقدوتهم، ومكان المواساة منهم، لوشئتُ لاهتديت إلى مصفّى هذا العسل ولُباب هذا البرّ ونسائج هذا القزّ، ولكن ربّ جائع في هؤلاء الذين أعول يقول: إن ابن أبي طالب ملأ جوفه من أطائب الحياة وأنا جائع».(75)

هكذا كان الإمام ينظر إلى الدنيا نظرة خبير بها، ثمّ ينظر إلى الناس نظرة خبير بهم، فليس للمأموم أن يتشبّه بإمامه في دقائق الحياة وجلائلها، فقد يسوغ للإمام ما ليس في حساب المأموم، وقد يسوغ لهذا ما هو حجر على ذاك، ولهذا كان الإمام إماماً والمأموم مأموماً.

بهذا يمتاز الرفيع عن الوضيع، والشريف عن الخامل، والعالم عن الجاهل، فقد يكون المباح لي ـ وأنا العبد المملوك ـ حراماً عليك وأنت السيّد المالك، وقد يكون المحرّم علي ـ وأنا الجهول ـ مباحاً لك وأنت العالم، فليس كلّ ما يصلح للرفيع يصلح للوضيع، ولا كلّ ما يليق بالجاهل يليق بالعالم، من أجل ذلك قيل: ذنب العالم على قدره، وذنب الجاهل على قدره، تلك سنّة الله في خلقه «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً».(76)

لقد تقدّم ذكر الجنّة ووصفها، ولمّا كان قوله (عليه السلام) في المقام من وصف الجنة «مشرباً ومطعماً الخ» ناسب أن نعود إلى ذكر الجنّة آخر ممّا يتشوّق إليه القارئ فنقول:

الجنّة (لغة) هي الحديقة ذات الشجر، وفي الاصطلاح الديني تُطلق الجنّة على ما أعدّه الله للصالحين من عباده في الحياة الآخرة، مكافأة لهم على صالح أعمالهم وجميل آثارهم في العالم الأرضيّ.

 

[وصف الجنة في القرآن]:

وقد جاء وصفها في القرآن الكريم بأنّها ذات أنهار وأشجار وفواكه ولحوم وأزواج، على مثال ما هو موجود في العالم الأرضيّ، وإن كان أرقى منه في النوع والشكل والطعم، وقد تكرّر ذكرها في الكتاب الشريف على صور شتّى، فقال تعالى:

«وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأَْرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً * وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً * إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً».(77)

وقوله تعالى:

«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ».(78)

وقال تعالى:

«وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ».(79)

هذا بعض ما ورد من صفات الجنّة في القرآن العظيم.

 

[وصف الجنة في أحاديث السنة]:

قال الطريحي في مجمع البحرين:

عن علي بن إبراهيم قال: حدّثني أبي، عن حماد، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لمّا أسري بي إلى السماء، دخلت الجنّة فرأيت قصراً من ياقوت أحمر يُرى داخله من خارجه، وخارجه من داخله، وفيه بيتان من درّ وزبرجد، فقلت: يا جبرئيل لمن هذا القصر؟ فقال: لمن أطاب الكلام، وأدام الصيام، وأطعم الطعام، وتهجّد بالليل والناس نيام، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا رسول الله وفي أمّتك من يطيق هذا؟ فقال: أدنُ مني يا علي، فدنا، فقال: أتدري ما إطابة الكلام؟ فقال: الله ورسوله أعلم، قال: من قال: (سُبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله اكبر). فقال: أتدري ما إدامة الصيام؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: من صام شهر رمضان ولم يفطر منه شيئاً. قال: أتدري ما إطعام الطعام؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: من طلب لعياله ما يكفّ به وجوههم عن الناس. وتدري ما التهجّد بالليل والناس نيام؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: مَن لم ينم حتّى يصلّي عشاء الآخرة، ويعني بـ (الناس نيام) اليهود والنصارى، فإنّهم ينامون فيما بينهما».(80)

وفي سفينة البحار مسنداً عن أبي أمامة الباهلي، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما من عبد يدخل الجنّة إلاّ ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين تغنّيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجنّ، وليس بمزمار الشيطان، ولكن بتمجيد الله وتقديسه.(81)

وعن أبي الدرداء: قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يذكر الناس، فذكر الجنّة وما فيها من الأزواج والنعيم، وفي القوم أعرابي، فجثا لركبتيه وقال: يا رسول الله هل في الجنّة من سماع؟ قال: نعم يا أعرابي، إنّ في الجنّة لنهراً حافّتاه أبكار من كلّ بيضاء، يتغنّين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قطّ، فذلك أفضل نعيم الجنّة.(82)

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف الجنّة: «واعلموا عباد الله أنّ مع هذا رحمة الله التي وسعت كلّ شيء، لا يعجز عن العباد جنّة عرضها السماوات والأرض، خير لا يكون بعده شرّ أبداً، وشهوة لا تنفذ أبداً، ولذّة لا تفنى أبداً، ومجمع لا يتفرّق أبداً، وقوم قد جاوروا الرحمن وقام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من ذهب فيها الفاكهة والريحان».(83)

وفي السفينة أيضاً، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):«أخبرني جبرئيل أنّ ريح الجنّة توجد من مسيرة ألف عام، وما يجدها عاقّ ولا قاطع رحم، ولا شيخ زانٍ، ولا جارّ أزاره خيلاء، ولا فتّان ولا منّان ولا جعظريّ، قال: قلت: فما الجعظريّ؟ قال الذي لا يشبع من الدنيا».(84)

وفي المجلّد الأوّل من كتاب (الأُنس الجليل بتاريخ القدس والخليل) تأليف قاضي القضاة مجير الدين الحنبلي:

«ثمّ خلق الله الجنّة وهي ثمان جنّات: أوّلها دار الجلال من اللؤلؤ الأبيض، ثمّ دار السلام وهي من الياقوت الأحمر، ثمّ جنّة المأوى وهي من الزبرجد الأخضر، ثمّ جنّة الخلد وهي من المرجان الأصفر، ثمّ جنّة النعيم وهي من الفضة البيضاء، ثمّ الفردوس وهي من الذهب الأحمر، ثمّ جنّة دار القرار وهي من المسك، ثمّ جنّة عدن وهي من الدرّ، وهي مشرفة على الجنان، لها بابان من ذهب، بين كلّ مصراعٍ كما بين السماء والأرض، وبناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وترابها العنبر، وحشيشها الزعفران، وقصورها اللؤلؤ، وغرفها الياقوت، وأبوابها الجوهر، وفيها أنهار: منها نهر الرحمة، ونهر الكوثر، وهو لنبيّنا (صلى الله عليه وآله)، ونهر الكافور، ثمّ التسنيم، ثمّ السلسبيل، ثمّ الرصيف، وغير ذلك ممّا لا يعلمه إلاّ الله تعالى. وللجنان ثمانية أبواب، وفيها من الحور العين ما لا يقدر على وصفهنّ إلاّ الذي خلقهنّ».

وفي تفسير (نفحات الرحمن) 1/48: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضيلة «بسم الله الرحمن الرحيم» أنّه قال: ليلة أُسري بي إلى السماء عُرض عليّ جميع الجنان، فرأيت فيها أربعة أنهار: نهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل. فقلت: يا جبرائيل من أين تجيء هذه الأنهار وإلى أين تذهب؟ قال: تذهب إلى حوض الكوثر، ولا أدري من أين تجيء، فادعو الله تعالى ليعلّمك أو يُريك، فدعى ربّه فجاء ملك فسلم على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا محمّد غمّض عينك، قال: فغمّضت عيني، ثم قال: افتح عينك، ففتحت فإذا أنا عند شجرة، ورأيت قبّة من درّة بيضاء ولها باب من ذهب أحمر وقفل، لو أنّ جميع ما في الدنيا من الجنّ والإنس وُضعوا على تلك القبّة لكانوا مثل طائر جالس على جبل.

فرأيت هذه الأنهار الأربعة تخرج من تحت القبّة، فلمّا دنوت من القفل وقلت: «بسم الله الرحمن الرحيم» انفتح القفل، ورأيت مكتوباً على أربعة أركان القبّة «بسم الله الرحمن الرحيم» ورأيت نهر الماء يخرج من ميم (بسم الله)، ورأيت نهر اللبن يخرج من هاء «الله»، ونهر الخمر يخرج من ميم «الرحمن»، ونهر العسل يخرج من ميم «الرحيم» فعلمت أنّ أصل هذه الأنهار الأربعة من البسملة، فقال الله (عز وجل): يا محمّد من ذكر هذه الأسماء من أمّتك بقلب خالص من رياء وقال: «بسم الله الرحمن الرحيم» سقيته من هذه الأنهار.

* * *

وفي ربيع الأبرار للزمخشريّ:

عن أسامة بن زيد: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في ذكر الجنة: «ألا مُشترٍ لها، هي وربّ الكعبة ـ ريحانة تهتّز، ونور يتلألأ، ونهر يطّرد، وزوجة لا تموت، مع حُبور ونعيم، ومقام الأبد».(85)

الخدريّ يرفعه: إنّ الله جلّ ذكره لمّا حوّط حائط الجنّة، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وغرس غرسها، قال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال تعالى: طوبى لك منـزل الملوك.(86)

جابر بن عبد الله الأنصاري، عنه (صلى الله عليه وآله): «إذا دخل أهل الجنّةِ الجنّةَ، قال الله تعالى: أتشتهون شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: يا ربّنا وما خير ممّا أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر».(87)

زيد بن أرقم، قال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبا القاسم، تزعم أنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنّ أحدهم ليُعطى قوّة مائة رجل في الأكل والشرب، قال: فإنّ الذي يأكل تكون له الحاجة، والجنّة طيب لا خبث فيها، قال: عرق يفيض من أحدهم كرشح المسك فيضمر بطنه.(88)

عتبة بن غزوان: لقد بلغني أنّ المصراعين من مصاريع الجنّة، بعد ما بينهما مسيرة أربعين عاماً، وليأتيّن عليه يوم وهو كظيظ بالزحام.

دخل داود (عليه السلام) غاراً من غيران بيت المقدس فوجد حزقيل يعبد ربّه، وقد يبس جلده على عظمه، فسلّم عليه، فقال: أسمع صوت شبعان ناعم، فمن أنت؟ قال: داود! قال: الذي له كذا وكذا امرأة، وكذا وكذا أمة؟ قال: نعم، وأنت في هذه الشدّة؟ قال: ما أنا في شدّة، ولا أنت في نعمة، حتّى ندخل الجنّة.(89)

* * *

قوله (عليه السلام): «أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها" استعار صلوات الله عليه لفظ الجيفة للدنيا باعتبار نفرة طباع أهل البصيرة والمعرفة عنها، وكونها مُستقذَرة في نظر أرباب اليقين وأولياء الدين، كالجيفة المنتنة التي ينفر عنها الناس ويفرّون منها، أو باعتبار اجتماع أهلها عليها وفرط رغبتهم إليها، وكون همّ كلّ واحد جذبها إلى نفسه بمنـزلة جيفة منبوذة تجتمع عليها الكلاب ويجذبها كلّ إليه، قال الشاعر:

وما هي إلاّ جيفة مستحيلة
فإن تجتنبها كنتَ سلماً لأهلها

 

عليها كلاب همُّهنّ اجتذابها
وإن تجتذبها نازعتك كلابُها

قوله (عليه السلام): «واصطلحوا على حبّها» أي اتّفقوا على محبّتها وتوافقوا عليها، فإنّ أصل الصلح هو التراضي بين المتنازعين، وتجوز به عن التوافق والاتّفاق للملازمة بينهما.

قوله: «ومن عشق شيئاً» أي كان مولعاً به شديد المحبّة له، فإنّ العشق هو الافراط في الحبّ والتجاوز عن حدّ الاعتدال.

قال جالينوس الحكيم اليوناني: العشق من فعل النفس، وهو كامن في الدماغ والقلب والكبد، وفي الدماغ ثلاث مساكن: التخيّل في مقدّمه، والفكر في وسطه، والذكر في آخره. فلا يكون أحد عاشقاً حتّى إذا فارق معشوقه لم يخلُ من تخيّله وفكره وذكره، فيمتنع من الطعام والشراب باشتغال قلبه، وكبده من النوم باشتغال الدماغ بالتخيّل والذكر والفكر للمعشوق، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، ومتى لم يكن كذلك لم يكن عاشقاً.

وكيف كان فالمراد أنّ من أفرط في محبّة شيء « أعشى ذلك الشيء» «بصره وأمرض قلبه» أي يكون فرط حبّه لذلك الشيء مانعاً عن توجّهه إلى ما يلزمه التوجّه إليه، وحاجباً عن النظر إلى مصالحه وما يلزمه الاشتغال به، فيكون غافلاً عمّا عداه، صارفاً أوقاته بكليته إلى هواه، ويكون عشقه مانعاً عن إدراكه العقول، ويكون عشقه أيضاً مانعاً عن إدراكه لعيوب المعشوق وعن التفاته إلى مساويه، ومن هنا قيل:

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلةٌ كما أنّ عين السخط تبدى المساويا

وغرضه صلوات الله عليه أنّ أهل الدنيا لكثرة حبّهم لها وفرط رغبتهم إليها قصرت أبصارهم عن النظر إلى أُخراهم، ومرضت قلوبهم عن التوجّه إلى عقباهم، وصرفوا أوقاتهم بكليّتها إليها وإلى زخارفها ومقتنياتها، غافلين عن إدراك عيوبها ومساويها، ولم يعرفوا أنها غدّارة غرّارة يونق منظرها ويوبق مخبرها، وأنّها لم تفِ لأحد من عشاقها، ولم تصدق ظنّ أحد من طالبيها وراغبيها.

قوله صلوات الله عليه: «فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة» لغفلته عمّا سوى المحبوب، وعدم تنبّهه بما فيه من العيوب، فلا ينظر إليه بنظر البصيرة والاعتبار حتّى يبصر ما فيه من المفاسد والمضارّ، ولا يستمع إلى المواعظ والزواجر والنواهي والأوامر حتّى يأخذ عدته ليوم تبلى السرائر.

« قد خرقت الشهوات عقله» شبّه العقل بالثوب، إذ كما أنّ الثوب زينة الانسان ووقاية للبدن من الحرّ والبرد فكذلك العقل زينة للمرء ووقاية له من حرّ نار الجحيم، يُعبد به الرحمن ويُكتسب به الجنان، وجعل عقل الرجل الموصوف بمنـزلة ثوب خَلِق، إذ الثوب إذا كان خرقاً خلقاً ممزّقاً لا ينتفع به صاحبه، فكذلك العقل إذا كان مفرّقاً بالشهوات الباطلة مصروفاً في اللذّات العاجلة لا يُنتفع به فيما خُلق لأجله البتّة.

قوله صلوات الله عليه: « وأماتت الدنيا قلبه» فلا انتفاع له به كميّت لا نفع له، «وولهت عليها نفسه» أي صار في فرط محبّته للدنيا بمنـزلة الواله عليها والمفتون بها «فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها»، لأنّه إذا كانت همّته مصروفة اليها وأوقاته مستغرقة في جمعها وجبايتها صار زمام أمره بيدها « حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها»، كعبد دائر في حركاته وسكناته مدار مولاه، وانقياده لسيده ربّما يكون قسريّاً، وخدمة ذلك لدنياه عن وجه الشوق والرغبة والرضا والمحبّة، وفي هذا المعنى قال الشاعر:

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها
يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت

فكيف ما انقلبت يوماً به انقلبوا
يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

قوله صلوات الله عليه: «لا ينـزجر من الله بزاجر، ولا يتّعظ منه بواعظ» وهو يرى الكتب الآلهيّة والصحف السماويّة والأخبار المشحونة بذّم الدنيا، الناهية عن الركون إليها والإعتماد عليها، مضافاً إلى رؤيته المُخرَجين عن الدنيا بجبر وقهر، والمقلعين عنها بكره وقسر، «المأخوذين على الغرّة» وحالة الاغترار والغفلة، المشغولين بالدنيا وشهواتها، الغافلين عن هادم اللذّات وسكراته «حيث لا إقالة» لهم عن ذنوبهم «ولا رجعة» لهم إلى الدنيا ليتداركوا سيّئات أعمالهم.

«كيف نزل بهم» من شدائد الأهوال «ما كانوا يجهلون وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون وقدموا من» عقبات «الآخرة ما كانوا يُوعدون» فإنّه لو تفكّر في ذلك وتذكّر ذلك يوشك أن يؤثّر فيه ويقلّ فرحه بالدنيا وشغفه بها.

لأنّه بعد ما لاحظ أحوال هؤلاء الماضين وتصوّر تبدّد أجزائهم في قبورهم ومحو التراب حسن صورهم، وأنّهم كيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيّعوا أموالهم، وخلت عنهم مجالسهم ومدارسهم، وانقطعت عنهم آثارهم ومعالمهم، وعرف أنّه عن قريب كائن مثلهم، انقلع ـ لا محالة ـ عن هؤلاء، وارتدع عن حبّ دنياه:

تفانوا جميعاً فما مخبرٌ
تروح وتغدو بناتُ الثرى
فيا سائلي عن أناس مضوا

 

وماتوا جميعاً ومات الخبرْ
فتمحو محاسن تلك الصورْ
أما لك فيما ترى مُعْتَبَرْ

لا سيّما لو عمّق نظره في ما حلّ بالأموات بعد موتهم، وما نزل بساحتهم حين موتهم، لكان ندمه أشدّ وحسرته آكد.

 

[سكرات الموت]:

«فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم» وذلك لأنّ ألم النـزع يسري في جميع أعضاء البدن ويستوعب الأطراف ويوجب ضعفها وفتورها.

قال الغزالي: واعلم أنّ شدّة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلاّ من ذاقها، ومن لم يذقها فإنّما يعرفها بالقياس إلى الآلام التي أدركها.

بيان ذلك القياس: أنّ كلّ عضو لا روح فيه فلا يحسّ بالألم، فإذا كان فيه فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألّم، والمؤلم يتفرّق على اللحم والدم وسائر الأجزاء فلا يصيب الروح إلاّ بعض الألم، فإن كان في الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره، فما أعظم ذلك الألم وما أشدّه!، والنـزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه، حتّى لم يبق جزء من أجزاء المنتشر في أعماق البدن إلاّ وقد حلّ به الألم، فلو أصابته شوكة فالألم الذي يجد إنّما يجري في جزء من الروح يلاقي ذلك الموضع الذي أصابته الشوكة.

وإنّما يعظم أثر الاحتراق لأنّ أجزاء النار تغوص في سائر أجزاء البدن، فلا يبقى جزء من العضو المحترق ظاهراً وباطناً إلاّ وتصيبه النار، فتحسّ الأجزاء الروحانيّة المنتشرة في سائر أجزاء اللحم، وأمّا الجراحة فإنّما تصيب الموضع الذي مسّه الحديد فقط، فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار، فألم النـزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه، فإنّه المنـزوع المجذوب من كلّ عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل، ومن أصل كلّ شعرة وبشرة من الفرق إلى القدم، حتّى قالوا: إنّ الموت لأشدّ من ضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض، لأنّ قطع البدن بالسيف إنّما يؤلمه لتعلّقه بالروح، فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح؟ وإنّما يستغيث المضروب ويصيح لبقاء قوّته في قلبه وفي لسانه، وإنّما انقطع صوت الميّت وصياحه مع شدّة ألمه لأنّ الكرب قد بالغ فيه وتصاعد على قلبه وبلغ كلّ موضع منه، فهدّ كلّ قوة وضعّف كلّ جارحة، فلم يترك له قوّة الاستغاثة.

وإلى ذلك أشار صلوات الله عليه بقوله: «ثمّ ازداد الموت فيهم وُلوجاً فحيل بين أحدهم وبين منطقه» واستعار لفظ الولوج لما يتصوّر من فراق الحياة بعضو عضو، فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر، والمقصود بذلك شدّة تأثير الموت في أبدانهم وإيجابه لضعف اللسان عن قوّة النطق والتكلّم.

نعم في رواية الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الحياة والموت خلقان من خلق الله، فإذا جاء الموت فدخل في الانسان لم يدخل في شيء إلاّ وخرجت منه الحياة.(90)

فإن ظاهر هذه الرواية مفيدة لكون الولوج في كلامه مستعملاً في معناه الحقيقي، اللهمّ إلاّ أن يُرتكب المجاز في ظاهر هذه أيضاً، فافهم.

«وإنّه لبين أهله ينظر» إليهم «ببصره ويسمع» كلامهم «بأذنه» ولا يتمكّن من إظهار ما فيه من الشدّة والحسرة عليهم لمكان ضعفه وعجزه مع أنّه «على صحّة من عقله وبقاء من لبّه» فهو راغب عن الدنيا مُقبل إلى الآخرة، مشغول بحاله محاسب على نفسه، متحسّر على ما قدّمت يداه، نادم على ما فرّط في جنب مولاه. «يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره» ويتأثّر على غفلته في أيام مهلته «ويتذكّر أموالاً جمعها» واستغرق أوقاته فيها «أغمض في مطالبها» وتساهل في اكتسابها أيّامه، ولذلك لعدم مبالاته بأنّها من حلال أو حرام «وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها» أي من وجوه مباحة وذوات شبهة.

كما أشير إليه في الحديث النبويّ المعروف، قال (صلى الله عليه وآله): «إنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رُشده فيُتّبع، وأمر بيّن غيّه فيُجتنب، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.(91)

«قد لزمته تبعات جمعها» وآثام جبايتها «وأشرف على فراقها، تبقى لمن ورائه ينعمون فيها ويتمتّعون بها» وهم إمّا أهل طاعة الله فسعدوا بما شقي، وإمّا أهل معصيته فكان عوناً لهم على معصيتهم «فيكون المهنأ لغيره والعبءُ على ظهره» أي يكون هنائة تلك الأموال _أي كونها هنيئة_ لغيره، ووزرها وثقلها على ظهره.

وفي الحديث النبويّ المروي عن إرشاد القلوب، قال (صلى الله عليه وآله): «إذا حُمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش وهو ينادي: يا أهلي وولدي لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعتُه من حلّ وغير حلّ وخلّفته لكم، فالمهنأ لكم والتعب عليّ، فاحذروا مثل ما قد نزل بي»،(92) ونعم ما قيل:

يمرّ أقاربي جنبات قبري
وذو الميراث يقتسمون مالي
وقد أخذوا سهامهمُ وعاشوا

 

كأنّ أقاربي لم يعرفوني
وما يألون أن جحدوا ديوني
فيالله أسرع ما نسوني

قوله صلوات الله عليه: «والمرء قد غلقت رهونُه بها».

قال الشارح المعتزلي: معناه أنّه لمّا كان قد شارف الرحيل وأشفى على الفراق صارت تلك الأموال التي جمعها مستحقّة لغيره ولم يبق له فيها تصرّف، وأشبهت الرهن الذي غلق على صاحبه، فخرج عن كونه مستحقّاً له، وصار مستحقّاً لغيره وهو المرتهن.(93)

وقال الشارح البحراني: ضربه صلوات الله عليه مثلاً لحصول المرء في تبعات ما جمع وارتباطه بها عن الوصول إلى كماله وانبعاثه إلى سعادته بعد الموت، وقد كان يمكنه فكاكها بالتوبة والأعمال الصالحة، فأشبه ما جمع من الهيئآت الرديّة في نفسه عن اكتساب الأموال، فارتهنت بها بما على الراهن من المال.

قوله صلوات الله عليه: «فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره» وانكشف له حينئذ من تفريطه، كما يعضّ يوم القيامة إذا عاين العقاب وشاهد طول العذاب.

قال سبحانه: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي».(94)

جاء في التفسير: أي يعضّ على يديه ندماً وأسفاً، قال عطاء: يأكل يديه حتّى تذهب إلى المرفقين ثمّ تنبتان، لا يزال هكذا كلّما نبتت يداه أكلهما ندامة على ما فعل.(95) وهو كناية عن الندم والتحسّر على ما فرّط في جنب الله، وقصّر في امتثال أمر مولاه.

قوله صلوات الله عليه: «ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره» من الأموال التي جمعها وخلّفها لغيره، «ويتمنّى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه» لما ظهر له من تبعاتها وسوء عاقبتها.

«فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه سمعه فصار بين أهله لا» يقدر أن «ينطق بلسانه ولا» أن «يسمع بسمعه» لانقطاع مادّة الحياة عن السمع واللسان «يردّد طرفه بالنظر في وجوههم» أي مخاطباتهم و«يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم» أي ما يتراجعونه من الكلام لبطلان قوّته السامعة وبقاء قوتّه الباصرة بعد.

قوله صلوات الله عليه: «ثمّ ازداد الموت التياطاً به» أي التصاقاً «فقُبض بصره كما قُبض سمعه وخرجت الروح من جسده» ظاهر هذا الكلام بملاحظة ما سبق من قوله:«ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم وبين منطقه» الخ... وما سبق أيضاً من قوله:«فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه سمعه» يفيد بُطلان آلة النطق في الانسان قبل آلتي السمع والبصر، ثمّ بطلان آلة البصر، وإنّما تبطل مع خروج الروح ومفارقتها عن البدن.

قال الشارح البحراني: وليس ذلك مطلقاً بل في بعض الناس، وأغلب ما يكون ذلك فيمن تعرض الموت الطبيعي لآلاته، وإلاّ فقد تعرض الآفة لقوّة البصر وآلته قبل آلة السمع وآلة النطق، والذي يلوح من أسباب ذلك أنّه لمّا كان السبب العام القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزيّة عن فناء الرطوبة الأصليّة التي منها خُلقنا، وكان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزية فيها التجفيف والتحليل، وقد تُعينها على ذلك الأسباب الخارجية من الأهوية واستعمال الأدوية المجفّفة وسائر المجفّفات، كان كلّ عضو أيبس من طبيعته وأبرد أسرع إلى البطلان وأسبق إلى الفساد.

وقال الشارح الخوئي: أما أنّ آلة النطق أسرع من الأعصاب المفيدة للحسّ، واتّفق الأطباء على أنّ الأعصاب المحرّكة أيبس وأبرد، لكونها منبعثة من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحسّ، فإنّ جلّها منبعث من مقدّم الدماغ، فكان لذلك أقرب إلى البطلان، ولأنّ النطق أكثر شروطاً من السماع، لتوقّفه مع الآلة وسلامتها على الصوت وسلامة مخارجه ومجاري النفس، والأكثر شرطاً أسرع إلى الفساد.

وأمّا بطلان آلة السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب ـ التي هي محل القوّة السامعة ـ أقرب إلى مؤخّر الدماغ من منابت محل القوّة الباصرة، فكانت أيبس وأبرد وأقبل لانطفاء الحرارة الغريزيّة، ولأنّ العصب المفروش على الصماخ الذي رُتّبت فيه قوّة السمع احتاج أن يكون مكشوفاً غير مسدود عنه سبيل الهواء، بخلاف العصب الذي هو آلة البصر، فكانت لذلك أصلب، والأصلب أيبس وأسرع فساداً، هذا مع أنّه قد يكون ذلك لتحلّل الروح الحامل للسمع قبل الروح الحامل للبصر أو لغير ذلك، والله أعلم.

 

[الجسد بعد الموت]:

وقوله صلوات الله عليه: «فصار جيفة بين أهله».

لا يخفى ما في هذا التعبير من النكتة اللطيفة، وهو التنفير عن التعلّق بهذا البدن العنصري، والنهي عن التعزز بهذا الهيكل الجسمانّي، فإنّ من كان أوله جيفة وآخره جيفة وهو في الدنيا حامل الجيف كيف يجوز له الاغترار بوجوده والتعزّز والتكبّر بذاته، لا سيّما بعد ملاحظة كون آخره جيفة أقذر من سائر الجيف حتّى جيفة الكلب والخنـزير، حيث إنّ سائر الجيف لا توجب على من لامسها الغسل بخلاف ميتة الانسان، فإنّ ملامستها توجب غسل المسّ، خصوصاً لو لاحظ أنّ أقرب الناس إليه وآنسهم به من الآباء والاخوان والبنات والولدان:

«قد أوحشوا من جانبه وتباعدوا من قُربه» مع كمال أُنسهم به ومحبتهم له، وجهة استيحاشهم منه حكم أوهامهم السخيفة على قواهم المتخيّلة بمحاكاة حاله في نفس المتوهّم، وعزل العقل في ذلك الموضوع، ولذلك أنّ المجاور لميت في موضع ظلمانّي منفرد يتخيّل أنّ الميت يجذبه إليه ويصيّره بحاله المنفورة عنها طبعاً.

وبالتالي فالمرء إذا خرجت روحه من جسده تنافر الناس عنه ويبقى فريداً وحيداً «لا يسعد باكياً» على بكائه «ولا يجيب داعياً» على دعائه، «ثمّ حملوه» أي حفدة الولدان وحشدة الإخوان «إلى مخطّ من الأرض» أي قبره الذي يخط وينـزل فيه، «فأسلموه فيه إلى عمله وانقطعوا عن زورته» ووجد ما عمله محضراً، فإن كان العمل صالحاً فنعم المؤنس والمعين، وإن كان سيّئاً فبئس المصاحب والقرين والعدوّ المبين.

 

[موارد الركون إلى الدنيا]:

والحقّ لو كان كلام يأخذ بالأعناق في التزهيد عن الدنيا والترغيب إلى الآخرة لكان هذا الكلام الذي ما أبعد غوره وأجزل قدره، فإنّ عمدة ما أوجب رغبة الراغبين إلى الدنيا والراكنين اليها والمغترّين بها إنّما هو أمور ثلاثة:

أحدها: حبّ المال، والثاني: حب الوجود، والثالث: حبّ الأولاد والبنين والأزواج والأقربين، فزهّد صلوات الله عليه عن كلّ ذلك بأحكم بيان وأوضح برهان.

أمّا عن المال فبأنّه عن قريب يفارقه وينتقل عنه، وتكون لذّته ومهنأه لغيره ويبقى وزره وتبعته عليه. وأمّا عن وجوده ونفسه فبأنّه ستنمحي أعضاؤه وجوارحه ويبطل قواه وآلاته وتكون بالآخرة منبوذة بين أهله.

وأمّا عن الأولاد والأبناء والإخوان والأقرباء فبأنّهم سيفارقونه ويتنفّرون عنه ويستوحشون منه، فمن كان مآل ما أحبّه ذلك، فكيف يغترّ بذلك مع علمه بأنّ كلّ ذلك واقع لا محالة، واعتقاده بأنّ الموت لا يمكن الفرار منه البتة.

قال علي بن الحسين (عليه السلام): العجب كلّ العجب لمن أنكر النشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى!(96) وقال الله سبحانه:

«أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ».(97)

روى الأعمش عن خيثمة قال: دخل ملك الموت على سليمان بن داود «على نبينا وآله وعليهما السلام» فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فلمّا خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليّ كأنّه يريدني، قال(عليه السلام): فماذا تريد؟ قال: أريد أن تخلّصني منه فتأمر الريح حتّى تحملني إلى أقصى الهند، ففعلت الريح ذلك، ثمّ قال سليمان (عليه السلام): لملك الموت بعد أن أتاه ثانياً: رأيتُك تديم النظر الى واحد من جلسائي، قال: نعم كنت أتعجّب منه لأنّي كنت أمرت أن أقبضه بأقصى الهند في ساعة قريبة، وكان عندك فتعجّبت من ذلك.(98)

 

[إدريس النبي وملك الموت]:

وفي الكافي عن علي بن إبراهيم، عن عمرو بن عثمان، عن مفضّل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أخبرني جبرئيل أنّ ملكاً من ملائكة الله كانت له عند الله منـزلة عظيمة فتعتّب عليه فأهبطه من السماء إلى الأرض، فأتى إدريس (عليه السلام) فقال: إنّ لك من الله منـزلة فاشفع لي عند ربّك، فصلّى ثلاث ليال لا يفتر وصام أيّامها لا يفطر، ثمّ طلب إلى الله في السحر في الملك، فقال الملك: إنّك قد أُعطيت سؤلك وقد أطلق لي جناحي، وأنا أحبّ أن أكافيك فاطلب إليّ حاجة. قال: تريني ملك الموت لعلّي آنس به، فإنّه ليس يهنؤني مع ذكره شيء، فبسط جناحه ثمّ قال: اركب، فصعد به يطلب ملك الموت في السماء الدنيا، فقيل له: اصعد، فاستقبله بين السماء الرابعة والخامسة، فقال الملك: يا ملك الموت ما لي أراك قاطباً؟ قال: العجب أنّي تحت ظلّ العرش حيث أُمرت أن أقبض روح آدميّ بين السماء الرابعة والخامسة، فسمع إدريس (عليه السلام) بها فامتعض فخرّ من جناح الملك فقبض روحه مكانه، وقال الله (عز وجل): «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا».(99) (100)

 

[أبيات في الموت]:

ونعم ما قيل في المقام:

إنّ الحبيب من الأحباب مختلَسُ
فكيف تفرح بالدنيا ولذّتها
أصبحت يا غافلاً في النقص منغمسا
لا يرحم الموت ذا جهل لغرّته
كم أخرس الموت في قبر وقفت به
قد كان قصرك معموراً به شرف

 

لا يمنع الموت بوّاب ولا حرسُ
يا من يُعَدُّ عليه اللفظ والنفسُ
وأنت دهرك في اللذات منغمسُ
ولا الذي كان منه العلم يقتبس
عن الجواب لساناً ما به خرس
فقبرك اليوم في الأجداث مندرس

* * *

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 20، ط مكتبة المرعشي االنجفي.

(2) الأحقاف: 33.

(3) الإرشاد للمفيد 1: 296؛ بحار الأنوار 70/ 129.

(4) الحج: 1.

(5) البقرة: 281.

(6) الحشر: 18.

(7) البقرة: 197.

(8) بحار الأنوار 75: 31/ ح98، وفيه: الصعب المعصية، والأصعب فوات ثوابها، والقريب كلّ ما هو آت، والأقرب هو الموت.

(9) الدخان: 56.

(10) فاطر: 34.

(11) الحج: 24.

(12) النبأ: 35.

(13) الحجر: 47 و48.

(14) ص: 49 - 54.

(15) بحار الأنوار 8: 196/ ح181.

(16) بحار الأنوار 8: 196/ ح182؛ تفسير مجمع البيان 8: 50.

(17) بحار الأنوار 8: 196/ ح183، تفسير مجمع البيان 8: 50.

(18) النساء: 69.

(19) الطور: 22.

(20) الصافات: 51 - 57.

(21) المدّثّر: 39 - 46.

(22) الزخرف: 59 - 71.

(23) ق: 35.

(24) الشورى: 22.

(25) يس: 57.

(26) آل عمران: 195.

(27) الرحمن: 58.

(28) الإنسان: 5 و6.

(29) الإنسان: 12 - 22.

(30) الحج: 23.

(31) فاطر: 34 و35.

(32) مريم: 61 و62.

(33) الغاشية: 8 - 16.

(34) الرعد: 23 و24.

(35) الدخان: 52 - 56.

(36) يونس: 10.

(37) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 258.

(38) بحار الأنوار 70: 83/ ح46.

(39) بحار الأنوار 67: 320/ ح36.

(40) آل عمران: 148.

(41) غافر: 51.

(42) النحل: 31.

(43) الأنعام: 125.

(44) الأعراف: 64.

(45) الأعراف: 72.

(46) البقرة: 96.

(47) طه: 125.

(48) آل عمران: 14.

(49) النساء: 77.

(50) لقمان: 24.

(51) آل عمران: 196 و197.

(52) العلق: 6 و7.

(53) البقرة: 205.

(54) إبراهيم: 28 و29.

(55) الأنفال: 36.

(56) البقرة: 6.

(57) آل عمران: 179.

(58) الزخرف: 33 - 35.

(59) آل عمران: 56.

(60) آل عمران: 151.

(61) البقرة: 65 و66.

(62) العنكبوت: 38 ـ 40.

(63) يوسف: 111.

(64) الأعراف: 78.

(65) الأعراف: 83 و84.

(66) الأعراف: 133.

(67) الأعراف: 136.

(68) الأنفال: 33.

(69) عوالي اللئالي 1: 273/ ح95.

(70) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 342/ الرقم 928.

(71) يوسف: 53.

(72) الأعراف: 32.

(73) البقرة: 57.

(74) البقرة: 57 و172؛ الأعراف: 160.

(75) قال (عليه السلام): «ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولُباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القُرص ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى...» انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 286.

(76) الأحزاب: 62؛ الفتح: 23.

(77) الإنسان: 12 - 22.

(78) محمد: 15.

(79) البقرة: 25.

(80) مجمع البحرين 1: 414.

(81) بحار الأنوار 8: 196/ ح181.

(82) بحار الأنوار 8: 196/ ح182.

(83) أمالي الشيخ المفيد: 266.

(84) بحار الأنوار 8: 193/ ح174.

(85) رواه أيضاً ابن أبي الحديد في شرح النهج 9: 280.

(86) رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج 09: 280.

(87) شرح النهج لابن أبي الحديد 9: 280.

(88) بحار الأنوار 8: 149/ ح82.

(89) بحار الأنوار 14: 26/ ح4.

(90) الكافي 3: 259/ ح34؛ بحار الأنوار 6: 117/ ح2.

(91) الاحتجاج 2: 107.

(92) بحار الانوار 6: 161/ح28.

(93) شرح نهج البلاغة 7: 209.

(94) الفرقان: 27 - 29.

(95) تفسير مجمع البيان 7: 292.

(96) أمالي الطوسي: 663/ ح1387؛ بحار الانوار 7: 42/ ح15.

(97) النساء: 78.

(98) المصنف لابن ابي شيبة 8: 118/ ح3.

(99) مريم: 57.

(100) التفسير الصافي 3: 286؛ تفسير نور الثقلين 3: 249.