ومن خطبة له (عليه السلام): [ في إرساله الرسل وحالة العرب قبل الإسلام]
«وَلَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ
مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ
رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَلَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ
لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ
قَبْلَهُ عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَمَضَتِ الدُّهُورُ وَسَلَفَتِ
الْآبَاءُ وَخَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ، إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
مُحَمَّداً رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَإِتْمَامِ
نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ
كَرِيماً مِيلَادُهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ
وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ
بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ
بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ ثُمَّ
اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) لِقَاءَهُ وَرَضِيَ لَهُ
مَا عِنْدَهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ
الْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً (صلى الله عليه وآله)».
(شرح ابن ابي الحديد مج1، ص37، ط الاولى).
* * *
الشرح:
قال الشارح المعتزلي في قوله صلوات الله عليه: «مأخوذاً على
النبيّين ميثاقُه» قيل: لم يكن نبيّ قطّ إلاّ وبُشّر بمبعث محمّد (صلى الله عليه
وآله) وأُخذ عليه تعظيمه وإن كان بعد لم يوجد.
[الأديان في عصر الجاهلية]:
وأمّا قوله صلوات الله عليه: «وأهل الأرض يومئذ ملل
متفرّقة». فإنّ العلماء يذكرون أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بُعث والناس أصناف
شيء في أديانهم، يهود ونصارى ومجوس وصابئون وعبدة أصنام وفلاسفة وزنادقة. فأمّا
الأمّة التي بُعث محمّد (صلى الله عليه وآله) فيها فهم العرب، وكانوا أصنافاً شتّى:
فمنهم معطّلة ومنهم غير معطّلة، فأمّا المعطّلة منهم فبعضهم أنكر الخالق والبعث
والاعادة وقالوا ما قال القرآن العزيز عنهم: «ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا
نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ»(1) فجعلوا الجامع لهم الطبع
والمُهلك الدهر. ومنهم من اعترف بالخالق سبحانه وأنكر البعث، وهم الذين أخبر سبحانه
عنهم بقوله: «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ».(2) ومنهم من أقرّ
بالخالق ونوع من الاعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنّها شفعاء عند الله
في الآخرة، وحجّوا لها، ونحروا لها الهدي، وقرّبوا لها القرابين، وحلّلوا وحرّموا،
وهم جمهور العرب، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الأَْسْواقِ».(3)
وممّن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر:
فماذا بالقليب قليب بدر
وماذا بالقليب قليب بدر
أيخبرنا ابن كبشة أن سنحيا
إذا ما الرأس زال بمنكبيه
أيقتلني إذا ما كنت حيّاً |
|
من الفتيان والقوم الكرامِ
من الشيرى تكلّل بالسهام
وكيف حياة أصداء وهام
فقد شبع الأنيس من الطعام
ويُحييني إذا رُمّت عظامي(4) |
وممّن أنكر المعاد يزيد بن معاوية، فقد ذكر السبط ابن الجوزي
في كتابه «تذكرة الخواص» نقلاً عن ديوان يزيد:
عليّة هاتي واعلني وترنّمي
حديث أبي سفيان قدماً سما بها
ألا هات سقّيني على ذاك قهوةً
إذا ما نظرنا في أمورٍ قديمة
وإن متُّ يا أمّ الأحيمر فانكحي
فإنّ الذي حدّثت عن يـوم بعثنا |
|
بذلك إنّي لا أحبّ التناجيا
إلى أُحدٍ حتّى أقام البواكيا
تخيّرها العنسيّ كرماً شآميا
وجدنا حلالاً شربها متواليا
ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
أحاديث طسمٍ تجعل القلب ساهيا(5) |
قال ابن أبي الحديد: وكان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقّل
الأرواح في الأجساد ومن هؤلاء أرباب الهامة الذين قال النبي (صلى الله عليه وآله)
عنهم: لا عدوى ولا هامة ولا صفر...(6)
وكانوا في عبادة الأصنام مختلفين: فمنهم من يجعلها مشاركة
للباري تعالى، ويطلق عليها لفظ الشريك، ومن ذلك قولهم في التلبية: لبّيك اللهمّ
لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
ومنهم من لا يُطلق عليها لفظ الشريك ويجعلها وسائل وذرائع
إلى الخالق سبحانه، وهم الذين قالوا «ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى
اللَّهِ زُلْفى».(7)
وكان في العرب مشبّهة ومجسّمة، منهم أميّة بن أبي الصلت، وهو
القائل:
من فوق عرش جالس قد حطّ رجليه إلى كرسيّه المنصوب
[أصنام العرب]:
وكان جمهورهم عبدة الأصنام: فكان ودّ لكلب بدومة الجندل،
وسواع لهذيل، ونسر لحِمير، ويغوث لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعزّى لكنانة
وقريش وبعض بني سليم، ومناة لغسّان والأوس والخزرج، وكان هُبل لقريش خاصّة على ظهر
الكعبة، وأساف ونائلة على الصفا والمروة، وكان في العرب من يميل الى اليهوديّة،
منهم جماعة من التبابعة وملوك اليمن، ومنهم نصارى كبني تغلب والعباديين رهط عديّ بن
زيد، ونصارى نجران، ومنهم من كان يميل الى الصابئة ويقول بالنجوم والأنوار.
فأما الذين ليسوا بمعطّلة من العرب فالقليل منهم، وهم
المتألّهون وأصحاب الورع والتحرّج عن القبائح، كعبد الله وعبد المطّلب وابنه أبي
طالب وزيد بن عمرو بن نفيل وقسّ بن ساعدة الأيادي وعامر بن الظرب الغدواني وجماعة
غير هؤلاء.
وغرضنا من هذا التفصيل بيان قوله صلوات الله عليه: «بين
مُشبّهٍ لله بخلقه أو ملحدٍ في اسمه إلى غير ذلك»، انتهى.(8)
ساق صلوات الله عليه هذه الخطبة بما اقتضاه الترتيب
الطبيعيّ، أي من لدن آدم (عليه السلام) إلى بعث محمّد (صلى الله عليه وآله) وهداية
الخلق به واقتباسهم من أنوار وجوده الذي هو المقصود والعمدة في باب البعثة، فقال
صلوات الله عليه:«على ذلك» يعني على هذا الأسلوب الذي ذكرناه من عدم إخلاء الأرض
والخلق من الأنبياء والحجُج، «نسلت القرون» وولدت أو أسرعت، وهو كناية عن انقضائها
«ومضت الدهور وسلفت الآباء» أي تقدّموا وانقضوا «وخلفت الأبناء» أي جاؤوا بعد
آبائهم وصاروا خليفة لهم، «إلى أن بعث الله» النبيّ الأميّ العربي القرشيّ الهاشميّ
الأبطحيّ التهاميّ المصطفى من دوحة الرسالة، والمرتضى من شجرة الولاية «محمداً (صلى
الله عليه وآله) لإنجاز عدته» التي وعدها لخلقه على ألسنة رُسله السابقين بوجوده
(صلى الله عليه وآله) «ولإتمام نبوّته» ليهتدي الناس به إلى سبيل الحقّ، ويفيئوا من
ضلالهم القديم إلى سلوك الصراط المستقيم، ولينقذهم ببركة نوره من ظلمات الجهل إلى
أنوار اليقين، فقام بالدعوة إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة
بالتي هي أحسن، فجلا الله بنوره صداء قلوب الخلق، وأزهق باطل الشيطان بما جاء به من
الحقّ والصدق، وانطلقت الألسن بذِكر الله، واستنارت البصائر بمعرفة الله، وكمل به
دينه في أقصى بلاد العالم، وأتمّ به نعمته على كافّة عباده، كما قال
تعالى:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً».(9)
[كيف يختار الله أنبياءه]:
جاء في كتاب (التكامل في الإسلام) لمؤلّفه أحمد أمين
الكاظميّ العراقيّ (رحمه الله) تحت عنوان «كيف يختار الله أنبياءه (عليهم السلام)»:
«النبوّة ليست إلاّ سفارة ربّانية يُودعها الله أكمل عباده
خَلقاً وخُلقاً، أي أكملهم في البدن والروح، أو في الحسب والنسب وطهارة النسل
والمولد والأخلاق المثالية الكاملة، وخلاصة ذلك أن الله يودع النبوّة شخصاً
مستجمعاً لصفات العصمة والكمال.
إن الله وهو الكامل على الإطلاق لا يُرجّح أحداً على أحد
دونما سبب وحكمة، وهو معطي الحكمة، وحاشا أن يلهو، وهو القائل: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» (الانبياء:
17) فلا يسند أمر السفارة بينه وبين خلقه إلا إلى أكمل عباده.
والله تعالى عادل، إذ العدل صفة ملازمة للكمال، وإن الكامل
غير محتاج، ولا يحيد عن العدل إلاّ مَن كان محتاجاً إلى الجور والظلم، والكامل غنيّ
عن ذلك كله، لعدم وجود حاجة لديه إلى شيء. إذن وجب أن نبحث عن الصفات التي توفّرت
في ثلّة من الناس حتى أسند إليهم منصب السفارة الإلهيّة كي يقوموا بتكميل البشر
وإيصاله إلى الكمال المنشود.
[صفات الأنبياء]:
الصفة الأولى: هي طهارة المولد، ذلك لأنّ لهذا النوع من
الطهارة أثراً فعالاً في الاتّجاهات النفسيّة كما تؤيّده التجارب، فالأنبياء كلّهم
«وأكملهم نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله)» كانوا يتقلّبون في أصلاب طاهرة وأرحام
مطهّرة «طابت وطَهُرت بعضُها من بعض»، فأسرة محمّد (صلى الله عليه وآله) خير أسرة،
وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلة، وثمارها متهدّلة، كلّما قسم الله الخلق فرقتين
جعله في خيرهما، لم يُسهم فيه عاهر، ولا ضرب فيه فاجر.
وفي «إثبات الوصيّة» للمسعودي شرح وافٍ في كيفية انتقال
النبوّة والسفارة الإلهيّة والوصيّة من لدن آدم من بطن إلى بطن حتّى انتهت إلى
محمّد (صلى الله عليه وآله)، فنور محمّد توارثه الأنبياء حتّى انتهى إلى عبد الله
بن عبد المطلب.
ثمّ إنّ الله تعالى لا يجتبي أحداً ولا يرجّح بين عباده الاّ
بالتقوى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ »(10) فالأنبياء (عليهم
السلام) هم أتقى الناس وأورعهم وأزهدهم، وإنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) كان منذ
صغره وطفولته مثالاً رفيعاً للتقوى والكمال، لم يتأثّر ببيئة كانت تعبد الأصنام
وتأتي بأنواع الفجور والفسوق والبغي والظلم، خلافاً لما يقرّره علماء التربية وعلم
النفس في عصرنا:«أنّ الطفل يتأثّر ببيئته إلى حدّ كبير». فلم يسجد لصنم، ولم يحضر
مع قومه في أيّ عيد من أعياد الأصنام، ولم يأكل قطّ مما كان يُذبح قُرباناً
للأصنام، فكان منذ صغره حسن الخلق، طاهر العقيدة، لم يتلوّث تفكيره بعقائد
الجاهلية، ولم يُحاكِ أترابه في لهوهم وسحرهم، ولما صار زوجاً لخديجة كان على درجة
من رغد تمكّنه من أن يعيش عيشة هنيئة كما يعيش عظماء مكّة وأغنياؤها، لكنّه ـ مع
ذلك ـ كان زاهداً في الحياة الدنيا ولذّاتها، متقشّفاً مُؤثراً بساطة العيش، فحبّبت
اليه العزلة، لقد اختار غار (حراء) في جبل يبعد عن مكّة ثلاثة أميال، كان يخلو فيه
بنفسه أياماً وليالي متتابعة، فيفكّر فيه في عظمة الخالق جلّ جلاله وما أودع في هذا
الكون من خواص وأنظمة ما يُحيّر الالباب، ويتعبّد فيه لربهّ.
وكان (صلى الله عليه وآله) متحلّياً بمكارم الأخلاق من صدق
وأمانة وعفّة ووقار إلى حدّ بعيد.
إنّ عزلة محمد (صلى الله عليه وآله) كانت للتفكير والتأمّل،
وذلك بإلهام منه تعالى كي يزداد صفاءً وتقربّاً إلى الله جلّت عظمتُه، حتّى تصبح
نفسه الزكيّة على أتمّ استعداد لتلقّي أعباء الرسالة العظيمة التي اختاره الله لها.
كلّ ما ذكرنا مؤهّلات لأن تجعل محمّداً (صلى الله عليه وآله)
فوق من على البسيطة في ذلك الوقت، بل وفي كلّ وقت وزمان، فتنحصر فيه الرسالة بجدارة
لا يُضاهيه فيها أحد أبد الآبدين.
* * *
[الشكر عصارة التقوى]:
إن عُصارة التقوى تتجلّى في الشكر، ولا صفة تقرّب العبد إلى
الله تعالى كالشكر، يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) إلى بيت إحدى زوجاته، ينهض من
فراشه ولا ينام، يتوضّأ بماء قليل، يستقبل القِبلة ويصلّي، وكلّما تستيقظ زوجته
تراه مصلّياً شاكراً ربّه، فتقول: ألا تنام وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما
تأخّر؟ فيقول (صلى الله عليه وآله): أفلا أكون عبداً شكوراً.(11)
إن الشكر على ضربَين: شكر لسانّي وقلبيّ، وشكر عمليّ، فأمّا
اللساني: أن يذكر العبد مولاه في كلّ لحظة، ويحمده على عظيم نعمائه وحُسن بلائه،
وأن لا يفتر عن ذلك، وأمّا الشكر العمليّ: فيتجلّى في الأعمال الصالحة والقيام
بمبرّات وأعمال خيريّة، والايثار والجهاد في سبيل الله، والقيام بأداء الحقوق من
ماديّة ومعنويّة وأمثال ذلك، وإنّ رسالة الحقوق لمولانا الإمام زين العابدين (عليه
السلام) توضّح ذلك، فهنيئاً للعاملين «وَقَلِيلٌ ما هُمْ».(12)
نفس النبي (صلى الله عليه وآله) فوق النفوس المتعارفة، وما
تجمّعت فيه من الأخلاق المثالية فوق الأخلاق العادية، ولا تودع السفارة الإلهيّة
نفوساً لها من الثراء والمال والجاه والمكانة شيء مرموق؛ لأنّ هذه الأمور لا تمتّ
بالنفس بصلة.
وإنّما النبوّة قضيّة نفسيّة بحتة، كما أنّ الايمان لا يلج
نفوساً لها من المكانة والاعتبارات الدنيويّة فحسب، بل تدخل نفوساً شاكرة لله،
نفوساً لها من الصفاء والجلاء ما يجعلها لائقة لقبول الحقّ، فلا تتكبّر عن الاذعان
بما هو حقّ، ولا تحسد ولا تبخل، فإنّ أصول الكفر ثلاثة: البخل، والحسد، والكبر،(13)
كما جاء في الحديث.
* * *
[صفات رسول الله (صلى الله عليه وآله)]:
كان محمّد (صلى الله عليه وآله) مشهوراً بين قومه بأمانته
وطهارة نفسه وعفّته، وكان متحلّياً بمكارم الأخلاق على عكس غيره من شبّان زمانه،
والمعروف أنّ فترة الشباب من عمر الانسان هي الفترة التي يندفع فيها الشبّان إلى
الشهوات، ولكنّ حياة محمد (صلى الله عليه وآله) في هذه الفترة كانت حياة مثاليّة
نموذجيّة، حتّى لقّبه قومه «بالأمين»، ولذلك لم يجد قومه عندما اشتدّ الخصام بينهم
وبينه شيئاً يمسّ شرفه أو يطعن في عفّته، مع أنّهم كانوا حريصين على النيل منه في
هذه الناحية، فقد كانت دعوته قائمة على إشاعة طهارة النفس والمحافظة على العفّة،
ومقاومة التيّارات النفسيّة الخبيثة، فإذا نفذوا إلى شيء ممّا يريدون استطاعوا أن
يشكّكوا العرب في دعوته حتّى ينفضّوا عنه، وكان من المألوف آنذاك الانحراف الخلقيّ،
ومع ذلك فلم يقف أعداؤه على حادثة واحدة يجرحونه بها، وإذا أضفنا إلى ذلك ما يقوله
علماء النفس من أنّ فترة الشباب فترة خطيرة تثور فيها الغرائز الجنسيّة، استطعنا أن
نفهم قوّة إرادة محمد (صلى الله عليه وآله) في ضبط نفسه في شبابه وتحكّمه في ميوله
الجنسيّة تحكّماً جعله مثالاً للطهارة والعفّة، وطهارة النفس وخلوّها من الشهوات
المحرّمة والنـزوات لمن أهمّ العوامل التي تجعل الفرد قميناً بلطف الله وعنايته،
وجديراً بأن يكون هادياً للناس أجمعين.
يقول (السير وليم موبر): «إنّ محمّداً في شبابه طُبع بالهدوء
والدعة والطهر والابتعاد عن المعاصي التي كانت قريش تُعرف بها».
فمن كان في شبابه مثالاً لطهارة النفس والعفّة إلى حدّ بعيد،
يستحيل أن يجري وراء الشهوات واللذّة بعد بلوغه سنّ الاكتمال والرزانة، وهو يخوض
معارك طاحنة مستعرة، فقد اكتفى بخديجة (عليها السلام) وهي أكبر منه 15 سنة، إلى أن
بلغ 54 من عمره، ثم تزوّج بسودة، ثم بعائشة تلبية لرجاء أبي بكر حيث شاهد الرسول
(صلى الله عليه وآله) مغموماً على فراق خديجة (عليها السلام)، ثمّ تزوّج بالعجائز
والأرامل اللاتي فاتهنّ سنّ الشباب، وقد أصبحن بلا عائل لأنّه قد استشهد أزواجهن في
الغزوات، ولقد تنبّه بعض كتّاب المسيحيّة المُنصفين فقالوا: «إنّه لا يمكن أن يكون
الدافع لمحمّد على الاكثار من زوجاته في هذا الوقت إلا الرحمة والشفقة، ومن البعيد
جداً أن يكون قد قصد من هذا اللذّة والمتعة؛ لأنّ من تزوّج منهنّ كنّ متقدّمات في
السن وأرامل فقيرات».
لا سيّما وإنّ الرسول قد أمر بالتهجّد وإحياء بعض الليل
بصلاة وتلاوة القرآن ومناجاة ربّه، وما أعظمها: وذلك لقوله تعالى: «يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً»(14) ثم يقول:
«إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ»،(15) وقد ثبت من حياته (صلى الله عليه وآله) أنّه كان يقرأ
القرآن وهو قائم في صلاته حتّى تتورّم قدماه، فأنّى الوقت الذي يبقى بعد ذلك حتّى
يبلغ فيه مراده من اللذائذ مع ما هنا لك من غزوات وحروب؟
وكان في استطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يمتلك
الجواري والعبيد، ويعيش في قصور، وتكون له أبّهة كسرى وعظمة هرقل، لكن رضي ببساطة
المسكن والملبس، وكان يشدّ على بطنه حجر المجاعة، ولمّا رأت زوجاته أنّ نساء
المسلمين قد تغيّرت أحوالهنّ وأصبحن يتقلّبن في النعيم شكون إليه، وكنّ يعتقدن
أنّهن صاحبات حقّ في التمتّع بما يتمتّع به غيرهن بسبب الرخاء الذي أصاب الدولة
الإسلاميّة، فنـزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْواجِكَ إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ
مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً».(16)
وقد قلنا إنّ من أهمّ الصفات التي تجعل الفرد قريباً إلى
الله تعالى وموضع لطفه ورفده إنّما هو (الشكر)، ذلك لأنّ الكمال الانسانّي إنّما
يتجلّى بأدائه واجب الشكر تجاه المنعم، لذلك يقول الله تعالى وهو الحقّ:«وَكَذلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ».
إنّ المشركين أخذوا يزدرون الذين آمنوا ويعترضون على
إيمانهم، لأنّ هؤلاء المؤمنين ما كانوا يملكون من المال والجاه شيئاً، وذلك بقولهم
إزدراءً: «أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا»(17) وقد فاتهم أنّ
الإيمان أمر روحي يتوجّه إلى النفس الإنسانيّة مباشرة، ولا علاقة له بالمال والجاه.
الإيمان يحلّ في النفوس الشاكرة، فكلّما كانت النفس شاكرة
أكثر كان إيمانها أقوى وأمتن، حتّى ينتهي إلى الوصاية والنبوّة، والنفس الشاكرة ليس
لها إمارات خارجيّة وعلامات فارقة ماديّة، كالثياب الفاخرة وأعوان وأنصار ومنصب
وجاه، وقد تجد هذه النفس الشاكرة في رقاع ولا تجدها في قارون.
نعم؛ إنّ هؤلاء المتكبّرين كانوا يقولون: «لَوْ كانَ خَيْراً
ما سَبَقُونا إِلَيْهِ»(18) أي لو كان ما أتى به محمّد خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء
الفقراء المهينون ونحن أرفع منهم، كأنّ الخير يتبع المال والمنال والجاه والمنصب،
حتّى أنّ هذه الأمور عوائق تعوق النفس الانسانيّة عن أن تتوجّه نحو الحقّ والواقع
لو لم تستعمل في ما أمر الله به، ولم تؤدّ حقوقها وواجباتها، وقلّ من يقوى عليها
إلاّ من رحم الله.
روي أنّ أبا جهل قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتّى
إذا صرنا كفرسَي رهان قالوا «منّا نبي يُوحى إليه» والله لا نرضى به إلاّ أن يأتينا
وحي كما يأتيه، فنـزلت هذه الآية: «وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ
حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ
بِما كانُوا يَمْكُرُونَ»،(19) (20) فإنّ هؤلاء المعترضين كانوا ـ مع إجرامهم
وآثامهم وفسوقهم ـ يريدون أن يكونوا أنبياء، حين أنّهم يستحقّون الصغار والهوان
والعذاب والخزي بما كسبت أيديهم، «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ
لِلْعَبِيدِ»،(21) فالبشر كلّهم في نظر الله على حدّ سواء، من أطاع منهم بلغ مراتب
عالية حتّى تنتهي إلى النبوّة أو ما يقارب النبوّة، وقد جاء في الحديث القدسيّ أنّ
الله تعالى يقول: «عبدي أطِعني أجعلك مثلي تقول للشيء كن فيكون»،(22) أرأفة أعظم من
هذه؟ يُعطي الله عبده إذا أطاعه صفة الخالقيّة والإيجاد بإذنه تعالى يقول للشيء كن
فيكون، وهذه هي المعاجز التي ظهرت على أيدي الأنبياء (عليهم السلام) والأوصياء بإذن
الله تعالى وقدرته جلّ وعلا.
ثمّ يجب أن تكون نفس النّبي نفساً متعلّقة بالحقّ لا تفتر عن
التوجّه إلى الله ومناجاته وذِكره ـ جلّ وعلا ـ طرفةَ عين أبداً، لا ترى شيئاً إلاّ
وترى الله معه وقبله وبعده.
إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان لا يقوم بعمل إلاّ
ويذكر الله تعالى، يراقب الله في جميع الأمور ويخشاه، فإذا جاء أمر يحبّه قال:
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وإذا أتاه أمر يكرهه قال: الحمد لله على كلّ
حال، وإن قصد فعل شيء قال: اللهمّ خر لي واختر لي، وإن أراد سفراً قال: اللهمّ بك
أصول وبك أجول، وإذا أراد نوماً قال: اللهمّ باسمك وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، وإذا
استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور، وإن لبس ثوباً
جديداً قال: الحمد لله الذي رزقني ما أتجمّل به في حياتي، وإن أكل قال: الحمد لله
الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا من المسلمين، وإن شرب قال: الحمد لله الذي أعانني فصُمت،
ورزقني فأفطرت، وإذا رفع بصره إلى السماء قال: يا مصرّف القلوب ثبّت قلبي على
طاعتك، وإذا أصابه همّ قال: حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرازق من المرزوقين،
حسبي الذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل. فهذه الصفات هي بعض ما يجب أن تتوفّر في
من يناط به تكميل الناس أجمعين.
ثم إنّ قدسيّة النفوس لتؤثر في سيماء الأبدان فتُضفي عليها
نوراً وبهاءاً من شاهدها ابتهج وسكن إليها وآمن بها، يعلم ذلك من خالط الأتقياء
والصالحين من عباد الله، فكان وجه رسول الله يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، ولذلك
كان يأتيه بعض الأعراب فيقولون حين وقوع أبصارهم على محيّاه: والله ما هذا الوجه
بوجه كذّاب.
ولا مراء أنّ الصدق يصاحب الخير والبر، والكذب يساير الفجور
والشرّ، وعلى ذلك كانت خديجة سلام الله عليها تعلم من النبي (صلى الله عليه وآله)
أنّه الصادق البارّ؛ تقول للنبي (صلى الله عليه وآله) حين جاءه الوحي: والله لا
يُخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرَحِم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتُقري الضيف،
وتكسي المعدم، وتُعين على نوائب الحقّ.(23)
[أخلاق النبي محمد (صلى الله عليه وآله)]:
قال ابن سعد في الطبقات:«كان محمّد (صلى الله عليه وآله) قبل
النبوّة أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم
حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم عن الفحش والأذى، وما رؤي مُلاحياً ولا
مُمارياً أحداً، حتّى سمّاه قومه الأمين».(24)
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وهو الذي بُعث رحمة
للعالمين ـ يجلس على الأرض تواضعاً وينام عليها، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويفتح
الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع طهوره بالليل
بيده، ولا يجلس متّكئاً، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم، ولا يثبت بصره في وجه
أحد، يغضب لربّه ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ويلبس الغليظ
من القطن والكتّان، ويشيّع الجنائز، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويُجالس
الفقراء، ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، ويُكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل
الشر بالبرّ إليهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلاّ بما أمر الله،
يقبل معذرة المعتذر إليه، وكان أكثر الناس تبسّماً ما لم ينـزل عليه قرآن، لا يرتفع
على عبيده وإمائه في مأكل ولا في ملبس، يأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، لا
يأتيه أحد حرٌّ أو عبد أو أمة إلاّ قام معه في حاجته، ولا يَجزي السيئة بالسيئة
ولكن يغفر ويصفح، ويبدأ مَن لقيه بالسلام، وإذا لقى مسلماً بدأه بالمصافحة، وكان لا
يجلس إليه أحد إلاّ خفّف صلاته وأقبل عليه وقال: ألك حاجة؟، وكان يجلس حيث ينتهي به
المجلس ويأمر بذلك، وكان أكثر ما يجلس مُستقبل القبلة، وكان يُكرم من يدخل عليه،
حتّى ربّما بسط له ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، وكان في الرضا والغضب لا
يقول إلاّ حقّاً، وإذا لقيه الرجل فصافحه لم ينـزع يده من يده، حتّى يكون الرجل هو
الذي ينـزعها، وإذا لقيه أحد فقام معه أو جالسه أحد لم ينصرف حتّى يكون الرجل هو
الذي ينصرف. (25)
وكان (صلى الله عليه وآله) أشجع الناس قلباً، وأشدّهم بأساً،
وأكثرهم حياءاً.
لا أعلم أنّ رجلاً يقوى على أن يثابر على صفة واحدة من هذه
الصفات السامية طيلة حياته مهما عظمت نفسه وتكاملت روحه، إلاّ إذا كان نبيّاً أو
وصيّ نبيّ، أو بالأحرى من كان جزاؤه النبوّة أو الوصاية. نعم إنّ صفات الكمال لا
تصدر إلاّ عن نفس قدسيّة وروح ملكوتيّة قد تخلّصت من قيود الأهواء، وتحرّرت من
عبوديّة الشهرة وحبّ الصيت، واستمدّت من النور الإلهيّ والهداية الصمدانيّة.
يجب أن تكون نفس النبي بالغة من القدسيّة درجة يتحمّل معها
الوحي، ويقوى على الاتّصال بالمبدأ الأعلى، وكان نبيّنا (صلى الله عليه وآله) ـ مع
تلك القدسيّة البالغة ـ يرجف ويعرق حين نزول الوحي عليه ويقول: زمّلوني، فكان
يُغطّى إلى أن يذهب عنه الروع، لذلك خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله: «يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً».(26)
ولمّا قدم جارود على النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إن
كنتَ نبيّاً فأخبرني عمّا أضمرت. فخفق النبيّ خفقة كأنّها سِنة ثمّ رفع رأسه والعرق
يتحدّر عنه، فقال: إنّك أضمرت أن تسألني عن دماء الجاهليّة وعن حلف الإسلام وعن
المنيحة، ألا وإنّ دم الجاهليّة موضوع، وحلفها مردود، ولا حلف في الاسلام. ألا وإنّ
أفضل الصدقة أن تمنح أخاك ظهر الدابّة ولبن الشاة.(27)
* * *
[قصور البعض عن إدراك عظمة النبي (صلى الله عليه وآله)]:
وقد تأثّر بعض علماء المسلمين بروح الغرب الماديّة، ففسّروا
القرآن متأثّرين بالماديّة العصريّة، وأنكروا نزول الوحي بواسطة جبرائيل(عليه
السلام)، وأنكروا وجود الجنّ، وقالوا: إنّ روح محمّد قد بلغت مرتبة من السموّ حتّى
صارت تتجلّى لها الحقائق، وخالفوا صريح القرآن والسنّة المتواترة والعقل، وقاسوا
الأمور الروحيّة وما هو وراء الطبيعة بمقاييس ماديّة طبيعيّة، ولم يحتمّلوا أنّه
سيأتي يوم يعترف فيه فلاسفة عظام بما وراء المادة، ذلك لأنّ الروح الإنسانيّة مهما
تعرّفت على حقائق المادة، ليس لها ـ إذا أرادت التكامل في عوامل النفس ـ إلاّ أن
تستفيض من ما وراء الطبيعة، ولا بدّ لها أن تستقي من المبدأ الأعلى الفيّاض بواسطة
سفراء بين الله وعباده، وهم الأنبياء (عليهم السلام): «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ».(28) إنّ النفس
القدسيّة التي لا تجاريها النفوس المتعارفة أو ما هي فوق المتعارفة لا تميل إلى
الدنيا وزخارفها، وتتوجّه إلى الله تعالى بكلّها، فنبيّنا محمّد (صلى الله عليه
وآله) أعرض عن زخرف الدنيا وغضارتها ولم يستمتع بحلاوتها، وقد ملك من أقصى الحجاز
إلى عذار الفرات، ومن أقصى اليمن إلى شجر عمان وهو أزهد الناس في ما يقتني ويدّخر،
وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر. أتى يوماً إلى داره فرأى ستاراً قد علّق على الباب
فقال: ارفعوه، إنّه ليذكّرني الدنيا.(29)
ويقول فيه السير (وليم موير): «امتاز محمد (صلى الله عليه
وآله) بوضوح كلامه ويُسر دينه، وإنّه أتمّ من الأعمال ما يدهش الألباب، فلم يشهد
التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الانسانيّة في زمن قصير كما فعل
محمد (صلى الله عليه وآله).
نعم يجب أن يكون النبيّ مُحقّراً للدنيا، متوجّهاً إلى
العالم الأعلى، نفسه في اللاهوت وبدنه في الناسوت، فالدنيا كما يقول علي صلوات الله
عليه: «دار مجاز والآخرة دار قرار، فطوبى لمن أخذ من ممّره لمقرّه».(30)
انظر كيف يصف صلوات الله عليه نبينا محمداً (صلى الله عليه
وآله)، إنّه يقول: «قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا وَأَهْوَنَ بِهَا
وَهَوَّنَهَا وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً وَبَسَطَهَا
لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا
مِنْ نَفْسِهِ وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا
يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ
مُعْذِراً وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً وَدَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً
نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ وَمُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ
وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ نَاصِرُنَا وَمُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ
الرَّحْمَةَ وَعَدُوُّنَا وَمُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ».(31)
لقد دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض الأعراب
فارتاع من هيبته فقال: خفِّض عليكم، فإنّما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد
بمكّة،(32) وكان (صلى الله عليه وآله) يمتزج بأصحابه وجلسائه، فلا يتميّز عنهم إلاّ
بإطراقه وحيائه وجليل سمته وروائه.
وكان (صلى الله عليه وآله) جالساً ذات يوم في بعض أسفاره تحت
شجرة، فاخترط أعرابيّ سيفه عليه، فأرعدت يده وسقط منها السيف، ومع ذلك عفا عنه،
فرجع الأعرابيّ إلى قومه إلى قومه قائلاً: جئتكم من عند خير الناس.(33)
ومن صفاته (صلى الله عليه وآله) الخارقة أنّه (صلى الله عليه
وآله) كلّما رجع الى بيته ألقى يهوديّ من أعلى بيته على رأسه الشريف طبقاً من رماد،
فافتقده رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أيام إذ رأى أنّه لا يقوم بعادته!
فقيل: إنّه مريض، فعاده في مرضه، فذاب هو وزوجته حياءً وخجلاً وأسلما.
فمن أراد الكمال وأراد أن يتخلّص من براثن المادة وظلماتها
التي تجعل الانسان كالبهيمة أو أحطّ منها، فليتمسّك ببعض هذه الصفات الجليلة ليرى
كيف يتسامى عن حضيض المادة وكيف يزداد معرفة بالله تعالى.
لا بدّ لهذا الانسان أن يسير سيره التكامليّ، ولا تكامل إلاّ
بجعل سيرة النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) مثالاً رفيعاً يقتدى به، فالانسان إن
لم يكن محمّدياً في صفاته وأعماله فهو غير متكامل نفسيّاً لا محالة، ولا مراء أنّ
الإنسان إنسان بنفسه لا بماله وبدنه وما حوله من أجهزة وآلات وما يسكنه من بيوت
وقصور، إذ التكامل أمر نفسي، فطوبى لمن لم تغرّه المادة وتشويهات الماديّين الذين
إذا استعمروا (النفس) فقد استعبدوا الانسان استعباداً ما بعده استعباد.
* * *
|